[مسائل الشفعة]

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية إثباتهم حق الشفعة في كل شئ من المبيعات من عقار وضيعة ومتاع وعروض وحيوان كان(1) ذلك مما يحتمل القسمة أو لا يحتملها، وخالف باقي الفقهاء في ذلك وأجمعوا على أنها لا تجب إلا في العقارات والارضين دون العروض والامتعة والحيوان، وقد روي عن مالك خاصة أنه قال: إذا كان طعام أو بر بين شريكين فباع أحدهما حقه أن لشريكه الشفعة، ثم اختلف أبوحنيفة والشافعي فقال أبوحنيفة تجب الشفعة فيما يحتمل القسمة، ولا ضرر في قسمته وفيما لا يحتملها، وأسقط الشافعي الشفعة عما لا يحتمل القسمة ويلحق الضرر بقسمته، دليلنا على صحة مذهبنا إجماع الامامية على ذلك فانهم لا يختلفون فيه، ويمكن أن يعارض المخالفون في هذه المسألة بكل خبر.

وورد عن الرسول (صلى الله عليه وآله) في إيجاب الشفعة مطلقا كروايتهم عنه عليه السلام أنه قال: الشفعة فيما لم يقسم.

وأيضا ما رووه عنه (صلى الله عليه وآله) من قول الشفعة في كل شئ والاخبار في ذلك كثيرة جدا، ومما يمكن أن يعارضوا به أن الشفعة عندكم


___________________

(1) كل ذلك مما يحتمل القسمة خ ل.

[216]

إنما وجبت لازالة الضرر عن الشفيع، وهذا المعنى موجود في جميع المبيعات من الامتعة والحيوان، فإذا قالوا: حق الشفعة إنما يجب خوفا من الضرر على طريق الدوام، وهذا المعنى لا يثبت إلا في الارضين والعقارات دون العروض، قلنا: في الامتعة ما يبقى على وجه الدهر مثل بقاء العقارات والارضين كالياقوت وما أشبههه من الحجارة والحديد فيدوم الاستضرار بالشركة فيه وأنتم لا توجبون فيه الشفعة.

وبعد فان إزالة الضرر الدائم أو المنقطع واجبة في العقل والشرع، وليس وجوب إزالتها مختصا بالمستمر دون المنقطع، فلوكان التأذي بالشركة في الفروض منقطعا على ما إدعيتم لكانت إزالته واجبة على كل حال، فأما علة الشافعي في وجوب الشفعة بما على الشريك من الضرر بأجرة القاسم متى طلب القسمة فينقض بالعروض، لان هذا المعنى ثابت فيها، وربما ضم إلى هذه العلة أن القسمة تؤدي إلى الضرر من حيث يحتاج الشريك إلى أن يحدث ميزابا في حصته ثانيا بعد أن كان واحدا.

وكذلك البالوعة وما أشبهها وهذا ليس بشئ، لان الشفعة قد تجب فيما لا يحتاج فيه إلى شئ من ذلك، كالعراص الخالية من أبنية والحصص التي متى قسمت كان في كل واحد منهما كل ما يحتاج إليه من ميزاب وبالوعة وغير ذلك فبطلت هذه العلة أيضا.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية القول: بأن الشفعة إنما تجب إذا كانت الشركة بين إثنين، وإذا زاد العدد على الاثنين فلا شفعة، وخالف باقي الفقهاء في ذلك وأوجبوا الشفعة بين الشركاء قل أو كثر عددهم، دليلنا على ما ذهبنا إليه إجماع الطائفة.

وأيضا فان حق الشفعة حكم شرعي والاصل إنتفاؤه، وإنما أوجبناه بين الشريكين لاجماع الامة فانتقلنا بهذا الاجماع عن حكم الاصل ولم ينقلنا فيما زاد على الاثنين بأقل فيجب أن يكون في ذلك على حكم الاصل، فان قيل

[217]

أليس قد وردت رواياتكم التي تختصون بها عن أئمتكم عليهم السلام أن الشفعة تجب على عدد الرجال، وهذا يدل على أن الشفعة تثبت فيما زاد على الاثنين وروي عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنه قال قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالشفعة بين الشركاء في الارضين والمساكن، ولفظ الشركاء يقع على أكثر من إثنين، قلنا: هذه كلها أخبار آحاد وما لا يوجب علما من الاخبار ليس بحجة ولا تثبت به الاحكام الشرعية على ما بيناه في غير موضع، ويمكن تأويل ظواهر هذه الاخبار بأن يحمل قوله الشفعة على عدد الرجال أنها إنما تجب بالشركة وسواء زادت سهام أحد الشريكين على سهام الآخر أو نقصت فالمعتبر إنما هو بالشركاء لا بمبالغ سهامهم.

ويحمل لفظ الرجال على الشركاء في الاملاك الكثيرة لا في ملك واحد، ويجوز حمل هذه اللفظة على الشريكين في ملك واحد على أحد وجهين: أما على قول من يجعل أقل الجمع الاثنين أو على سبيل المجاز كما قال تعالى (فان كان له إخوة).

وتأويل الخبر الثاني داخل فيما ذكرناه، فأما الخبر الذي وجد في روايات أصحابنا أنه إذا سمح بعض الشركاء حقوقهم من الشفعة فأن لمن لم يسمح بحقه على قدر حقه فيمكن أن يكون تأويله أن الوارث لحق الشفعة إذا كانوا جماعة فأن الشفعة عندنا تورث متى سمح بعضهم بحقه كانت المطالبة لمن لم يسمح، وهذا لا يدل على أن الشفعة في الاصل تجب لاكثر من شريكين فان قيل: قد إدعيتم إجماع الامامية وابن الجنيد يخالف في هذه المسألة ويوجب الشفعة مع زيادة الشركاء على إثنين.

وأبوجعفر بن بابويه يوجب الشفعة في العقار فيما زاد على إثنين، وإنما يعتبر الاثنين في الحيوان خاصة على ما حكيتموه عنه في جواب مسائل أهل الموصل التسع الفقهية

[218]

قلنا: إجماع الامامية قد تقدم الرجلين فلا إعتبار بخلافهما، وقد بينا في مواضع من كتبنا أن خلاف الامامية أن تعين في واحد أو جماعة معروفة مشار إليها لم يقع به إعتبار.

(مسألة) ومما يظن إعتبار الامامية به القول: بأنه لا شفعة لكافر على مسلم، وأكثر الفقهاء يوجبون الشفعة للكافر، ولا يفرقون بينه وبين المسلم.

وقد حكي عن ابن حي أنه قال: لا شفعة للذمي في أمصار المسلمين التي إبتدأها المسلمون، لانهم لا يجوز له سكناها ولا تملكها ولهم الشفعة في القرى.

وإنفراد قول الامامية عن قول ابن حي باق، إلا أنه قد حكى عن الشعبي وأحمد بن حنبل أنهما أسقطا شفعة الذمي على المسلم، وهذه منهما موافقة للامامية.

والذي يدل على صحة مذهبنا بعد الاجماع المتكرر ذكره قوله تعالى: (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة)، ومعلوم أنه تعالى إنما أراد لا يستوون في الاحكام، والظاهر يقتضي العموم إلا ما أخرجه دليل قاهر.

فان قيل: أراد في النعيم والعذاب بدلالة قوله: (أصحاب الجنة هم الفائزون) قلنا: قد بينا في الكلام على أصول الفقه أن تخصيص إحدى الجملتين لايقتضي تخصيص الاخرى وإن كانت لها متعقبة.

ومما يمكن الاستدلال به أن الاصل إنتفاء الشفعة عن المبيعات، لان حكم الشفعة حكم شرعي، ولما يثبت حق الشفعة للمسلم على الكافر والكفار بعضهم على بعض أثبتناه بدليله وبقي الباقي على حكم الاصل.

ومما يمكن أن نعارض به مخالفينا في هذه المسألة ما رووه ووجد في كتبهم عن النبي (صلى الله عليه وآله) من قوله: لا شفعة لكافر، وفي خبر آخر لا شفعة لذمي على مسلم.

[219]

(مسألة) ومما ظن إنفراد الامامية به أن حق الشفعة لا يسقط إلا بأن يصرح الشفيع بأسقاط حقه، ولايكون مسقطا بكفه في حال علمه عن الطلب، وهذا القول أحد أقوال الشافعي، لان له أقوالا أربعة: أحدها إن طلب الشفعة يجب على الفور، وثانيها أنه قد يثبت إلى ثلاثة أيام، وثالثها أنه يجب على التأبيد إلى أن يصرح بالعفو، وهذا وفاق للشيعة، ورابعها أنه ثابت إلى أن يعفو أو يعرض بالعفو.

وحكى أيضا عن شريك أنه قال: إذا علم فلم يطلب فهو أيضا على شفعته، وهذا أيضا موافقة للشيعة الامامية وباقي الفقهاء على خلاف ذلك، لان أبا حنيفة وأصحابه وابن حي يذهبون إلى أنه متى لم يطلبها مكانه بطلت شفعته، وقال الحسن بن زياد: إذا شهد أنه على شفعته ولم يقم بها ما بينه وبين أن تصل إلى القاضي فقد أبطل شفعته.

قال الحسن: وأما أبوحنيفة فقال ثلاثة أيام.

وروى محمد عن أبي حنيفة أنه على شفعته أبدا بعد الشهادة.

وقال محمد إذا تركها بعد الطلب شهرا بطلت وقال أبويوسف إذا أمكنه أن يطلب عند القاضي أو يأخذه فلم يفعل بطلت وقال ابن أبي ليلى إذا علم بالبيع فهو بالخيار ثلاثا.

وقال الشعبي يوما.

وقال البستي ثلاثا.

وقال مالك إذا علم بالشراء فلم يطلب حتى طال بطلت، والسنة ليست بكثيرة.

وله أن يأخذ وهذا في الحاضر، فأما الغايب فلا تبطل شفعته إذا لم يطلبها.

قال الثوري إذا لم يطلبها أياما بطلت شفعته، وذكر المعافى، عنه ثلاثة أيام.

وقال الاوزاعى والليث وعبدالله بن الحسن والشافعي إذا لم يطلب حتى علم بطلت.

وقد تقدم بياننا أقوال الشافعي المختلفة في هذه المسألة، وإن كان هذا القول الذي ذكرناه آنفا أظهرها.

وقال الشعبي: من بيعت شفعته وهو شاهد ولم ينكره فلا شفعة له.

[220]

والذي يدل على صحة مذهبنا الاجماع المتكرر، ويمكن أن يقوى ذلك بأن الحقوق في أصول الشريعة، وفي العقول أيضا لا تبطل بالامساك عن طلبها، وكيف خرج حق الشفعة عن أصول الاحكام العقلية والشرعية، ألا ترى أن من لم يطلب وديعته أو لم يطالب بدينه فان حقه ثابت لا يبطل بالتغافل عن الطلب، فإذا قالوا هذه حقوق غير متجددة وحق الشفعة متجددة قلنا: نفرضه متجددا، لان من حل له أجل دين فقد تجدد له حق ما كان مستمرا، ومع ذلك لو أخر المطالبة لم يبطل الحق.

وكذلك من مات وله قريب وإستحق في الحال ميراثه وعلم بذلك ثم لم يطالب بالميراث من هو في يده لم يبطل الحق، ونظائر ذلك أكثر من أن تحصى فان قيل: هذا الذي تذهبون إليه يؤدي إلى الاجحاف بالمشتري، لان المدة إذا تطاولت لم يتمكن المشتري من التصرف في المبيع وهدمه وبنيانه وتغييره لان الشفيع إذا طالبه بالشفعة أمره بإزالة ذلك، وهذا ضرر داخل على المشتري قلنا: يمكن أن يحترز المشتري من هذا الضرر بأن يعرض المبيع على الشفيع ويبذل تسليمه إليه فهو بين أمرين إما أن يتسلم أو يترك بشفعته فيزول الضرر عن المشتري بذلك، وإذا فرط فيما ذكرناه وتصرف من غير أن يفعل ما أشرنا إليه فهو المدخل للضرر على نفسه.

فان قيل: كيف تدعون أنه ليس في الاصول الشرعية حق يجب على الفور ويسقطه بالتأخير، وحق الرد بالعيب يجب على الفور ومتى تأخر بطل.

قلنا: المعنى في حق الرد بالعيب أنه ربما كان في تأخيره إبطال له من حيث تخفى إمارات العيب ولا تظهر فتقع الشبهة في وجود العيب فلزمت المبادرة إلى الرد لهذا المعنى وذلك غير موجود في حق الشفعة لانه يجب بعقد البيع وذلك مما لا يجوز أن يتغير ولا يخفى في وقت ويظهر في آخر.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية القول: بأن لامام المسلمين وخلفائه

[221]

المطالبة بشفعة الوقوف التي ينظرون فيها على المساكين أوعلى المساجد ومصالح المسلمين، وكذلك كل ناظر بحق في وقف من وصي وولي أن يطالب بشفعته وخالف باقي الفقهاء في ذلك، والدلالة على صحة مذهبنا الاجماع المتردد.

ويمكن أن يقال للمخالف على سبيل المعارضة له الشفعة إذا كانت إنما وجبت لدفع الضرر فأولى الاشياء بأن يدفع عنها الضرر حقوق الفقراء ووجوه القربات، فان قالوا: الوقوف لا مالك لها فيدفع الضرر عنه بالمطالبة بشفعته، قلنا: إذا سلم أنه لا مالك لها فها هنا منتفع بها ومستضر لما يعود إلى المشاركة فيها وهم أهل الوقوف ومصالح المسلمين إنما يجب دفع الضرر عنها مثل ما يجب من دفع الضرر عن الآدميين.