الجزء الثاني: مسائل الايمان والنذر والكفارات

(مسألة) ومما انفردت به الامامية أن من حلف بالله تعالى أن يفعل قبيحا أو يترك واجبا لم ينعقد يمينه ولم يلزمه كفارة إذا فعل ما حلف أنه لا يفعله أو لا يفعل ما حلف أنه يفعله، ومن عدا الامامية يوجبون على من ذكرنا الحنث والكفارة.

دليلنا الاجماع المتردد.

وأيضا فان انعقاد اليمين حكم شرعي بغير شبهة.

وقد علمنا بالاجماع انعقاد اليمين إذا كانت على طاعة أو مباح، وإذا تعلقت بمعصية فلا إجماع ولا دليل يوجب العلم على انعقادها، فوجب نفي انعقادها لانتفاء دليل شرعي عليه.

وأيضا فان معنى انعقاد اليمين أن يجب على الحالف فعل ما حلف أنه يفعله أو يجب عليه أن لا يفعل ما حلف أنه لا يفعله، ولا خلاف في أن الحكم مفقود في اليمين على المعصية، لان الواجب عليه أن لا يفعلها فكيف ينعقد يمين يجب عليه ألا يفي بها وإن يعدل عن وجوبها.

فان قيل ليس معنى انعقاد اليمين ما ادعيتم بل معناه وجوب الكفارة متى خالف أو حنث، قلنا: هذا غير صحيح، لان وجوب الكفارة وحكم الحنث إنما يتبعان انعقاد اليمين، لانا إنما نلزمه الكفارة لاجل خلافه ليمين

[157]

انعقدت فكيف يفسر الانعقاد بلزوم الكفارة وهو مبني عليه وتابع له، والذي يكشف عن صحة ما ذكرناه أن الله تعالى أمرنا بأن نحفظ ايماننا ونقيم عليها بقوله تعالى: (واحفظوا ايمانكم)، وقوله تعالى: (أوفوا بالعقود)، فاليمين المنعقدة هي التي يجب حفظها والوفاء بها، ولا خلاف أن اليمين على المعصية بخلاف ذلك، فيجب أن يكون غير منعقدة، فإذا لم تنعقد فلا كفارة فيها.

وأيضا فان من حلف أن يفعل معصية ثم لم يفعلها هو

[بأن لم يفعلها]

مطيع لله عزوجل فاعل لما أوجبه عليه فكيف يجب عليه كفارة فيما أطاع الله تعالى فيه وأدى الواجب به، وإنما تجب الكفارة على من أثم بمخالفة يمينه وحنث لتحط عنه الكفارة الاثم والوزر.

فإن قيل: فقد روي عن النبي (صلى الله عليه واله) أنه قال: من حلف على شئ فرأى ما هو خير منه فليأت الذي هو خير منه وليكفر عن يمينه.

قلنا: هذا خبر واحد لا يوجب علما ولا يقتضي قطعا، وإنما تثبت الاحكام بما يقتضي العلم ولنا من أخبارنا التي نرويها عن أئمتنا عليهم السلام ما لا يحصى عددا من المعارضة مما تضمن التصريح بسقوط الكفارة.

ويعارض هذا الخبر بما روي عن النبي صلى الله عليه وآله في حديث عمر أنه قال: وليأت الذي هو خير وكفارتها تركها يعني " ع " ترك المعصية لان الكفارة لما كانت لازالة الاثم وترك المعصية إذا كان واجبا فلا إثم عليه فقد قام مقام الكفارة، ونحن نستعمل الخبرين المرويين عنه صلى الله عليه وآله فيحمل قوله وليكفر على الاستحباب والندب، والمخالف لنا لا يمكنه على مذهبه استعمال الخبر المتضمن سقوط الكفارة، وإن كفارتها تركها.

(مسألة) ومما انفردت به الامامية أن القائل إذا قال: إن فعلت كذا فامرأتي طالق أو هي علي كظهر أمي أو عبدي حر أو مالي صدقة لم يكن ذلك يمينا يلزم فيها الحنث والكفارة، وخالف باقي الفقهاء في ذلك فقالوا:

[158]

متى حنث لزمه الطلاق والظهار والعتق.

وقال أبوحنيفة: إذا حلف بصدقة جميع ماله ثم حنث فعليه أن يتصدق بجميعه، وقال الشافعي: يجب عليه إذا حنث كفارة يمين، وقال مالك: يخرج عن ماله الثلث إذا حنث.

وقد روي موافقة الشيعة عن ابن عباس رضي الله عنه وطاووس والشعبي أنه لا شئ على من حلف بذلك ثم حنث.

أما الدلالة على أن الطلاق والظهار لا يقعان مشروطين، فقد تقدم في هذا الكتاب، وأما العتق والصدقة ففي أصحابنا من يفتي بأنه إن أخرج ذلك القول مخرج اليمين كان لغوا باطلا لا حكم له، وإن أخرجه مخرج النذر كان له حكم ا لنذر ووجب عليه العتق والصدقة إذا كان ما علقه به من الشرط وهذا غير صحيح لان النذر عند جميع أصحابنا من شرطه أن يقول الناذر لله تعالى علي كذا إن كان كذا، فإذا قال عبدي حر إن كان كذا ومالي صدقة وقصد النذر دون اليمين فلا يكون ناذرا إلا أن يقول لله علي صدقة مالي وعتق عبدي، فإن لم يقل ذلك لم يكن ناذرا كما لا يكون حالفا، والدليل على أن ذلك ليس بيمين ولا يلزم فيه حنث إجماع الطائفة وإجماعهم حجة، وأيضا فلا خلاف في أن الحالف بغير الله عاصي مخالف لما شرع من كيفية اليمين فإذا كان انعقاد اليمين حكما شرعيا لم يقع بالمعصية المخالفة للشرع، وأيضا فان الاصل براء‌ة الذمة من الحقوق.

ومن أثبت ذلك كان عليه الدليل، فإن احتج أبوحنيفة بقوله تعالى: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا الله من فضله لنصدقن) الآية، وأنه ذمهم على مخالفة نفس ما عاهدوا عليه، فالجواب أنا لا نسلم أن ذلك عهد فمن ادعى أن له حكم العهد فعليه الدلالة، وبعد فان أكثر أصحابنا يقولون أن قوله على عهد الله ليس بيمين.

[159]

(مسألة) ومما انفردت به الامامية أن القائل إذا قال: علي عهد الله أن لا أفعل محرما ففعله، وأن أفعل طاعة فلم يفعلها أو ذكر شيئا مباحا ليس بمعصية ثم خالف أنه يجب عليه عتق رقبة أو إطعام ستين مسكينا أو صيام شهرين متتابعين وهو مخير بين الثلاث، وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك.

فعند أبي حنيفة ومالك أن هذا القول يمين يجب فيه ما يجب في حنث اليمين وقال الشافعي: إن نوى بذلك اليمين كان يمينا، ومتى لم ينو لم يكن يمينا، دليلنا إجماع الطائفة.

وإن شئت أن تقول قد ثبت أن من حلف على أن يفعل فعلا هو معصية أنه يجب عليه أن لا يفعله ولا كفارة تلزمه، وكل من قال بسقوط الكفارة عمن ذكرناه قال: فيمن عاهد الله تعالى ثم نكث، أن الكفارة التي ذكرناها تلزمه، ولا أحد من الامة يفرق بين المسألتين، فمن فرق بينهما خالف الاجماع.

(مسألة) ومما يظن أن الامامية انفردت به، وللشافعي فيه قولان: أحدهما موافق للامامية أن من حلف بالله تعالى أن لا يدخل دارا ولا يفعل شيئا ففعله مكرها أو ناسيا فلا كفارة عليه، وألزمه باقي الفقهاء الكفارة إلا على أحد قولي الشافعي الذي ذكرناه، دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه الاجماع المتكرر.

وأيضا قوله تعالى: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به)، فإذا قيل: الجناح هو الاثم، قلنا: قد يعبر به في القرآن والشريعة عن الاثم وعن كل فعل فيجب حمله على الامرين ما لم يقم دلالة أيضا، فإن النسيان والاكراه يرفعان التكليف العقلي فكيف لا يرفعان التكليف الشرعي، وأيضا فإن الكفارة وضعت في الشريعة لازالة الاثم المستحق، وقد سقط الاثم عن الناسي بلا خلاف فلا كفارة عليه.

[160]

وأيضا فان الفعل المحلوف عليه يتعذر بالاكراه والنسيان كما يتعذر بفقد القدرة، فكما يرتفع التكليف مع فقد القدرة، فكذلك يرتفع مع الاكراه وفقد العلم، وكما أن من حلف على ان يفعل شيئا وفقد قدرته عليه لا يلزمه كفارة.

وكذلك من حلف أنه يفعله فأكره على أن لا يفعله أو سلب علمه فيجب أيضا أن لا تلزمه الكفارة لارتفاع التمكن على الوجهين معا، ويمكن أن يعارض المخالفون في هذه المسألة بما رووه وهو ظاهر في كتبهم ورواياتهم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: ان الله تعالى تجاوز لامتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، وليس لهم أن يحملوا الخبر على إثم الخطأ والنسيان دون حكمهما، لان الواجب حمله عليهما معا إلا أن تقوم دلالة، ألا ترى أن رفع الخطأ والنسيان نفسهما لا يمكن أن يراد بالخبر، وإنما المراد ما يرجع إلى الخطأ والنسيان من حكم وإثم، وليس حملهما على أحدهما بأولى من الآخر فيجب حمله عليهما.

(مسألة) ومما يجوز أن يظن انفراد الامامية به أن من حلف أن لا يكلم زيدا حينا وقع على ستة أشهر، وقد وافق الامامية أبوحنيفة في ذلك، والشافعي يذهب إلى أن الحين يقع على الابد، وقال مالك: الحين سنة واحدة والذي يجب تحقيقه أن هذا القائل إن كان عنى بالحين زمانا بعينه فهو على ما نواه، وإن أطلق القول عاريا عن نية كان على ستة أشهر.

دليلنا على صحة مذهبنا الاجماع المتردد، وإذا كان اسم الحين يقع على أشياء مختلفة فيقع على الزمان كما في قوله تعالى: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) وإنما أراد زمان الصباح والمساء كله، ورأيت بعض متقدمي أصحاب أبي حنيفة يحمل هذه الآية على أن المراد بها ساعة واحدة فكأنه قال سبحانه ساعة تمسون وساعة تصبحون، وهذا غلط فاحش منه لا يخفى ومما

[161]

يقع عليه أيضا اسم الحين أربعون سنة قال الله تعالى: (هل أتى على الانسان حين من الدهر)، فذكر المفسرون أنه تعالى أراد أربعين سنة، ويقع أيضا اسم الحين على وقت مبهم.

قال الله تعالى: (ومتعناهم إلى حين)، ويقع على ستة أشهر، قال الله تعالى: (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها).

وروي عن ابن عباس أن المراد بذلك ستة أشهر، وقال غيرابن عباس سنة، ومع اشتراك اللفظ لا بد من دلالة في حمله على البعض، ولما نقلت الامامية عن أئمتهم أنه ستة أشهر، وأجمعوا عليه كان ذلك حجة في حمله على ما ذكرناه، وأبوحنيفة مع اعترافه باحتمال اللفظ للمعاني المختلفة كيف حمله على ستة أشهر بغير دليل مرجح، واللفظ يحتمل ذلك ويحتمل غيره، وكذلك مالك، وأما الشافعي فهو أعذر منهما، لانه لما رأى الاشتراك حمله على التأبيد.