[مسائل الصيد]

(والذبائح والاطعمة والاشربة واللباس)

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية الآن وإن وافقها في ذلك قول أقوام حكي قديما القول: بأن الصيد لا يصح إلا بالكلاب المعلمة دون الجوارح كلها من الطيور وذوات الاربع كالصقر والبازي والشاهين وما أشبههن من ذوات الاربع كعناق الارض والفهد وما جرى مجراهما، ولا يحل عندهم أكل ما قتله غير الكلب المعلم.

وخالف باقي الفقهاء في ذلك وأجروا كل ما علم من الجوارح من الطيور وذوات الاربع مجرى الكلاب في هذا الحكم.

وذكر أبوبكر أحمد بن علي الرازي الفقيه في كتابه المعروف بأحكام القرآن عن نافع قال: وجدت في كتاب لعلي بن أبي طالب عليه السلام قال لا يصلح أكل ما قتلته البزاة.

وروي أيضا عن ابن جريح عن نافع قال قال عبدالله ما أمسك من الطير البزاة وغيرها فما أدركت ذكاته فذكيته فهو لك وإلا فلا تطعمه.

وروى سلمة بن علقمة عن نافع أن عليا " ع " كره ما قتلته الصقور.

وروي عن مجاهد أنه كان يكره صيد الطيور ويقول مكلبين إنما هي الكلاب خاصة، وذكر أبوبكر الرازي

[183]

أن بعض العلماء حمل مكلبين على الكلاب خاصة وبعضهم حمل ذلك على الكلاب وغيرها.

والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه بعد إجماع الطائفة عليه قوله تعالى: (وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه) الآية، وهذا نص صريح على أنه لا يقوم مقام الكلاب في هذا الحكم غيرها، لانه تعالى لو قال وما علمتم من الجوارح ولم يقل مكلبين لدخل في الكلام كل جارح من ذي ناب وظفر ولما أتى بلفظ المكلبين وهو يخص الكلاب خاصة، لان المكلب هو صاحب الكلاب بلا خلاف بين أهل اللغة علمناه، أنه لم يرد بالجوارح جميع ما يسمى هذا الاسم وإنما أراد بالجوارح من الكلاب خاصة ويجري ذلك مجرى قوله:

ركب القوم مهارهم * مبقرين أو مجمزين

فانه لا يحتمل وإن كان اللفظ الاول عام الظاهر إلا على ركوب البقر والجمازات، فان قيل: دلوا على أن الملكبين إنما أراد به صاحب الكلاب، وما أنكرتم أن يريد به المعزي المضري للجوارح الممرن له والمجرى فيدخل فيه الكلب وغيره.

قلنا: ليس ينبغي أن يتكلم فيما طريقه اللغة من لا يعرف موضوع أهلها ولا يعرف عن أحد من أهل اللغة العربية ان المكلب هو المعزي أو المضري بل يقولون وقد نصوا في كتبهم عليه: أن المكلب هو صاحب الكلاب قال النابغة الذبياني:

سرت عليه من الجوزاء سارية * تزجي الشمال عليه جامد البرد

فارتاع من صوت كلاب فبات له * طوع الشوامت من خوف ومن برد

وفسر أهل اللغة أنه أراد بكلاب صاحب الكلاب مكلب واحد.

وذكر صاحب كتاب الجمهرة: أن المكلب صاحب الكلاب،

[184]

وأنشد قول الشاعر: (ضرا أحست بنائه من مكلب) وما ذكره في هذا الباب أكثر من أن يحصى، وقد ذكر في تصريف ما يبنى من الكاف والباء واللام أن المكلب هو المضري والمعلم وقد فتشنا سائر كتب أهل اللغة فما وجدنا أحدا منهم ذكر ذلك، ومن اعترض بقولهم فلان كلب على كذا وتكلب على كذا فغير متأمل، لان الكلب هاهنا هو العطش والمكلب عندهم هو العطشان، ولا يقول أحد منهم كلبت للطائر الجارح إذا علمه واضراه لان هذه اللفظة مستعملة من لفظ الكلاب فكيف تستعمل في غيرها، فإذا قيل: قد قالوا أسير مكلب، قلنا: من قال ذلك فقد فسره وقال: معنى مكلب مشدود بالكلب الذي هو القيد، ولما كان الاسير المشدود بالقيد الذي هو الكلب قيل مكلب وما أنكرنا أن يكون المكلب في موضع من المواضع يستعمل في غير الكلاب وانما أنكرنا أن يكون المكلب والمعلم و المعزي والمضري على أنا لو سلمنا هذه اللفظة وأنها قد استعملت في التعليم و التمرين فذلك مجاز، والمعنى الذي ذكرنا إستعمالها فيه حقيقة وحمل القرآن على الحقيقة أولى من حمله على المجاز على أن قوله تعالى (وما علمتم من الجوارح مكلبين) يعني أن يكرر ويقول معلمين، لان من حمل لفظة مكلبين على التعليم لا بد من أن يلزمه التكرار، وإذا جعلنا ذلك مختصا بالكلاب أفاد، لانه بيان، لان هذا الحكم يتعلق بالكلاب دون غيرها، ولو أبدلنا في الآية لفظة مكلبين بمعلمين لما حسنت، فكيف تحمل على معناها ولو صرحنا بها لكان الكلام قبيحا.

ويدل أيضا على ما ذهبنا إليه أن الجارح غير الكلب إذا صاد صيدا فيقتله فقد حله الموت، وكل حيوان حله الموت فهو ميتة ويستحق هذا الاسم في الشريعة إلا أن تقوم دلالة شرعية على ذكاته فلا يجري عليه حينئذ اسم

[185]

الميتة وإن حله الموت، فان إدعوا ذكاة ما حله الموت من صيد البازي والفهد وما أشبههما فعليهم الدلالة ولا يتمكنون من دلالة وإنما يفزعون إلى خبر واحد أو قياس وما فيهما ما يوجب العلم فيترك له ظاهر القرآن.

(مسألة) ومما انفردت به الامامية القول بأن الكلب إذا أكل من الصيد نادرا أو شاذا، وكان الاغلب أنه لا يأكل حد الاكل من ذلك الصيد وإن كثر أكله منه وتكرر فانه لا يؤكل منه.

وخالف باقي الفقهاء في ذلك، فقال أبوحنيفة وأبويوسف وزفر ومحمد إذا أكل الكلب من الصيد فهو غير معلم فلا يؤكل، ويؤكل صيد البازي وإن أكل، وهو قول الثوري.

وقال مالك والاوزاعي والليث يؤكل وإن أكل الكلب منه، وقال الشافعي: لا يؤكل إذا أكل الكلب منه والبازي مثله، وإنما كان هذا إنفرادا لان من قال من الفقهاء أنه يؤكل من الصيد وإن أكل منه لم يشترط ما شرطناه من الاقل والاغلب بل اطلق فصار الذي شرطناه إنفرادا في هذه المسألة، والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه بعد إجماع الطائفة عليه أن أكل الكلب من الصيد إذا تردد وتكرر دل على أنه غير معلم والتعليم شرط في إباحة صيد الكلب بلا خلاف، وبدلالة قوله تعالى: (وما علمتم من الجوارح مكلبين) وإذا تتابع أكل الكلب من الصيد دل على أنه غير معلم فلا يحل أكل صيده ولانه إذا توالى أكله منه لا يكون ممسكا له على صاحبه، بل يكون ممسكا له على نفسه.

وقول المخالف لنا: أن الكلب متى أكل يخرج من أن يكون معلما ليس بشئ، لان الاكل إذا شذ وندر لم يخرج به من أن يكون معلما، ألا ترى أن العاقل منا قد يقع منه الغلط فيما هو عالم به ومحسن له على سبيل الشذوذ من صناعة وكتابة وغيرهما ولا يخرج عن كونه عالما، فالبهيمة مع فقد العقل

[186]

بذلك أحق، وتفرقة من فرق من القوم بين البازي وجوارح الطير وبين الكلب بأن الطائر لا يقبل التعليم في ترك الاكل مما يصيده وأنه يكفي في كونها معلمة مع أنها مستوحشة غير آنسة أن تألف صاحبها وتجيبه إذا دعاها، والكلب مستأنس فلا يكفي في كونه معلما أن يدعى فيجيب ويألف صاحبه فلا بد من أن يكون تعليمه إنما هو لترك الاكل غير صحيحة، لان البازي كما جاز أن يقهر ويمرن على ما يخالف طبعه من الاستيناس وإجابة دعاء صاحبه جاز أيضا أن يمرن ويعلم على ترك الاكل لما يمسكه فيعتاد ذلك ويفارق به طبعه كما فارق في الوجه الاول.

وأما الكلاب فليس كلها مستأنسة وفيها المتوحش أيضا فلم لا يكون علامة كونها معلمة هي أن تأنس بنا وندعوها فتجيب ومعلوم ضرورة أن إجابة داعيها ليس هو بشئ لهذا وإنما تعلمه وتمرن عليه فألا أجروها مجرى جوارح الطير في أن أكلها مما تمسكه ليس مخرجا لها من التعليم وهذا كله من القوم حدس وخبط.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية تحريم أكل الثعلب والارنب والضب ومن صيد البحر السمك الجري والمارماهي والزمار وكلما لا فلس له من السمك، وخالف باقي الفقهاء في ذلك إلا أنه روي عن أبي حنيفة وأصحابه موافقتنا في الثعلب خاصة.

وروي عنهم أيضا كراهية أكل الضب، ورووا كلهم في خبر معروف رواه الاعمش وقال: نزلنا أرضا كثيرة الضباب فأصابتنا مجاعة وطبخنا منها وان القدور لتغلي بها إذ جاء رسول الله (صلى الله عليه واله) فقال: ما هذا؟ فقلنا ضباب أصبناها، فقال صلى الله عليه وآله ان أمة من بني إسرائيل مسخت وأرانا في تلك الارض وإني أخشى أن يكون هذه منها فاكفوها، وهذا الخبر يقتضي كما تراه أن الضب مع تحريمه مسخ، وهو قول

[187]

الامامية لانهم يعدون الضب من جملة المسوخ التي هي الفيل والارنب والدب والعقرب والضب والعنكبوت والجري والوطواط والقرد والخنزير، ولا يزال مخالفوهم إذا سمعوا منهم ذكر هذه المسوخ التي ما اعتمدوا في أنها مسوخ إلا على الرواية تضاحكوا واستهزؤا بهم ونسبوهم إلى الغفلة وبعد الفطنة وهم يروون عن طرقهم وعن رجالهم مثل ما عجبوا منه بعينه والله المستعان.

والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه الاجماع المتردد وإن شئت أن تبني هذه المسألة على مسألة تحريم صيد البازي وما أشبههه من جوارح الطير فعلت فقلت كل من حرم صيد جوارح الطير حرم ما عددناه، والتفرقة بين الامرين خلاف الاجماع.

فان استدل المخالف بقوله تعالى: (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما)، وظاهر هذه الآية يقتضي أن جميع صيد البحر حلال، وكذلك صيد البر إلا على المحرم خاصة، واستدل بما لا يزال يستدل به على أن أصل المنافع التي لا ضرر فيها عاجلا ولا آجلا على الاباحة وعلى من حظر شيئا من ذلك الدليل، والجواب أن قوله تعالى: (أحل لكم صيد البحر) لا يتناول ظاهره الخلاف في هذه المسألة لان الصيد مصدر صدت وهو يجري مجرى الاصطياد الذي هو فعل الصائد وإنما يسمى الوحش وما جرى مجراه صيدا مجازا وعلى وجه الخلاف لانه محل الاصطياد فسمي باسمه، وإذا كان كلامنا في تحريم لحم الصيد فلا دلالة في إباحة المصيد، لان الصيد غير المصيد، فان قيل: قوله تعالى: (وطعامه متاعا لكم وللسيارة) يقتضي أنه أراد المصيد دون الصيد، لان لفظة الطعام لا يليق إلا بما ذكرناه دون المصدر.

قلنا: لو سلمنا أن لفظة الطعام ترجع إلى لحوم ما يخرج من حيوان البحر لكان لنا أن نقول قوله تعالى و طعامه

[188]

يقتضي أن يكون ذلك اللحم مستحقا في الشريعة لاسم الطعام، لان ما هو محرم في الشريعة لا يسمى بالاطلاق فيها طعاما كالميتة والخنزير، فمن إدعى في شئ مما عددنا تحريمه أنه طعام في عرف الشريعة فليدل على ذلك فانه يتعذر عليه.

وقد روي عن الحسن البصري في قوله تعالى: (وطعامه) أنه أراد به البر والشعير والحبوب التي تسقى بذلك الماء، وحمل أكثر المفسرين لفظة البحر على كل ماء كثير من عذب وملح، وإذا حمل على الحبوب سقطت المسألة، فأما الجواب عن قولهم أن الاصل الاباحة فهو كذلك إلا انا نرجع عن حكم الاصل بالادلة القاطعة وقد ذكرناها.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية أن من وجد سمكة على ساحل بحر أو شاطئ نهر ولم يعلم هي ميتة أو ذكية فوجب أن يلقيها في الماء فان طفت على ظهرها فهي ميتة، وإن طفت على وجهها فهي ذكية، فأن أبا حنيفة وإن وافقنا في أن السمك الطافي على الماء لا يؤكل، فانه لا يعتبر هذا الاعتبار الذي ذكرناه.

ويجب على هذا الاعتبار أن يقول أصحابنا: في أن السمك الطافي على الماء أنه ليس بمحرم على الاطلاق، بل يعتبرونه بما ذكرناه، فان وجدوه طافيا على ظهره أو وجهه عملوا بحسب ذلك، دليلنا الاجماع المتردد، وإن شئت تبني هذه المسألة على بعض المسائل المتقدمة لها وإن أحدا من المسلمين ما فرق بين الامرين.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية أن ذبائح أهل الكتاب محرمة لا يحل أكلها ولا التصرف فيها، لان الذكاة ما لحقتها، وكذلك صيدهم وما يصيدونه بكلب أو غيره.

وخالف باقي الفقهاء في ذلك، دليلنا على صحة ما ذكرناه الاجماع المتردد.

وأيضا قوله تعالى: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وانه لفسق)

[189]

وهذا نص في موضع الخلاف، لان من ذكرناه من الكفار لا يرون التسمية على الذبائح فرضا ولا سنة فيهم لا يسمون على ذبائحهم، ولو سموا لكانوا مسمين لغير الله تعالى انهم لا يعرفون الله لكفرهم على ما دللنا عليه في غير موضع، وهذه الجملة تقتضي تحريم ذبائحهم.

فإن قيل: هذا يقتضي إنه لا يحل ذباحة الصبي لانه غير عارف بالله تعالى قلنا: ظاهر الآية يقتضي ذلك وإنما أدخلناه فيمن تجوز ذباحته بدليل، ولان الصبى وإن لم يكن عارفا فليس بكافر ولا معتقد أن إلهه غير من يستحق العبادة على الحقيقة وإنما هو خال من المعرفة فجاز أن يجري مجرى العارف متى ذبح وتلفظ بالتسمية وهذا كله غير موجود في الكفار.

وإن اعترض علينا بقوله تعالى: (اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين اوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم) وادعى أن الطعام يدخل فيه ذبائح أهل الكتاب، فالجواب عن ذلك أيضا أن أصحابنا يحملون قوله تعالى (وطعام الذين اوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم) على ما يملكونه مما يؤكل من حبوب وغيرها، وهذا تخصيص لا محالة، لان ما صنعوه طعاما من ذبائحهم يدخل تحت اللفظ ولا يجوز إخراجه إلا بدليل.

فإذا قلنا: تخصيصه بقوله تعالى: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه)، قيل لنا: ليس أنتم بأن تخصوا آيتنا بعموم آيتكم بأولى منا إذا خصصنا الآية التي تعلقتم بها بعموم ظاهرها بالآية التي استدللنا بها والذي يجب أن يعتمد في الفرق بين الامرين أنه قد ثبت وجوب التسمية على الذبيحة وأن من تركها عامدا لا يكون مذكيا ولا يجوز أكل ذبيحته على وجه من الوجوه وكل من ذهب إلى هذا المذهب من الامة يذهب إلى تخصيص قوله تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) وأن ذبائحهم لا تدخل تحته والتفرقة بين الامرين خلاف الاجماع، ولا يلزم على ما ذكرناه أن أصحاب

[190]

أبي حنيفة يوافقونا على وجوب التسمية وإن لم يخصصوا بالآية الاخرى لانا اشترطنا إيجاب التسمية مع الذكر على كل حال.

وعند أصحاب أبي حنيفة جائز أن يترك التسمية من أداء اجتهاده إلى ذلك، أو إستفتى من هذا حاله، والامامية يذهبون إلى أن التسمية مع الذكر لا تسقط في حال من الاحوال.

فإن قيل: على هذه الطريقة التي يعتمدها من الجمع بين المسألتين ما أنكرتم أن لمن خالفكم أن يعكس هذه الطريقة عليكم ويقول قد ثبت أن التسمية غير واجبة أو يشير إلى مسألة قد دل الدليل على صحتها عنده، ثم يقول كل من قد ذهب إلى هذا الحكم يذهب إلى عموم قوله تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) والتفرقة بين الامرين خلاف الاجماع، قلنا: الفرق بيننا ظاهر لانا إذا بنينا على مسألة ضمنا عهدة صحتها ونفي الشبهة عنها ومخالفنا إذا بنى على مسألة مثل أن التسمية غير واجبة أو غير ذلك من المسائل لا يمكنه أن يصحح ما بنى عليه إلا أن يورد حجة قاطعة فيه والمحنة بيننا وبين من تعاطى ذلك، ونحن إذا بنينا على مسألة دللنا على صحتها بما لا يمكن دفعه وهذا على التفصيل يخرجه الاختبار والاعتبار.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية القول: بإيجاب استقبال القبلة عند الذبح مع إمكان ذلك، وخالف باقي الفقهاء في وجوبه وأنه شرط في الذكاة، دليلنا بعد الاجماع المتردد والطريقة التي تقدم نظيرها وهي أن من ذبح غير مستقبل القبلة عامدا قد أتلف الروح وحل الموت في الذبيحة وحلول الموت يوجب أن يكون ميتة إلا أن تقوم دلالة على حصول الذكاة فلا يستحق هذا الاسم، ومن ادعى دلالة شرعية على ذلك كان عليه أقامتها ولن يجدها، ولم يبق بعد ذلك إلا كونها ميتة وداخلة تحت قوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة).

[191]

وأيضا فان الذكاة حكم شرعي، وقد علمنا أنه إذا إستقبل القبلة وسمى إسم الله تعالى يكون مذكيا باتفاق، وإذا خالف ذلك لم يتيقن كونه مذكيا فيجب الاستقبال والتسمية ليكون بيقين مذكيا.

(مسألة) ومما ظن إنفراد الامامية به القول بوجوب العقيقة وهي الذبيحة التي تذبح عن المولود ذكرا كان أو أنثى، وخالف باقي الفقهاء في ذلك وقال الشافعي ومالك مستحبة، وقال أبوحنيفة ليست بمستحبة، وحكي عن الحسن البصري القول بوجوبها وهو مذهب أهل الظاهر وهذه موافقة للامامية دليلنا بعد الاجماع المتردد أن العقيقة نسك وقربة بلا خلاف وإيصال منفعة إلى المساكين فيدخل في عموم قوله تعالى: (وافعلوا الخير) وما أشبه هذه الآية من الامر بالطاعات والقربات، وظاهر الامر في الشريعة يقتضي الوجوب، فإن قيل: على الاستدلال بقوله تعالى: (وافعلوا الخير) في هذا الموضع وما أشبه هذا من المسائل التي إستدللنا بهذا العموم فيها ما أنكرتم من فساد الاستدلال بذلك من جهة أن الخير لا نهاية له، ومحال أن يوجب الله تعالى علينا ما لا يصح أن نفعله، وإذا لم يصح إيجاب الجميع فليس البعض بذلك أولى من البعض بطل الاستدلال بالآية.

قلنا: لا شبهة في أن إيجاب ما لا يتناهى لا يصح غير انا نفرض المسألة فنقول: قد ثبت أن من عق دفعة واحدة عن ولده يكون فاعلا للخير وفعل المرة صحيح غير محال فيجب تناوله الآية له، وهكذا نفرض في كل مسألة، وموضع إستدلالنا بعموم هذه الآية على وجوب شئ من العبادات والقربات أن نعين على ما يصح تناول الايجاب له ثم ندخله في عموم الآية، ويمكن أن نذكر للمخالف على سبيل المعارضة بما يروونه عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال في المولود اهريقوا عنه دما، وفي خبر آخر يعق عن الغلام شاتان، وعن عائشة أنها قالت: أمرنا

[192]

رسول الله صلى الله عليه وآله أن نعق عن الغلام بشاتين، وعن الجارية بشاة.

وروي عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه واله) عق عن الحسن والحسين عليهما السلام كبشا كبشا فجمع عليه السلام في إيجاب العقيقة بين القول والفعل، وليس لهم أن يتعلقوا بما يروونه عن النبي صلى الله عليه وآله من قوله: ليس في المال حق سوى الزكاة.

وبما يروى عنه " ع " من قوله: من أحب أن ينسك عن المولود فلينسك عن الغلام بشاتين، وعن الجارية بشاة فعلق ذلك بالمحبة، وما كان واجبا لا يعلق بالمحبة.

وبما يروونه عن فاطمة عليها السلام قالت: يا رسول الله أعق عن ابني الحسن، فقال صلى الله عليه وآله: إحلقي رأسه وتصدقي بزنة شعره فضة، ولو كانت واجبة لامرها صلى الله عليه وآله بها.

والجواب عن ذلك كله أن هذه الاخبار آحاد ينفردون بها لا نعرف عدالة رواتها ولا صفاتهم وبازائها من الاخبار التي تقدمها تنفرد برواياتها ما لا يحصى وما ينفردون أيضا بروايته ما قد ذكرنا بعضه ولو عدلنا عن هذا كله وسلمت هذه الاخبار من كل قدح وجرح أوجبت غالب الظن أليس من مذهبنا أن أخبار الآحاد لا توجب على مذهبنا العمل بها في الشريعة وإنما جاز لنا أن نعارضهم بأخبار الآحاد، لانهم بأجمعهم يذهبون إلى وجوب العمل بأخبار الآحاد ثم نستظهر متبرعين بذكر تأويل من الاخبار.

أما الخبر الاول فلا دلالة لهم فيه، لانه نفي أن يكون في المال حق سوى الزكاة والعقيقة عند من أوجبها تجب في ذمة الوالدين لا في المال.

وأما الخبر الثاني فلا حجة فيه، لانه إنما علق الفضل في ذلك بالمحبة لا بالاصل والفضل في أن يعق شاتين وقد تجزي الواحدة ويجري مجرى ذلك قول القائل من أحب أن يصلي فليصل في المساجد وفي الجماعات، وإنما يريد الفضل وإن كان أصل الصلاة واجبا.

[193]

وأما الخبر الثالث فغير ممتنع أن يكون عليه السلام عتق عنه أو عزم على أن يتولى ذلك فعدل عن أمرها بذلك إلى قربة أخرى لهذه العلة.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية أن كل طعام عالجه الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم ممن يثبت كفرهم بدليل قاطع فهو حرام لا يجوز أكله ولا الانتفاع به، وقد خالف باقي الفقهاء في ذلك، وقد دللنا على هذه المسألة في كتاب الطهارة، حيث دللنا أن سؤر الكفار نجس، لا يجوز الوضوء به، وإستدللنا بقوله تعالى: (إنما المشركون نجس)، وإستقصيناه فلا معنى لاعادته.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية وإن كان الفقهاء قد رووا عن ابن عباس رحمه الله موافقتها في ذلك تحليل لحوم الحمر الاهلية، وحرمها سائر الفقهاء وإنتهوا في ذلك إلى أن ابن القسم روى عن مالك أن الحمار الوحشي إذا استأنس فصار يعمل عليه كما يعمل على الحمار الاهلي فانه لا يؤكل، وإن خالف مالك سائر الفقهاء في ذلك.

دليلنا بعد الاجماع المتردد أن الاصل فيما فيه منفعة ولا مضرة فيه الاباحة، ولحوم الحمر الاهلية بهذه الصفة فإن إدعوا مضرة آجلة من حيث الحظر لها والنهي عنها فانهم يفزعون إلى أخبار آحاد ليست حجة في مثل هذا وهي معارضة بأمثالها.

ويمكن أيضا أن يستدل ذلك بقوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه) الآية، فان احتجوا عليه بقوله تعالى: (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة)، وأنه تعالى أخبر أنها للركوب وللزينة، لا للاكل، قلنا لهم: قوله تعالى أنها للركوب وللزينة لا يمنع أن يكون لغير ذلك، ألا ترى إلى قول القائل: قد أعطيتك هذا الثوب لتلبسه لا يمنع من جواز بيعه له، وهبته والانتفاع به من وجوه شتى، ولان المقصود بالخيل

[194]

والحمير الركوب والزينة، وليس أكل لحومها مقصودا فيها، ثم أنه لا يمنع من الحمل على الحمير والخيل، وإن لم يذكر الحمل وإنما خص الركوب والزينة بالذكر.

وأكثر الفقهاء يجيزون أكل لحوم الخيل، ولم يمنع تضمن الآية ذكر الركوب والزينة خاصة من أكل لحوم الخيل وكذلك الحمير، فان إستدلوا بما يروونه عن ابن عباس رحمه الله أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن لحوم الحمر وأمر بلحوم الخيل أن تؤكل.

وأيضا بما رواه خالد بن الوليد قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله في خيبر فقال عليه السلام: لا تحلوا أموال المعاهدين إلا بحقها، وحرام عليكم لحوم الحمر الاهلية وبغالها.

وبما يرويه أنس عن النبي (صلى الله عليه واله) أنه نهى عن لحوم الحمر، وقال أنها نجس.

والجواب عن ذلك أن هذه أخبار آحاد والعمل بها في الشريعة البتة عندنا غير جائز، ولا يجوز مع ذلك أن نرجع بها عن ظاهر الكتاب ونعارضها بالاخبار التي ترويها الامامية ما لا يحصى.

ومما يرويه مخالفونا ما رواه غالب بن الحسن قال: قلت يا رسول الله لم يبق من مالي إلا الحمار، فقال صلى الله عليه وآله: أطعم أهلك من سمين مالك، فاني إنما نهيت عن حوالي القرى، وهذا لا محالة معارض لاخبارهم كلها، ثم يمكن أن يقال في تلك اللاخبار أن سبب النهي عن لحوم الحمر الاهلية هو لاجل الظهر وقلته في ذلك الزمان.

كما أنه صلى الله عليه وآله نهى عن لحوم الخيل لهذه العلة.

وقد روي عن ابن عباس رحمه الله أنه قال: إنما نهى عن لحوم الحمر لئلا يقل الظهر فقوى هذا التأويل هذه الرواية.

فأما الخبر الذي تضمن أنها رجس فالرجس والرجز والنجس واحد في

[195]

الشريعة ولا محصل من أهل الشريعة يذهب إلى ان الحمار الاهلي نجس العين.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية تحليل لحوم البغال، وباقي الفقهاء على حظر ذلك.

وروي عن الحسن البصري أنه ذهب إلى إباحة لحوم البغال وهذه موافقة للامامية، وكل شئ دللنا به على إباحة لحوم الحمر الاهلية فهو بعينه دليل على إباحة لحوم البغال، وأيضا فقد دللنا على إباحة لحوم الحمر الاهلية، وكل من أباح لحومها أباح لحوم البغال، والتفرقة بين الامرين خروج عن الاجماع.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية القول: بأن الجنين الذي يوجد في بطن أمه بعد ذكاتها على ضربين إن كان كاملا وعلامة كماله أن ينبت شعره إن كان من ذوات الشعر أو يظهر وبره إن كان من ذوات الاوبار فأنه يحل أكله، وذكاة أمه ذكاته، وإن لم يبلغ الحد الذي ذكرناه وجب أن يذكى ذكاة منفردة إن خرج حيا، فإن لم يخرج حيا فلا يؤكل، وإنما كان هذا إنفرادا لان الشافعي ومن وافقه يذهب إلى أن ذكاة الجنين ذكاة أمه على كل حال، وأبوحنيفة ومن وافقه يذهب إلى أن الجنين له ذكاة مفردة على كل حال دليلنا الاجماع المتردد وإن شئت أن تبني على بعض المسائل المتقدمة مثل وجوب التسمية على كل وجه أو وجوب استقبال القبلة وإن أحدا من الامة لم يفرق بين المسألتين.

وليس لهم أن يحتجوا علينا بما يروونه عن النبي صلى الله عليه وآله من قوله ذكاة الجنين ذكاة أمه ولم يفرق بين الكامل من الاجنة وغير الكامل وبما يروونه أيضا عن النبي صلى الله عليه وآله أنه سئل عن البقرة والشاة يذبحان فيوجد في بطنهما جنين أنأكله أو نلقيه؟ فقال: كلوا إن شئتم ولم يفصل كما فصلت الامامية.

قلنا: قد مضى أن أخبار الآحاد ليست حجة في الشرع، وأن هذا مما

[196]

ينفرد به المخالفون، وبأزائه ما يرويه الامامية في ذلك، ولو سلمنا ذلك لكان لنا أن نقول في الخبر الاول لا يخلو من أن يكون تأويله على ما تأول الشافعي عليه من أن المراد أن ذكاة الجنين هي ذكاة أمه، وأنه يصير له حكم الذكاة لذكاتها، وإن كان كذلك حملناه على الجنين الكامل الذي قد نبت عليه الشعر والوبر، وخصصنا عمومه بأدلتنا التي ذكرناها، أو يكون التأويل على ما تأوله أبوحنيفة من أن ذلك على سبيل التشبيه، وإنما المراد بالخبر أن ذكاة الجنين مثله ويماثل ذكاة أمه في الذبح فيحمل ذلك على الجنين الذي يخرج من بطن أمه حيا، وذكاة ما أخرج حيا كذلك واجبة كذكاة الام.

ويقوى تأويل الشافعي وإن كنا قد بينا مخرج مذهبنا على تأويل أبي حنيفة أن لفظ الجنين مشتق من الاجتنان وهو الاستتار، وهو إنما يسمى بهذا الاسم في حال كونه في بطن أمه، وإذا ظهر زال عنه إستحقاق هذا الاسم على الحقيقة وسمي بذلك مجازا من حيث كان جنينا قبل حال ظهوره، فكيف يجوز أن يكون المراد أن الجنين إذا خرج حيا ذكي كما تذكى أمه وهو لا يستحق هذا الاسم بعخروجه.

فالاشبه أن يكون المراد أن ذكاة أمه يتعدى إليه في الحكم وهو جنين في البطن، ومن وجه آخر وهو أن تخصيص الام بالذكر لا بد له من فائدة، وإذا حمل على أن ذكاتها ذكاة لجنينها أفاد هذا التخصيص، وإذا حمل على أن المراد أن الجنين يذبح إذا خرج حيا كما يفعل بأمه لم يفد هذا التخصيص بالام، لان غير الام من الذبايح كلها كالام في هذا المعنى فلا معنى للتخصيص.

فان قيل: قد روى هذا الخبر بالنصب ومع النصب لا بد من التشبيه فكأنه قال: ذكاة الجنين كذكاة أمه، فلما أسقط الكاف تعدى الفعل إلى لفظ ذكاة فانتصب.

[197]

قلنا: قد بينا أن حمل الخبر على التشبيه يخرج على مذهبنا فما علينا في النصب إلا مثل ما علينا بالرفع، على أن أصحاب الشافعي قد أجابوا عن رواية النصب بعد أن دفعوا ظهورها واشتهارها ومساواتها للرواية بالرفع بأن قالوا: أن النصب يمكن أن يكون وجهه ان التقدير فيه ذكاة الجنين، بذكاة أمه أو في ذكاة أمه، فلما أسقط حرف الجر وجب النصب فلم يخلص النصب للتشبيه على كل حال.

فأما الخبر الآخر الذي يتضمن كلوا إن شئتم فالحمل على الجنين الذي قد تكامل وأشعر وأوبر ويترك عموم الظاهر بالادلة.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية تحريم أكل الطحال والقضيب والخصيتين والرحم والمثانة، ويكرهون الكليتين، وخالف باقي الفقهاء في ذلك، والدليل على صحة ما ذهبوا إليه الاجماع الذي يتردد، وإن شئت أن تبني هذه المسألة على بعض المسائل المتقدمة التي عليها دليل ظاهر، وأن أحدا من الامة ما فرق بين المسألتين.