[مسائل البيوع والربا والصرف]

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية أن الخيار يثبت للمتبايعين في بيع الحيوان خاصة ثلاثة أيام وإن لم يشترط.

وخالف باقي الفقهاء في ذلك وذهبوا إلى أن الحيوان كغيره لا يثبت فيه الخيار إلا بأن يشترط، دليلنا الاجماع المتردد.

ويمكن أيضا أن يكون الوجه في ثبوت هذا الخيار في الحيوان، خاصة أن العيوب فيه أخفى والتغابن فيه أقوى، ففسخ فيه ولم يفسخ في غيره.

وليس للمخالف أن يقول: كيف يثبت بين المتبايعين خيار من غير أن يشترطاه

[208]

وذلك أنه إذاجاز أن يثبت خيار المجلس من غير اشتراط جاز أيضا أن يثبت الخيار الذي ذكرناه وإن لم يشرط.

(مسألة) ومما ظن إنفراد الامامية به وفيه موافق القول بأن للمتبايعين أن يشترطا من الخيار أكثر من ثلاثة أيام بعد أن يكون مدة محدودة، ووافقهم في ذلك ابن أبي ليلى ومحمد وأبويوسف والاوزاعي وجوزوا أن يكون الخيار شهرا أو أكثر كالاجل.

وقال مالك: يجوز على حسب ما تدعو الحاجة إليه في الوقوف على المبيع وتأمل حاله.

وحكى عن الحسن بن حي أنه قال: إذا اشترى الرجل الشئ فقال له البايع: اذهب فأنت فيه بالخيار فهو بالخيار أبدا حتى يقول: قد رضيت.

وذهب أبوحنيفة وزفر إلى أنه لا يجوز أن يشرط الخيار أكثر من ثلاث، فان فعل فسد البيع وهو قول الشافعي.

دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه الاجماع المتردد.

وأيضا فأن خيار الشرط إنما وضع لتأمل حال المبيع، وقد تختلف أحوال تأمله في الطول والقصر فجاز أن يزيد على الثلاث كما جاز أن ينقص عنها، ولا يلزم على ذلك أن يثبت بلا انقطاع، لان ذلك نقيض الغرض بالبيع، فان اعترض المخالف بما يرويه عن النبي (صلى الله عليه وآله) من أنه قال: الخيار ثلاثة أيام، فالجواب عن ذلك أن هذا خبر واحد، وقد بينا أن أخبار الآحاد لا يعمل عليها في الشريعة وبأزائه الاخبار الواردة بجواز الخيار أكثر من ثلاثة أيام، ولان قوله (صلى الله عليه وآله) الخيار ثلاثة أيام لا يمنع من زيادة عليها، كما لم يمنع من نقصان عنها في البيوع، فإذا قيل زيادة خيار الشرط على الثلاثة غرر، ودخول الغرر في البيوع يفسدها، قلنا: وثبوته في الثلاثة أيضا غرر، لانه لا يدري في هذه المدة أيحصل له البيع أو لا يحصل، ومع ذلك فقد جاز البيع مع ثبوت هذا الغرر.

[209]

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية القول بجواز شراء العبد الآبق مع غيره، ولا يشتري وحده إلا إذا كان بحيث يقدر عليه المشتري.

وخالف باقي الفقهاء في ذلك، وذهبوا إلى أنه لايجوز بيع الآبق على كل حال إلا ما روي عن عثمان البستي أنه قال: لا بأس ببيع الآبق والبعير الشارد وإن هلك فهو من مال المشتري، وهذا كالموافقة للامامية، إلا أنه لم يشترط أن يكون معه في الصفقة غيره كما شرطت الامامية.

والدليل على صحة ما ذهبنا إليه الاجماع المتكرر، ومعول مخالفينا في منع بيعه على أنه بيع غرر، وأن نبينا (صلى الله عليه وآله) نهى عن بيع الغرر، وربما عولوا على أنه مبيع غير مقدور على تسليمه فلا يصح بيعه كالسمك في ا لماء والطير في الهواء، وهذا ليس بصحيح، لان هذا البيع يخرجه من أن يكون غررا لانضمام غيره إليه، كبيع الثمرة الموجودة بعضها، والمتوقع وجود باقيها، وهذا هو الجواب عن قياسهم، وإن كنا قد بينا أن القياس لا مدخل له في الشريعة، لانه لا يمكن تسليم جميع الثمرة التي وقع عليها العقد في وقت الصفقة وإن كان العقد جايزا.

فان قيل: نحن نخالف في ذلك، ولا نجوز أن نبيع ثمرة معدومة مع موجودة، قلنا: أما مالك فأنه يوافقنا على هذا الموضع، وحجتنا على من خالفنا فيه أنه لا خلاف في أن طلع النخلة التي لم يؤبر داخل في المبيع معها، وإن كان في الحال معدوما فكيف يجوز أن يدعي أن بيع معدوم وموجود لا يجوز.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية القول: بتحريم بيع الفقاع وابتياعه، وكل الفقهاء يخالفون في ذلك، وقد روي عن مالك كراهية بيع الفقاع، دليلنا الاجماع المتردد.

وأيضا إن شئت تبنى هذه المسألة على تحريمه، فنقول: قد ثبت

[210]

حظر شربه، وكل من حظر شربه حظر إبتياعه وبيعه، والتفرقة بين الامرين خروج عن إجماع الامة.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية أن من إبتاع شيئا معينا بثمن معين ولم يقبضه ولا قبض ثمنه وفارقه البايع بعد العقد ليمضي وينقده الثمن فالمتباع أحق به ما بينه وبين ثلاثة أيام، فان مضت الثلاثة أيام ولم يحضر المبتاع الثمن كان البايع بالخيار إن شاء فسخ البيع وباعه من غيره، وإن شاء طالبه بالثمن على التعجيل والوفاء، وليس للمبتاع على البايع في ذلك خيار فان هلك المبيع في مدة الايام الثلاثة كان من مال المبتاع دون البايع فان هلك بعد الثلاثة أيام كان من مال البايع.

وخالف باقي الفقهاء في ذلك ولم يقل أحد منهم بالترتيب الذي رتبناه.

دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه الاجماع المتردد، وإنما قلنا: أن المبتاع أحق به ما بينه وبين ثلاثة أيام، لانه بالابتياع وإشتراط أن ينقد الثمن الذي مضى في إحضاره قد ملك وعليه تعجيل الثمن، فإذا لم يحضره في هذه المدة المضروبة فكأنه رجع عن الابتياع ولم يف بالشرط الذي شرطه من تعجيل الثمن، وصار البايع بالخيار، إن شاء فسخ، وإن شاء طالب بالثمن وإنما جعلنا المبيع إذا هلك في الايام الثلاثة من مال المبتاع، لان العقد قد ثبت بينهما.

وقد حكى عن مالك أنه كان يقول في الدابة إذا حبسها البايع حتى يقبض الثمن فهلكت فهي من مال المشتري وذلك إن كان بيعا على النقد، فان كان على غير النقد فهو من مال البايع وهو موافق للامامية من بعض الوجوه، وقد قلنا أنه إن هلك بعد الثلاثة أيام كان من مال البايع لانه بتأخير الثمن عنه قد صار أملك به وأحق بالتصرف فيه فأن هلك فمن ماله.

[211]

(مسأله) ومما إنفردت به الامامية القول: بأن من إبتاع شيئا وشرط الخيار ولم يسم وقتا ولا أجلا مخصوصا بل أطلقه إطلاقا فان له الخيار ما بينه وبين ثلاثة أيام ثم لا خيار له بعد ذلك، وباقي الفقهاء يخالفونهم في ذلك لان أبا حنيفة يذهب إلى أنه إذا شرط الخيار إلى غير مدة معلومة فالبيع فاسد فان أجازه في الثلاثة جاز عند أبي حنيفة خاصة، وإن لم يجزه حتى مضت الثلاثة أيام لم يكن له أن يجيزه.

وقال أبويوسف ومحمد: له أن يجيز بعد الثلاثة، وقال مالك إن لم يجعل للخيار وقتا معلوما جاز وجعل له من الخيار مثل ما يكون في تلك الساعة، وقال الحسن بن صالح بن حي: إذا لم يعين أجل الخيار كان له الخيار أبدا، دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه الاجماع المتكرر.

ويمكن أن نقول الوجه مع إطلاق الخيار في صرفه إلى ثلاثة أيام أن هذه المدة هي المعهودة المعروفة في الشريعة، لان يصرف الخيار فيها، والكلام إذا أطلق وجب حمله على المعهود المألوف فيه.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية القول: بأن من إبتاع أمة فوجد بها عيبا ما عرفه من قبل بعد أن وطئها لم يكن له ردها، وكان له أرش العيب، إلا أن يكون عيبها من حبل فله ردها مع الوطي، ويرد معها إذا وطئها نصف عشر قيمتها.

وخالف باقي الفقهاء في ذلك، فذهب الشافعي إلى أنه إذا إبتاع أمة ثيبا فوطئها ثم أصاب بها عيبا فله ردها ولا مهر عليه.

وقال ابن أبي ليلى: يردها بالعيب ويرد معها المهر لاجل الوطي، وقد روي ذلك عن عمر، وذهب الزهري والثوري وأبوحنيفة وأصحابه إلى أنه لا يملك الرد بالعيب، بل يمسكها ويأخذ الارش، وإنفراد الامامية بالقول الذي ذكرناه ظاهر.

دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه الاجماع المتردد وليس يجري وطي الثيب

[212]

مجرى وطي البكر، لان وطى البكر فيه إتلاف لجزء منها، وليس كذلك الثيب، ويمكن أن يكون الفرق بين الحمل وغيره من العيوب أن الحمل أفحش العيوب وأعظمها، فجاز أن يتغلظ حكمه على باقي العيوب.

(مسألة) ومما ظن إنفراد الامامية به وقد وافقها فيه غيرها القول بجواز بيع الانسان الشاة أو البعير ويشترط رأسه أو جلده أو عضوا من أعضائه، وروى ابن وهب عن مالك القول بجواز أن يستثنى جلدها وهو موافقة للامامية وروى ابن القاسم عن مالك أنه إذا باع شاة فاستثنى منها ثلثا أو ربعا أو نصفا أو فخذا أو كبدا أو صوفا أو شعرا أو كراعا فانه إن إستثنى ثلثا أو ربعا أو نصفا فلا بأس بذلك، وإن إستثنى جلدا أو رأسا، فان كان مسافرا فلا بأس به، وإن كان حاضرا فلا خير فيه، وهذه الرواية أيضا موافقة للامامية في السفر فلسنا نعرف فرقا بين السفر والحضر في هذا الموضع.

وقال أبوحنيفة وأصحابه: لا يجوز ذلك البتة وهو قول الثوري.

وقال الشافعي: لا يجوز أن يبيع الرجل الشاة ويستثني منها جلدا ولا غيره في سفر ولا حضر، دليلنا على ما ذهبنا إليه الاجماع المتردد، ولان هذا العقد يقع عليه اسم البيع باستثنائه فيجب أن يدخل في عموم قوله تعالى: (وأحل الله البيع) وليس يمكن أن يدعى في ذلك جهالة فان الاعضاء متميزة منفردة من غيرها وليس يجري مجرى غيرهما مما يقع فيه الاشتراك والاختلاط.

(مسألة) في الربا: ومما إنفردت به الامامية القول: بأنه لا ربا بين الولد ووالده، ولا بين الزوج وزوجته، ولا بين الذمي والمسلم ولا بين العبد ومولاه، وخالف باقي الفقهاء في ذلك فأثبتوا الربا بين كل من عددناه، وقد كتبت قديما في جواب مسائل وردت من الموصل تأولت الاخبار التي ترويها أصحابنا المتضمنة لنفي الربا بين من ذكرناه على أن المراد بذلك وإن كان لفظ الخبر بمعنى الامر كأنه قال: يجب أن لا يقع بين من ذكرناه ربا،

[213]

كما قال تعالى: (ومن دخله كان آمنا)، وكقوله تعالى: (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج).

وقوله عليه السلام: العارية مردودة والزعيم غارم ومعنى ذلك كله معنى الامر أو النهي وإن كان بلفظ الخبر، وأما العبد وسيده فلا شبهة في نفي الربا بينهما، لان العبد لا يملك شيئا، والمال الذي في يده مال لسيده، ولا يدخل الربا بين الانسان ونفسه، ولهذا ذهب أصحابنا إلى أن العبد إذا كان لمولاه شريك فيه حرم الربا بينه وبينه.

وإعتمدنا في نصرة هذا المذهب على عموم ظاهر القرآن، وأن الله تعالى حرم الربا على كل متعاقدين، وقوله تعالى: (ولا تأكلوا الربا)، وهذا الظاهر يدخل تحته الوالد وولده، والزوج والزوجة.

ثم لما تأملت ذلك رجعت عن هذا المذهب لاني وجدت أصحابنا مجمعين على نفي الربا بين من ذكرناه وغير مختلفين فيه في وقت من الاوقات، وإجماع هذه الطائفة قد ثبت أنه حجة، ويخص بمثله ظاهر القرآن، والصحيح نفي الربا بين من ذكرناه.

وإذا كان الربا حكما شرعيا جاز أن يثبت في موضع دون آخر كما يثبت في جنس دون جنس وعلى وجه دون وجه، فإذا دلت الادلة على تخصيص من ذكرناه وجب القول بموجب الدليل.

ومما يمكن أن يعارض ظاهر من ظواهر الكتاب أن الله تعالى قد أمر بالاحسان والانعام، مضافا إلى ما دلت عليه العقول من ذلك، وحد الاحسان إيصال النفع على وجه الاستحقاق إلى الغير مع القصد إلى كونه إحسانا، ومعنى الاحسان ثابت فيمن أخذ من غيره درهما بدرهمين، لان من أعطى الكثير بالقليل وقصد به إلى نفعه فيه فهو محسن إليه، وإنما أخرجنا من عدا من إستثنيناه من الوالد وولده والزوج والزوجة بدليل قاهر تركنا له الظواهر

[214]

وهذا ليس مع المخالف في المسائل التي خالفنا فيها، فظاهر أمر الله تعالى بالاحسان في القرآن في مواضع كثيرة كقوله: (وأحسن كما أحسن الله إليك) وقوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والاحسان) معارض للآيات التي ظاهرها عام في تحريم الربا، فإذا قالوا بتخصيص آيات الاحسان لاجل آيات الربا، قلنا: ما الفرق بينكم وبين من خصص آيات الربا بعموم آيات الامر بالاحسان وهذه طريقة إذا سلكت كانت قوية.

(مسألة) في الصرف: ومما إنفردت به الامامية القول بجواز إبتياع الانسان من غيره متاعا أو غيره نقدا أو نسية معا على أن يسلف البايع شيئا أو يقرضه مالا إلى أجل أو يستقرض منه، وأنكر ذلك باقي الفقهاء وحظروه ودليلنا على صحة ما ذهبنا إليه الاجماع المتردد، ولان الله تعالى أحل البيع بالاطلاق، وهذا البيع الذي أشرنا إليه داخل في جملة الظاهر، والقرض أيضا جايز، وإشتراطه في عقد البيع غير مفسد له ولسنا ندري من أي جهة حظر المخالفون ذلك وإنما يرجعون إلى الظنون و الحسبان التي لا يرجع في الشرع إلى مثلها، ولا خلاف بينهم في أنه لو لم يشترط القرض عند عقد البيع، ثم رأى بعد ذلك أن يقرضه ذلك كان جائزا، وأي فرق بين أن يشرطه أو لا يشرطه.

(مسألة) فيه أيضا: ومما إنفردت به الامامية القول: بأنه يجوز أن يكون للانسان على غيره مال مؤجل فيتفقان على تعجيله بأن ينقصه من مبلغه ولا يشبه ذلك تأخير الاموال عن آجالها بزيادة فيها لان ذلك محظور لا محالة وخالفهم باقي الفقهاء في ذلك وسووا بين الامرين في التحريم، دليلنا على ما ذهبنا إليه الاجماع المتقدم ذكره.

وأيضا فان تصرف الانسان فيما يملكه مباح بالعقل والشرع، وقد علمنا أن الدين المؤجل له مالك يصح تصرفه فيه فيجوز أن ينقص منه

[215]

كما يجوز له الابراء منه ومن عليه أيضا هذا الدين هو مالك للتصرف في ماله فله أن يقدمه، كما له أن يؤخره إلى أجله، ولا خلاف في أنه لو قبض بعضه وأبرء‌ه من الباقي من غير إشتراط لكان ذلك جائزا، وأي فرق في جواز ذلك بين الاشتراط ونفيه.