[مسائل في المحارب]

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية القول بأن من حارب الامام العادل وبغى عليه وخرج عن إلتزام طاعته يجري

[232]

مجرى محارب النبي صلى الله عليه وآله وخالع طاعته في الحكم عليه بالكفر وإن إختلف أحكامهما من وجه آخر في المدافنة والموارثة وكيفية الغنيمة من أموالهم.

وخالف باقي الفقهاء في ذلك وذهب المحصلون منهم والمحققون إلى أن محاربي الامام العادل فساق تجب البراء‌ة منهم وقطع الولاية لهم من غير إنتهاء إلى التكفير، وذهب قوم من حشو أصحاب الحديث إلى أن الباغي مجتهد وخطؤه يجري مجرى الخطأ في سائر مسائل الاجتهاد.

والذى يدل على صحة ما ذهبنا إليه إجماع الطائفة، وأيضا فان الامام عندنا يجب معرفته وتلزم طاعته كوجوب المعرفة بالنبي صلى الله عليه وآله ولزوم طاعته كالمعرفة بالله تعالى، وكما أن جحد تلك المعارف والتشكيك فيها كفر، وكذلك هذه المعرفة.

وأيضا فقد دل الدليل على وجوب عصمة الامام من كل القبائح وكل من ذهب إلى وجوب عصمته ذهب إلى الكفر الباغي عليه والخالع لطاعته والتفرقة بين الامرين خلاف إجماع الامة، فأن قيل: لو كان من ذكرتم بالغا إلى حد الكفر لوجب أن يكون مرتدا أو أن تكون أحكامه أحكام المرتدين، وإجتمعت الامة على أن أحكام الباغي تخالف أحكام المرتد، وكيف يكون مرتدا وهو يشهد الشهادتين، ويقوم بالعبادات؟ قلنا: ليس يمتنع أن يكون الباغي له حكم المرتد في الانسلاخ عن الايمان وإستحقاق العقاب العظيم، وإن كانت أحكامه الشرعية في مدافنه وموارثه وغير ذلك تخالف أحكام المرتد، كما كان الكافر الذمي مشاركا للحربي في الكفر والخروج عن الايمان وإن إختلفت أحكامهما الشرعية.

فأما إظهار الشهادتين فليس بدال على كمال الايمان، ألا ترى أن من أظهرهما وجحد وجوب الفرائض والعبادات لا يكون مؤمنا بل كافرا.

[233]

وكذلك إقامة بعض العبادات من صلاة وغيرها، ومن جحد أكبر العبادات وأوجبها من طاعة إمام زمانه، ونصرته لم ينفعه أن يقوم بعبادة أخرى من صلاة وغيرها.

وأما ما يذهب إليه قوم من غفلة الحشوية من عذر الباغي وإلحاقه بأهل الاجتهاد.

فمن الاقوال البعيدة من الصواب ومن المعلوم ضرورة أن الامة أطبقت في الصدر الاول على ذم البغاة على أمير المؤمنين عليه السلام ومحاربته والبرائة منهم، ولم يقم لهم أحد في ذلك عذرا، وهذا المعنى قد شرحناه في كتبنا وفرعناه وبلغنا فيه النهاية، وهذه الجملة ها هنا كافية، فان إعترض المخالف على ما ذكرناه بالخبر الذي يرويه معمر بن سليمان عن عبدالرحمن ابن الحكم الغفاري عن عدية بنت أهبان بن صيفي قالت: جاء علي عليه السلام إلى أبي فقال: ألا تخرج معنا؟ قال ابن عمك وخليلك أمرني إذا إختلف الناس أن اتخذ سيفا من خشب أو بالخبر الذي يروى عن أبي ذر رحمة الله عليه أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله كيف بك إذا رأيت أحجار الزيت وقد غرقت بالدم، قال: قلت ما إختار الله لي ورسوله؟ قال: تلحق، أو قال عليك بمن أنت منه، قال قلت: أفلا آخذ بسيفي وأضعه على عاتقي، قال: شاركت القوم إذا، قال: فما تأمرني يا رسول الله؟ قال: إلزم بيتك، قلت: فان دخل علي ببيتي؟ قال: فان خفت أن يبهرك شعاع السيف فألق رداء‌ك على وجهك يبوء بأثمه وإثمك.

قلنا: هذان الخبران وأمثالهما لا يرجع بهما عن المعلوم والمقطوع بالادلة عليه بلا دليل وهي معارضة بما هو أظهر منها وأقوى وأولى من وجوب قتاله الفئة الباغية ونصرة الحق ومعونة الامام العادل، ولو لم يرو في ذلك إلا مارواه الخاص والعام والولي والعدو من قوله عليه السلام حربك يا علي حربي وسلمك يا علي سلمي، وقد علمنا أنه عليه السلام لم يرد أن نفس هذه الحرب تلك، بل أراد تساوي تلك لاحكام، فيجب أن تكون أحكام

[234]

محاربيه هي أحكام محاربي النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا ما خصصه الدليل، وما روي أيضا من قوله: اللهم انصر من نصره واخذل من خذله، ولانه عليه السلام لما إستنصر في قتال أهل الجمل وصفين والنهروان أجابته الامة بأسرها ووجوه الصحابة وأعيان التابعين وسارعوا إلى نصرته ومعونته، ولم يحتج أحد عليه بشئ مما تضمنه هذان الخبران الخبيثان الضعيفان على أن الخبر الاول قد روي على خلاف هذا الوجه، لان أهبان قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أهبان أما أنك إن بقيت بعدي سترى في أصحابي إختلافا، فان بقيت إلى ذلك اليوم فاجعل سيفك يا أهبان من عراجين، وقد يجوز أن يريد عليه السلام بالاختلاف الذي يرجع إلى القول والمذاهب دون المقاتلة والمحاربة على أن هذا الخبر ما يمنع من قتال أهل الردة عند بغيهم ومجاهرتهم فهو أيضا غير مانع من قتال كل باغ وخارج عن طاعة الامام.

فأما الخبر الثاني فمما يضعفه أن أبا ذر رحمة الله عليه لم يبلغ إلى وقعة أحجار الزيت، لان ذلك إنما كان مع محمد بن عبدالله بن الحسن في أول أيام المنصور، وأبوذر مات في أيام عثمان فكيف يقول له رسول الله صلى ا لله عليه وآله وسلم كيف بك، في وقت لا يبقى إليه، على أن أبا ذر رضي الله عنه كان معروفا بانكار المنكر بلسانه وبلوغه فيه أبعد الغايات والمجاهرة في إنكاره وكيف يسمع من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما يقتضي خلاف ذلك.

(مسألة) ومما كانت الامامية منفردة به القول: بأن من سب النبي صلى ا لله عليه وآله وسلم أو عابه مسلما كان أو ذميا قتل في الحال، وخالف باقي الفقهاء في ذلك، فقال أبوحنيفة وأصحابه: من سب النبي صلى الله عليه وآله أو عابه، وكان مسلما فقد صار مرتدا، وإن كان ذميا عزر ولم يقتل.

وقال ابن اقسم عن مالك من شتم النبي صلى الله عليه وآله من المسلمين قتل ولم يستتب، ومن شتم النبي صلى الله عليه وآله من اليهود والنصارى قتل إلا أن يسلم، وهذا القول من مالك مضاه لقول الامامية.

[235]

وقال الثوري: الذمي يعزر، وذكر عن ابن عمر أنه يقتل، وروى الوليد بن مسلم عن الاوزاعي ومالك فيمن سب النبي صلى الله عليه وآله قالا: هي ردة يستتاب، فان تاب نكل به وإن لم يتب قتل وإلا يضرب مائة ثم يترك حتى إذا هو برئ ضرب مائة ولم يذكرا فرقا بين الذمي والمسلم.

وقال الليث في المسلم يسب النبي صلى الله عليه وآله أنه لا يناظر ولا يستتاب ويقتل مكانه، وكذلك اليهودي والنصراني وهذه موافقة للامامية.

وقال الشافعي ويشرط على المصالحين من الكفار أن من ذكر كتاب الله عزوجل أو محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله بما لا ينبغي أو زنى بمسلمة أو أصابها باسم نكاح أو فتن مسلما عن دينه، أو قطع عليه طريقا أو أعان أهل الحرب بدلالة على المسلمين أو آوى عينا لهم فقد نقض عهده وأحل دمه وبرئت ذمته قال الطحاوى: فهذا من الشافعي يدل على أنه إذا لم يشرط يستحل دمه بذلك.

دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه بعد الاجماع المتردد وإن سب النبي صلى الله عليه وآله وعيبه والوقيعة فيه ردة من المسلم بلا شك والمرتد يقتل.

وأما الذمي وإن لم يكن بذلك مرتدا، لان حقيقة الردة هي الكفر بعد الايمان، والذمي ما كان مؤمنا فصار كافرا، بل كفره متقدم، لكن هذا وإن لم يكن منه ردة فهو خرق للذمة وإستخفاف بالشريعة ووضع منها ومن أهلها وببعض هذا يبرأ من الذمة التي حقن بها فحينئذ يكون دمه مباحا من الوجه الذي ذكرناه فأما ما يستدل به أصحاب أبي حنيفة في الفرق بين المسلم والذمي في هذه المسألة من روايتهم عن الزهري عن عروة عن عائشة قال: دخل رهط من اليهود على النبي صلى الله عليه وآله فقالوا: السام عليك، قالت ففهمتها، فقلت عليكم السام واللعنة، فقال النبي صلى الله عليه وآله: مهلا يا عائشة فان الله تعالى يحب الرفق في الامر كله، فقالت يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا؟ قال النبي صلى الله عليه وآله قد

[236]

قلت وعليكم، قال المخالف لنا: ولو كان هذا الدعاء من ا لمسلم لصار مرتدا فيقتل فلم يقتله النبي صلى الله عليه وآله بذلك.

ومما يستدلون به أيضا ما رواه شعبة عن هشام بن زيد عن أنس بن مالك أن إمرأة يهودية أتت النبي صلى الله عليه وآله بشاة مسمومة فأكل منها فجيئ بها فقيل ألا تقتلها؟ قال فقال: لا، قال المحتج: ولا خلاف بين المسلمين أن من فعل مثل ذلك بالنبي وهو ممن ينتحل الاسلام أنه مرتد يقتل.

فالجواب عنه: أن هذه أخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا ولا يعترض بها على مدلول الادلة وهي معارضة بأخبار كثيرة تقتضي قتل من هذه صفته مثل ما رووه عن أبي يوسف عن حصين بن عبدالرحمن عن رجل.

عن ابن عمر أن رجلا قال: إني سمعت راهبا سب النبي صلى الله عليه وآله فقال: لو سمعته لقتلته، إنا لم نعطهم العهد على هذا ولم ينكر أحد على ابن عمر هذا القول فدل على وقوع الرضا به.

فأما إبدال السلام بالسام فليس بصريح في سب ولا شتم، ولو وقع من مسلم أو ذمي ما إقتضى القتل.

وأما الشاة المسمومة فيجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله إعتقد أن اليهودية ما علمت بأنها مسمومة فقد يجوز أن لا تكون بذلك عالمة، وقد يجوز أيضا لو كانت عالمة وقاصدة أن يكون عليه السلام رأى درأ القتل عنها مع إستحقاقها لضرب من المصلحة فله عليه السلام مثل ذلك وإنما كلامنا في الاستحقاق للقتل، والمسلم واليهودي في هذا الباب سواء.

مسائل القضاء والشهادات وما يتصل بذلك (مسألة) ومما ظن إنفراد الامامية به وأهل الظاهر يوافقونها فيه القول

[237]

بأن للامام والحكام من قبله أن يحكموا بعلمهم في جميع الحقوق والحدود من غير إستثناء، وسواء علم الحاكم ما علمه وهو حاكم أو علمه قبل ذلك، وقد حكي أنه مذهب لابي ثور.

وخالف باقي الفقهاء في ذلك، فذهب أبوحنيفة وأصحابه إلى أن لمشاهدة الحاكم من الافعال الموجبة للحدود قبل القضاء وبعده، فأنه لا يحكم فيها بعلمه إلا من القذف خاصة وما علمه قبل القضاء من حقوق الناس لم يحكم فيها بعلمه، فان علمه بعد القضاء حكم.

وقال أبويوسف ومحمد يحكم فيما علمه قبل القضاء من ذلك بعلمه وهو قول سوار، وقال الحسن بن حي يقضي بعلمه قبل القضاء بعد أن يستحلفه في حقوق الناس وفي الحدود لا يقضى بعد القضاء إذا علمه حتى يشهد معه في الزنا ثلاثة وفي غيره برجل آخر.

وقال الاوزاعي في الامام يشهد هو ورجل آخر على قذف رجل آخر أنه يحده هو.

وقال شريح: إرتفعوا إلى إمام فوقي وأنا أشهد لك به.

وقال مالك: لا يقضي بعلمه في سائر الحقوق حتى يكون شاهدان سواه، وفي الزنا أربعة غيره.

وقال الليث: لا يحكم في حقوق الناس بعلمه حتى يكون شاهدا آخر فيقضي بشهادته وشهادة الشاهد معه.

وقال الشافعي: يقضي بعلمه في حقوق الناس وفي الحدود قولان لانه يقبل رجوع المقر، وقال ابن أبي ليلى فيمن أقر عند القاضي في مجلس الحكم بدين، فأن القاضي لا ينفذذلك حتى يشهد معه آخر والقاضي شاهد.

ثم قال بعد ذلك إذا ثبت قوله في الاصول عنده أنفد.

عليه القضاء، فان قيل: كيف تستجيزون إدعاء الاجماع من الامامية في هذه المسألة، وأبوعلي بن الجنيد يصرح بالخلاف فيها، ويذهب إلى أنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه في شئ من الحقوق ولا الحدود.

[238]

قلنا: لا خلاف بين الامامية في هذه المسألة، وقد تقدم إجماعهم ابن الجنيد وتأخر عنه، وإنما عول ابن الجنيد فيها على ضرب من الرأي والاجتهاد وخطأه ظاهر.

وكيف يخفى إطباق الامامية على وجوب الحكم بالعلم وهم ينكرون توقف أبي بكر عن الحكم لفاطمة عليها السلام بنت رسول الله صلى الله عليه وآله بفدك لما إدعت أنه نحلها أبوها ويقولون: إذا كان عالما بعصمتها وطهارتها، وأنها لا تدعي إلا حقا فلا وجه لمطالبتها بإقامة البينة لان البينة لا وجه لها مع القطع بالصدق، وكيف خفى على ابن الجنيد هذا الذي لا يخفى على أحد، أو ليس قد روت الشيعة الامامية كلها ما هو موجود في كتبها ومشهور في رواياتها أن النبي صلى الله عليه وآله إدعى عليه أعرابي سبعين درهما عن ناقة باعها منه، فقال صلى الله عليه وآله: قد أوفيتك، فقال الاعرابي: إجعل بيني وبينك رجلا حكما يحكم بيننا، فأقبل رجل من قريش فقال له النبي صلى الله عليه وآله: احكم بيننا، فقال للاعرابي: ما تدعي على رسول الله؟ قال: سبعين درهما ثمن ناقة بعتها منه، فقال: ما تقول يا رسول الله؟ قال: قد أوفيته، فقال للاعرابي: ما تقول؟ فقال لم يوفني فقال لرسول الله: ألك بينة على أنك قد أوفيته؟ فقال صلى الله عليه وآله لا، فقال للاعرابي: أتحلف أنك لم تستوف حقك وتأخذه؟ فقال: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لاحاكمن هذا الرجل إلى رجل يحكم فينا بحكم الله عزوجل فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله إلى علي بن أبي طالب ومعه الاعرابي، فقال علي عليه السلام مالك يا رسول الله؟ فقال يا أبا الحسن: أحكم بيني وبين هذا الاعرابي، فقال عليه السلام: ما تدعي على رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال: سبعين درهما ثمن ناقة بعتها منه، فقال عليه السلام: يا رسول الله ما تقول؟ فقال صلى الله عليه وآله: قد أوفيته ثمنها، فقال عليه السلام للاعرابي: أصدق رسول الله صلى الله عليه وآله فيما قال؟ قال: لا ما أوفاني، فأخرج علي عليه السلام سيفه فضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لم

[239]

فعلت ذلك يا علي؟ فقال: يا رسول الله نحن نصدقك على أمر الله ونهيه وأمر الجنة والنار والثواب والعقاب ووحي الله عزوجل فلا نصدقك في ثمن ناقة هذا الاعرابي وإني قتلته لانه كذبك لما قلت له أصدق رسول الله فيما قال؟ فقال لا ما أوفاني شيئا، فقال رسول الله أصبت يا علي فلا تعد إلى مثلها ثم إلتفت إلى القرشي وكان قد تبعه فقال هذا حكم الله لا ما حكمت به.

وروت الشيعة أيضا عن ابن جريح عن الضحاك عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله من منزل عائشة فاستقبله أعرابي ومعه ناقة فقال: يا محمد إشتر مني هذه الناقة، فقال النبي صلى الله عليه وآله نعم بكم تبيعها يا أعرابي؟ قال بمائة درهم، فقال النبي صلى الله عليه وآله: ناقتك خير من هذا، قال: فما زال النبي صلى الله عليه وآله يزيد حتى إشترى الناقة بأربعمائة درهم، فقال: فلما دفع النبي صلى الله عليه وآله إلى الاعرابي الدراهم ضرب الاعرابي يده إلى زمام الناقة، فقال الناقة ناقتي والدراهم دراهمي فان كان لمحمد شئ فليقم البينة قال: فأقبل رجل فقال النبي صلى الله عليه وآله: أترضى يا أعرابي بالشيخ المقبل؟ قال نعم يا محمد، فلما دنا قال النبي صلى الله عليه وآله: إقض في ما بيني وبين هذا الاعرابي قال: تكلم يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وآله: الناقة ناقتي والدراهم دراهم الاعرابي، فقال الاعرابي: بل الدراهم دراهمي والناقة ناقتي فان كان لمحمد شئ فليقم البينة، فقال الرجل القضية فيها واضحة يا رسول الله وذلك أن الاعرابي طلب البينة، فقال له النبي صلى الله عليه وآله: اجلس فجلس ثم أقبل رجل آخر فقال النبي صلى الله عليه وآله: أترضى يا أعرابي بالشيخ المقبل؟ قال نعم فلما دنا قال له النبي صلى الله عليه وآله: إقض فيما بيني وبين الاعرابي، قال نعم تكلم يا رسول الله صلى الله عليك، قال النبي صلى الله عليه وآله: الناقة ناقتي والدراهم دراهم الاعرابي، فقال الاعرابي: لا بل الناقة ناقتي والدراهم دراهمي، فان كان لمحمد شئ فليقم البينة، فقال الرجل: القضية فيها

[240]

واضحة يا رسول الله لان الاعرابي طلب البينة، فقال النبي صلى الله عليه وآله: اجلس حتى يأتي الله بمن يقضي بيني وبين الاعرابي بالحق، قال: فأقبل علي عليه السلام فقال النبي صلى ا لله عليه وآله وسلم أترضى بالشاب المقبل؟ قال: نعم، فلما دنا قال يا أبا الحسن إقض بيني وبين الاعرابي، فقال عليه السلام تكلم يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وآله الناقة ناقتي والدراهم دراهم الاعرابي، فقال الاعرابي: لا بل الناقة ناقتي والدراهم دراهمي، فان كان لمحمد شئ فليقم البينة، فقال علي خل بين الناقة وبين رسول الله صلى الله عليه وآله فقال الاعرابى: ما كنت بالذي أفعل أو يقم البينة، فدخل علي عليه السلام منزله، فاشتمل على قايم سيفه ثم أتى، وقال خل بين الناقة وبين رسول الله صلى الله عليه وآله، قال: ما كنت بالذي أفعل أو يقيم البينة قال: فضربه عليه السلام ضربة فأجمع أهل الحجاز على أنه رمى برأسه وقال بعض أهل العراق: بل قطع منه عضوا، فقال النبي صلى الله عليه وآله ما حملك على هذا يا علي؟ فقال يا رسول الله نصدقك على الوحي من السماء ولا نصدقك على أربعمائة درهم.

وقال أبوجعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي، وقد روى هذين الخبرين في كتابه المعروف بمن لا يحضره الفقيه هذان الخبران غير مختلفين، لانهما في قضيتين، فكانت هذه القضية قبل القضية التي ذكرناها قبلها.

وقد روت الشيعة أيضا في كتبها خبر علي عليه السلام مع شريح قاضيه في درع طلحة بن عبيد الله لما قال عليه السلام: هذه درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة ومطالبة شريح بالبينة على ذلك وإحضاره عليه السلام الحسن إبنه عليه السلام وقنبرا غلامه، وقوله عليه السلام لشريح أخطأت ثلاث مرات.

ورووا أيضا حديث خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين لما شهد للنبي على الاعرابي فقال النبي كيف شهدت بذلك

[241]

وعلمته؟ قال من حيث علمنا أنك رسول الله فمن يروي هذه الاخبار مستحسنا لها ومعولا عليها كيف يجوز أن يشك في أنه كان يذهب إلى أن الحاكم يحكم بعلمه لولا قلة تأمل ابن الجنيد.

والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه زائدا على الاجماع المتردد قوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدواكل واحد منهما مأة جلدة)، وقوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما)، فمن علمه الامام سارقا أو زانيا قبل القضاء أو بعده فواجب عليه أن يقضي فيه بما أوجبته الآية من إقامة الحدود، وإذا ثبت ذلك في الحدود فهو ثابت في الاموال لان من أجاز ذلك في الحدود أجازه في الاموال، ولم يجزه أحد من الامة في الحدود دون الاموال.

فان قيل: فلم زعمتم أنه أراد بقوله: الزانية والزاني والسارق والسارقة من علمتموه كذلك دون أن يكون أراد من أقر عندكم بسرقة أو زنا أو شهد عليه الشهود.

قلنا: من أقر بزنا أو شهد عليه الشهود لا يجوز أن يطلق عليه القول بأنه زان، وكذلك السارق وإنما حكمنا فيهما بالاحكام المخصوصة إتباعا للشرع، وإن جوزنا أن يكونا ما فعلا شيئا من ذلك، والزاني في الحقيقة من فعل الزنا وعلم ذلك منه.

وكذلك السارق فحمل الآيتين على العلم أولى من حملهما على الشهادة والاقرار، فان إحتجوا بما يروى عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: لو اعطي الناس بدعواهم لادعى ناس دماء قوم وأموالهم، لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر.

وأخبر عليه السلام أن المدعي لا يعطى بغير بينة، فالجواب أولا أن هذا خبر واحد لا يوجب علما ولا عملا، ثم إذا سلمناه قلنا علم الحاكم أقوى البينات، وإذا جعلنا البينة الاقرار والاشهاد من حيث أبانت عن الامر وكشفت فأقوى منها العلم اليقين، فأما من فرق بين ما علمه القاضي وهو حاكم وبين ما علمه وهو على خلاف ذلك.

[242]

وقوله: ان الذي علمه وهو غير حاكم لا إعتداد به، لان القاضي علمه في حال لا ينفذ حكمه فيها باطل، لان العدل إذا شهد أمضى الحاكم شهادته، وإن جوز أن يكون قد تحملها في حال فسقه، وبذلك تقبل شهادة العدل البالغ وإن جوز أن يكون قد تحملها في حال طفوليته، فان قيل: لو جاز للحاكم أن يحكم بعلمه لكان في ذلك تزكية لنفسه، قلنا: التزكية حاصلة للحاكم بتولية الحكم له، وليس ذلك بمناف لامضاء الحكم فيما علمه ثم هذا لازم في إجازتهم حكم الحاكم بعلمه في غير الحدود، لانه تزكية لنفسه، ولا يختلفون أيضا في أنه يقبل منه جرحه لشهادته وإسقاط شهادته ولا يكون ذلك تزكية لنفسه.

فإن قالوا: إذا حكم بعلمه فقد عرض نفسه للتهمة وسوء الظن به، قلنا: وكذلك إذا حكم بالبينة والاقرار فهو معرض نفسه للتهمة فلا يلتفت إلى ذلك لوقوع التهمة في غير موضعها، لان قبول الشهادة والسكون إلى عدالة الشاهد مما يجوز أن يقع في مثله التهمة أيضا.

ووجدت لابن الجنيد كلاما في هذه المسألة غير محصل لانه لم يكن في هذا دلالة وإليه دراية يفرق بين علم النبي صلى الله عليه آله يالشئ وبين علم خلفائه وحكامه، وهذا غلط منه، لان علم العالمين بالمعلومات لا يختلف، فعلم كل عالم بمعلوم بعينه كعلم كل عالم به، وكما أن النبي صلى الله عليه وآله أو الامام عليه السلام إذا شاهدا رجلا يزني أو يسرق فهما عالمان بذلك علما صحيحا، وكذلك من علم مثل ما علماه من خلفائهما والتساوي في ذلك موجود، ووجدته يستدل على بطلان الحكم بالعلم بأن يقول: وجدت الله تعالى قد أوجب للمؤمنين فيما بينهم حقوقا ابطلها فيما بينهم وبين الكفار والمرتدين كالمواريث والمناكحة وأكل الذبائح، ووجدنا الله تعالى قد اطلع رسوله صلى الله عليه وآله على من كان يبطن الكفر ويظهر الاسلام،

[243]

وكان يعلمه ولم يبين صلى الله عليه وآله أحوالهم لجميع المؤمنين فيمتنعون من مناكحتهم وأكل ذبائحهم، وهذا غير معتمد، لانا أولا لا نسلم له أن الله تعالى قداطلع النبي صلى الله عليه وآله على معايب المنافقين وكل من كان يظهر الايمان ويبطن الكفر من أمته، فان إستدل على ذلك بقوله تعالى (ولو نشاء لاريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول) فهذا لا يدل على وقوع التعريف وإنما يدل على القدرة عليه.

ومعنى قوله تعالى: (ولتعرفنهم في لحن القول) أي يستقر ظنك أو وهمك من غير ظن ولا يقين.

ثم لو سلمنا على غاية مقترحة أنه صلى الله عليه وآله قد اطلع على البواطن لم يلزم ما ذكره، لانه غير ممتنع أن يكون تحريم المناكحة والموارثة وأكل الذبائح إنما يختص بمن أظهر كفره وردته دون من أبطنها وأن تكون المصلحة التي يتعلق بها التحريم والتحليل إقتضت ما ذكرناه ولا يجب على النبي صلى الله عليه وآله أن يبين أحوال من أبطن الردة والكفر لاجل هذه الاحكام التي ذكرناها لانها لا تتعلق بالمبطن وإنما تتعلق بالمظهر.

وليس كذلك الزنا، وشرب الخمر، والسرقة، ولان الحد في هذه الامور يتعلق بالمبطن والمظهر على سواء، وإنما يستحق بالفعلية التي يشترك فيها المعلن والمستر.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية القول: بأن الخصمين إذا إبتدآ في الدعوى بين يدي الحاكم، وتشاحا في الابتداء بها وجب على الحاكم أن يسمع من الذي على يمين خصمه، ثم ينظر في دعوى الآخر، وخالف باقي الفقهاء في ذلك ولم يذهبوا إلى مثل ما حكيناه.

دليلنا على صحة ذلك إطباق الطائفه عليه.

ولان من خالف ما ذكرناه إعتمد على الرأي والاجتهاد دون النص والتوقيف، ومثل ذلك الرجوع فيه إلى التوقيف أولى وأحرى.

[244]

ووجدت ابن الجنيد لما روى عن ابن محبوب عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله قضى أن يتقدم صاحب اليمين في المجلس بالكلام، قال ابن الجنيد: يحتمل أن يكون أراد بذلك المدعي، لان اليمين المردودة عليه، قال ابن الجنيد: إلا أن ابن محبوب فسر ذلك في حديث رواه عن عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله عليه السلام أنه قال: إذا تقدمت مع خصم إلى وال أو قاض فكن عن يمينه يعني يمين الخصم، وهذا تخليط من ابن الجنيد لان التأويلات إنما تدخل بحيث تشكل الامور، ولا خلاف بين القوم أنه إنما أراد يمين الخصم دون اليمين التي هي القسم، وإذا فرضنا المسألة في تفسير تبادر الكلام بين يدي القاضى وتناهياه وأراد كل واحد منهما أن يدعى على صاحبه فهما جميعا مدعيان، كما أنهما جميعا مدعى عليهما فبطلت المزية والتفرقة التي توهمها ابن الجنيد.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية في هذه الاعصار وإن روى لهما وفاق قديم القول بجواز شهادات ذوي الارحام والقرابات بعضهم لبعض إذا كانوا عدولا من غير إستثناء لاحد، إلا ما يذهب إليه بعض أصحابنا معتمدا على خبر يرويه من أنه لا يجوز شهادة الولد على الوالد وإن جازت شهادته له ويجوز شهادة الوالد لولده وعليه.

وقد رويت موافقة الامامية في ذلك عن(1) عمر بن الخطاب وشريح والزهري وعمر بن عبد العزيز والحسن البصري والشعبي وأبي ثور، وروى الساجي أن أياس بن معاوية أجاز شهادة رجل لابنه وأخذ يمين الطالب وكل من أجاز شهادة الاب للابن والابن للاب أجاز شهادة الاخ لاخيه، وكل ذي قرابة لقرابته.

وقد روي جواز شهادة الاخ لاخيه عن شريح وابن سيرين والنخعي والشعبي وعطا وقتادة وعبدالله بن الحسن


___________________

(1) عن ابن عمر خ ل.

[245]

وعثمان بن البستي وعمر بن عبد العزيز والثوري ومالك والشافعي وأبي حنيفة وجمهور الفقهاء على ذلك، وإنما خالف فيه الاوزاعي، فذهب إلى أن شهادة الاخ لاخيه لا تقبل وإن كان عدلا.

وحكي عن مالك أنه قال: ان شهد له في غير النسب قبلت، وإن شهد له في النسب، فأن كانا أخوين من أم فادعى أحدهما أخامن أب وشهد له أخوه لم تقبل، وإذا جاز شهادة الاقارب في النسب بعضهم لبعض فالاولى جواز ذلك في الرضاع، لان كل من ذهب إلى أحد الامرين ذهب إلى الآخر ولم يفرق أحد بين المسألتين.

دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه الاجماع المتردد.

وأيضا قوله (وأشهدوا ذوى عدل منكم)، فشرط تعالى العدالة ولم يشرط سواها، ويدخل في عموم هذا القول ذو القرابات كلهم، وقوله تعالى: (وإستشهدوا شهيدين من رجالكم فأن لم يكونا رجلين فرجل وإمرأتان) يدل أيضا على هذه المسألة، فأما إعتماد المخالفين على الاخبار التي يروونها في هذا الباب، كخبر يروى عن الزهري عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: لا تجوز شهادة الوالد لولده ولا الولد لوالده، فمما لا يصح الاعتماد عليه لان كل هذه الاخبارإذا سلمت من القدح كانت أخبار آحاد لا توجب إلا الظن ولا تنتهي إلى علم، ولا يجوز ان يرجع بما يوجب الظن عن ظواهر الكتاب الموجبة للعلم على أن الساجي قد قال في هذا الخبر أن هذه رواية غير ثابتة عند أهل النقل، وراوي هذا الخبر عن الزهري يزيد بن أبي زياد.

وحكى الساجي أن شعبة قال: أن يزيد كان رفاعا، أي يرفع إلى النبي صلى الله عليه وآله ما لا أصل له، وضعف هذا الحديث من وجوه معروفة، وقدح في رواته، وأما الاعتماد في المنع من شهادة الاقارب على التهمة التي تلحق لاجل النسب فغير صحيح لانه يلزم على ذلك أن لا تقبل

[246]

شهادة الصديق لصديقه ولا الجار لجاره لان التهمة متطرقة.

وأيضا فأن العدالة مانعة من التهمة حاجزة، وحكى عن الشافعي في المنع من شهادة الوالد لولده والولد لوالده أنه قال الولد جزء من أبيه فكأنه شهد لنفسه إذا شهد لما هو بعضه، وهذا غير محصل، لان الولد وإن كان مخلوقا من نطفة أبيه، فليس ببعض له على الحقيقة، بل لكل واحد منهما حكم يخالف حكم صاحبه.

وكذلك إسترقوا الولد برقية أمه وإن كان الاب حرا وحرروه بحرية الام وإن كان الاب عبدا، ولم يسر حكم كل واحدمنهما إلى صاحبه.

(مسألة)(1) ومما إنفردت به الامامية إلا من شذ من جملتهم وسنتكلم عليه القول بشهادة العبيد لساداتهم إذا كان العبيد عدولا مقبولة وتقبل أيضا على غيرهم ولهم ولا تقبل على ساداتهم وإن كانوا عدولا.

وقد روى عن أنس موافقة الامامية في قبول شهادة العبيد العدول وهو قول الليث وأحمد بن حنبل وداود وأبي ثور، وروي عن الشعبي أنه قال: يقبل فيما قل من الحقوق ولا يقبل فيما كثر.

دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه إجماع الطائفة، ولا إعتبار بمن شذ أخيرا عنهم، وظواهر آيات الشهود في الكتاب العزيز مثل قوله تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) وهو عام في العبيد إذا كانوا عدولا وغيرهم ولا يلتفت إلى ما يروى مما يخالف هذه الظواهر من طرق الشيعة ولا طرق العامة وإن كثرت لانها تقتضي الظن ولاتنتهي إلى العلم، وهذه الظواهر التي ذكرناها توجب العلم ولا يرجع عنها لما يقتضي الظن، وهذه الطريقة هي التي يجب الرجوع إليها والتعويل عليها، وهي مزيلة لكل شبه في هذه المسألة، ولو كنا ممن يثبت الاحكام بالاستدلالات لكان لنا أن نقول: إذا كان العبد العدل بلا


___________________

(1) مسألة ومما إنفرد به وإتفق كل الامامية خ ل.

[247]

خلاف تقبل شهادته على رسول الله صلى الله عليه وآله في روايته عنه فلان تقبل في شهادته على غيره أولى.

وكان أبوعلي بن الجنيد من جملة أصحابنا يمنع من شهادة العبد وإن كان عدلا، ولما تكلم على ظواهر الآيات في الكتاب التي تعم العبد والحر إدعى تخصيص الآيات بغير دليل، وزعم أن العبد من حيث لم يكن كفوا للحر في دمه وكان ناقصا عنه في أحكامه لم يدخل تحت الظواهر، وقال أيضا أن النساء قد يكن أقوى عدالة من الرجال ولم تكن شهادتهن مقبولة في كل ما يقبل فيه شهادة الرجال وهذا منه غلط فاحش، لانه إذا إدعى أن الظواهر إذا إختصت بمن تتساوى أحكامه في الاحرار كان عليه الدليل، لانه إدعى ما يخالف الظواهر ولا يجوز رجوعه في ذلك إلى أخبار الآحاد التي يروونها لانا قد بينا ما في ذلك.

فأما النساء: فغير داخلات في الظواهر التي ذكرناها مثل قوله تعالى: (ذوى عدل منكم)، ومثل قوله تعالى: (شهيدين من رجالكم) فانما أخرجنا النساء من هذه الظواهر لانهن ما دخلن فيها، والعبيد العدول داخلون فيها بلا خلاف ويحتاج في إخراجهم إلى دليل.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية القول: بأن شهادة ولد الزنا لا تقبل وإن كان على ظاهر العدالة، وقد روي موافقة الامامية في الاقوال القديمة، فروى الساجي عن عمر بن عبدالعزيز أنه قال: لا تقبل شهادة ولد الزنا، وروى الطبري(1) والساجي عن عبدالله بن عمر مثل ذلك، وحكى الطبري عن يحيى بن سعيد الانصاري ومالك والليث بن سعد أن شهادته في الزنا لا تجوز، وقال مالك: ولا في ما أشبه من الحدود، دليلنا على ذلك إجماع الطائفة عليه.


___________________

(1) وروى الزهري خ ل.

[248]

فأن قيل: أليس ظواهر الآيات التي إحتججتم بها تقتضي قبول شهادة ولد الزنا إذا كان عدلا فكيف إمتنعتم من قبول شهادته مع العدالة وهو دخل في ظواهر الآيات، قلنا: هذا موضع لطيف لا بد من تحقيقه، وقد حققناه في مسألة أمليناها قديما في الخبر الذي يروى بأن ولد الزنا لايدخل الجنة، وبسطنا القول فيها، لان ولد الزنا لا يتعدى إليه ذنب من خلق من نطفته وله حكم نفسه فما المانع من أن يكون عدلا مرضيا، والذي نقوله: أن طائفتنا مجمعة على أن ولد الزنا لا يكون نجيبا ولا مرضيا عند الله تعالى، ومعنى ذلك أن يكون الله تعالى قد علم فيمن خلق من نطفة زنا لا يختار هذا الخير والصلاح.

وإذا علمنا بدليل قاطع عدم نجابة ولد الزنا وعدالته وإن شهد وهو مظهر للعدالة مع غيره لم يلتفت إلى ظاهره المقتضي لظن العدالة به.

ونحن قاطعون على خبث باطنه وقبح سريرته فلا تقبل شهادته، لانه عندنا غير عدل ولا مرضي، فعلى هذا الوجه يجب أن يقع الاعتماد دون ما تعلق به أبوعلي بن الجنيد لانه قال: إذاكنا لانقبل شهادة الزاني والزانية كان ردنا لشهادة من هو شر منهما أولى.

وروى عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: في ولد الزنا أنه شر الثلاثة، وهذا غير معتمد، لان الخبر الذي رواه خبر واحد لا يوجب علما ولا عملا، ولا يرجع بمثله عن ظواهر الكتاب الموجبة للعلم.

وإذا كان معنى قوله صلى الله عليه وآله: أنه شر الثلاثة من حيث لم تقبل شهادته أبدا وقبلت شهادة الزانيين إذا تابا، فقدكان يجب على ابن الجنيد أن يبين من أي وجه لم تقبل شهادته على التأييد وكيف كان أسوأ حالا في هذا الحكم من الكافر الذي تقبل شهادته بعد ا لتوبة من الكفر والرجوع إلى الايمان، ويبين كيف لم تقبل شهادته مع إظهار العدالة والصلاح والنسك والعبادة وأنه بذلك داخل في ظواهر آيات قبول

[249]

الشهادة وما شرع في ذلك ولا إهتدى له، والوجه هو ما نبهنا عليه الموافق للقول بالعمل بالعدل.

(مسألة) ومما يظن إنفراد الامامية به ولها فيه موافق القول: بأن شهادة الاعمى إذا كان عدلا مقبولة على كل حال، ولا فرق بين أن يكون ما علمه وشهد به كان قبل العمى أو بعده، ووافق الامامية في ذلك مالك والليث بن سعد، قالا: تجوز شهادة الاعمى على ما علمه في حال العمى إذا عرف الصوت في الطلاق والاقرار ونحوهما، وإن شهد على زنا حد للقذف ولم تقبل شهادته.

ووافق الامامية في قبول شهادة الاعمى أيضا داود بن علي، وقال أبوحنيفة ومحمد لا تقبل شهادة الاعمى بحال.

وهو قياس قول ابن شبرمة، وقال أبويوسف وابن أبي ليلى والشافعي ما علمه قبل العمى جاز شهادته، وما علمه في حال العمى لم يجز أن يشهد به.

دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه زائدا على إجماع الطائفة ظواهر الكتاب التي تلوناها وإستدللنا بها على جواز شهادة العبيد وغيرهم، لان الاعمى داخل في هذه الظواهر ولا يمنع عماه من كونه متناولة له، ومعول من خالفنا في هذه المسألة على أن الاعمى تشتبه عليه الاصوات فلا يحصل له العلم اليقين ولانهم يظنون أن الادراك بالسمع لا يحصل عنده من العلم الضروري ما يحصل عند الادراك بالبصر، وهذا غلط فاحش، لان إشتباه الاصوات كاشتباه الصور والاشخاص، فلو منع التشابه في الاصوات من العلم الضروري لمنع التشابه في الصور منه أيضا، لانهما طريقان إلى العلم الضروري للعاقل مع زوال اللبس، وقد يتعذر زوال اللبس بالسمع كما يتعذر ذلك بالادراك بالبصر، ألا ترى أن الضرير يعرف زوجته ووالديه وأولاده ضرورة وإن كان طريق معرفته إدراك السمع دون البصر، ولا يدخل عليه شك في ذلك

[250]

كله، ولو كان لا سبيل له إلى ذلك لم يحل له وطئ إمرأته لتجويزه أن تكون غير من عقد عليها.

وقد إستدل على ما ذكرنا أيضا بأن أزواج النبي صلى الله عليه وآله كن يحدثن ويخاطبن من وراء حجاب مع فقد مشاهدتهن.

وقد كانت الصحابة تروي عنهن الاخبار وتسند إليهن ما يروونه عن النبي صلى الله عليه وآله وإعتذار من يخالفنا في هذا الموضع بأن باب الخبر أوسع من باب الشهادة لا يغني شيئا، لانه لا يحل لاحد أن يخبر عن غيره إلا على سبيل اليقين لا سيما في رواية عن النبى صلى الله عليه وآله ويعول في ذلك على الظن دون اليقين، وإذا كان الصحابة تروي عن الازواج بأعيانهن ما سمعوه منهن بالسماع من الاخبار فذلك يدل على أنهم علموهن وميزوهن بالسمع فاستدل المخالف بقوله: (وما يستوي الاعمى والبصير).

فالجواب عنه أن الآية مجملة لم تتضمن ذكر ما لا يستوون فيه، وإدعاء العموم فيما لم يذكر غير صحيح، وظواهر آيات الشهادة تتناول الاعمى كتناولها للبصير إذا كان عدلا، لان قوله تعالى: (وأشهدوا ذوى عدل منكم)، (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) يدخل فيه الاعمى كدخول البصير.

(مسألة) ومما يظن إنفراد الامامية به ولها فيه موافق القول بقبول شهادة الصبيان في الشجاج والجراح إذا كانوا يعقلون ما يشهدون به ويؤخذ بأول كلامهم ولا يؤخذ بآخره.

وقد وافق الامامية في ذلك عبدالله بن الزبير وعروة بن الزبير وعمر بن عبدالعزيز وابن أبى ليلى والزهري ومالك وأبوالزناد، وخالف باقي الفقهاء في ذلك ولم يجيزوا شهادة الصبيان في شئ، والمعتمد في هذه المسألة على إطباق الطائفة وهو مشهور من مذهب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وقد روى ذلك عنه الخاص والعام والشيعي وغير الشيعي وهو موجود في كتب

[251]

مخالفينا، ورووا كلهم أن أمير المؤمنين عليه السلام قضى في ستة غلمان وقعوا في الماء فغرق أحدهم وشهد ثلاثة غلمان على غلامين أنهما غرقا الغلام وشهد الغلامان على الثلاثة أنهم غرقوه، فقضى عليه السلام بدية الغلام أخماسا على الغلامين ثلاثة أخماس الدية لشهادة الثلاثة عليهما وعلى الثلاثة بخمسي الدية لشهادة الغلامين عليهم، وليس لاحد أن يقول لو قبلت شهادة الصبيان في بعض الامور لقبلت في جميعها كسائر العدول، قلنا: غير ممتنع أن توجب المصلحة قبول شهادة الصبيان في موضع دون موضع كما أنها أوجبت قبول شهادة النساء في بعض المواضع دون بعض، ولم يلزم أن تكون النساء في كل المواضع مقبولات الشهادة من حيث قبلت شهادتهن في بعضها.