اضغط هنا لتحميل هذا الكتاب القيم

الباب العاشر: فيما يتبع الرضا بالقضاء من التوكل والتفويض والتسليم

اعلم أنّ الإنسان ما لم يسرح نظره في هذه الأبواب ، ويأخذ نصيبه منها لا يذوق حلاوة الإيمان ، وإن كان لأهل الإيمان فيها مراتب ومقامات ، على قدر تفاوتهم فيها تختلف مراتب قربهم إلى الله.

قال الله عزّ وجل : {يرفع الله الذي آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} . المجادلة/11 ..
ولقد أجاد القائل حيث يقول:
إلهي بكت للخوف منك عصابة----- وما كل من يبكي لديك له ذنب
ولكنـــهم للقرب منك تراهم ----- مدامعهم تجري فيا حبذاالقرب

ومن أجل توقف الإيمان - الذي هو أعلى درجة من الإسلام - عند المقابلة على حصول هذه المقامات ، كذب الأعراب في دعواهم للإيمان ، حيث قال عزّ من قائل : {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان، في قلوبكم} . الحجرات/14..

فيا خجلتاه !.. ويا فضيحتاه !.. ممن يكذب في ذلك اليوم في دعواهم الإيمان ، وهو يسمى باسم المؤمن ، وتموّه عليه نفسه أنه من المؤمنين فما أحقه بقول القائل:
كذبتك نفسك لسن من اهل الهوى ----- للعاشقين علائم ودلائل

وليتنا تنبهنا لقول القائل أيضا :
ان كنت تهوى القوم فاسلك طريقهم ----- فما وصلوا الا بقطع العلائق

هذا ونحن نسمع الله يقول: { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } . المائدة/23..
ونسمعه يقول : { فلا وَرَبِّكَ لا يؤمنون حتى يُحَكِّمُوكَ فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً } . النساء/65..

فإذا تحقق توقُّف الإيمان على التوكّل والتسليم ، وما في معناهما من التفويض ، فينبغي المبالغة والاجتهاد في تقوية ما هو مناط وصف الإيمان وعليه تدور رحاه.
إذ مدار هذا الحثّ العظيم في الكتاب العزيز والسنّة للمؤمنين على الإيمان ولوازمه التي ذكرناها ، حتى أنه عز وجل يقول :
{ يا أيها الذين آمَنوا آمِنوا } إنما هو تحصيل القدر المعتد به من الإيمان ، بحيث يكون بمنزلة مستوى الخلقة الذي تنصرف إليه الإطلاقات ، ويظهر فيه ترتيب الثمرات.
فأما أقلّ ما يحصل به مسمى الإيمان ، فهو حاصل لهم فلا يكلف بتحصيلــه ، وأما على الأفراد فهو كمال زائد ، وهو غير محدود بحدّ ، فلا يليق أن ينفي اسم الإيمان بدونه.

فصار الحثّ العظيم على ترتيب المرتبة الوسطى ، التي هي بمنزلة مستوي الخلقة الذي هو الفرد المتيقّن في الامتثال للأوامر المطلقة فما دونه ، كأنه محل شكٍّ في الإرادة ، وما هو أعلى لو حصل فلا ريب أنه أكمل.
وهذه المرتبة الوسطى هي المعروفة باستجماع المرتبة الوسطى من هذه اللوازم .. فما
دونها من المراتب يطلق عليها الاسم نظراً إلى صدق الماهيــــة ، وينفي عنها نظراً إلى أنها ليست المرادة ، ومعظم القصد إلى ما فوقها.

فإذا قد تدبرت هذه الجملة ، فلا مناص عن تشمير الساعد، وبذل الجهد والهمّة في تحصيل القدر المعتد به من الإيمان ، بحيث يقطع بصدق اسمه عليه ولا يصح سلبه.
وعليه دلّ الصادق (ع) على ما رواه الكافي بقوله (ع) : إنكم لا تكونون صالحين حتى تَعرفوا ، ولا تعرفون حتى تَصدقوا ، ولا تصدقون حتى تسلّموا ، أبواباً أربعة لا يصلح أولها إلا بآخرها ، ضل أصحاب الثلاثة فتاهوا تيهاً بعيداً . الكافي: 2/39..
وكذلك نبّه أمير المؤمنين (ع) على ما في الكافي ، عن الصادق (ع) ، عن أبيه عن آبائه (ع) ، قال أمير المؤمنين (ع) : الإيمان أربعة أركان : التوكّل على الله ، والتفويض لأمر الله ، والرضا بقضاء الله، والتسليم لأمر الله عزّ وجلّ . الكافي : 2/47..

وكذلك بيّنه وشَرَحه مولانا موسى بن جعفر (ع) على ما في تحف العقول بقوله (ع) : ينبغي لمن عقل عن الله أن لا يستبطئه في رزقه ، ولا يتهمه في قضائه.
وسُئل عن اليقين ، فقال: يتوكّل على الله ، ويسلِّم لله ، ويرضى بقضاء الله، ويفوضّ أمره إلى الله . تحف العقول : 408..

وكذلك نبّه رسول الله (ص) على ما يلزم الإيمان والمعرفة من الأحوال والصفات ، وعلى ما فقد من درجة أولياء الله ، فقال على ما في الكافي عن الصادق (ع) عن جده النبي (ص) : من عرف الله وعظّمه منع فاه من الكلام، وبطنه من الطعام ، وعَفى [ في بعض المصادر : عنى ] نفسه بالصيام والقيام ، قالوا : بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله ، هؤلاء أولياء الله؟..

قال: إنّ أولياء الله سكتوا فكان سكوتهم ذكرا ، ونظروا فكان نظرهم عبرة ، ونطقوا فكان نطقهم حكمة ، ومشوا فكان مشيهم بين الناس بركة ، لولا الآجال التي كتبت عليهم لم تقرّ أرواحهم في أجسادهم ، خوفاً من العذاب ، وشوقاً إلى الثواب . الكافي : 2/186..

وكذلك نبّه مولانا علي بن الحسين (ع) على ما يلزم الإيمان والمعرفة ، من الصفات التي للمؤمن والمعارف ، بقوله على ما رواه عنه الطبرسي في الاحتجاج شعراً:
من عرف الله فلم تغــنه ----- معرفة الرب فذاك الشقي
ما يصنع المرء بعز الغني ----- والعز كل العز للمتقي
ما ضر ذا الطاعة ما ناله ----- في طاعة الله وماذا لقي
الاحتجاج : 317باختلاف ..

فأصل هذه الخيرات ، والذي عليه مدار الأمر في كل هذه المقدمات ، إنما هو دوام مراقبة الله في جميع الحالات ، بحيث لا يغيب عن نظرك ، كما أنك لا تغيب عن نظره. (1)
(1)إنّ ما ذكره المؤلف هنا هو نتيجة ما ورد في كتب الأخلاق ، وهو اللبّ اللباب الذي توصّل إليه الواصلون من أولياء الله تعالى فإنّ هذه المراقبة نتيجة للمجاهدة الأولية ، وهي بنفسها مقدمة لمراقبة أخرى شديدة ومستوعبة لكلّ شؤون الحياة فالعابد الذي لا مراقبة له ، كالذي يبذر البذرة هنا وهناك ، في كلّ أرضٍ خصبةٍ وسبخةٍ ، ولا يتعهدها بنفسه أو مستعيناً بغيره ، بالسقي والإنبات ولو أنه أحاط البذرة بالمراقبة والرعاية ، لاهتزت وربت وأنبتت من كلّ زوجٍ بهيج .( المحقق )
وهو قول النبي (ص) لأبي ذر : أعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك . أمالي الطوسي : 2/138..
وفي بعض الأحاديث : فإن كنت ترى أنه يراك ثم عصيته ، فقد جعلته أهون الناظرين إليك.

فإذا داومت على مراقبة الله ، وتركت العلائق التي تشغلك عن التوجّه إلى الله والالتفات إليه ، فلا بدّ حينئذٍ أن تشاهد ألطافه ، وجميع عناياته بك ، ورأفته وصفحه عنك ، وستره عليك ، وتبديله مساويك بالمحاسن ، وسيئاتك بأضعافها من الحسنات ، فعند ذلك يرسخ حبّه في قلبك ، وتنبعث جوارحك لطاعته ، كما تنبعث إلى طاعةِ كلّ محسنٍ ممن هو دونه ، والقلوب مجبولةٌ على حبّ من أحسن إليها ، فكيف بهذا المحسن العظيم الرؤوف الرحيم.

ولذلك تنـزجر نفسك عن السعي فيما يخالف رضاه ، حياءً من مقابلة الإحسان بالإساءة ، أو رهبةً منه عند استيلاء عظمته على قلبك ، أو خوفاً من انقطاع آلائه عنك ، كما يقول القائل شعراً:
اذا كنت في نعمة فارعها ----- فان المعاصي تزيل النعم

وكذلك عند التفاتك إليه ينمحي عن نظرك كل فاعل سواه ، فلا ترى النافع الضار إلا الله سبحانه وتعالى ، وكلّ أحدٍ سواه فإنما يتصرّف بإذنه.
فالقلوب لما أعرضت عن الله سبحانه تعلّقت بهذه الأسباب لنسيانها لمسبّب الأسباب ، وإلا فعند ذكرها الله والتفاتها إليه لا ترى للالتفات والتعلق بغيره معنى بالكلية.
وذلك فطري للعقول ، إذ عند التمكن من الاستعانة بالأقوى ، كيف يجوز التشبث بالأضعف ، بل الذي هو لا شيء بالنسبة إلى ذلك ؟!.. خصوصا بعد كون التوجّه إليه مانعاً من إعانة الأقوى لك ، فليس هو إلا كما قال الشاعر:
المستغيث بعمرو عند شدته ----- كالمستغيث من النار بالرمضاء

ولهذا لما عرض جبريل (ع) إلى إبراهيم (ع) وهو في المنجنيق ، وقد رُمي إلى النار فقال له: يا أخي يا إبراهيم هل من حاجة؟!..
أجابه إبراهيم (ع) : أما إليك فلا .
فجعل الله عليه النار برداً وسلاماً . [ البحار : 12/33 ] .. وأنزل الله بشأنه { وإبراهيم الذي وفّى } . النجم/37..

فكذا كلّ من حصل له الالتفات إلى الله تعالى في ذلك الحال - بنسبة مقامه - يقطع نظره عن جميع الأسباب ، ويقصر نظره إلى مسبّب الأسباب ، وعلامة صدق ذلك ، استقرار صدق قلبه ، وعدم اضطرابه لفقد الأسباب ، بل يكون وجودها وفقدها على السواء .
حتى سمعت من بعض العارفين - أعلى الله مقامه ، ورفع في الدارين أعلامه - أنه ربما يحصل له اضطراب عند حصول الأسباب واجتماعها ، فإذا فقدت يكمل استقرار قلبه ، ويرتفع عند الاضطراب بالمرة.

وهذا أعلى مقامات التوكّل وأصدقها ، وكأنّ منشأ الاضطراب عند حصول الأسباب هو توجّه الأمر الإلهي بملاحظة الأسباب ، فإنّ ملاحظتها مع عدم الاعتماد عليها مطلوبة ومأمور بها ، فلا جرم يتشعب القلب بقدر تصوره لها وذكره إياها. (2)
(2)إن ما ذكره المؤلف هنا هو نتيجة ما ورد في كتب الأخلاق ، وهو اللب اللباب الذي توصّل إليه الواصلون من أولياء الله تعالى.. فإنّ هذه المراقبة نتيجة للمجاهدة الأولية ، وهي بنفسها مقدمة لمراقبة أخرى شديدة ومستوعبة لكلّ شؤون الحياة.. فالعابد الذي لا مراقبة له ، كالذي يبذر البذرة هنا وهناك ، في كلّ أرضٍ خصبةٍ وسبخة ، ولا يتعهدها بنفسه أو مستعيناً بغيره ، بالسقي والإنبات.. ولو أنه أحاط البذرة بالمراقبة والرعاية ، لاهتزت وربت وأنبتت من كلّ زوج بهيج..( المحقق )
فأما إذا ارتفعت وانحصر نظر القلب إلى جهة واحدة ، استقر واطمئن بذكر الله كما وصف الله في كتابه العزيز: { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب } . الرعد/28..

وكذلك علامة صدقه ، أن لا يتأثر قلبه على من يمنعه الشيء عند الطلب منه ، بل يجب أن يكون حاله كما كتب بعضهم إلى بعض الحكام ، وقد كتب إليه يطلب منه بعض ما ائتمنه الله عليه من رزقه ، ولِنعمَ ما كتب حيث قال: إن أعطيتني فالله المعطي ، وقد أجرى الخير على يديك ، وإن منعتني فالله المانع ولا بأس عليك ، ولا تنس نصيبك من الدنيا ، وأحسن كما أحسن الله إليك.

فمن كان نظره إلى مسبّب الأسباب ، وأنّ الأسباب آلاتٌ مسخرةٌ لا يتأثر قلبه من الآلات ، ولا يغضب عليها.
نعم ، إذا كان من أجرى الخير على يديه لأن يكافئ بالإحسان لم يسقط حقه بكونه مسخّراً ، فإنّ صاحب الإحسان الحقيقي قد أثبت له عليك حق المكافأة ، وأوجب شكره عليك ، بل لا يقبل منك الشكر إلا بشكرك لمن أجرى الخير على يديه. (3)
(3)إشارة إلى حالة التفريط التي أبتلي به من لا حظّ له من المعرفة الدقيقة.. ومثل هذا التفريط وأشباهه كثير في الذي دخلوا الطريق من دون إلمام بقواعده ، ومن دون رجوع إلى أهل الخبرة في سلوكهم.. وبذلك لم يفوتهم الوصول إلى المقصد فحسب ، بل أنهم أساءوا إلى الصادقين من القاصدين ، لأنهم تلبسوا بلباس لا يليق بهم!.. إن مراعاة حقوق الخلق في كل صوره ، لا ينفك عن حقوق الخالق ، فإنه الآمر بمراعاة الحقوق كلها ، سواء كانت مرتبطة به ، أو بعياله من المخلوقين..( المحقق )
وهذا أصلٌ عظيمٌ قد تغافل عنه بعض إخواننا الأتقياء ، حيث أغلب نظره إلى الله ، فلا يرى للخلق حقاً واجباً في الإحسان الذي يجريه الله على أيديهم ، وهذا خطأٌ واشتباهٌ عظيمٌ ، وجهلٌ بطريقة أهل البيت (ع) ، وبما نفس الأمر والواقع.
فأما طريقة أهل البيت (ع) ففي الكافي عن علي بن الحسين (ع) : أنّ الله يقول لعبدٍ من عبيده يوم القيامة : أشكرت فلاناً ؟..
فيقول : بل شكرتك يا رب .
فيقول: لم تشكرني إذ لم تشكره.
ثم قال: أشكركم لله أشكركم للناس . [ الكافي : 2/81] .. وهو نصٌّ صريحٌ فيما نقلناه.

فأما مخالفة هذه الشبهة الواهية لما في نفس الأمر والواقع ، فبيانه أنّ أصل هذه الشبهة من العام والمعاندين ، حيث أصل النعم من الله سبحانه وتعالى ، وقد أجراها على يد محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين ، فأراد العامة والمعاندون أن يقولوا : نحن نشكرك يا رب ، ولا نعرف لهذه الوسائط حقاً ، فردّهم الله ، ولم يقبل شكرهم ، إلا بأن يشكروا لمن أجرى الخير على أيديهم ، فجعل من شكره الاعتراف لمن جرى الخير على يديه بالإحسان ، والشكر له على ذلك ، فقد جعلهم الله الباب إليه ، فكل من لم يأت من الباب طُرد وبعد.

وكذلك المعارف والطاعات ، أراد العامّة أن يتوجّهوا إلى الله من دون واسطة محمد وآله الطيبين الطاهرين (4)
(4)انتقالٌ جميلٌ من المؤلف من ضرورة مراعاة حقوق عامة الخلق ، ولزوم شكر المحسن منهم ، إلى ضرورة مراعاة حقوق خاصة الخلق يمثلون أرقى صور العبودية في هذا الوجود .. ولقد ختم المصنف في آخر كتابه بمسك الختام ، إذ ربط السير إلى الله تعالى بالارتباط التفصيلي بالهداة إليه.. ومن هنا لا ينقضي العجب من الذين راموا الوصول إلى الله تعالى ، من غير الباب الذي أمرهم بطرقه ، وقد أوصى النبي (ص) بالتمسك بهم إلى جانب كتاب ربّه ، فالتارك لهم تاركٌ لما يوجب النجاة عند الاعتصام بالعروتين اللتين لا يكفي إحداها سبباً للنجاة.. وهذا هو السبب في أن التارك لنهجهم (ع) لم يصل إلى درجة من درجات الكمال ، وأن ادعاها بنشره أو أبدى أشواقه بشعره ، فإن الوصول إلى الله تعالى ، لا ينال بالدعاوى والأوهام..( المحقق )
فردّها الله عليهم ، ولم يقبلها منهم إلا بالتسليم لأوليائه ، والأخذ منهم ، والردّ إليهم ، والتوجّه بهم ، وكل ما لم يكن بواسطتهم فهو مردودٌ على صاحبه ، ووبالٌ عليه.

وإنكار حقّ المحسنين الذين جرى الخير على أيديهم من سائر الناس شعبة من هذه الشبهة الملعونة ، جرت إلى قلوب بعض أصحابنا الصلحاء من دون تنبّه لأصلها وحقيقتها ، وقد كشفنا القناع عنها ليتحرّز من الوقوع فيها والله العاصم.
ويعجبني أن أنقل في هذا الباب حديثاً عجيباً شافياً وافياً ، عثرت عليه في (تحف العقول) للفاضل النبي الحسن بن علي بن شعبة ، من قدماء أصحابنا ، حتى أنّ شيخنا المفيد (ره) ينقل عن هذا الكتاب ، وهو كتابٌ لم يسمح الدهر بمثله.
والحديث أنه دخل على الصادق رجلٌ فقال له : ممن الرجل ؟.. فقال : من محبيكم ومواليكم.

فقال الصادق (ع) : لا يحبّ الله عبدٌ حتى يتولاه ، ولا يتولاه حتى يوجب له الجنة.
ثم قال له: من أي محبينا أنت؟..
فسكت الرجل .
فقال سدير : وكم محبّوكم يا بن رسول الله؟..
فقال له : على ثلاث طبقات:
طبقةٌ أحبونا في العلانية ، ولم يحبّونا في السرّ .. وطبقةٌ يحبّونــا في السرّ ، ولم يحبّونا في العلانية .. وطبقةٌ أحبّونا في السرّ والعلانية ، هم النمط الأعلى ، شربوا من العذب الفرات ، وعلموا تأويل الكتاب ، وفصل الخطاب ، وسبب الأسباب، فهم النمط الأعلى ، الفقر والفاقه وأنواع البلاء أسرع إليهم من ركض الخيل ، مسّتهم البأساء والضراء ، وزلزلوا وفتنوا ، فمن بين مجروحٍ ومذبوحٍ ، متفرقين في كلّ بلادٍ قاصية ، بهم يشفي الله السقيم ، ويغني العديم ، وبهم تُنصرون ، وبهم تُمطرون ، وبهم تُرزقون ، وهم الأقلّون عدداً ، الأعظمون عند الله قدراً وخطراً.
والطبقة الثانية النمط الأسفل ، أحبّونا في العلانية ، وساروا بسيرة الملـــوك ، فألسنتهم معنا وسيوفهم علينا.
والطبقة الثالثة النمط الأوسط ، أحبونا في السرّ ، ولم يحبّونا في العلانية.
ولعمري لئن كانوا أحبّونا في السرّ دون العلانية !.. فهم الصوّامون بالنهار ، القوّامون بالليل ، ترى أثر الرهبانية في وجوههم ، أهل سلمٍ وانقياد.
قال الرجل : فأنا من محبيكم في السرّ والعلانية.
قال الصادق (ع) : إن لمحبينا في السرّ والعلانية علامات يُعرفون بها.
قال الرجل : وما تلك العلامات؟..
قال: تلك خلال:
أولها أنهم عرفوا التوحيد حق معرفته ، وأحكموا علم توحيده ، والإيمان بعد ذلك بما هو ، وما صفته ، ثم علموا حدود الإيمان ، وحقائقـــه ، وشروطه ، وتأويله.
قال سدير : يا بن رسول الله ، ما سمعتك تصف الإيمان بهذه الصفة!..
قال: نعم يا سدير ، ليس للسائل أن يسأل عن الإيمان ما هو حتى يعلم الإيمان بمن.
قال سدير : يا بن رسول الله ، إن رأيت أن تفسّر ما قلت؟..
قال الصادق (ع) : من زعم أنه يعرف الله بتوهّم القلوب ، فهو مشركٌ.
ومن زعم أنه يعرف الله بالاسم دون المعنى ، فقد أقرّ بالطعن ، لأنّ الاسم محدث.
ومن زعم أنه يعبد الاسم والمعنى ، فقد جعل لله شريكاً.
ومن زعم أنه يعبد الصفة لا بالإدراك ، فقد أحال على غائب.
ومن زعم أنه يعبد الصفة والموصوف ، فقد أبطل التوحيد ، لأنّ الصفة غير الموصوف.
ومن زعم أنه يضيف الموصوف إلى الصفة ، فقد صغّر بالكبير ، { وما قدروا الله حق قدره } . الأنعام/91..
قيل له : فكيف سبيل التوحيد ؟..
قال: باب البحث ممكن ، وطلب المخرج موجود ، إن معرفة عين الشاهد قبل صفته ، ومعرفة صفة الغائب قبل عينه.
قيل : وكيف نعرف عين الشاهد قبل صفته؟..
قال : تعرفه ، وتعلم علمه ، وتعرف نفسك به ، ولا تعرف نفسك بنفسك من نفسك ، وتعلم أن ما فيه له وبه كما قالوا ليوسف :
{أأنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي } . يوسف/90..

فعرفوه به ولم يعرفوه بغيره ، ولا أثبتوه من أنفسهم بتوهّم القلوب ، أما ترى الله يقول : { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } . النمل/60..
يقول : ليس لكم أن تنصبوا إماماً من قبل أنفسكم ، وتسمّونه محقّاً بهوى أنفسكم وإرادتكم .
ثم قال الصادق (ع) : ثلاثة لا يكلّمهم الله يوم القيامة ، ولا ينظر إليهـــم ، ولا يزكّيهم ، ولهم عذابٌ أليمٌ : من أنبت شجرةً لم ينبتها الله - يعني من نصب إماماً لم ينصبه الله - ومن جحد من نصبه الله .. ومن زعم أن لهذين سهماً في الإسلام ، وقد قال الله : { وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة } . القصص/96..
وأما صفة الإيمان قال (ع) : معنى صفة الإيمان الإقرار والخضوع لله ، بذلّ الإقرار والتقرّب إليه به ، والأداء له بعلم كلّ مفروضٍ من صغيرٍ أو كبيرٍ ، من حدّ التوحيد فما دونه إلى آخر باب من أبواب الطاعة ، أولاً فأولاً ، مقروناً ذلك كلّه بعضه إلى بعض ، موصولٌ بعضه ببعض.

فإذا أدّى العبد ما فرض الله عليه ، مما وصل إليه على صفة ما وصفناه ، فهو مؤمنٌ ، مستحقٌّ لصفة الإيمان ، مستوجبٌ للثواب.
وذلك أنّ معنى جملة الإيمان الإقرار ، ومعنى الإقرار التصديق بالطاعة كلها ، صغيرها وكبيرها ، مقروناً بعضها إلى بعض ، فلا يخرج المؤمن من صفة الإيمان إلا بترك ما استحق به أن يكون مؤمناً.

وإنما استوجب واستحقّ اسم الإيمان ومعناه ، بأداء كبار الفرائض موصولة ، وترْك كبار المعاصي واجتنابها ، وإن ترَكَ صغار الطاعة وارتكب صغار المعاصي فليس بخارجٍ من الإيمان ، ولا تارك له ، ما لم يترك شيئا من كبار الطاعة ، ولم يرتكب شيئا من كبار المعاصي ، فما لم يفعل ذلك فهو مؤمن ٌ، لقول الله تعالى :
{ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما } . النساء/13..

يعني المغفرة ما دون الكبائر ، فإن هو ارتكب كبيرة من كبائر المعاصي كان مأخوذا بجميع المعاصي ، صغيرها وكبيرها ، معاقباً عليها معذباً بها.
فهذه صفة الإيمان ، وصفة المؤمن المستوجب للثـواب . تحف العقول : 325..
انتهى ما أردنا نقله ، وله تتمة من أرادها فليطلبها ، وقد اشتمل من تنويع المحبة لأهل البيت (ع) - التي هي عنوان الإيمان ، ومنها يعلم تنوّع الإيمان - على ما لم يشتمل عليه غيره من الأحاديث ..

وما لم يوجد مجتمعاً في حديث ، وإن كانت الأحاديث مع جمعها بضمّ بعضها إلى بعض ، تقصد ما في هذا الحديث الشريف.

وكذلك أحاديث أهل البيت (ع) يفسّر بعضها بعضاً ، لا يخالف بعضها بعضاً ، وإنما يرى الاختلاف فيها لعدم معرفة المقامات التي سيقت لبيانها ، وكل منها يقصد به بيان مقام من المقامات ، ويُشار به إلى غيره من المقامات بالإشارة والتلويح ، لينال كلّ أحدٍٍ نصيبه.
{ قد علم كل أُناسٍ مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين } . البقرة/60..

اضغط هنا لتحميل هذا الكتاب القيم

اضغط هنا للرجوع للصفحة الرئيسية لـ "كتاب الطريق إلى الله تعالى"

للرجوع إلى الصفحة الرئيسية