مسائل الطهارة وما يتعلق بها
مسألة: مما
شنع به على الامامية، وظن انه لا موافق لهم فيه قولهم: ان الماء إذا بلغ كرا لم
ينجس بما يحله من النجاسات، وهذا مذهب الحسن بن صالح بن حي وقد حكاه عنه في كتابه
الموضوع لاختلاف الفقهاء أبوجعفر الطحاوي، والحجة في صحة هذا المذهب الطريقة التي
تقدمت الاشارة إليها دون موافقة ابن حي فان موافقة ابن حي كمخالفته في انها ليست
بحجة وإنما ذكرنا موافقته ليعلم ان الشيعة ما انفردت بهذا المذهب كما ظنوا، وقد
استقصينا الكلام في هذه المسألة فيما افردناه من الكلام على مسائل الخلاف، ورددنا
على كل مخالف في هذه المسألة لنا بما يعم ويخص من أبي حنيفة والشافعي ومالك بما فيه
كفاية وسلكنا معهم أيضا طريق القياس الذي هو صحيح على أصولهم، وبينا ان القياس إذا
صح كان شاهدا لنا في هذه المسألة، وذكرنا ما يروونه وهو موجود في كتبهم وأحاديثهم
عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال: إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا.
فان قيل ابن
حي يحدد الكر على ما حكاه الطحاوي عنه بما بلغ ثلاثة آلاف رطل وأنتم تحددونه بألف
ومأتى رطل بالمدنى، قلنا ما ادعينا ان مذهب ابن حى موافقنا من كل وجه وانتم لم
تعيبوا على الشيعة بتحديد الكر بالارطال وإنما عبتم اعتبار الكر فيما لا ينجس، وبعد
فان تحديدنا بالارطال التي ذكرناها أولى من تحديد ابن حي لانا عولنا في ذلك على
آثار معروفة مروية وإجماع فرقة قد دل الدليل على ان فيهم الحجة، وابن حي لا يدري
كيف حدد بثلاثة آلاف رطل ولا على ماذا اعتمد فيه على ان ابن حي يجب ان يكون عند أبي
حنيفة
[9]
وأصحابه،
والشافعي أحق بالعيب من الشيعة، فإن تحديد الشيعة أقرب إلى تحديد الشافعي من تحديد
ابن حي لان ما بين القلتين وهما حد الشافعي وبين ألف رطل ومائتي رطل أقرب مما بين
القلتين وثلاثة آلاف رطل، وإذا كان مذهب أبي حنيفة ان النجاسة تنجس القليل والكثير
من الماء، فقول الشيعة على كل حال أقرب من قول ابن حي.
(مسألة): ومما
انفردت به الامامية إيجابهم غسل الاناء من سؤر الكلب ثلاث مرات، إحداهن بالتراب لان
أبا حنيفة لا يعتبر حدا في ذلك ولا عددا ويجريه مجرى إزالة سائر النجاسات.
والشافعي يوجب
سبع غسلات إحداهن بالتراب.
ومالك لا يوجب
غسل الاناء من سؤر الكلب ويقول انه مستحب فان فعله فليكن سبعا وهو مذهب داود.
وذهب الحسن بن
حي وابن حنبل إلى انه يغسل سبع مرات والثامنة بالتراب، وقد تكلمنا على هذه المسألة
في مسائل الخلاف بما استوفيناه وحجتنا فيما انفردنا به من إيجاب الثلاث الاجماع من
الطائفة المتقدم ذكره ومما يجوز أن يحتج به على المخالف ما رووه وهو موجود في كتبهم
ورواياتهم عن عبيد بن عمير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال: اذا
ولق الكلب في اناء احدكم فليغسله ثلاث مرات.
وايضا ما رواه
أبوهريرة في حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وآله قال إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم
فليغسله ثلاثا أو خمسا أو سبعا، وظاهر هذا الخبر يقتضي وجوب الثلاث، لانه العدد
الذي لم يجز عليه السلام الاقتصار على أقل منه.
فأما قوله: أو
خمسأ أو سبعا فلا يخلو من أن يكون المستفاد بدخول لفظة أو فيه للتخيير بين هذه
الاعداد ويكون الكل واحدا على جهة التخيير أو يكون فيما زاد على الثلاث للتخيير من
غير وجوب، ويكون الزيادة على
[10]
الثلاث ندبا
واستحبابا والقسم الاول باطل لان أحدا من الامة لم يذهب إلى ان كل عدد من هذه
الاعداد واجب كوجوب الآخر، والقائلون بسبع غسلات وإن أوجبوها فانهم لا يجعلون
الثلاث والخمس واجبتان، ويجعلونه متخيرا بينهن وبين السبع بل يوجبون السبع دون ما
عداها فلم يبق إلا القسم الثاني وهو مذهبنا، فإذا قيل: كيف يقع التخيير بين واجب
وندب؟ قلنا: لم يخير بين واجب وندب لان الثلاث تدخل في الخمس والسبع، وإنما وقع
التخيير بين الاقتصار على الواجب وهو الثلاث، وبين فعله والزيادة عليه.
(مسألة) ومما
انفردت به الامامية القول بنجاسة سؤر اليهودي والنصراني وكل كافر وخالف جميع
الفقهاء في ذلك.
وحكى الطحاوي
عن مالك في سؤر النصراني والمشرك انه لا يتوضئ به ووجدت المحصلين من أصحاب مالك
يقولون ان ذلك على سبيل الكراهية لا التحريم لاجل استحلالهم الخمر والخنزير وليس
بمقطوع على نجاسته فكأن الامامية منفردة بهذا المذهب، ويدل على صحة ذلك مضافا إلى
إجماع الشيعة عليه قوله تعالى: (إنما المشركون نجس).
فإذا قيل لعل
المراد به نجاسة الحكم لا نجاسة العين، قلنا نحمله على الامرين لانه لا مانع من
ذلك.
وبعد فإن
حقيقة هذه اللفظ تقتضي نجاسة العين في الشريعة وإنما يحمل على الحكم تشبيها ومجازا
والحقيقة أولى باللفظ من المجاز.
فان قيل فقد
قال الله تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) وهو عموم في جميع ما شربوا
وعالجوه بأيديهم.
قلنا: يجب
تخصيص هذا الظاهر بالدلالة على نجاستهم، وتحمل هذه
[11]
الآية على أن
المراد بها طعامهم الذي هو الحبوب وما يملكونه دون ما هو سؤر أو ما عالجوه بأجسامهم
على أن في طعام أهل الكتاب ما يغلب على الظن أن فيه خمرا أو لحم خنزير ولا بد من
إخراجه مع هذا الظاهر، وإذا أخرجناه من هذا الظاهر لاجل النجاسة وكان سؤرهم على ما
بيناه نجسا أخرجناه أيضا من الظاهر.
(مسألة) ومما
انفردت به الامامية القول بأن ماء البئر ينجس بما يقع فيها من النجاسة وإن كان كرا
وهو الحد الذى حددوا به الماء الذى لا يقبل النجاسة، ويطهر ماؤها عندنا بنزح بعضه،
وهذا ليس بقول لاحد من الفقهاء لان من لم يراع في الماء حدا إذا بلغ إليه لم ينجس
بما يحله من النجاسات وهو أبوحنيفة لا يفصل في هذا الحكم بين البئر وغيرها كما فصلت
الامامية، ومن راعى حدا في الماء إذا بلغه لم يقبل النجاسة وهوالشافعي في إعتباره
القلتين لم يفصل بين البئر وغيرها، والامامية فصلت فانفردت لذلك عن الجماعة.
وعذر الامامية
فيما ذهبت إليه في البئر والفصل بينها وبين مياه الغدران والآنية هو ما تقدم من
الحجة ويعضد ذلك انه لا خلاف بين الصحابة والتابعين في ان إخراج بعض ماء البئر
يطهرها وإنما اختلفوا في مقدار ما ينزح، وهذا يدل على حكمهم بنجاستها على كل حال من
غير اعتبار بمقدار مائها وإن حكمها في ان إخراج بعض مائها يطهرها بخلاف حكم الاواني
والغدران، ويمكن أن يكون الوجه في مخالفه حكم البئر فيما ذكرناه لاحكام الاواني
والغدران أن نزح جميع ماء البئر يشق من وجهين، أحدهما لبعده عن الايدي، والآخر لان
مائها يتجدد في كل حال مع النزح فشق إخراج الجميع، والاواني لا يشق إراقة جميع
مائها.
وكذلك الغدران
إذا كان ماؤها أقل من كر ألا ترى أن غسل الاواني
[12]
لما تيسر بعد
إخراج النجاسة وجب، ولما تعذر ذلك في البئر سقط فلما خفف حكم البئر من الوجه الذي
ذكرناه عن الاواني والغدران غلظ من وجه آخر وأسقط منها اعتبار مبلغ الماء في قلة أو
كثرة لئلا يجتمع تخفيفان (الحكم) والمشقة اعتبار ذلك فيها لبعدها.
(مسألة) ومما
ظن أن الامامية منفردة به وشنع عليها القول بأن جلود الميتة لا تطهر بالدباغ وهو
مذهب أحمد بن حنبل، فالشيعة غير منفردة به، والدليل على صحة ما ذهبت إليه من ذلك
مضافا إلى الطريقة المشار إليها في كل المسائل قوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة)
وهذا تحريم مطلق يتناول أجزاء الميتة في كل حال، وجلد الميتة يتناوله اسم الموت لان
الحياة تحله وليس بجار مجرى العظم والشعر وهو بعد الدباغ يسمى جلد ميتة، كما كان
سمي قبل الدباغ فينبغي أن يكون خطر التصرف فيه لاحقا به، ويمكن أن يحتج على
المخالفين بما هو موجود في كتبهم ورواياتهم من حديث عبدالله بن حكيم أنه قال: أتانا
كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله قبل موته بشهرين ألا تنتفعوا بأهاب من الميتة
ولا عصب، ولا يعارض هذا الخبر ما يروونه عنه عليه السلام من قوله أيما أهاب دبغ فقد
طهر، لان خبرهم عام اللفظ والخبر الذي إحتججنا به خاص، فنبني العام على الخاص لكي
نستعمل الخبرين ولا يطرح أحدهما فان قالوا نحمل خبركم على تحريم الانتفاع بأهاب
الميتة وعصبها قبل الدباغ.
قلنا: هذا
تخصيص وترك للظاهر على كل حال على أنه لا معنى له لان العصب يحرم الانتفاع به على
كل حال قبل الدباغ وبعده وليس بجار مجرى الجلد فان عارضونا بما يروونه عنه عليه
السلام من قوله وقد سئل عن جلود الميتة فقال دباغها طهورها.
قلنا: إذا
تعارضت الاخبار سقط الاحتجاج بها ورجعنا إلى ظاهر نص
[13]
الكتاب على
أنه يمكن حمله على أن المراد به ما حله الموت من المذكى وسمي بذلك ميتة على ضرب من
التجوز فليس ذلك بأبعد من قولهم في خبرنا أن المراد به لا تنتفعوا بأهاب ولا عصب
قبل الدباغ.
فإن قيل: كيف
تحملونه على ذلك وجلد المذكى طاهر قبل الدباغ؟ قلنا: عندنا أن جلود ما لا يؤكل لحمه
من البهائم إذا ذكيت فلا يطهر جلدها(1) إلا بالدباغ بخلاف جلد ما يؤكل لحمه فيكون
المراد جلود ما مات بالذكاة مما لا يؤكل لحمه دباغها طهورها، وإن حملناه على جميع
جلود المذكى مما يؤكل لحمه ومما لا يؤكل لحمه جاز لان جلود ما أكل لحمه إذا ذكي
وكان عليه نجاسة الدم فإذا بلغ زال ذلك عنه.
وقول بعضهم أن
الجلد لا يسمى أهابا بعد الدبغ وإنما يسمى بذلك قبل دبغه لا يلتفت إليه لانه خارج
عن اللغة والعرف.
(مسألة) ومما
انفردت به الامامية القول بأن الدم الذي ليس بدم حيض يجوز الصلاة في ثوب أو بدن
أصابه منه ما ينقص مقداره عن سعة الدرهم الوافي وهو المضروب من درهم وثلث، وما زاد
على ذلك لا يجوز الصلاة فيه وفرقوا بين الدم في هذا الحكم وبين سائر النجاسات من
بول وعذرة ومني، وحرموا الصلاة في قليل ذلك وكثيره، وكأن التفرقة بين الدم وبين
سائر النجاسات في هذا الحكم هو الذي تفردوا به.
فان أبا حنيفة
يعتبر مقدار الدرهم في جميع النجاسات ولا يفرق بين بعضها وبين بعض.
والشافعي لا
يعتبر الدرهم في جميع النجاسات، فاعتباره في بعضها هو التفرد، ويمكن القول بأن
الشيعة غير منفردة بهذه التفرقة، لان زفر كان يراعي في الدم أن يكون أكثر من درهم
ولا يراعي مثل ذلك في البول بل يحكم بفساد الصلاة بقليله وكثيره وهذا نظير قول
الامامية.
________________________
(1) فلا يطهر
جلودها - خ ل.
[14]
وروي عن الحسن
بن صالح بن حي أنه كان يقول في الدم إذا كان على الثوب منه مقدار الدرهم يعيد
الصلاة، فان كان أقل من ذلك لم يعد وكان يوجب الاعادة في البول والغائط قليلهما
وكثيرهما وهذا مضاه لقول الامامية وقد مضى في صدر هذا الكتاب أن التفرد بما عليه
حجة واضحة غير موحش وإجماع هذه الفرقة هو دليلها على صحة قولها، وقد استوفينا
الكلام في هذه المسألة في كتابنا المفرد لمسائل الخلاف واحتججنا على المخالفين لنا
في هذه المسألة بضروب من الاحتجاجات منها قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا
قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى
الكعبين) فجعل تعالى تطهير الاعضاء الاربعة مبيحا للصلاة فلو تعلقت الاباحة بغسل
نجاسة لكان ذلك زيادة لا يدل عليها الظاهر لانه بخلافه ولا يلزم على هذا ما زاد على
الدرهم وما عدا الدرهم من سائر النجاسات لان الظاهر وإن لم يوجب ذلك فقد عرفناه
بدليل أوجب الزيادة على الظاهر وليس ذلك في يسير الدم.
وذكرنا أيضا
ما يروونه المخالفون ويمضي في كتبهم عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه واله)
انه قال: إذا كان الدم في الثوب أكثر من قدر الدرهم أعاد الصلاة وهذا تعليق للحكم
بشرط متى لم يكن موقوفا عليه لم يؤثر، وبينا هناك أنه يمكن أن يكون الفرق بين دم
الحيض وسائر الدماء أن حكم دم الحيض أغلظ لانه يوجب الغسل فلهذا خولف بينه وبين
غيره.
وقلنا أيضا:
أنه يمكن أن يكون الفرق بين دم الحيض والنفاس إذا جمعنا بين دم الحيض والنفاس في
هذه الصفة أن البلوى بسائر الدماء أعم من البلوى بعدم الحيض والنفاس، لان سائر
الدماء يخرج من جسم الصغير والكبير والذكر والانثى والحيض والنفاس يختصان ببعض من
ذكرناه وأيضا فان دم النفاس والحيض يختصان في الاكثر بأوقات معينة ويمكن التحرز
منها
[15]
وباقي الدماء
بخلاف ذلك، وإنما فرقنا بين الدم والبول والمني وسائر النجاسات في اعتبار الدرهم
للاجماع المتقدم ويمكن أن يكون الوجه فيه أن الدم لا يوجب خروجه من الجسد وضوءا
على اختلاف مواضعه والبول والعذرة والمنى يوجب خروج كل واحد منها الوضوء، وفيها ما
يوجب لغسل وهو المني فغلظت أحكامها من هذا الوجه على حكم الدم، ومن أراد الاستقصاء
رجع إلى حيث ما ذكرنا.
(مسألة) ومما
انفردت به الامامية القول بأن المني نجس لا يجزي فيه إلا الغسل، لان أبا حنيفة وإن
وافقهم في نجاسته فعنده أنه يجزي فرك يابسه والشافعي يذهب إلى طهارته.
وأما ما حكي
عن مالك من أنه يذهب إلى نجاسته ويوجب غسله فليس ذلك بموافقة للشيعة الامامية على
الحقيقة، لان مالك لا يوجب غسل جميع النجاسات وإنما يستحب ذلك، والامامية توجب غسل
المني فهي منفردة بذلك وقد استوفينا أيضا الكلام على هذه المسألة في مسائل الخلاف
ورددناه على كل مخالف لنا فيها بما فيه كفاية، ودللنا على نجاسة المني من قوله
تعالى: (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان) وروى في
التفسير أنه تعالى أراد بذلك أثر الاحتلام، والآية دالة من وجهين على نجاسة المني:
أحدهما يوجب أن الرجز والرجس والنجس بمعنى واحد بدلالة قوله تعالى: (والرجز فاهجر)،
وأراد عبادة الاوثان.
وفي موضع آخر:
(فاجتنبوا الرجس من الاوثان).
والوجه
الثاني: أنه تعالى أطلق عليه اسم التطهير، والتطهير لا يطلق في الشرع إلا لازالة
النجاسة أو غسل الاعضاء الاربعة.
واحتججنا
عليهم أيضا بما يروونه عن عمار بن ياسر رحمه الله تعالى أن النبي صلى الله عليه
وآله قال: إنما يغسل الثوب من البول والدم والمني، وهذا يقتضي
[16]
وجوب غسله وما
يجب غسله لا يكون إلا نجسا، والحجة الكبرى في نجاسته ووجوب غسله إجماع الامامية على
ذلك.
(مسألة) ومما
انفردت به الامامية القول: بأن البول خاصة لا يجزي فيه الاستجمار بالحجر ولا بد من
غسله بالماء مع وجوده، ولا يجري عندهم مجرى الغائط في جواز الاقتصار على الحجر،
وليس هذا بمذهب لاحد من الفقهاء، لان من يوجب الاستنجاء منهم لا يفرق بين البول
والغائط في جواز الاقتصار فيه على الحجر، ومن يسقط وجوب الاستنجاء كأبي حنيفة يسقطه
في الامرين، وينبغي أن يكون الامامية بهذا التفرد إلى جانب المدح أقرب منها إلى
جانب العيب، لان قولها الذي انفردت به أشبه بالتنزه عن النجاسة وأولى في إزالتها
والعيب إلى من لا يوجب الاستنجاء جملة، وجوز أن يصلي المصلي وعين النجاسة على بدنه
متوجه أقرب.
وحجة الشيعة
على مذهبها هو ما تقدم ذكره من إجماعها عليه وتظاهر الآثار في رواياتهم به.
ويمكن أن يكون
الوجه في الفرق بين نجاسة البول ونجاسة الغائط أن الغائط قد لا يتعد المخرج إذا كان
يابسا، ويتعداه إذا كان بخلاف هذه الصفة ولا خلاف في أن الغائط متى تعدى المخرج فلا
بد من غسله بالماء، والبول لانه مايع جار لا بد من تعديه المخرج وهو في وجوب تعديه
أبلغ من دقيق الغائط فوجب فيه ما وجب فيما تعدى المخرج من مايع الغائط ولا خلاف في
وجوب غسل ذلك.
(مسألة) ومما
انفردت به الامامية الابتداء في غسل اليدين في الوضوء من المرافق والانتهاء إلى
أطراف الاصابع، وفي أصحابنا من يظن وجوب ذلك حتى أنه لا يجزي خلافه، وقد ذكرت ذلك
في كتاب مسائل الخلاف، وفي جواب مسائل أهل الموصل الفقهية أن الاولى أن يكون ذلك
مسنونا ومندوبا
[17]
إليه وليس
بفرض حتم، فقد انفردت الشيعة على كل حال بأنه مسنون على هذه الكيفية، وباقى الفقهاء
يقولون: هو مخير بين الابتداء بالاصابع وبين الابتداء بالمرافق، والحجة على صحة ما
ذهبت إليه مضافا إلى الاجماع الذي ذكرناه أن الحدث إذا تيقن فلا يزول إلا بأمر
متيقن، وما هو مزيل له بيقين أولى وأحوط مما ليس هذه صفته، وقد علمنا أنه إذا غسل
من المرافق إلى الاصابع كان مزيلا للحدث عن اليدين بالاجماع واليقين وليس كذلك إذا
غسل من الاصابع فالذى قلناه أحوط.
ومما يجوز أن
يحتج به على المخالفين ما رووه كلهم عن النبي صلى الله عليه وآله من أنه توضأ مرة
مرة، ثم قال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به فلا يخلو من أن يكون ابتداء من
المرافق أو انتهاء إليها، فإن كان مبتدئا بالمرافق فيجب أن يكون خلاف ما فعله غير
مقبول، ولفظة مقبول يستفاد منه في عرف الشرع أمران: أحدهما الاجزاء، كقولنا لا يقبل
الله صلاة بغير طهارة.
والامر الآخر:
الثواب عليها، كقولنا إن الصلاة المقصود بها الرياء غير مقبولة بمعنى سقوط الثواب
وإن لم يجب إعادتها.
وقول
المعتزلة: ان صلاة صاحب الكبيرة غير مقبولة لانه لا ثواب عندهم له عليها وإن كانت
مجزية لا يجب إعادتها، ويجب حمل لفظة نفي القبول على الامرين غير أنه إذا قام
الدليل على أن من غسل يديه وابتدأ بأصابعه وانتهى إلى المرافق يجزي وضوءه بقي
المعنى الآخر وهو نفي الثواب والفضل وهو مرادنا، وقد بينا في مسائل الخلاف وفي جواب
أهل الموصل إبطال استدلالهم بقوله تعالى: (إلى المرافق) وانه تعالى جعلها غاية
للابتداء وقلنا أن لفظة إلى قد تكون بمعنى الغاية، وقد تكون بمعنى مع وهي في
الامرين معا حقيقة.
واستشهدنا
بقوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم)، وقوله عزوجل: (من أنصاري إلى
الله)، وبقول أهل اللسان
[18]
العربي ولى
فلان الكوفة إلى البصرة، والمراد بلفظه إلى في هذا كله معنى مع، واستشهدنا على ذلك
بكثير من أشعار العرب وأجبنا عن سؤال من سأل فنقول: إذ احتملت لفظة إلى المعنيين
معا فمن أين لكم أنها في الآية بمعنا مع دون ما ذكرناه من الغاية بأن قلنا الآية
استدلال المخالف علينا لا دليلنا عليه ويكفي في كسره أن نبين احتمال اللفظة للامرين
وأنها ليست بخالصة لاحدهما.
وقلنا أيضا:
لو كانت لفظة إلى في الآية تفيد الغاية لوجب الابتداء بالاصابع والانتهاء إلى
المرافق ولم يجز خلافه، لان أمره على الوجوب وقد أجمعوا على أن ذلك ليس بواجب، فثبت
أن المراد باللفظة في الآية بمعنى مع.
(مسألة) ومما
انفردت به الامامية الآن وقد كان قولا للشافعي قديما القول بوجوب ترتيب اليد اليمنى
في الطهارة على اليسرى لان جميع الفقهاء في وقتنا هذا والشافعي في قوله الجديد
لايوجبون ذلك، والحجة على صحة هذا المذهب مضافا إلى الاجماع المتردد انا قد دللنا
على أن الابتداء في غسل اليدين بالمرافق هو الواجب أو المسنون الذي خلافه مكروه،
وكل من قال من الامة بأن الابتداء بالاصابع والانتهاء إلى المرافق مكروه أو هو خلاف
الواجب ذهب إلى وجوب ترتيب اليمنى على اليسرى في الطهارة، والفرق بين المسألتين
خروج عن الاجماع.
ويمكن أيضا أن
يحتج في ذلك عليهم بما يروونه من قوله عليه السلام وقد توضأ مرة مرة وقال: هذا وضوء
لا يقبل الله سبحانه وتعالى الصلاة إلا به فلايخلو من أن يكون قدم اليمنى أو أخرها،
فإن كان قدمها وجب نفي اجزاء تأخيرها وإن كان أخرها وجب نفي اجزاء تقديمها وليس هذا
بقول أحد من الامة وليس لهم أن يقولوا الاشارة في قوله عليه السلام: هذا
[19]
وضوء وقد توضأ
مرة مرة لا يقبل الله الصلاة إلا به إلى أفعال الوضوء دون صفاته وكيفياته، وذلك ان
الاشارة إذا اطلقت دخل تحتها الافعال وكيفياتها لان كيفياتها وصفاتها كالجزء منها،
لانه عليه السلام لو غسل وجهه على ضرب من التحديد، ثم قال: لا يقبل الله الصلاة إلا
به لدل ذلك على وجوب الفعل وصفته، ولولا أن الامر على ما قلنا لم يفرق بين النبي
(صلى الله عليه واله) بين وضوئه الاول والثاني والثالث.
وقال في
الثالث الذي اقتصر فيه على مرة واحدة لا يقبل الله الصلاة إلا به، فلولا أن الاشارة
إلى الصفات والكيفيات لكان الكل واحدا في أن الصلاة لا تقبل إلا به ان كانت الاشارة
إلى الافعال دون الكيفيات على أن الشافعي لا يتمكن من الطعن بذلك لانه يستدل بهذا
الخبر على وجوب ترتيب الطهارة في الاعضاء الاربعة ويراعي الكيفيات لان التركيب
كيفية وصفه، فان طعن علينا بهذا فهو طاعن على نفسه.
(مسألة) ومما
انفردت به الامامية القول بأن الفرض مسح مقدم الرأس دون سائر أبعاضه من غير استقبال
الشعر، والفقهاء كلهم يخالفون في هذه الكيفية ولا يوجبونها ولا شبهة في أن الفرض
عند الامامية يتعلق بمقدم الرأس دون سائر أبعاضه ولا يجزي مع صحة هذا العضو
سواه.
فأما ترك
استقبال الشعر فهو عند أكثرهم أيضا واجب ولا يجزي سواه وفيهم من يرى أنه مسنون مرغب
فيه، وعلى كل حال فالانفراد من الامامية ثابت، والذي يدل على صحة مذهبهم في هذه
المسألة مضافا إلى طريقة الاجماع أنه لا خلاف في أن من مسح مقدم رأسه من غير
استقبال شعر مزيل للحدث، مطهر للعضو، وفي العدول عن ذلك خلاف، فالواجب فعل ما يتيقن
به زوال الحدث وبرائة الذمة فهو الاحوط.
(مسألة) ومما
انفردت به الامامية القول بأن مسح الرأس إنما يجب
[20]
ببلة اليد،
فان استأنف ماء جديدا لم يجزه، وحتى انهم يقولون إذا لم يبق في يده بلة أعاد الوضوء
ولا يجب أن يقرر ان من وافق الشيعة في جواز التوضي بالماء المستعمل كما لك وأهل
الظاهر موافق لهم في هذه المسألة لان من ذهب إلى أن الماء المستعمل مطهر يزول الحدث
به إنما يجيز مسح الرأس ببلة اليد ولا يوجبه وهو تخيير للمتوضي بين أن يفعل ذلك
وبين تجديد الماء والشيعة توجبه ولا تجيز فيه فالانفراد حاصل.
والذي يدل على
صحة هذا المذهب مضافا إلى طريقة الاجماع أن ظاهر الامر بحكم عرف الشرع يقتضي الوجوب
والفور إلا أن يقوم دليل شرعي ومن طهر يده فهو مأمور على الفور بتطهير رأسه فإذا
جدد تناول الماء فقد ترك زمانا كان يمكن أن يطهر العضو فيه والفور يوجب عليه خلاف
ذلك، فبظاهر الآية على ما ترى يجب أن يمسح ببلة يده رأسه ولا يلزم ذلك في اليدين مع
الوجه، لان المفروض في اليدين الغسل ولا يمكن ذلك ببلة اليد من تطهير الوجه، والفرض
في الرأس هو المسح وذلك يتأتى ببلة تطهير اليدين، ولو لم يكن هذا الفرق ثابتا جاز
أن يخرج ماء اليدين بدليل ليس بثابت في الرأس.
(مسألة) ومما
انفردت به الامامية القول بأن مسح الاذنين أو غسلهما غير واجب ولا مسنون وأنه بدعة،
وباقي الفقهاء على خلاف ذلك، وهذه المسألة أيضا مما تكلمنا عليه في مسائل الخلاف
واستوفيناه، وحجتنا فيها هو الاجماع الذي تقدم ذكره، ويمكن أن يقال من المعلوم أنه
إذا ترك المسح للاذنين فليس بعاص ولامبدع عند أحد من الامة، ومتى مسحهما كان عند
الشيعة مبدعا عاصيا، والاحوط هجر ما يخاف المعصية في فعله ولا يخاف التبعة في
تركه.
(مسألة) ومما
انفردت به الامامية القول بوجوب مسح الرجلين على
[21]
طريق التضييق
ومن غير تخيير بين الغسل والمسح على ما ذهب إليه الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري
وأبوعلي الجبائي، وكان ايجاب المسح تضييقا من غير بدل يقوم مقامه هو الذي انفردت به
الامامية في هذه الازمنة لانه قد روى القول بالمسح عن جماعة من الصحابة والتابعين
كابن عباس رضي الله عنه وعكرمة وأنس وأبي العالية والشعبي وغيرهم وهذه المسألة مما
استقصينا الكلام عليها في مسائل الخلاف وبلغنا فيها أقصى الغايات فانتهينا في تفريع
الكلام وتشعيبه إلى ما لا يوجد في شئ من الكتب غير انا لا نخلي هذا الموضع من جملة
كافية.
والذي يدل على
صحة مذهبنا في إيجاب المسح دون غيره مضافا إلى الاجماع الذي عولنا في كل المسائل
عليه قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم
إلى المرافق وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين) فأمر بغسل الوجه وجعل للايدي
حكمها في الغسل بواو العطف، ثم ابتدأ جملة أخرى فقال: (وامسحوا برؤسكم وأرجلكم)
فأوجب بالتصريح للرؤس المسح وجعل للارجل مثل حكمها بالعطف، فلو جاز أن يخالف بين
حكم الارجل والرؤس في المسح جاز أن يخالف بين حكم الوجوه والايدي في الغسل لان
الحال واحدة.
وقد أجبنا عن
سؤال من يسألنا فيقول: ما أنكرتم أن الارجل إنما انجرت بالمجاورة لا لعطفها في
الحكم على الرؤس بأجوبة منها ان الاعراب بالمجاورة شاذ نادر ورد في مواضع لا يلحق
بها غيرها، ولا يقاس عليها سواها بغير خلاف بين أهل اللغة، ولا يجوز حمل كتاب الله
عزوجل على الشذوذ الذي ليس بمعهود ولا مألوف.
ومنها أن
الاعراب بالمجاورة عند من أجازه إنما يكون مع فقد حرف العطف، وأي مجاورة تكون مع
وجود الحايل، ولو كان ما بينه وبين غيره
[22]
حايل مجاورا
لكانت المفارقة مفقودة، وكل موضع استشهد به على الاعراب بالمجاورة مثل قولهم (جحر
ضب خرب، وكبير أناس في بجاد مزمل) لا حرف عطف فيه حايل بين ما تعدى إليه إعراب من
غيره للمجاورة، ومنها ان الاعراب بالمجاورة إنما استعمل في الموضع الذي يرتفع فيه
الشبهة ويزول اللبس في الاحكام، ألا ترى أن أحدا لا يشتبه عليه أن لفظة خرب من صفات
الجحر لا الضب، وان إلحاقها في الاعراب بها لا يوهم خلاف المقصود وكذلك لفظة مزمل
لا شبهة في أنها من صفات الكبير لا صفة البجاد، وليس كذلك الارجل لانه من الجائز أن
تكون ممسوحة كالرؤس فإذا اعربت باعرابها للمجاورة ولها حكم الايدي في الغسل كان
غاية اللبس والاشتباه، ولم تجز بذلك عادة القوم.
ومنها ولم
نذكر هذا الوجه في مسائل الخلاف أن محصلي أهل النحو ومحققيهم نفوا أن يكونوا أعربوا
بالمجاورة في موضع من المواضع وقالوا: الجر في جحر ضب خرب على أنهم أرادوا خرب
جحره، وكبير أناس في بجاد مزمل كبيره، ويجري ذلك مجرى مررت برجل حسن وجهه.
وقد بينا أيضا
في مسائل الخلاف بطلان قول من ادعى أن الغسل الخفيف يسمى مسحا.
وحكى ذلك عن
أبي زيد الانصاري من وجوه كثيرة أقواها أن فائدة اللفظين في الشريعة مختلفة وفي
اللغة أيضا، وقد فرق الله تعالى في آية الطهارة بين الاعضاء المغسولة والممسوحة،
وفصل أهل الشرع بين الامرين فلو كانتا متداخلتين لما كان كذلك، وحقيقة الغسل يوجب
جريان الماء على العضو وحقيقة المسح يقتضي إمرار الماء من غير جريان، فالتنافي بين
الحقيقتين ظاهر، لانه من المحال أن يكون الماء جاريا وسائلا وغير جار ولا سائل في
حالة واحدة.
وقد بينا في
مواضع كثيرة من كلامنا أن المسح يقتضي إمرار
[23]
قدر من الماء
بغير زيادة عليه فلا يدخل أبدا في الغسل.
ومن أقوى ما
أبطل هذه الشبهة أن الارجل إذا كانت معطوفة على الرؤس كانت الرؤس بلا خلاف فرضها
المسح الذي ليس بغسل على وجه من الوجوه فيجب أن يكون حكم الارجل كذلك، لان العطف
مقتض للمسح وكيفيته، وقد بينا أيضا في مسائل الخلاف أن القرائة في الارجل بالنصب لا
يقدح في مذهبنا وأنها توجب بظاهرها المسح في الرجلين كإيجاب القراءة بالجر
بظاهرها، لان موضع برؤسكم موضع نصب بإيقاع الفعل وهو قوله تعالى: (وامسحوا برؤسكم)
وإنما جرت الرؤس بالباء الزائدة فإذا نصبنا الارجل فعلى الموضع لا على اللفظة،
وأمثلة ذلك في الكلام العربي أكثر من أن تحصى يقولون لست بقائم ولا قاعد
وأنشدوا:
معاوية اننا
بشر فاسجح * فلسنا بالجبال ولا الحديدا
فنصبت على
الموضع، ونظيره أن زيدا في الدار وعمرو فيرفع عمرو على موضع ان وما عملت فيه لان
ذلك موضع رفع، ومثله مررت بزيد وعمرا وذهبت إلى خالد وبكرا.
وقال
الشاعر:
جئني بمثل
بني بدر لقومهم * أو مثل اخوة منظور بن سيار
ولما كان معنى
جئني هات واعطني واحضرني مثلهم جاز العطف بالنصب على المعنى وهذا أبعد مما قلناه في
الآية وبينا أن نصب الارجل عطف على الموضع أولى من عطفها على الايدي والوجوه لان
جعل التأثير في الكلام القريب أولى من جعله للبعيد، ولان الجملة الاولى المأمور
فيها بالغسل قد نقضت وبطل حكمها باستيناف الجملة الثانية، ولايجوز بعد انقطاع حكم
الجملة الاولى أن يعطف عليها، ويجري ذلك مجرى قولهم ضربت زيدا وعمرا وأكرمت خالدا
وبكرا، أن رد بكرا في الاكرام إلى خالد فهو وجه الكلام الذي لا
[24]
يجوز غيره ولا
يسوغ رده إلى الضرب الذى قد انقطع حكمه على أن ذلك لو جاز لرجح ما ذكرناه لتطابق
معنى القرائتين ولا يتنافيان، وتحديد طهارة الرجلين لا يدل على الغسل كما ظنه
بعضهم، وذلك أن المسح فعل أوجبته الشريعة كالغسل فلا يمكن تحديده كتحديد الغسل ولو
صرح تعالى فقال: (وامسحوا أرجلكم) وانتهوا بالمسح إلى الكعبين لم يك منكرا، فان
قالوا: تحديد اليدين لما اقتضى الغسل، فكذلك وجب تجديد طهارة الرجلين تقتضي
ذلك.
قلنا: لم توجب
في اليدين الغسل للتحديد بل للتصريح بغسلهما وليس كذلك في الرجلين فقولهم عطف
المحدود على المحدود أولى وأشبه بترتيب الكلام قلنا: ليس بمعتد لان الايدي معطوفة
وهي محدودة على الوجوه وليست في الآية محدودة وإلا جاز عطف الارجل وهي محدودة على
الرؤوس التي ليست بمحدودة، وهذا الذي ذهبنا إليه أشبه بالترتيب في الكلام، لان
الآية تضمنت ذكر عضو مغسول غير محدود وهو الوجه وعطف عليه مغسولا محدودا وهما
اليدان ثم استأنف ذكر عضو ممسوح غير محدود وهو الرأس فيجب أن تكون الارجل ممسوحة
وهي محدود ومعطوفة عليه دون غيره ليتقابل الجملتان في عطف مغسول محدود على مغسول
غير محدود، وفي عطف ممسوح محدود على ممسوح غيرمحدود، فان عارضونا بما يروونه من
الاخبار التي يقتضي ظاهرها غسل الرجلين كروايتهم عن النبي صلى الله عليه وآله أنه
توضأ مرة مرة وغسل رجليه وقال هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به.
وفي خبر آخر
أحسنوا الوضوء وأسبغوا الوضوء.
وفي خبر آخر
أنه أمر بالتخليل بين الاصابع.
وفي خبر آخر
ويل للاعقاب من النار، فالكلام على ذلك أن جميع ما رووه أخبار آحاد لا توجب علما
وأحسن أحوالها أن توجب الظن ولا يجوز أن يرجع عن ظواهر الكتاب المعلومة بما يقتضي
الظن
[25]
وبعد فهذه
الاخبار معارضة بأخبار مثلها تجري مجراها في ورودها من طريق المخالفين لنا وتوجد في
كتبهم وفيما ينقلونه عن شيوخهم، ونترك ذكر ما ترويه الشيعة وتنفرد به في هذا الباب
فإنه أكثر عددا من الرمل والحصى، ومتى عارضناهم بأخبارنا قالوا: لا نعرفها ولا
رواها شيوخنا، فليت شعري كيف يلزمونا أن نترك بأخبارهم ظواهر الكتاب ونحن لا نعرفها
ولا رواها شيوخنا ولا وجدت في كتبنا، ولا يجيزون لنا أن نعارض أخبارهم التي لا
نعرفها بأخبارنا التي لا يعرفونها وهل هذا إلا محض التحكم.
فمن أخبارهم
ما يروونه عن النبي صلى الله عليه وآله أنه بال على بساطة قوم قائما ومسح على قدميه
ونعليه.
وروي عن ابن
عباس أنه وصف وضوء رسول الله (صلى الله عليه واله) فمسح على رجليه.
وقد روى عنه
أنه قال: ان كتاب الله جل ثناؤه أتى بالمسح، ويأبى الناس إلا الغسل.
وروي عنه
أيضا: أنه قال: غسلتان ومسحتان.
وروي عن أمير
المؤمنين صلوات الله عليه أنه قال: ما نزل القرآن إلا بالمسح، والاخبار الواردة من
طرقهم في هذا المعنى كثيرة وهي معارضة لاخبار الغسل، ومسقطة لحكمها، وقد بينا في
مسائل الخلاف الكلام على هذه الاخبار بيانا شافيا.
وقلنا: ان
قوله ويل للاعقاب من النار مجمل لا يدل على وجوب غسل الاعقاب في الطهارة الصغرى دون
الكبرى، ويحتمل أنه وعيد على ترك غسل الاعقاب في الجنابة.
وقد روى قوم
ان أجلاف العرب كانوا يبولون وهم قيام فيترشش البول على أعقابهم وأرجلهم فلا
يغسلونها ويدخلون المسجد للصلاة، فكان
[26]
ذلك سببا لهذا
الوعيد.
وقلنا أيضا:
ان الامر بإسباغ الوضوء وإحسانه لا يدل على وجوب غسل ولا مسح في الرجلين، وإنما يدل
على الفعل الواجب من غير تقصير عنه ولا إخلال به، وقد علمنا أن هذا القول منه صلوات
الله عليه غير مقتض لوجوب غسل الرأس بدلا من مسحه، بل يقتضي فعل الواجب من مسحه من
غير تقصير وكذلك الرجلين.
وقلنا: أن
الامر بتخليل الاصابع لا بيان فيه على أنه تخليل أصابع الرجلين أو اليدين ونحن نوجب
تخليل أصابع اليدين، والقول محتمل لذلك فلا دلالة فيه على موضع الخلاف.
ومما لم نذكره
هناك أنه لا بد لجميع مخالفينا من ترك ظاهر ما يروونه من قوله " عليه السلام ".
هذا وضوء
لايقبل الله الصلاة إلا به، لان من أداه إجتهاده ممن يقول بالتخيير بين الغسل
والمسح ممن حكينا قوله لا بد من أن يكون مقبول الصلاة عندهم إذا أداه إجتهاده إلى
المسح ومسح فلا بد من أن يكون في الخبر شرط وهو الاجتهاد فكأنه أراد لا يقبل الله
الصلاة ممن أداه إجتهاده إلى وجوب الغسل دون غيره إلا به، وهذا ترك منهم
للظاهر.
وكذلك لا بد
من أن يشترطوا إذا وجد الماء وتمكن من إستعماله ولم يخف على نفس ولا عضو، لانه متى
لم يكن كذلك قبل الله جل ثناؤه صلاته وإن لم يفعل مثل ذلك الوضوء، وإذا تركوا
الظاهر جاز لخصومهم أن يتركوه أيضا، على أنه لا فرق بين أن يعذروا من أداه اجتهاده
إلى المسح على جهة التخيير مثل الحسن البصري وابن جرير الطبري والجبائي ولم ينزلوهم
منزلة من لا يقبل الله صلاته، وبين أن يعذروا الشيعة في إيجاب المسح دون غيره إذا
أداهم إجتهادهم إلى ذلك أيضا، فليس إجتهادهم في هذا الموضع بأضعف من إجتهاد أصحاب
التخيير.
[27]
فان قيل: إذا
قبلتم الخبر وتأولتموه فلا بد من أن تخرجوا له وجها يسلم على أصولكم التي هي
الصحيحة عندكم وأنتم لا ترون الاجتهاد فتشرطوه في هذا الخبر.
قلنا: إنما
قلنا ذلك دفعا لكم عن ظاهر الخبر وإخراجه من أن يكون حجة لكم، ويمكن إذا تبرعنا
بقبوله أن يكون له تأويل صحيح على أصولنا وهو أن الفائدة في قوله " عليه السلام "
لا يقبل الله الصلاة إلا به وجوب هذا الوضوء ويجري مجرى قولنا لا يقبل الله صلاته
إلا بطهور والفائدة إيجاب الطهور، وقد يجب في بعض المواضع الوضوء على هذه الصفة
عندنا حيث يخاف من مسح رجليه على نفسه فلا يجد بدا من غسلهما للتقية، ولا فرق بين
أن لا يتمكن من فعل الوضوء على الوجه المفروض وبين فقد الماء أو الخوف على النفس من
إستعماله إما من عدو أو برد شديد، وإذا فرضنا أن من هذه حاله يخاف أيضا من أن يتيمم
كخوفه من مسح قدميه جازت له الصلاة بغسل رجليه من غير مسح لهما، وجرى مجرى من حبس
في موضع لا يقدر فيه على ماء يتوضأ به ولا تراب يتيمم به.
(مسألة): ومما
إنفردت به الامامية وجوب مسح الرجلين ببلة اليدين من غير إستيناف ماء جديد لهما
وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك، والذي يدل على صحة هذا المذهب مع الاجماع المذكور
المتكرر أن كل من أوجب في تطهير الرجلين المسح دون غيره أوجبه ببلة اليد، والقول
بأن المسح واجب وليست البلة شرطا قول خارج عن الاجماع، وأيضا ما سلكناه في مسح
الرأس بالبلة من أن المتوضي مأمور إذا مسح رأسه بتطهير رجليه على الفور، فإذا تشاغل
بأخذ ماء جديد فقد عدل عن الفور وأخر إمتثال الامر.
(مسألة) ومما
انفردت به الامامية القول بأن مسح الرجلين هو من
[28]
أطراف الاصابع
إلى الكعبين، والكعبان هما العظمان الناتيان في ظهر القدم من عند معقد الشراك،
ووافقهم محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة في أن الكعب هو ما ذكرناه وإن كان يوجب غسل
الرجلين إلى هذا الموضع.
والدليل على
صحة هذا المذهب مضافا إلى الاجماع الذي تقدم ذكره أن كل من أوجب من الامة في
الرجلين المسح دون غيره يوجب الغسل على الصفة التي ذكرناها، وإن الكعب هو الذى في
ظهر القدم، فالقول بخلاف ذلك خروج عن الاجماع.
وأيضا فان
دخول الباء في الرؤس يقتضي التبعيض، لان هذه الباء إذا دخلت ولم تكن لتعدية الفعل
إلى المفعول فلا بد لها من فائدة وإلا كان إدخالها عبثا، والفعل متعدي بنفسه فلا
حاجة منه إلى حرف يعديه، فلا بد من وجه يخرج إدخاله من العبث وليس ذلك إلا إبجاب
التبعيض، فإذا وجب تبعيض طهارة الرؤس، فكذلك في الارجل بحكم العطف وكل من أوجب
تبعيض طهارة الرجلين ولم يوجب إستيفاء جميع العضو ذهب إلى ما ذكرناه وقد بينا في
مسائل الخلاف الكلام على هذه المسألة واستوفيناه، وأجبنا من يسأل فيقول: كيف قال
الله تعالى: (إلى الكعبين) وعلى مذهبكم ليس في كل رجل إلا كعب واحد؟ قلنا: انه
تعالى أراد رجلي كل متطهر وفي الرجلين كعبان على مذهبنا، ولو بني الكلام على ظاهره
لقال: وأرجلكم إلى الكعاب، والعدول بلفظ أرجلكم إلى أن المراد بها رجلا كل متطهر
أولى من حملها على كل رجل وتكلمنا على تأويل أخبار تعلقوا بها في أن الكعب هو الذي
في جانب القدم بما يستغني ها هنا عن ذكره.
(مسألة) ومما
إنفردت به الامامية القول بأن المسنون في تطهير العضوين المغسولين وهما الوجه
واليدان مرتان ولا تكرر في الممسوحين الرأس
[29]
والرجلين،
والفقهاء كلهم على خلاف ذلك، إلا أن أبا حنيفة يوافقنا في أن مسح الرأس خاصة مرة
واحدة.
ودليلنا على
صحة مذهبنا بعد الاجماع المتقدم انا قد دللنا على أن فرض الرجلين المسح دون غيره
وكل من أوجب مسحهما على هذا الوجه يذهب إلى أنه لا تكرار فيهما، وكذلك في طهارة
الرأس.
ويذهب أيضا
إلى أن المسنون في العضوين المغسولين المرتان بلا زيادة والتفرقة بين هذه المسائل
خروج عن الاجماع، ولك أن تقول: قد ثبت ان المرتين في المغسولين مسنون والزيادة على
ذلك حكم شرعي فلا بد فيه من دليل شرعي ولا دليل فيه فان كل شئ تعتمدونه في ذلك
المرجع فيه إلى أخبار آحاد لا يعمل بها على ما دللنا عليه في مواضع كثيرة.
(مسألة) ومما
إنفردت به الامامية القول بوجوب تولي المتطهر وضوءه بنفسه إذا كان متمكنا من ذلك
فلا يجزيه سواه والفقهاء كلهم يخالفون في ذلك.
والدليل على
صحة هذا المذهب مضافا إلى الاجماع قوله عزوجل: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى
الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين)
فأمر بأن يكونوا غاسلين وماسحين والظاهر يقتضي تولي الفعل حتى يستحق التسمية، لان
من وضأه غيره لا يسمى غاسلا وماسحا على الحقيقة، وأيضا فان الحدث متيقن ولا يزول
إلا بيقين، وإذا تولى تطهير أعضائه زال الحدث بيقين، وليس كذلك إذا تولاه له
غيره.
(مسألة) ومما
ظن إنفراد الامامية به القول بأن النوم حدث ناقض للطهارة على إختلاف حالات النائم،
وليس هذا مما إنفردت به الامامية، لانه مذهب المزني صاحب الشافعي، وقد إستقصينا هذه
المسألة في الكلام على مسائل الخلاف ودللنا على صحتها بقوله تعالى: (يا أيها الذين
آمنوا إذا
[30]
قمتم إلى
الصلاة..) الآية، وقد نقل أهل التفسير وأجمعوا على أن المراد إذا قمتم من النوم،
والآية خرجت على سبب يقتضي ما ذكرناه فكأنه قال جل ثناؤه وإذا قمتم إلى الصلاة من
النوم، وهذا الظاهر يوجب الوضوء من كل نوم، وإجماع الامامية أيضاحجة في هذه
المسألة.
وقد عارضنا
المخالف لنا فيها بما يروونه في كتبهم وأحاديثهم من قوله صلى الله عليه وآله العين
وكاء السنة فمن نام فليتوضأ، واستوفينا ذلك بما لا طائل في ذكر جميعه ها هنا.
(مسألة) ومما
إنفردت به الامامية القول: بأن المذي والوذي لا ينقضان الوضوء على كل حال، لان
مالكا وإن ذهب إلى انهما لا ينقضان الوضوء متى خرجا على وجه يخالف العادة فانه يذهب
إلى نقض الطهر بهما إذا كانا معتادين، والانفراد من الامامية ثابت على كل حال.
ودليلهم على
ذلك بعد إجماعهم عليه أن نقض الطهر حكم شرعي لا محالة لا يجوز إثباته إلا بدليل
شرعي، ولا دليل على انهما ينقضان الوضوء، والرجوع إلى أخبار الآحاد في ذلك غير مغن
لانا قد بينا في مواضع أن أخبار الآحاد لا يعمل عليها في الشريعة، ويمكن أن يحتج
على المخالفين بما يروونه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: لا وضوء إلا
من صوت أو ريح.
(مسألة) ومما
إنفردت به الامامية القول بوجوب ترتيب غسل الجنابة وأنه يجب غسل الرأس إبتداء ثم
الميامن ثم المياسر، وإنما كانت بذلك منفردة لان الشافعي وإن وافقهم في وجوب ترتيب
الطهارة الصغرى فهو لا يوجب الترتيب في الكبرى، وأبوحنيفة ومن وافقه يسقطون الترتيب
في الطهارتين معا، ودليلنا مضافا إلى الاجماع المتردد أن الجنابة إذا وقعت بيقين لم
يزل حكمها إلا بيقين، وقد علمنا أنه إذا رتب الغسل تيقن زوال حكم الجنابة
[31]
وليس كذلك إذا
لم يرتب.
وأيضا فان
الصلاة واجبة في ذمته فلا تسقط إلا بيقين.ولا يقين إلا مع ترتيب الغسل.
وأيضا فقد ثبت
وجوب ترتيب الطهارة الصغرى ولا أحد أوجب الترتيب فيها على كل حال، ولم يشترط ذلك
بالاجتهاد وإن شئت أن تقول ولا أحد أوجب الترتيب فيها على كل احد، ولم يعذر تارك
الترتيب فيها إلا وهو موجب لترتيب غسل الجنابة فالقول بخلافه خروج عن الاجماع.
(مسألة) ومما
انفردت به الامامية القول: بأن الجنب والحائض يجوز أن يقرأ من القرآن ما شاء إلا
عزائم السجود وهي سجدة لقمان وسجدة الحواميم وسورة النجم، وأقرأ باسم ربك الذى خلق
وإنما كانت منفردة بذلك، لان داود يبيحهما قراءة قليل القرآن وكثيره من غير
إستثناء، ومالك يجوز للجنب أن يقرأ من القرآن الآية والآيتين، ويجيز للحائض
والنفساء أن تقرأ ما شاء.
وأبوحنيفة
وأصحابه يحظرون على الجنب والحائض قراءة القرآن إلا أن يكون دون آية.
فأما الشافعي
فمنعها من قراءة القليل والكثير، دليلنا على صحة ما ذكرناه الاجماع الذي تكرر
وقوله تعالى: (فاقرؤوا ما تيسر من القرآن) وقوله تعالى: (إقرأ باسم ربك الذي خلق)
وظاهر عموم ذلك يقتضي حال الجنابة وغيرها، فإن ألزمنا قراءة السجدات قلنا:
أخرجناها بدليل، ويمكن أن يكون الفرق بين عزائم السجود وغيرها أن فيها سجودا واجبا
والسجود لا يكون إلا على طهر.
(مسألة) ومما
إنفردت به الامامية القول: بأن التيمم إنما يجب في آخر وقت الصلاة وعند تضييقه،
والخوف من فوت الصلاة متى لم يتيمم وإن قدمه على هذا الوقت لم يجزه، وباقي الفقهاء
يخالفون في ذلك، لان
[32]
أبا حنيفة
يجوز تقديمه على دخول الوقت، والشافعي لا يجوز ذلك، لكنه يجوزه في أول وقت،
وأبوحنيفة يستحب تأخيره إلى آخرالوقت، والشافعي يستحب تقديمه في أوله.
دليلنا على
صحة ما ذهبنا إليه الاجماع المتكرر.
وأيضا فالتيمم
بلا خلاف إنما هو طهارة ضرورية، ولا ضرورة إليه إلا في آخر الوقت وما قبل هذه الحال
لا يتحقق فيه ضرورة، وليس للمخالف أن يتعلق بظاهر قوله جل ثناؤه (فان لم تجدوا ماء
فتيمموا)، وأنه لم يفرق بين أول الوقت وآخره، لان الآية لو كان لها ظاهر يخالف
قولنا جاز أن نخصه بما ذكرناه من الادلة فكيف ولا ظاهرها ينافي ما نذهب إليه، لانه
جل ثناؤه قال: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة..) وأراد بلا خلاف إذا
أردتم القيام إلى الصلاة ثم اتبع ذلك بحكم العادم للماء الذي يجب عليه التيمم، فيجب
على من تعلق بهذه الآية أن يدل على أن من كان في أول الوقت له أن يريد الصلاة ويعزم
على القيام إليها فانا نخالف في ذلك ونقول: ليس لمن عدم الماء أن يريد الصلاة في
أول الوقت، وليس لهم أن يفصلوا بين حكم الجملتين ويقولوا ان إرادة الصلاة شرط في
الجملة الاولى التي أمر فيها بالطهارة بالماء مع وجوده.
وليست شرطا في
الجملة الثانية التي إبتدؤها وإن كنتم مرضى وذلك لان الشرط الاول لو لم يكن شرطا في
الجملتين معا لكان يجب على المريض أو المسافر إذا أحدثا التيمم وإن لم يريدا الصلاة
وهذا لا يقوله أحد.
(مسألة) ومما
إنفردت به الامامية القول: بأن مسح الوجه بالتراب في التيمم إنما هو إلى طرف الانف
من غير إستيعاب له، فإن باقي الفقهاء يوجبون الاستيعاب.
والامامية وإن
إقتصرت في التيمم على ظاهر الكف فلم تنفرد بذلك لانه قد روي عن الاوزاعي مثله،
والذي يدل على ما ذكرناه مضافا إلى الاجماع
[33]
هو قوله
تعالى: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم) ودخول الباء إذا لم يكن لتعدية الفعل إلى المفعول
لا بد له من فائدة وإلا كان عبثا ولا فائدة بعد إرتفاع التعدية به إلا التبعيض.
وأيضا: فان
التيمم طهارة موضوعها للتخفيف، ولا يجوز إستيعاب الاعضاء فيها كاستيعابها في طهارة
الاختيار، فلهذا كانت في عضوين، وكانت الطهارة الاخرى في أربعة.
(مسألة) ومما
يشتبه إنفراد الامامية به القول بأن أقل الطهر بين الحيضتين عشرة أيام.
وقد روي من
بعض الجهات عن مالك مثل ذلك بعينه، وفي روايات أخرى أنه لا يوقت، وعند أبي حنيفة
وأصحابه والشافعي أقل الطهر خمسة عشر يوما، دليلنا الاجماع المتقدم.
وأيضا فان
المدة التي ذهبنا إليها وهي عشرة أيام مجمع عليها، وعلى من ذهب إلى الزيادة عليها
الدلالة، ولا حجة في ذلك تعتمد.
وأيضا فان
قولنا أحوط للعبادات لانا نوجب على المرأة عند مضي عشرة أيام على انقطاع الدم
الصلاة والصوم وهم يراعون مضي خمسة عشر يوما، فقولنا أولى في الاحتياط للعبادة وأشد
إستظهارا فيها.
(مسألة) ومما
إنفردت به الامامية الايجاب على من وطئ زوجته في أول الحيض أن يتصدق بدينار وفي
وسطه بنصف دينار وفي آخره بربع دينار ومن عداهم يخالف في هذا الترتيب، لان ابن حنبل
وإن وافقهم في إيجاب الكفارة بالوطى في الحيض يذهب إلى أنه يجب أن يتصدق بدينار أو
نصف دينار.
وقال الشافعي
في قوله القديم يجب أن يتصدق بدينار، وفي القول الجديد يستغفر الله ولا كفارة
تلزمه.
وبذلك قال
أبوحنيفة وأصحابه ومالك وربيعة والليث بن سعد، وحكى
[34]
المزني عن
محمد بن الحسن أنه قال يتصدق بدينار أو نصف دينار.
ودليلنا
الاجماع المعتمد عليه في كل المسائل.
ومما يعارضون
به ما يروونه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: من أتى أهله وهي
حائض فليتصدق بدينار أو نصف دينار فليس لهم أن يحملوا ذلك على الاستحباب، لان ظاهر
الامر في الشرع يقتضي الوجوب، ولانهم لا يستحبون هذا المبلغ المخصوص لاجل هذا
الوطي، وإنما يستحبون الصدقة على الاطلاق، والخبر يقتضي خلاف ذلك.
فان قيل الخبر
الذى عارضتم به يقتضي التخيير بين دينار ونصف دينار.
قلنا: يحتمل
أن يريد بدينار إن وطئ في أول الحيض، وبنصفه إن وطئ في وسطه، ويمكن أن يكون الوجه
في ترتيب هذه الكفارة ان الواطي في أول الحيض لا مشقة عليه من ترك الجماع لقرب عهده
به فغلظت كفارته والواطي في آخره مشقته شديدة لتطاول عهده فكفارته أنقص وكفارة
الواطي في نصف الحيض متوسطة بين الامرين.
(مسألة) ومما
يظن إنفراد الامامية به القول بجواز أن يطأ الرجل زوجته إذا طهرت عن دم الحيض وإن
لم تغتسل متى مست به الحاجة إليه ولم يفرقوا بين جواز ذلك في مضي أكثر الحيض أو
أقله.
ووافق الشيعة
في ذلك داود وقال بمثل قولها وأبوحنيفة وأصحابه يجوزون له أن يطأها قبل أن تغتسل
إذا انقطع دمها إن كان ذلك بعد مضي زمان أكثر الحيض، وإن كان في ما دون أكثر الحيض
لم يجز له وطؤها إلا بأن تغتسل أو يمضي عليها وقت صلاة كاملة.
وقال الشافعي:
ليس له أن يطأها حتى تغتسل على كل حال(1) دليلنا الاجماع المتقدم، وقوله تعالى:
(والذين هم لفروجهم حافظون إلا على
________________________
(1) دليلنا
على صحة ما ذهبنا إليه خ ل.
[35]
أزواجهم أو ما
ملكت أيمانهم)، وقوله عزوجل (فأتوا حرثكم أنى شئتم) وعموم هذه الظواهر يتناول موضع
الخلاف.
وأيضا قوله
عزوجل: (ولا تقربوهن حتى يطهرن) ولا شبهة في أن المراد بذلك إنقطاع الدم دون
الاغتسال(1) وجعل إنقطاع الدم غاية يقتضي أن ما بعده بخلافه.
وقد استقصينا
الكلام في هذه المسألة في مسائل الخلاف.
وبلغنا غايته
وذكرنا معارضتهم بالقرائة الاخرى في قوله جل ثناؤه: (حتى يطهرن) فانها قرأت
بالتشديد (ومع التشديد) فلا بد من أن يكون المراد بها الطهارة بالماء وأجبنا
عنها.
(مسألة) ومما
إنفردت به الامامية القول: بأن أكثر النفاس مع الاستظهار التام ثمانية عشر يوما،
لان باقي الفقهاء يقولون بخلاف ذلك، فذهب أبوحنيفة وأصحابه والثوري والليث بن سعد
إلى أن أكثره أربعون يوما وذهب مالك والشافعي إلى أن أكثره ستون يوما، وحكى الليث
أن في الناس من يذهب إلى أنه سبعون يوما، وحكي عن الحسن البصري أن أكثر النفاس
خمسون يوما.
والذي يدل على
صحة ما ذهبنا إليه الاجماع المتردد ذكره.
وأيضا فإن
النساء يدخلن في عموم الامر بالصلاة والصوم، وإنما تخرج النفساء بالايام التي
راعتها الامامية بإجماع الامة على خروجها، وما زاد على هذه الايام لا دليل قاطع يدل
على إخراجها من العموم، والظاهر يتناولها.
وأيضا فان
الايام التي ذكرناها مجمع على أنها نفاس، وما زاد عليها لا يجوز إثباته نفاسا
بأخبار الآحاد والقياس، لان المقادير الشرعية كلها لا يجوز إثباتها إلا من طريق
مقطوع به، وقد تكلمنا في هذه المسألة في جملة ما خرج لنا من مسائل الخلاف.
________________________
(1) وجعله جل
ثناؤه بانقطاع الدم خ ل.
[36]
(مسألة): ومما
إنفردت به الامامية القول: بوجوب ترتيب غسل الميت، وأن يبدأ برأسه ثم بميامنه ثم
بمياسره، والدليل على صحة ذلك إجماع الفرقة المحقة على ما تقدم.
وأيضا فقد ثبت
وجوب ترتيب غسل الجنابة فكل من أوجب ذلك أوجب ترتيب غسل الميت، فالفارق بين
المسألتين يخالف(1) إجماع الامة.
(مسألة) ومما
إنفردت به الامامية استحبابهم أن يدرج مع الميت في أكفانه جريدتان خضراوان رطبتان
من جرايد النخل طول كل واحدة عظم الذراع، وخالف باقي الفقهاء في ذلك ولم يعرفوه،
دليلنا على ذلك الاجماع المتقدم ذكره.
وقد روي من
طرق معروفة أن سفيان الثوري سأل يحيى بن عبادة المكي عن التخضير فقال: ان رجلا من
الانصار هلك فأوذن رسول الله صلى الله عليه وآله فقال خضروا صاحبكم فما أقل
المتخضرين يوم القيامة، قالوا: وما التخضير؟ قال: جريدة خضراء توضع من أصل اليدين
إلى أصل الترقوة، وقد قيل أن الاصل في الجريدة أن الله تعالى لما أهبط آدم عليه
السلام من الجنة إلى الارض إستوحش وشكا ذلك إلى جبرئيل " عليه السلام " وسأله أن
يسأل الله جل ثناؤه أن يؤنسه بشئ من الجنة، فأنزل الله جل وعلا عليه النخلة فعرفها
وأنس بها ولذلك قيل: أن النخلة عمتكم، لانها كانت كالاخت لآدم " ع "، فلما حضرته
الوفاة قال لولده: اجعلوا معي من هذه النخلة شيئا في قبري فجعلت معه الجريدتان،
وجرت السنة بذلك، وليس ينبغي أن يعجب من ذلك فالشرايع المجهولة العلل لايعجب منها
وما العجب من ذلك إلا كتعجب الملحدين من الطواف بالبيت ورمي الجمار وتقبيل الحجر،
ومن غسل الميت نفسه، وتكفينه مع سقوط التكليف عنه.
________________________
(1) إجماع
الامامية خ ل.
[37]