اضغط هنا لتحميل هذا الكتاب القيم

الباب السابع : كيف نسلك الطريق إلى الله ؟

اعلم أن السالك سبيل الله ، والمتوجّه لما عند الله يجب عليه أمور حتى لا ينقطع عليه الطريق ، فإنّ أدلاّء هذا الطريق وهم أهل البيت عليهم السلام قد أرشدوا إلى أمور من عرفها سهل عليه ، وإلا انقطع به الطريق ، ورجع إلى خلفٍ رجوع القهقرى.

الاول : أن يعرف أن الخير كله عند الله ، فلا يلتمس الخير إلا عنده ، ولا يطلب من سواه.
فإذا عاشرت الخلق وباشرتهم فليكن ذلك طلبا لما عند الله، وابتغاء لرضا الله ، بأن يكون همّك الإحسان إليهم ، وإدخال النفع عليهم ، فإنّ الخلـق عيـال الله ، وأحب الخلق إلى الله من أدخل النفع على عيــال الله . [ الكافي : 2/131 ] .. كما في أخبار أهل البيت(ع). (1)
(1) إنّ هذا المعنى قد يغيب عن قلوب الكثيرين حتى من الخواص .. فإنهم عند الإحسان إلى الخلق يعيشون حالة لا شعورية من المنّة على من أحسنوا إليه ، ويبدو ذلك من خلال فلتات ألسنتهم ولحظات عيونهم .. فهذا المعنى الذي ذكره المؤلف من مقتضيات المعرفة العميقة بحقّ الله تعالى وبحقّ من أمر الله تعالى بصلتهم .. كما أنها من مقتضيات الرقابة الدقيقة ، لما يدور في خبايا النفوس ، فإنّ القلب لا يصير محطةً لأنوار الملكوت إلا إذا تخلى حتى عن هذه الشوائب الخفيّة ، التي هي بمثابة السيئات عند المقربين وإن كانت تبدو بصورة الحسنات عند الأبرار . ( المحقق )
فإذا أردت المرتبة العليا بأن تكون أحب الخلق إلى الله على ما اقتضاه الحديث الشريف ، فاتقن هذه المقدمة أولا ً، وهي أن تعلم بأن انتفاعك منهم بهذا الطريق أعظم من نفعك لهم ، حيث أنك بسببهم توصلّت إلى أن تكون أحب الخلق إلى الله ، فلا تطلب منهم نفعاً غير هذ ا، واقطع النظر عن كل ما سواه .. فما وراء عبادان قرية.
فإذا كان أصل معاشرتك لأجل أن تنفعهم ، ويصل منك الإحسان إليهم فوطّن نفسك أولاً على تحمل الإساءة منهم ، وعدم مكافأتهم بها ، وهذا أول إحسان منك إليهم.
ثم إذا وطّنت نفسك على أن لا تكافئ المسيء بإساءته فلا تقنع بذلك ، فإنك تريد الاقتداء بأهل بيت سجيتهم الإحسان إلى من أساء إليهم ، والعفو عمن ظلمهم ، والوصل مع من قطعهم ، والإعطاء لمن حرمهم.

فلا بدّ لك من توطين نفسك على أن تتمنى أن يسيء إليك أحد ثم تحسن إليه ، حتى تتوصل بسببه إلى تحصيل فضيلة الإحسان إلى من أساء إليك ، فتُحصّل التأسي بالنبي (ص) وأهل بيته (ع) حيث إن سجيتهم ذلك ، وقد قال مولانا أمير المؤمنين (ع): إن أحب الخلق إلى الله المتأسي بنبيه . نهج البلاغة : الخطبة 160..

فتحصل بإساءته إليك ومقابلتك له بالإحسان على هذا المقام العالي أولا ً، ثم أنك مع فقرك ولؤمك وحاجتك ، إذا كافأت المسيء بالإحسان فالله سبحانه وتعالى بكرمه وغناه أولى على أن يكافئك على الأعمال السيئة بالإحسان ، فتحصل لك الحجة على إكرامه بذلك ثانياً.

بل هو سبحانه إنما أمرك بالإحسان إلى من أساء إليك ، لينبّهك على أنك فعلت ذلك فأنا أولى بذلك منك ، وأنت أحوج إلى إجراء المعاملة هذه معك ، فأمرك بأن تجري هذه المعاملة.

ونفع هذه المعاملة العائد لك أعظم من النفع الذي أمرتك بأن توصله إلى من أحسنت المعاملة معه ، فلو أنك نظرت بعين البصيرة لرأيت إساءته إليك ، حيث أوصلك إلى هذه المقامات إحساناً يستحق الشكر عليه ، فضلاً عن المجازاة له بالإساءة. (2)
(2) إنّ هذا القول من آثار تبدل نظرة السالك إلى الوجود وحركة الحياة ، ومن هنا كانت المعرفة والبصيرة المقدمة الأولى للسير نحو الكمال .. فانظر كيف أنّ السالك يحوّل الخصومة التي تحمل في طيّاتها الكثير من الظلمة والظلامة إلى أداة للتقرب إلى المولى الحق ، فيثبت العبد فيها أنه عبدٌ لمولاه في كل حركاته وسكناته ، وخاصةً عند إثارة دواعي الغضب أو الشهوة فإنهما من مزال أقدام العوام والخواص ، ولطالما كانا من موجبات الإبتلاء الدائم ، إما بالجحيم أو بنار البعد عن الحقّ ، والذي لا تقلّ إحراقاً عن سابقتها عند من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ..( المحقق )
وهذا كله على تقدير تحقق الإساءة إليك من الغير ، وإلا فعلى تقدير أنك ظالم أو تتظلم كما هو المشاهد في أحوال غالب الخلق ، فالأمر أجلى وأوضح ، فإنا ما رأينا أحداً من الناس إلا وهو يشتكي ويتظلم ، ولم نر إلى الآن متنازعين ومتخاصمين من الأخيار ولا من الأشرار ، وأحدهما يقرّ للآخر : أني ظالمٌ لك ومتعدّ عليك.

بل لم نزل نرى الأخيار وأهل الصلاح والتقوى يتخاصمون ، وكلّ يدعي المظلومية من الآخر ، وأنه صاحب الإحسان عليه ، والتحمل منه ، وهم ممن لا يتعمدون الكذب ولا يتجرؤون عليه ، فاعلم أن ذلك من مكائد النفس الأمّارة ، وتلبيسها الباطل بصورة الحق حتى تشبّه الأمر على صاحبها.

ولهذا ردّ الشارع الحكيم شهادة العدل لنفسه ، ولم يجز التعويل في ذلك على عدالته ، فوجب على العاقل المنصف أن يتهم نفسه في حق نفسه ، ولا يقبل شهادته لنفسه ، كما لا يقبله الشارع.

فهذا غير الذي تعاشره وتباشره ، إن كان أصل معاشرتك أن تنفعه لا لأجل أن تنتفع منه ، فقد أرحت قلبك أولاً بقطع الآمال من الناس ، وقطع الطمع عنهم ، وهذا هو الغنى الأكبر الذي هو غنى النفس.

ثم أن أول صدقة منك عليهم أن تكفّ الأذى عنهم ، وأول ذلك أن ترفع أذاك عنهم ، فلا تتعرّض لهم بما يؤذيهم ، ثم توطن نفسك على تحمل الأذى منهم ، ثم اجعل همك إيصال الإحسان إليهم.
فإذا توطّنت نفسك على ذلك ، فإن وصل إليك مكافأة بإحسان فهذه نعمة غير مترقبة ، فتكون أوقع في النفس وألذ.

وإن رأيت أنهم قد قطعوا النظر عنها ، وتعلّقت نفوسهم بأن تقبلها منهم فاقبلها منهم ، فإن قبولها الإحسان عليهم ولو لم تكن محتاجاً إليها ، فإنّ ردّها يكدّر خواطرهم ، وهو إساءة إليهم وقد وطنت نفسك على ترك الإساءة إليهم ، وأنت مأمور بذلك. (3)
(3) هذه صورةٌ أخرى من صور الواقعية في نهج المؤلف ، فإنّ الرقة ودماثة الأخلاق ، من الصفات الأساسية في السالك ، ولطالما رأينا غير ذوي البصيرة في هذا الطريق يلحقون الأذى بالغير بقولٍ أو فعلٍ .. او يوجبون لهم الوهن ، أو يدخلون عليه الهمّ والغمّ ، بدعوى الترفع عن الدنيا والإعراض عن الخلق ، غافلين عن حقيقة أنّ من كسر مؤمناً فعليه جبره ( الكافي 2-45 ) .. ومن دون هذا الجبر قد يكسر الله منه ، ما لا جبر له في الدنيا ولا في الآخرة ..( المحقق )

وإن كان إحسانهم الذي وقع مكأفاة مجرد تعارف ، ويتوقعون منك أن تردهّا عليهم ، فاقبلها منهم ثم ردّها عليهم من باب الهدية الجديدة كما هو وفق إرادتهم.

وإن كان مرادهم أن تقبلها منهم وتكافيهم عنها بعوض آخر أزيد منها فاقبلها منهم وكافئهم بالأزيد ، وهو الإحسان إليهم ، ولا تظهر لهم أنك فهمت أنهم أتوا بها لأجل العوض ، بل أجْرِ الأمر على ظاهره ، فهو إحسان منك إليهم.

والحاصل يا أخي !.. أنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وكما تدين تدان.
واعلم أن عمدة الإحسان إلى الناس ليس ببذل المال ، فإنا رأينا كثيرا من الناس يبذلون المال ولا يكون ذلك إحسانا ، بل يستتبع إساءة ، وتكدير خاطر ، ويكون من قبيل صدقة يتبعها أذى بحسب الخارج ، وإن كان أصل قصدهم الإحسان ، لأنهم لا يعرفون وجهه ، وكلّ ذلك من إهمال قواعد أهل البيت (ع) ، وعدم الالتفات إلى طريقتهم.

فإذا أردت أن تقضي حاجة لأخيك المؤمن على وفق طريقة أهل البيت (ع) ، فاعلم أنهم قالوا : إن قضاء الحاجة تتم بأمور : تصغيرها لتكبُر ، وتعجيلها لتهنأ ، وكتمانها لتظهر. [ تحف العقول : 403قريب منه ] ..
وما لم تجتمع هذه الأمور لا تكون الحاجة تامة ، بــل تكون ناقصة مكدّرة ، بل ربما كانت أذية على صاحب الحاجة.

وعادة الخلق أنهم إذا قضوا حاجة يُخلّون بهذه الأمور كلها ، فلا يتم في أعمالهم قضاء حاجة على وجهها ، وهذا هو العظيم حيث أنهم يتجرّعون مرارة إنفاق المال ، ولا يترتب عليه الثمرة المطلوبة الذي هو إدخال السرور في قلب المؤمن.

وتراهم إذا قضوا حاجة يوعدونه بها أولاً ، ثم يماطلونه ، فيبقى يتجرّع مرارة الانتظار الذي هو أشدّ من القتل ، ثم يتجرّع مرارة اليأس من الحاجة مراراً معددة ، ثم بعد حين تقضى الحاجة وقد تحمّل مرارة المطالبة ، ومرارة الخجل ، مع مرارة الانتظار ، ومرارة اليأس ، ومرارة الفشل من الناس الذين وعدهم ، معتمداً على وعدهم الذي وعدوه فأخلفوه ، فأي لذة تبقى بعد هذا ، بل كان إثمها أكبر من نفعها.
وكذا عادتهم في الحاجة أنهم لا يصغرونها ، ويقولون : هذا أمر جزئي بالنظر إلى قدر المؤمن الذي في بعض الروايات : أنّ حرمته أعظم من حرمة الكعبة . [ البحار : 64/71] .. بل يظهرون أنا قد فعلنا معك إحساناً عظيماً ، بحيث يتوقعون أن يترك العبودية لله عزّ وجلّ ويصير عبداً لهم !..

وكذلك لا يخفونها على الناس حتى تقرب من الإخلاص وتبعد عن الرياء ، وتكون من قبيل العمل الخالص الذي في الحديث: عليك إخفاؤه وعليّ إظهاره.
بل يظهرونها لجميع الخلق ، ويذلونه في جميع العالم ، فهذه عادة الخلق المنحوسة، والعيان فيها يغني عن البيان.

فعلم مما ذكرناه أن الإحسان ليس عمدته بذل المال ، بل عمدته ملاحظة الأمور التي ذكرناها.
والإحسان إلى كل شخص إجراء الأمر على وفق مراده ، والتحذير من تكدير خاطره..... (4)
(4) إنّ مسألة تحاشي تكدير الخواطر - وخاصةً ذوي النفوس البريئة - من الأمور التي ينبغي أن يلتفت إليها السالك ، فلطالما كان سببا لأنواع من الخذلان ، وكلما صفا العبد وازدادت درجة قربه من الرب ، كلما عظمت الخطورة بتكدير خاطره ، فإنّ الله تعالى عند المنكسرة قلوبهم ( دعوات الراوندي –120) ، وهو سريع إلى نصرة عبده المؤمن .. وقد روى أنّ امرأةً دخلت النار في هرةٍ ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من حشاش الأرض ( الحدائق 7-271 ) ، فكيف بمن آذى من تجلى الله تعالى في قلبه فصار شأنا من شؤونه ؟..( المحقق )
..... فمن يكون مراده أن تقبل منه فإحسانك بقبول ذلك الشيء منه ، وإن أردت أن تكون يدك العليا فكافئه عنه بأحسن منه ، أو مثله إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتأمّل المراعي لدقائق أهل البيت (ع) لوصاياهم وسجاياهم.

فإذا تمت لك المعاشرة مع الخلق لأن تنفعهم ، وقطعت نظرك عن الانتفاع بهم بالمرة ، بحيث أنّ كلّ نفعٍ تؤمله منهم تعدل به إلى من لا تخيب عنده ، ولا يقربه البخل في حال ، فلا تستغرق أوقاتك بالخلق ، وتجعلهم شغلك وهمك ، فإنك مأمور من أهل البيت (ع) : أقلل معارفك ، وأنكر من عرفت. ( المستدرك 11-387)

والحكمة في ذلك أن لا يشغلوك عن التوجّه إلى خالقك ، فإن في التفرغ للعبادة ، وخلو البال عن كل شاغل يشغلك عن الله معنوية لا تُنال بمعاشرة الخلق ، وفي الحميّة معنى ليس في العنب.

ولهذا قال أحد الأئمة (ع) لمن قال له: خلوت بالعقيق وتعجّلت بالوحدة: يا هذا !.. لو ذقت حلاوة الوحدة لاستوحشت من نفسك . البحار : 75/254..
فالمراد أنك حيث تحتاج إلى معاشرة الخلق لا بدّ أن يكون طورها على ما وصفناه لك.

وليس المراد أنك تجعل شغلك الاشتغال بمصالح (الخلق) فلا بدّ من توزيع الوقت وتقسيمه ، فتجعل لك وقتا للتضرّع إلى الله ووقتا لمعاشرة الخلق ، بأن يكون جالبا لرضاء الله ، ومقصوداً به وجهه ، وليكن حظك من الأول أوفى ، وليكن هو همّك وبغيتك ، فإنه المطلوب منك بالأصالة .....(5)
(5)إن قيد بالأصالة من القيود ، التي لا ينبغي أن لا يغفل عنها أبداً.. فالملاحظ أنّ البعض من المبتدئين ، يشتغل بالقيام بما لله تعالى رضا في أصله ، ثم يستغرق في ذلك بما يوجب له الذهول عن الله تعالى ، كما لو دخل مجلساً لإصلاح ذات البين ، فيتوغل في عالم إصلاح ذات البين بما يجعله يتعامل وكأنه أحد المتخاصمين ، فيقسو في القول ، وقد يجيز لنفسه أن يستمع إلى ما لا يجوز الاستماع له ، كما إذا تجاوز الخصم حدّه فذكر ظلماً مستورا لا يتعلّق بالمظلوم ، وهكذا بدأ بقصد القربة ابتداء لا استدامة.. والحال أن الدوام أشق من الإبتداء كما هو معلوم ..( المحقق )
...... وحتى يتأتى لك إرجاع الثاني إلى الأول وإلا ملت به إلى حظ النفس ، وصار وبالاً عليك ، فلا تنال منهم دنيا ولا آخرة ، ووقعت فيما فيه الناس من الظلم والتظلم ، وألم الشكوى من جميع المعاشرين ، كما أنهم لا يزالون في الشكاية منك فلا تنال رضاهم أبداً.

لا خير ولا راحة إلا في الإقبال على الله ، والتوجّه إليه ، وبذلك يسهل كل شيء من مهمات الدنيا والآخرة ، وكل تعبٍ وهمٍّ وشدةٍ وغمٍّ فإنما يترتب على الغفلة عن الله والإدبار عنه ، وهذا ما يتعلق بالأمر الأول من الأمور التي تلزم من يريد أن يسلك سبيل الله .
الثاني: أن يراعي حقوق الخلق في الله ، فإنّ مراعاة حق الخلق في الله مراعاة لحق الله ، كما أن إهمالها إهمال لحق الله.
فإذا أردت ذلك فاعلم أن لهؤلاء حقوقاً كثيرة يلزمك أن تعرفها حتى لا تجهل حق الله فيهم ، فإذا عرفتها استعنت بالله على أدائها ، والقيام بها ، وإذا عجزت عنها كان اعترافك بالعجز قائماً مقام القيام بها.

فأحدها : أنهم يقولون : (علي ولي الله) وكل من يقول هذه الكلمة الشريفة كيف يمكنك القيام بحقه ؟.. بل كيف يمكنك معرفة حقه؟.. بل كيف تتصور حقه ؟..
هيهات !.. هيهات !.. حق من يعترف بهذه الكلمة تابع لحق من هو منسوبة إليه وهو علي (ع)، وحقه تابع لحق رسول الله (ص) ، وحق رسول الله (ص) تابع لحق الله تعالي ، وكيف يمكن القيام بحق الله وقد قال رسول الله (ص) لأبي ذر: ( إنّ حقوق الله جلّ ثناؤه أعظم من أن يقوم بها العباد ، وإنّ نِعَم الله أكثر من أن يحصيها العباد ، ولكن أمسوا تائبين ، وأصبحوا تائبين ). البحار : 74/76..(6)
(6)لاحظ هذا التدرج الذي نبّه عليه المؤلف ، وكيف أنّ السالك الملتف لا ينظر إلى الأمور بعفوية وسذاجة ، فهو ينتقل من المبادئ لينتهي إلى الغايات ، إذ ينظر إلى الأمور كلها على أنها منتسبةٌ إلى الله تعالى ، وكلما اشتدّ انتسابه إليه عظم حقه لديه ، فليس الإخلال بحقّ المؤمن إخلالاً بحقّ فرد مبتور صلته بمولاه ، بل إخلالٌ بمن أخذ الله تعالى على نفسه عهداً أن يدافع عنه .. ومن الذي له قدرة المواجهة ، مع من جعل الله تعالى نفسه وكيلا عليـه وناصراً لـه ؟....( المحقق )

وقد قال رسول الله (ص) لبعض أصحابه وهو يشير إلى علي (ع):
( والِ ولي هذا ولو أنه قتل أبيك وولدك ، وعاد عدوّ هذا ولو أنه أبوك وولدك).الوسائل : 16/178..
فإذا أوجب له انتسابه لعلي (ع) وموالاته له أن تسامحه في قتله لأبيك وولدك ، وتغفر له ذلك ، فكيف بما دون ذلك؟!..

بل لا يكتفى منك بمجرد المسامحة والعفو ، بل يجب له مع ذلك أن تحبه وتكرمه وتحترمه ، كما هو مقتضى الموالاة ، بل لو فديت له نفسك لكان قليلا في حق من هو منسوب إليه ، ولقد أجاد الشاعر حيث يقول:
وما حب الديار شغفن قلبي ----- ولكن حب من سكن الديارا

فأنت إذا تسامحت مع محب أمير المؤمنين (ع)فالله أولى بمسامحتك ، وأن يغفر لك كل ذنب إكراما لمحبتك إلى أمير المؤمنين (ع)، فإنّ الله أشدّ حباً منك لأمير المؤمنين (ع).
وكلما كان مقصراً في طاعة أمير المؤمنين (ع) ، ولاحظت مجرد الانتساب ، واحترمته لذلك ، فيكون احترامك لأمير المؤمنين (ع) أعظم.
إذ من هو بذاته مستحق للاحترام ربما يكون احترامك له من جهة قابليته بذاته للاحترام لا لجهة الانتساب المحض ، فيكون دالا على شدة الاحترام ، إذ لولا القوة والشدة لما غلبت على الموانع المعارضة.
فهذا أحد الحقوق وفيه الكفاية ، وأنى لك بالقيام به !..
فكيف إذا انضمّ إلى ذلك أنه من ذرية علي (ع) ؟..
وكيف إذا انظم إليه كونه من زائريه ، أو كونه من مجاوريه ، أو من خدام حضرته ، أو اسمه اسمه أو اسم أحد أولاده (ع) ، أو كونه يسمّى بما يدل على الانتساب إليهم ، كعبد علي ، أو عبد الحسين ؟..

وأما حق الرحمية ، وحق المجاورة ، وحق المرافقة ، وحق الدعاء ، وحق تعليم القرآن ، أو تعليم حرف من العلم ، أو كمال من الكمالات ، أو كونه أكبر منك سناً ، أو كونه مجتهداً لك ، أو إماماً لك في الجماعة ، أو كونه محسناً إلى بعض أرحامك ، أو إلى بعض جيرانك ، أو كونه سائلاً عنك ، أو طالباً ، أو محسناً بك الظنّ ، أو نحو ذلك مما اشتملت عليه رسالة الحقوق لمولانا علي بن الحسين (ع) ، وكلها حقوق عظيمة عند أهل البيت عليهم السلام ، ومسؤول عنها يوم القيامة .( التحف- 255 ) (7)
(7)إِنّ هذه الرسالة لا يمكن أن يغفل عنها السالكون إلى الله تعالى ، ومن أقدر من زين العباد أن يكون شارحاً لحقوق الله وعباده ؟!.. إنّ من الضروري أن يحيط السالك علماً بمجموعة من النصوص والحقوق الواردة عن أئمة الهدى (ع) في مجال السير إلى الله تعالى ، إذ هم أعلم الخلق بهذا الأمر ، فهم المعنيون في الدرجة الأولى بكل خطابات القرب .. وكم من الخيبة والخسران أن يفني الإنسان عمره في سبر كلمات من يدّعي العرفان تاركاً أصحاب البيوت التي أذن الله تعالى أن يذكر ويرفع فيها اسمه !..( المحقق )


فأنى لك بالخلاص منها ، والعذر عنها ، وقد ورد ما معناه : أن ثلاثة يشكون يوم القيامة إلى الله : مسجد مهجور ، وقرآن مطروح في البيت عليه غبار لا يتلى فيه ، وعالم في محله لا يسمع منه . عدة الداعي : 272
فما حال من أبرز للحساب ، واجتمع للشكوى عليه عند الحالكم العادل ثلاثة : بيت لله ، وكتاب الله ، وولي الله !..
فأيهم لا يسمع شكايته ؟..
وأي هؤلاء ينكر حقه وحرمته عند الله ؟..

فهذه حقوق عظيمة كيف يمكنك الاعتذار عنهــا في ذلك الموقف العظيم ؟.. فقد ورد : أنّ العاطس يعطس فلا يُسمت فيطالب بحقه فيقضى له يوم القيامة.
فيا أيها الأخ المسترشد !.. أنت إذا نظرت بعين العقل - التي أودعها الله فيك لتبصر بها - لا يكون همّك إلا الاعتراف بالتقصير والسعي في خلاص رقبتك من الحقوق التي لزمتك ، وترى أنهم وإن بالغوا في مسائلتك فأنت بعدُ مُطالب بالحقوق التي لهم عليك ، فيكون همّك استعفائهم ، والاعتذار منهم ، والمبالغة فيما يمكنك من الإحسان إليهم ، رجاء ليعفو الله ، ويرضيهم عن بعض الحقوق.

فأنت إن نظرت إلى الخلق بهذه العين التي أودعها الله فيك ، سهل عليك سلوك سبل الله ، وهذا هو الأمر الثاني.
الثالث : أن يستوحش من الخلق أنسا بالله ، فإنّ العاقل يلزمه أن يكون مقبلاً على شأنه ، حافظاً للسانه ، عارفاً بأهل زمانه ، مستوحشاً من أوثق إخوانه.
فمن هو هكذا دعا له علي (ع) بقوله: شدّ الله من هذا أركانه ، وأعطاه يوم القيامة أمانه . الكافي : 1/49..
وفي الكافي عن جابر قال : دخلت على أبي جعفر (ع) فقال:
يا جابر !.. والله إني لمحزون ، وإني لمشغول القلب.
قلت : جعلت فداك !.. وما شغلك ، وما حزن قلبك ؟..
فقال : يا جابر !.. إنه من دخل قلبه خالص دين الله ، شغل قلبه عمّا سواه . الكافي : 2/ 107..

وفيما كتبه أمير المؤمنين (ع)إلي بعض أصحابه : فإنّ من اتقى الله عزّ وقوي ، وشبع وروي ، ورفع عقله عن أهل الدنيا ، فبدنه مع أهل الدنيا وقلبه وعقله معاين الآخرة . [ الكافي : 2/136] .. انتهى.

فالمؤمن إذا أنس بألطاف الله ، وذاق طعم حلاوة ذكر الله ، يلزمه الوحشة من مفارقة هذه الحالة ، فلا يرضى بمفارقتها.
فإذا منّ الله على عبده المؤمن بالتأييد ، ألزم قلبه هذه الحالة وأشغله بها ، ومكّنه مع ذلك من الالتفات معها إلى ما دونها ثانياً وبالعرض ، وإن كان أصل شغله بها وأصل التفاته إليها ، فلا يزال مستوحشاً من هذه الضميمة ، ويريد التفرّغ لما هو المطلوب له بالأصالة ، والمقصود له أولاً وبالذات ، إلا أن هذه الوحشة في قلبه لا تظهر على جوارحه .....(8)
(8)من الضروري – كما أشار المؤلف – كتمان هـذه الحالات القدسية عن الخلق ، فقد لا يكون عند الإبداء قاصداً غير الحق ، ولكن لا يؤمن منه العجب اللاحق في ساعات الغفلة التي لا يخلو منها غير المعصوم .. أضف إلى تعريض المؤمن عبد غيره إلى سوء الظنّ وتهمة الرياء ، وبذلك يكون مخالفاً أمر مولاه في أن لا يجعل نفسه في مظانّ التهم .. فإنّ عزة المؤمن من شؤون الحق التي لم يوكلها الله تعالى إلى عبده ..( المحقق )
.....كما قال أمير المؤمنين (ع)في وصف المؤمن : حزنه في قلبه ، وبشره في وجهه . البحار : 64/305..

وربما يخبر بها إن اقتضى المقام إظهارها ، كما مرّ في حديث الباقر (ع) مع جابر.
فهذا معنى كون المؤمن مستوحشا من أوثق إخوانه.
فما لم تتم لك هذه الحالة ، وهي كون الغالب عليك الاشتغال بالله ، والوحشة عمن سواه ، ولو كان من أوثق إخوانك ، فلا تقدر على جعل معاشرتك للخلق ذريعةً إلى القرب إلى الله ، لكون الغالب عليك الميل الطبيعي ، وحظ النفس من الأنس بالجنس البشري ، فتصير عبداً للنفس ترضى لها وتغضب لها ، وتخرج عن شرف العبودية لله ، وما خلقت لذلك ، قال الله عزّ وجل : {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} . الذاريات/56

اضغط هنا لتحميل هذا الكتاب القيم

اضغط هنا للرجوع للصفحة الرئيسية لـ "كتاب الطريق إلى الله تعالى"

للرجوع إلى الصفحة الرئيسية