اضغط هنا لتحميل هذا الكتاب القيم

الباب التاسع : في الرضا بالقضاء

إعلم كما قدّمنا أنّ مدار ترقّي المؤمن على تأسيّه بالنبي (ص) وأهـل بيته (ع) .. وقد روي في الكافي عن أبن ابي يعفور عن الصادق (ع) قال: لم يكن رسول الله يقول لشيء قد مضى : لو كان غيـره . [ الكافي : 2/52 ].. انتهى.

انظر إلى تحرّجه إلى تمنّي خلاف الواقع ، حذراً من الوقوع فيما ينافي الرضا..
فالمطلوب من المؤمن توطين نفسه على الرضا بالواقع كيف كان.
واعلم أنّ منشأ عدم الرضا ، وتمنّي خلاف الواقع ، إنما هو الجهل بحِكم الأشياء ومصالحها ، فلو ظهرت له حكمة الأشياء لما تمنّى الإنسان غير الواقع .. فإذا عوّد المؤمن نفسه على التأمّل في حِكم الأشياء ومصالحها ، يظهر له كلّ كثيرٍ منها ، ويسهل عليه الرضا ، وما لم يظهر له وجهه يمكن أن يجعله من باب إلحاق المجهول بالأعمّ الأغلب. (1)
(1)إنّ إصرار العبد على حاجةٍ من الحوائج فرع اليقين بخواتيم الأمور ، واليقين بأنّ قضاء تلك الحاجة مما يختم له بالسعادة والحال أنّ العبد لم ينكشف له ما يوجب له مثل هذا اليقين ، وعليه من الموجب للإصرار الذي يجعله متبرماً من قضاء الله وقدره في تأخير الإستجابة لحاجته ؟! إنّ العبد الذي لا يرى إلا قضاء حاجته يتهــم الله - وإن لم يعتقد بذلك شعوراً - في حكمته البالغة التي اقتضت تأخير الإستجابة ، أو تأجيلها للآخرة بأضعافٍ مضاعفةٍ ، حيث يتمنّى العبد معها أنه لو لم تُقضى له في الدنيا حاجة واحدة ( المحقق )
ولكلّ شيءٍٍ مصالحٌ عديدةٌ ، وحِكمٌ كثيرةٌ ، فمهما توجّه الإنسان إلى ربه ، وطلب منه إظهار بعض وجوه الشيء ، أظهر له على حسب استعداده وقابليته ، وطلبته وإرادته.
وهذا أقرب الطرق في تحصيل الرضا بالقضاء.

وأما توطين النفس على الرضا بالشيء - ولو مع إخفاء حكمته والجهل بها - ففيه صعوبةٌ بالنسبة إلى ما ذكرناه.

وقد نقل أن مولانا الحسن بن علي (ع) علّم بعض الشيعة في عالم الطيف ، أنه ينال ما يريده من نهاية القرب منهم ، والتمكّن من رؤيتهم مهما أراد ، بالاتصاف بما في
هذه الأبيات وهي قوله :

كن عن همومك معرضا ----- وكل الامور الى القضاء
فلربما اتسع المضــيق ----- ولربما ضاق الفــضاء
ولرب امر مســـخط ------ لك في عواقـبه رضا
الله يفــــعل ما يشاء ----- فلا تكن مـــعترضا
الله عودك الجمــــيل ----- فقس على ما قد مضى

فلعمري أنّ هذه الأبيات فيها الشفاء من كلّ داءٍ لمن عمل بها ، وعمدتها تحصيل درجة الرضا بالقضاء { وما يلقّاها إلا الذين صبروا وما يُلقّاها إلا ذو حظ عظيم } . فصلت/35..

وقد اشتملت هذه الأبيات الشريفة الصادرة من ينبوع الحكمة ، ومعدن العصمة ، على طُرفٍ من الإرشاد إلى تحصيل هذه الرتبة السنيّة.
فمنها كون الإنسان معرضاً عن همومه ، وهو من أعظم المقدّمات لينال هذه الدرجة ،
فإنّ واردة الهموم أعظم شيءٍ إفساداً للقلب ، والقلب وقت اشتغاله بها معرضٌ عن ربه ، مشغولٌ عن التوجّه إليه سبحانه بما فيه من الهموم والأحزان ، فتظلم أقطار القلب وجوانبه بإعراضه عن باريه ، وتنهدّ بُنية الجسد ، وربما يؤثر مرضاً شديداً ، مؤدياً إلى الهلاك والعطب.

ثم بعد اليأس والعجز عن التدبير ، وانقطاع الحيل والآمال ، ترى الإنسان يقول: (على الله ) ،كأن الله وكله إلى تدابيره التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
وكل هذا ناشئٌ من الجهل بمراد الله ، وبطريقة أهل البيت (ع) ، ومن الأنس بما اعتادته النفس الأمّارة.

والذي أرشد إليه أهل البيت (ع) ، أنّ الواجب على المؤمن أن يُعوّدَ نفسه على الإعراض عن الهموم ، حتى يتفرّغ قلبه للتوجّه إلى باريه ، قال الله عز وجل : { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب } . الرعد/28..
فالقلب إذا توجّه إلى ذكر الله ، وعطفه ولطفه ، ورأفته ورحمته ، فرّت عنه الهموم والأحزان والغموم .. فإنما تنشأ من الالتفات إلى جانب النفس وإجراء الأمر على ما يقتضيه حالها من العجز ، والضيق والتحيّر بكلّ شيءٍ ، والحرص على ما في يدها. (2)
(2)إنّ مشكلة الهموم والغموم من موجبات الضنك في المعشية ، وخاصةً في هذا العصر الذي كثرت فيه متطلبات الإنسان ، مع الخيبة في تحقيق أكثرها ، مما يوجب انتكاسةً بعد كلّ خيبةٍ ومجموع هذه الانتكاسات يوقع الإنسان في حالة من الكآبة المزمنة والقلق الدائم والحلّ الوحيد لذلك ما ذكره المصنف من تــــرك الحرص ، وعدم الالتفات إلى ما يورث الهمّ والغمّ ، وذلك بعدم الالتفات إلى ما سوى الله تعالى ، الذي إذا عَظُمَ في قلب العبد صَغُرَ ما دونه في عينه وعندئذٍ يتحقق الاطمئنان الذي يوجبه الذكر ، بالمعنى الذي أراده القرآن الكريم( المحقق )
وأما مع الالتفات إلى حفرته الأحدية التي كل بعيد عندها قريبٌ ، وكلّ صعبٍ عندها سهلٌ ، ونسبة الأشياء إليها على سواء ، ومقتضاها الرأفة والرحمة فأين الهمّ والغمّ ؟.. ولماذا يكون الأسف والحزن؟..

فإن كان على ما فات لا يعود ، فهو يخلفه بأضعافٍ مضاعفة ، فربما كان فوته تجارة لا خسارة ، حيث فاتك واحد وعُوّضت عنه بألف ، أو بالآلاف ، أو بما لا عداد له ولا نهاية.

فيا أخي !.. لا راحة للقلب حقيقة إلا عند ذكر الله ، ولا اضطراب له إلا عند التفات النفس إلى عالم الضيق ، والحرص والبخل ، واليأس من الروح والراحة.
فالإعراض عن الهموم يكون باعثاً على التوجّه إلى الحيّ القيوم ، أو يكون منبعثاً عن التذكر الفارج للهموم ، والكاشف للغموم.

فأقلّ ما يتوسّل به إلى تحصيل الرضا بالقضاء ، هو إلقاء الهموم والغموم عن القلب ، وتفريغ البال للتوجّه إلى حضرة ذي الجلال.
فعند ذلك نشاهد ألطافه الخفية والجليَّـة ، وضمانه لعبده الكفاية في الأمور الكلية والجزئية ، وهو قوله عزّ وجلّ :
{ أليس الله بكافٍ عبده } . الزمر/36..

فلا تجد مناصاً عن إيكال الأمور إلى قضائه ، فإنّ الله عزّ وجلّ وإن أمر بالأسباب ، لكنه لم يأمر مطلقاً ، بل بشرط عدم الاعتماد عليها ، وترْك الاتكال عليها ، فيكون الإتيان بالأسباب حينئذٍ امتثالا لأمره ، فإن أثّرتْ فبأذنه عز وجل ، وأن لم تؤثّر فالعبد قد امتثل ، وفرغ عن عهدة التكليف ، وعلى الحكيم أن يفعل ما تقتضيه حكمته ، وعلى العبد أن يَكِل الأمر إلى قضائه ، فيصبر له ، أو يسلّم ، أو يرضى.

فالقضاء إن كان بالمحبـوب فهو المحـبوب ، وإن كان بما تكـره النفس فالواجب على العبد أن يسلّي نفسه بأنـه ربما اتسع المضيـق ، ورب للتكفير في هذا المقام بقرينة المقام ، وربما ضاق الفضاء وهو أيضاً كثير.

فالحكيم لا بدّ أن يقلّب على عبده الأحوال ، لئلا يطمئن إلى حال ، ومراده أن يكون منقطعاً إليه في كل الأحوال .
حيث أنه في حال اليسر لا يأمن تبديله في كل دقيقة ، فلا بد في كل دقيقة من الانقطاع إليه في تلك الدقيقة ، وهكذا. (3)
(3)من هذا البيان يُعلم أن المؤمن الذي يستثمر البلاء في جهة الانقطاع إلى الله تعالى ، لا يستوحش من البلاء فحسب ، بل يرحب بمثل هذا البلاء الذي يسوقه نحو مولاه سوقاً حثيثاً وهذا هو السبب في عدم اضطراب سرّ الأولياء في أحلك الظروف ، بل هذه من المقامات والحالات التي لا يستوعبها أهل الدنيا فضلاً عن إدراكها( المحقق )

وكذلك في حال العسر والانقطاع ، يكون العبد إليه أحوج لعجزه وضعفه عن تحمل البلاء.
فإن كان لا بدّ من تقليب الأحوال على هـذا العـبد ، فلا بدّ من تسلية النفس بأنّ هذه الأحوال لا تـدوم ، وكثيرٌ فيها التقلب والتبديل ، فينبغي أن لا يعتد بفرحها ولا يؤثـر من فرحها ، وذلـك قوله عزّ وجلّ :
{ لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم } . الحديد/23..

ويضاف إلى هذا في التسلية ، بأنّ أكثر هذه الابتلاءات اختبارات .. فإذا انكشف حال العبد إما بالصبر ، أو بالعجز ، أو بالضجر ، وعرف من نفسه ذلك رفع الله عنه ذلك ، وجعل عاقبة أمره يسرا (4)
(4)هذه بديعة من بدائع المؤلف ، فقد جعل للبلاء إحدى الثمار المذكورة ، ثم بعث الأمل في النفوس - التي لا تريد دوام البلاء - قائلاً بأنه إذا حصلت الثمرة وتحققت النتيجة ، فإن الله تعالى سيرفع البلاء الذي استهدف إحدى الثمار المذكورة ومعنى ذلك أن من طُرُق تحصيل العافية ، هو تحقيق تلك الثمار قبل البلاء وذلك بالمجاهدة الباطنية ، وكثرة التأمّل في أحوال النفس ، والاعتراف بين يدي الله تعالى بالمسكنة والضّعف
( المحقق )

، وهو قوله:
ولرب امر مسخط ------ لك في عواقبه رضا

والاختبار غالباً مجرد حصول وقوع الابتلاء ، من دون حاجةٍ إلى طول المدة ، فإذا كانت المدة قصيرة ، والعاقبة لما فيه رضاه هان الخطب .
وأما قوله :
الله يفعل ما يشاء ----- فلا تكن معترضا

ففيه تحذيرٌ من الاعتراض على قضاء الله ، وقد قال أمير المؤمنين (ع) : من أصبح على الدنيـا حزيناً ، فقـد أصبح لقضـاء الله ساخطاً . قصار كلماته : 228.. كذا في نهج البلاغة.
وفي الكافي عن الصادق (ع) : أن الحسن بن علي (ع) لقي عبد الله بن جعفر فقال : يا عبد الله !.. كيف يكون المؤمن مؤمناً وهو يسخط قسمه ، ويحقّر منـزلتـه ، والحاكم عليه الله ؟.. وأنا الضامن لمن لا يهجس في قلبه إلا الرضا أن يدعو الله فيستجيب له . الكافي : 2/51..
وأما قوله :
الله عودك الجميل ----- فقس على ما قد مضى

ففيه كمال التأمّل بتذكر عوائد الله الجميلة ، وألطافه الجليلة ، التي بملاحظتها يحصل للعبد علم عادي ، بأنّ الله لا يخليه إذا انقطع إليه فيما دهاه من الفوادح ، من عطفة من عطفاته يحي بها الموات ، ويردّ بها ما قد فات ، وقد اشتمل على هذا المعنى والمعنى الذي قبله شعرٌ منسوبٌ في مصباح الشريعة إلى مولانا علي (ع) :

رضيت بما قسم الله لي ----- وفوضت امري الى خالقي
كما احسن الله فيما مضى ------ كذلك يحسن فيما بقي

والأخبار الواردة في الحثّ على الرضا أكثر من أن تحصى.
فمنها الحديث القدسي المشهور أن الله تعالى يقـول : لا إله إلا أنا ، من لم يصبـر على بـلائي ، ولـم يرض بقضائي ، فليتخذ ربا سواي . [ البحار : 79/132] .. وكفى بهذا التهديد الإلهي واعظاً لمن عقل ، ومنبّهاً لمن جهل.

وعن الحسين بن خالد ، عن الرضا ، عن أبيه ، عن آبائه (ع) قال: قال رسول الله (ص) : " قال الله عزّ وجلّ : من لم يرض بقضائي ، ولم يؤمن بقدري ، فليلتمس إلهاً سواي " .
قال : قال رسول الله (ص) : في كل قضاء الله عزّ وجلّ خيـرة للمؤمن. [ البحار : 68/139] .. انتهى.

واعلم يا أخي { يمحو الله ما يشاء ، ويثبت ، وعنده أم الكتاب } . والقضاء أول ما يرد على العبد يرد بطور الإجمال ، يعني بحيث يمكن أن يكون نعمة وأن يكون نقمة ، وإن كان ظاهره أنه من نوع الابتلاء والعقوبة.

فإذا أحسن الظنّ العبد بربه ، وتفاءل بالخير ، ووطّن نفسه على الرضا بالقضاء ، قلب الله ما ظاهره أنه نقمة ، وبدّله نعمة وأجرى الأمر على ذلك ، وبالعكس العكس. (5)
(5)هذا هو الفرق بين العامة والخاصة من الخلق ، فإن العبد الساذج الذي لا يعرف مراد المولى وحكمته في سياسة الخلق ، يجمع بين ثقل البلاء ووزر التبّرم به ، فيخسر بذلك صفقة الدنيا والآخرة وأما الخواص الذين فتح الله تعالى لهم أبواب معرفته ، يحوّلون كل ما يرد عليهم في هذه الدنيا - ونعيما كان أو بلاءً - إلى زادٍ في الآخرة ، وشتان بين عملين : عملٌ تذهبُ لذته وتبقى تبعته، وعَملٌ تذهبُ مؤونته ويبقى أجره( المحقق )
فالعبد لا زال بسوء ظنّه ، وقلّة رضائه بالقضاء ، وشدة انزعاجه من واردات الابتلاء ، يستجلب لنفسه بلاءً فوق بلاء ، ويقلب ما عليه نعمة إلى الوبال والنقمة.
وفي (الجواهر السنية ) عن الرضا (ع) ، عن أبيه (ع) ، عن آبائه قال: قال رسول الله (ص) :
أوحى الله إلى نبيٍّ من أنبيائه أن : أُخبر فلاناً الملك أني متوفّيه إلى كذا وكذا.
فأتاه ذلك النبي فأخبره ، فدعا الله الملك وهو على سريره حتى سقط من السرير ، فقال : يا رب ، أجّلني حتى يشب طفلي ، وأقضي أمري.
فأوحى الله إلى ذلك النبي : أن أءت ذلك الملك ، فاعلمه أني قد أنيت في أجله ، وزدت في عمره خمس عشرة سنة.
فقال ذلك النبي : يا رب ، أنت تعلم أني لم أُكذّب قط ، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه : إنما أنت مأمـورٌ ، فأبلغـه ذلك ، والله لا يُسأل عما يَفعل [ الجواهر السنية : 123] .. انتهى الحديث الشريف.

فلا شكّ أنّ الانقطاع إلى الله عزّ وجلّ ، والالتجاء إليه ، وحسن الظنّ به ، ومبادرة الأمر بالصدقة ، والدعاء ، وصلة الرحم ، لها تسبّبٌ في تبديل واردات القضاء.
اللهم !.. إن كنت عندك شقياً ، أو محروماً مقتراً عليّ رزقي ، فاكتبني عندك سعيدا مرحوما ، دارّاً عليّ رزقي ، فإنك قلت في كتابك :
{ يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب } وصلى الله على محمد وآله الطاهرين. البحار : 87/135..

فيا أخي !.. كيف لا يرضى العبد بقضاء ربّه ؟.. وقد روى الرضا (ع) عن آبائه (ع) ، عن رسول الله (ص) أنّ الله يقول:
يا بني آدم !.. كلكم ضالٌّ إلا من هديت ، وكلكم عائلٌ إلا من أغنيت ، وكلكم هالكٌ إلا من أنجيت ، فاسألوني أكفكم وأهدكم سبيل رشدكم.
إنّ من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الفاقة ، ولو أغنيته لأفسده ذلك.
وإنّ من عبادي من لا يصلحه إلا الصحة ، ولو أمرضته لأفسده ذلك.
وإنّ من عبادي لمن يجتهد في عبادتي وقيام الليل لي ، فألقي عليه النعاس نظرا مني له ، فيرقد حتى يصبح ، ويقوم حين يقوم وهو ماقتٌ لنفسه ، زارٍ عليها ، ولو خلّيت بينه وبين ما يريد لدخله العجب بعملـه ، ثم كان هلاكه في عجبه ورضاه عن نفسه ، فيظنّ أنه قد فاق العابدين ، وجاز باجتهاده حدّ المقصّرين ، فيتباعد بذلك مني وهو يظنّ أنه يتقرّب إليّ به.

ألا فلا يتّكل العاملون على أعمالهم وإن حَسُنت ، ولا ييأس المذنبون من مغفرتي لذنوبهم وإن كَثُرت ، ولكن برحمتي فليثقوا ، ولفضلي فليرجـوا ، وإلى حسن نظري فليطمئنّوا ، وذلك أني أدبّر عبادي بما يُصلحهم ، وأنا بهم لطيفٌ خبير . [ البحار : 68/140] .. انتهى الحديث الشريف.

دقائق الملاحظات
مما نبه عليه أهل البيت شيعتهم
في باب الرضا بالقضاء

واعلم أنّ لأهل البيت تنبيهات على مقامات عالية في الرضا بالقضاء ، فهنيئاً لمن تنبّه لها ، وعثر عليها ، فإنها من كنوزهم (ع) التي أودعوها صفحات الكتب ، عسى أن تصل إلى أهلها مع علمهم بقلّتهم ، وقليلٌ ما هم ، وقليلٌ من عبادي الشكور.
فرجونا أن يشرّف الله كتابنا هذا ، بجمع نبذٍ منها ما لم يجتمع في غيـره ، فإنّ عمدة قصدنا فيه الإشارة إلى ما لم يُسطّر ، أو الانتقاد لما قد سطر ، ما لم يصدر من عين صافية.

فمنها أنهم ألزموا أنفسهم بعدم الانتصار لأنفسهم في مقامات الابتلاء ، بل يتلّقون البلاء بالتسليم والصبر ، حتى يجيئهم الأمر الخاص بتدارك وارد البلاء، ودفعه بالدعاء.

ولذلك كان يظهر عليهم في بعض الأحوال حال الخضوع لله والانكسار بين يديه ، لفقد أدنى الأشياء من الغذاء والماء ، مع تمكينهم من كلّ شيءٍ بالدعاء ، فما ذلك إلا لما لزموا به أنفسهم وقيدوها بعدم الانتصار لأنفسهم بالدعاء ، وترجيح جانب الصبر عليه ، مع تخييرهم بين الاصطبار والانتصار ، إلا أنّ أفضل الفردين عندهم الاصطبار ، وهم لا يتركون الأولى أبداً حتى يجيئهم الأمر الخاص بترجيح الفرد الآخر.

يفصح عن هذا المعنى قضية علي بن الحسين (ع) لما شكا إليه بعض شيعته الحاجة ، فبكى الإمام (ع) رحمةً له ، فقال له: يا سيدي ، وهل يُعدُّ البكاء إلاّ للمصائب والمحن الكبار ؟!..
فقال له: وأي محنةٍ ومصيبةٍ أعظم من أن يرى المؤمن بأخيه فاقةً ولا يقدر أن يسدها.
فخرج ذلك الشيعي من عند الإمام متحيّراً ، فبلغه قول النصاب : ما أعجب أمر هؤلاء !.. ساعة يدّعون أنّ السماوات والأرض تطيعهم ، وأنّ كلّ شيءٍ بأيديهم ، وساعةً يعجزون عن إعانة بعض شيعتهم بشيءٍ يسير!..
فرجع ذلك الفقير إلى الإمام (ع) قائلاً : مصيبتي بكلام هؤلاء النصاب أعظم من مصيبتي بفقري ، وشدة حاجتي.
فقال الإمام (ع) : ويلهم !.. أما علموا أنّ لله أولياء لا يقترحون على الله !.. يا عبد الله !.. قد أذن الله بفرجك ، ثم أعطاه فطوره وسحوره .. ففرّج الله عنه بذلك فرجاً عاجلاً ، ورزقه درّةً عظيمةً في جوف سمكة ، فباعها بمالٍٍ غزيرٍ ، ثم ردّ القرصين إلى الإمام (ع). [ البحار: 46/20باختلاف الألفاظ ] .. والحكاية مشهورة ومحلّ الشاهد منها قوله :
"أما علموا أنّ لله أولياء لا يقترحون ".

ونظيرها قضية سلمان الفارسي (ره ) لما ابتُلي باليهود وهم يضربونه ويقولون: لم لا تدعو الله بمحمد وعلي أن يعجّل بهلاكنا ، ويخلّصك من أيدينا ؟!..
فيقول لهم : الصبر أفضل ، وأنا أدعو الله أن يصبّرني ، ولعلّ الله أن يخرج من أصلابكم مؤمناً ، فلو دعوت الله عليكم بالهلاك كنت قد قطعت مؤمناً من الإيمان ، فلم يدع عليهم حتى انكشف الحجاب بينه وبين رسول الله (ص) فأمره بالدعاء عليهم ، وأخبره بأنه ليس في أصلابهم مؤمن . تفسير الإمام العسكري : 68..
والقضية في تفسير الإمام العسكري (ع) عند قوله تعالى :
{ الذين يؤمنون بالغيب } . [ البقرة/3 ] .. من أحبها فليراجعها فهي من أعاجيب الدهر ، ولا عجب من تشبّه بساداته حتى أخبروا عنه أنه منهم أهل البيت (ع).
ومن هذا الباب قضية المعراج ، حيث كلف النبي (ص) بخمسين صلاة فلم يراجع ربه ، حتى سأله موسى (ع) المراجعة ، فلم يزل يراجع ، ويخفّف عنه وعنهم حتى انتهت إلى خمس صلوات ، فسأله موسى المراجعة ، فقال: قد استحييت من كثرة المراجعة.
فأوحى الله إليه : أنك لما صبرت على الخمسة ، فهي لكم عندي بخمسين. [ البحار : 18/348باختلاف ] ..

فكان التماس موسى ، بمنـزلة الأمر الخاص بطلب التخفيف ، وقبل ذلك لم يستبح السؤال ، وقد اشتملت الرواية على ذلك صريحاً لما سئل الإمام (ع) : كيف لم يسأل النبي (ص) التخفيف من الله قبل ذلك ؟..
والحاصل أنّ كلّ الأنبياء السابقين ، ربما يصدر منهم استعفاء من بعض الابتلاءات ، أو التكاليف الشاقة المتعلّقة بأممهم.

وأما نبينا محمد (ص) وأهل بيته (ع) فلم يتفق لهم الاستعفاء في مقام من المقامات ، لكن لتلقيهم الوارد بالقبول ، يجيئهم العفو تفضّلاً ببركة التوطين على الالتزام بما فيه المشقة والامتحان ، فصارت شريعتهم بسبب ذلك أخفّ الشرائع وأسهلها ، حتى قال النبي (ص) : جئتكم بالشريعة السمحة السهلة.

ولقد أجاد عقيل بن أبي طالب بتسليته لأبي ذر حين طردوه إلى الربذة ، فخرج معه علي والحسنان وعقيل ، مشيعين له ، فقال له عقيل في جملة كلامٍ له للتسلية : إنّ استعفاءك البلاء من الجزع ، وإنّ استبطاءك العافية من اليأس ، فدع الجزع واليأس ، وقل : حسبنا الله ونِعْمَ الوكيل. البحار : 22/436..
وقد تقدّم لك أنّ هذه المقامات الدقيقة ، مأنوسةٌ عند خواص أهل البيت (ع) الذين حظوا بطول الصحبة حتى اقتبسوا من مشكاتهم هذه الأنوار.

ولا يثبطنك الشيطان عن أخذ حظّك مـن هذه المقامات ، بمـا ألقاه على ألسنة أهل عصرنا هداهم الله ، من أنّ هذه المعاني مقصوّرةٌ علـى أهل البيت (ع) ، وهي من خواصهم ، فليس الخطاب بها شامـلاً لأمثالنا. (6)
(6)لقد وضع المصنف هنا يده على الجرح إذ أشار إلى تلبيسٍ عظيمٍ من تلبيسات إبليس ، فشتان بين التلبيس في جزئيات الطريق بعد السير فيه ، وبين التلبيس الذي يصدّ العبد عن أصل الحركة في الطريق وهذا هو السر في أن السير إلى الله تعالى صار استثناءً لا يتحقق إلا للنوادر من العباد ، وكان الأصل هو الركون إلى الدنيا ، والتثاقل إلى متاعها ، والاكتفاء بأقل الواجب الذي لا يحقق روح الشريعة، ولهذا ترى الذين ينكرون ضرورة هذا السير - الذي دعا إليه القرآن بقوله {فمن شاء اتخذ الى ربه سبيلا}(المزمّل/ 19) - لا يعيشون حلاوة الشريعة في عباداتها ، ولا يحققون التكامل الجوهري في تشريعاتها( المحقق )
ولعمري لقد تاهوا تيهاً شديداً ، وضلّوا ضلالاً بعيداً !.. ما هذه المقامات التي تبلغها عقولنا وأحلامنا إلا لعبيد أهل البيت (ع) ، بل لأقل عبيدهم.
فأما مقاماتهم الخاصة بهم فأين الثريا من يد المتناول ، والأحلام والأفهام عنها بمراحل ؟.. ولكن لقول الله: { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } . الأحزاب/21..
وقد صار أهل البيت ينسبون كلام الأخلاق ، ومعاني الآداب لرسول الله (ص) ، ويحكونها عنه ، حثا عليها وترغيباً لها ، لا أن كل ما ينُسب إليه يكون من خصوصياته ، فيبطل الاقتداء ، سبحانك هذا بهتان عظيم !..

ونُقل أنّ أبا ذر الغفاري كان يحبّ المرض ويختاره على العافية ، لما فيه من الأجر والثواب . [ البحار : 78/173.. مع اختلاف ] .. وعن بعض الأئمة (ع) حكى ذلك ثم قال بعده : لكنّا قومٌ العافية أحبّ إلينا من المرض ، والمرض وقت المرض أحبّ إلينا من العافية.

وفي هذا الكلام الصادر من ينبوع الحكمة والعصمة ، تنبيهٌ على تفضيل درجة الرضا بالقضاء - سواء كان بالمحبوب أو بالمكروه - على مقام إيثار المكروه على المحبوب رغبةً في ثوابه ، وشوقاً إلى جزائه.

ولا شكّ في ذلك ، فإنها مع مساواتها لها في إيثار المكروه ، وكونه أحب من المحبوب وقت تقديره وحصوله ، تزيد على ذلك بعدم اختيار المرض وطلبه عند عدم حصوله - وإن كان تمنـّيه رغبةً في ثوابه ، وإرضاء النفس به ، بحيث يصير من المشتهيات من المقامات العالية التي لا تتفق إلا لمثل أبي ذر - أن فيه شائبة الاقتراح على الله واعتراضاً على قضائه.

وأراد الإمام (ع) إزالة هذه الوهمة ، والتنبيه على عوز هـذه الحكمة ، وهو مقام الاعتدال الحقيقي ، والاستقامة التامة ، التي أشار إلى صعوبتها سيد الكونين بقوله :
شيبتني آية في سورة هود . [ جوامع الجامـع : 170] .. وهي قولـه تعالى : { فاستقم كما أمرت } . [ هود/112] .. صدق الله العظيم

اضغط هنا لتحميل هذا الكتاب القيم

اضغط هنا للرجوع للصفحة الرئيسية لـ "كتاب الطريق إلى الله تعالى"

للرجوع إلى الصفحة الرئيسية