[مسائل الصوم]

(مسألة) ومما ظن إنفراد الامامية به القول: بأن صوم التطوع يجزي بنية بعد الزوال لان الثوري يوافق في ذلك، ويذهب إلى أن صوم لتطوع إذا نواه في آخر النهار أجزأه وهو أحد قولي الشافعي أيضا، وباقي الفقهاء يمنعون من ذلك ويقولون: إذا نوى التطوع بعد الزوال لم يجزه.

دليلنا الاجماع الذي تقدم، وقوله تعالى: (وان تصوموا خير لكم) وكل ظاهر القرآن أو السنة يقتضي الامر بالصوم والترغيب فيه لا إختصاص له بزمان دون غيره فهو يتناول ما بعد الزوال وقبله، ولا يلزم على ذلك صوم الفرض لانه لايجزى عندنا إلا بنية قبل الزوال لانا أخرجناه بدليل ولا دليل فيما عداه، وأقوى ما تعلقوا به أن ما مضى من النهار قبل النية لايكون فيه صائما وكيف يتعين باستيناف النية؟ والجواب عن ذلك أن ما مضى يلحق في الحكم بما يأتي كما يقولون كلهم فيمن نوى التطوع قبل الزوال، فإن فرقوا بين بعد الزوال وقبله بأن قبل الزوال مضى أقل العبادة وبعده مضى أكثرها، والاصول تفرق بين القليل

[61]

والكثير في هذا الحكم كمن أدرك الامام بعد الركوع وقبله.

قلنا: إذا كانت العبادة قد مضى جزء منها وهو خال من هذه النية وأثرت النية المستأنفة حكما في الماضي فلا فرق بين القلة والكثرة في هذا المعنى لان القليل كالكثير في أنه وقع خاليا، وألحقناه من طريق الحكم بالباقي، لان تبعيض الصوم غير ممكن، وإذا أثرت النية فيما صاحبته من الزمان وما يأتي بعده فلا بد من الحكم بتأثيرها في الماضي لانه يوم واحد لا يلحقه تبعيض، وقد جوزوا كلهم أن يفتتح رجل الصلاة منفردا، ثم يأتم به بعد ذلك مؤتم فيكون جماعة، ولم يفرقوا بين أن يمضي الاكثر أو الاقل.

وجوز الشافعي وأبوحنيفة وأكثر الفقهاء أن يفتتح الصلاة منفردا، ثم ينقلها إلى جماعة فيصير لها حكم الجماعة ولم يفرقوا بين مضي الاكثر أو الاقل، ولا يلزم على ما قلناه أن تكون النية في آخر جزء من اليوم لان محل النية يجب أن تكون بحيث يصح وقوع الصوم بعده بلا فصل، وذلك غير متأت في آخر جزء، ولا يعترض ما ذهبنا إليه روايتهم عن النبي صلى الله عليه وآله قوله: لا صيام لمن لم يبت الصيام من الليل لانه أولا خبر واحد.

وقد بينا أن أخبار الآحاد لا يعمل بها في الشريعة، ولانا نحمله على الفضل والكمال، كما قال عليه السلام: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ولا صدقة وذو رحم محتاج.

وقد قيل: أنه محمول على الصوم الذي يثبت في الذمة مثل قضاء شهر رمضان، وصوم النذور والكفارات.

(مسألة) ومما ظن إنفراد الامامية به القول: بأن نية واحدة في أول شهر رمضان تكفي للشهر كله، ولا يجب تجديد النية لكل يوم، ومالك يوافق على هذا المذهب وإن خالف باقي الفقهاء فيه.

والحجة في ذلك إجماع

[62]

الطائفة.

وأيضا فإن النية تؤثر في الشهر كله لان حرمته حرمة واحدة، كما أثرت في اليوم الواحد لما وقعت في ابتدائه.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية القول: بأن في صوم يوم الشك فضلا فإنه يستحب بعد أن ينوي أنه من شعبان، وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك لان الشافعي يكره صيام يوم الشك، إلا أن يوافق عادة للصائم.

وأبوحنيفة يقول: أنه ان نوى به التطوع لم يكره، وإن نواه عن رمضان كره، إلا أنه لا يثبت فيه الفضيلة التي تذهب إليها الامامية.

وقال أحمد بن حنبل: إن كان صحو كره، وإن كانت السماء متغيمة لم يكره.

والذى يدل على مذهبنا إجماع الطائفة.

وطريقة الاحتياط لانه إن كان من شهر رمضان أجزأه عندنا، وإن كان من شعبان نفعه ثوابه ولم يضره، ويعارضون بما يروونه عن أمير المؤمنين " ع " لان أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من شهر رمضان، وكل خبر يروونه متضمنا للنهي عن صيام يوم الشك يمكن حمله على النهي عن صومه بنية الفرض، وأي فرق في كراهية صوم يوم الشك بين أن يجري به عادة أو يصومه منفردا، وأي فرق بين يوم الشك وما قبله من أيام شعبان لولا اتباع الهوى.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية أن الصيام لا تقبل فيه شهادة النساء وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك.

والحجة لنا إجماع الطائفة.

وأيضا فإن الصيام من الفروض المتأكدة فيجوز أن لا تقبل فيه شهادة النساء تأكيدا وتغليظا، فإن شهادتهن لم تسقط إلا من حيث التغليظ.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية وإن وافقها فيه على بعض من الوجوه قوم من الفقهاء إفسادهم الصوم بالارتماس في الماء واعتماد الكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وآله، وإيجابهم في ذلك ما يجب في

[63]

اعتماد الاكل والشرب.

وقد قال الاوزاعي: ان الكذب والغيبة يفطران.

وروى ان خمسا يفطرن الصيام منها الغيبة والنميمة.

وحكى عن مالك كراهية الارتماس في الماء.

والحجة في ما ذهبوا إليه إجماع الطائفة، وطريقة الاحتياط واليقين ببرائة الذمة من الصوم، ويمكن أن يكون الوجه في المنع من الارتماس أن الماء يصل معه إلى الجوف لا محالة من المخارق التي لا يمكن ضبطها، فجعل ما هو الغالب في حكم الواقع.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية من بين فقهاء الامصار كلهم، وقد روي عن أبي هريرة وفاقهم فيه، وحكى أيضا أن الحسن بن صالح بن حي كان يقول يستحب لمن أصبح جنبا في شهر رمضان أن يقضي ذلك اليوم بعينه وكان يفرق بين صوم التطوع وبين صوم الفرض في هذا الباب، إيجابهم على من أجنب في ليلة شهر رمضان وتعمد البقاء إلى الصباح من غير اغتسال القضاء والكفارة.

ومنهم من يوجب القضاء دون الكفارة.

ولا خلاف بينهم في انه إذا غلبه النوم ولم يعتمد البقاء على الجنابة إلى الصباح لا شئ عليه.

والدليل على صحة ما ذهبنا إليه الاجماع المتكرر.

ومما يعارض المخالفون به ما يروونه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله قال: من أصبح جنبا في شهر رمضان فلا يصومن يومه، وليس لهم أن يحملوا هذا الخبر على من أصبح مجامعا ومخالطا لانه بخلاف لفظ الخبروترك الظاهر ولو أراد ذلك لقال عليه السلام: من أصبح مجامعا، والجماع إذا كان مفسدا للصوم فلا معنى لاضافته إلى الصباح، لانه في النهار كله مفسد للصوم، وإنما يليق بقوله عليه السلام: من أصبح جنبا من استمر على حكم الجنابة الواقعة قبل الصباح

[64]

ولا يعارض هذا الخبر ما يروونه عن عائشة أن النبي (صلى الله عليه واله) كان يصبح جنبا من غير إحتلام ثم يصوم يومه ذلك، وفي بعض الالفاظ وذلك في شهر رمضان لانا نتأول هذا الخبر على ان المراد به ما وقع من غير اعتماد، وليس لهم أن يقولوا أن حكم الجنابة لاينافي الصوم، بدلالة أنه قد يحتلم نهارا ويؤخر اغتساله، ولا يفسد بذلك صومه.

وذلك لانا نوجب على المتعمد البقاء على الجنابة إلى الصباح الغسل لا لاجل المنافاة بين الجنابة والصوم، بل لانه اعتمد لان يكون جنبا في نهار الصوم.

وليس كذلك من احتلم نهارا واستمر على حاله، لان كونه جنبا في هذه الاحوال من غير اعتماد، ولان بقاء‌ه على الجنابة الواقعة عن الاحتلام بالنهار وليس بأكثر من حصول الجنابة في النهار، والجنابة إذا وقعت بالليل وتمكن من إزالتها واعتمد البقاء عليها إلى النهار فقد اعتمد لان يكون جنبا بالنهار واختلف الموضعان.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية القول: بإيجاب القضاء والكفارة على من تعمد إنزال الماء الدافق بغير جماع لان باقي الفقهاء يخالفون في ذلك وقد روي عن مالك أنه كان يقول: كل إفطار معصية يوجب الكفارة وإستنزال الماء في شهر رمضان معصية بغير شبهة.

دليلنا الاجماع المتردد وطريقة الاحتياط وبراء‌ة الذمة.

(مسألة) ومما انفردت به الامامية القول: بأن من تمضمض للطهارة فوصل الماء إلى جوفه لا شئ عليه من قضاء ولا غيره وإن فعل ذلك لغير طهارة من تبرد بالماء أو غيره فعليه القضاء خاصة ولا غيره، لان هذا الترتيب والتفصيل لايعرفه باقي الفقهاء، لان أبا حنيفة وأصحابه يقولون إن كان ذاكرا للصوم فعليه القضاء وإن كان ناسيا فلا قضاء عليه.

وقال ابن أبي ليلى لا قضاء عليه وإن كان ذاكرا لصومه.

وروى عطا عن ابن عباس رحمة الله عليه أنه قال: إذا توضأ لصلاة مكتوبة

[65]

فدخل الماء حلقه فلا شئ عليه، وإن توضأ لصلاة تطوع فعليه القضاء، وهذا فيه بعض الشبه بمذهبنا.

وقال الاوزاعي: لا شئ عليه، وللشافعي فيه قولان أحدهما أنه قال إذا تمضمض ورفق ولم يبالغ فدخل الماء إلى جوفه أنه لا يفطر، والقول الآخر أنه يفطر، ولا يختلف قوله: في أنه إذا وصل الماء إلى الجوف عن مبالغة فانه يفطر.

وقال الحسن بن صالح بن حي أن توضأ لفريضة أو لصلاة سنة فدخل في حلقه من الماء شئ في الثلاث فليس عليه قضاء، ومن دخل بعد الثلاث فعليه القضاء، وهذا نظير قول الامامية.

والحجة في مذهبنا الاجماع المتكرر، ويمكن أن يتعلق في ذلك بقوله تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج)، وكل الحرج أن يأمرنا بالمضمضة والاستنشاق في الصوم، ويلزمنا القضاء إذا سبق الماء إلى أجوافنا من غير تعمد، ولا يلزم على ذلك التبرد بالمضمضة لان ذلك مكروه في الصوم والامتناع منه أولى فلا حرج فيه.

(مسألة): ومما إنفردت به الامامية القول: بأن من تسحر ثم بان له أنه أكل بعد طلوع الفجر على ضربين إن كان أكل ولم يتأمل الفجر ولم يراعه فعليه قضاؤه، وإن كان رصده وراعاه فلم يره فلا قضاء عليه لان باقي الفقهاء يخالفون في هذا التفصيل فيوجب أبوحنيفة وأصحابه والثوري والليث والشافعي القضاء على كل حال.

وقال مالك: إن كان الصوم تطوعا مضى فيه ولا شئ عليه، وإن كان واجبا فعليه قضاؤه.

وقال عطاء والحسن البصري: لا قضاء عليه، وإنما كانت الامامية منفردة بهذه المسألة، لان من أوجب القضاء من الفقهاء أوجبه بلا تفصيل،

[66]

وكذلك من أسقطه، والحجة في مذهبنا إجماع الطائفة، ويمكن أن يتعلق بما يروونه عن النبي صلى الله عليه وآله من قوله: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان.

فإذا قيل: ذلك محمول على رفع الاثم قلنا: هذا تخصيص بغير دليل فإن ألزمنا أن نسقط القضاء بهذا الخبر عمن لم يرصد الفجر فرقا بين الامرين بأن من رصد الفجر فلم يره قد تحرى بغاية جهده وإمكانه، وليس كذلك من لم يراعه.

(مسألة) ومما ظن إنفراد الامامية ولها فيه موافق متقدم القول بأن من صام شهر رمضان في السفر يجب عليه الاعادة، لان أبا حنيفة وأصحابه يقولون: أن الصوم في السفر أفضل من الافطار.

وقال مالك والثوري: الصوم في السفر أحب إلينا من الافطار لمن قوي عليه.

وقال الشافعي: هو مخير بين الصوم والافطار، والصوم أفضل.

وروى عن ابن عمران الفطر أفضل.

وروى عن أبي هريرة أن من صام في السفر لم يجزه، وعليه أن يصوم في الحضر، وهذا هو مذهب الامامية بعينه.

والحجة لقولنا الاجماع المتكرر.

وأيضا قوله تعالى: (فمن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر)، فأوجب الله تعالى القضاء بنفس السفر، ومن ادعى ضميرا في الآية وهو لفظة فافطر فهو تارك للظاهر من غير دليل.

فإن قيل: فيجب أن تقولوا مثل ذلك في قوله (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه) ولا تضمروا فحلق، قلنا: هكذا يقتضي الظاهر ولو خلينا وإياه لم نضمر شيئا لكن أضمرناه بالاجماع ولا إجماع لادليل يقطع به في الموضع الذي اختلفنا فيه، ويعارضون بما يرون عن النبي (صلى الله عليه واله) من قوله الصائم في السفر كالمفطر في الحضر، فإن قيل معنى الخبر أن الصائم في

[67]

السفر الذي يعتقد أن الفطر لا يجوز له كالمفطر في الحضر الذي يعتقد أن الصوم لا يجب عليه.

قلنا: هذا تخصيص للظاهر بغير دليل، والظاهر أن الصائم في السفر كالمفطر في الحضر في سائر الاحكام التي من جملتها لزوم القضاء على أن هذا تأويل منهم فاسد، لان أحدا من المسلمين لا يسوي بين من صام في السفر واعتقد أن الفطر لا يجوز له وبين المفطر في الحضر الذي يعتقد أن الصوم غير واجب عليه، لان الاعتقاد الاول طريقه الاجتهاد عندهم، وفيه بعض العذر لمعتقده.

والاعتقاد الثاني بخلاف ذلك، وربما كان ذلك كفرا، وإن استدلوا بما رواه أنس من أنهم كانوا يسافرون مع النبي (صلى الله عليه واله) في رمضان فيصوم بعضهم ويفطر بعضهم لا يعيب هؤلاء على هؤلاء ولا هؤلاء على هؤلاء.

وبما روى ابن حمزة بن عمر الاسلمي أنه سأل النبي (ص) عن الصوم في السفر، فقال " ع ": إن شئت فصم وإن شئت فافطر.

قلنا: لهم نحمل هذه الاخبار على صوم التطوع، فإن التطوع بالصوم في السفر عندنا جايز أو نحمله على صوم نذر معين، ويعارض هذه الاخبار بما رووه عن النبي صلى الله عليه وآله ليس من البر الصيام في السفر.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية أن المريض الذي أبيح له بالاجماع الفطر في شهر رمضان متى تكلف الصوم لم يجزه ووجب عليه القضاء لان باقي الفقهاء يخالفون في ذلك، ولا يوجبون عليه القضاء، والحجة في هذه المسألة هي الحجة في المسألة الاولى من الاجماع، والآية التي تلوناها وبينا الكلام فيها فلا معنى لاعادته.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية القول: بأن من بلغ من الهرم إلى حد يتعذر معه الصوم وجب عليه الافطار بلا كفارة ولا فدية، وإن كان من

[68]

ذكرنا حاله لو تكلف الصوم لتم له لكن بمشقة شديدة يخشى المرض منها والضرر العظيم كان له أن يفطر ويكفر عن كل يوم بمد من الطعام، وهذا التفصيل لا نعرفه لباقي الفقهاء، فإن أبا حنيفة وأصحابه قالوا في الشيخ الذي لا يطيق الصيام يفطر ويطعم في كل يوم نصف صاع من حنطة، وقال الثوري: يطعم ولم يذكر المبلغ، وقال الشافعي: يفطر ويطعم في كل يوم مدا، وقال مالك: لا أرى عليه إطعاما، فإن فعل فحسن، وكذلك قال ربيعة.

والحجة في مذهبنا إجماع الطائفة، ومما يجوز أن يستدل به على أن الشيخ الذي لايطيق الصيام ويجوز له الافطار من غير فدية، قوله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)، وإذا لم يكن في وسع الشيخ الصوم خرج من الخطاب ولا فدية عليه إذاأفطر، لان الفدية إنما تكون عن تقصير فإذا لم يطق الشيخ الصوم فلا تقصير وقع منه.

ويدل على أن من أطاق من الشيوخ الصوم لكن بمشقة شديدة يخشى منها المرض يجوز له أن يفطر ويفدي، قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية) ومعنى الآية أن الفدية تلزم مع الافطار، وكأن الله تعالى خير في إبتداء الامر بهذه الآية للناس كلهم بين الصوم وبين الافطار والفدية ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) وأجمعوا على تناول هذه الآية لكل من عدا الشيخ الهرم ممن لا يشق عليه الصوم، ولم يقم دليل على أن الشيخ إذا خاف الضرر دخل في هذه الآية، فهو إذن تحت حكم الآية الاولى التي تناولته كما تناولت غيره ونسخت عن غيره وبقيت فيه فيجب أن تلزمه الفدية إذا أفطر لانه مطيق للصوم.

(مسألة ومما إنفردت به الامامية القول: بأن من نذر صوم يوم بعينه فأفطر بغير عذر وجب عليه قضاؤه، ومن الكفارة ما يجب على من

[69]

أفطر يوما من شهر رمضان متعمدا بلا عذر، وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك ولا يوجبون الكفارة.

ودليلنا الاجماع المتردد وطريقة الاحتياط وبراء‌ة الذمة، ومخالفونا إذا كانوا يذهبون إلى القياس كيف ذهب عليهم ان حكم النذر في الوجوب حكم يوم من شهر رمضان وكيف افترقا في وجوب الكفارة على المفطر فيهما فان قالوا: لان النذر وجب عليه بسبب من جهته، وصوم رمضان وجب عليه ابتداء.

قلنا: وأي تأثير لهذا الفرق في سقوط الكفارة، وقد علمنا أنهما مع الافتراق فيما ذكرتم أنه يقضي صومه ويفسده في النذر، كلما أفسده في صوم شهر رمضان، وأحكام الصومين كلها غير مختلفة، وإن افترقا من الوجه الذي ذكرتم.

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية القول: بأن من نوى من الليل صيام يوم بعينه قضاء عن شهر رمضان فتعمد الافطار فيه لغير عذر، وكان إفطاره بعد الزوال وجبت عليه كفارة، وهي إطعام عشرة مساكين وصيام يوم بدله، وإن لم يقدر على الاطعام أجزأه أن يصوم ثلاثة أيام عن ذلك، وإن كان إفطاره في هذا اليوم قبل الزوال كان عليه قضاء اليوم ولا كفارة عليه وباقي الفقهاء لا يعرفون هذا التفصيل، ولا يوجبون هاهنا كفارة، بل قضاء يوم فقط، والحجة لمذهبنا الاجماع الذي يتكرر، وطريقة الاحتياط وبراء‌ة الذمة.

(مسألة) ومما ظن إنفراد الامامية به القول: بأن كفارة الافطار في شهر رمضان على سبيل التعمد عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا وأنها على التخيير لا الترتيب.

وقد روى عن مالك التخيير بين هذه الثلاث كما تقول الامامية، وعند

[70]

أبي حنيفة وأصحابه والشافعي أنها مرتبة ككفارة الظهار.

والذي يدل على صحة مذهب الامامية الاجماع المتكرر، ويعارض المخالفون بما رواه ابن جريح عن الزهري، ورواه أيضا مالك عن الزهري عن حميد بن عبدالرحمن عن أبي هريرة أن النبي (صلى الله عليه واله) أمر من أفطر في شهر رمضان أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين أو إطعام ستين مسكينا، وليس لاحد أن يحمل لفظة أو في الخبر على الواو كما قال تعالى: (مأة ألف أو يزيدون) لان ذلك مجاز، والكلام على ظاهره، ولا له أن يدعي حذفا في الخبر، ويكون تقدير الكلام أو صيام شهرين إن تعذر عليه العتق لان الظاهر لا يقتضي الحذف.

ونحن مع الظاهر وليس للمخالف أن يتعلق بما روي عنه عليه السلام من قوله: من أفطر في شهر رمضان فعليه ما على المظاهر، لان المعنى في ذلك التسوية بينهما في جنس الكفارة لا في كيفيتها من ترتيب أو تخيير، ولا إشكال في أن كفارة المظاهر من جنس كفارة المفطر في شهر رمضان، وإنما الخلاف في كيفيتها من ترتيب أو تخيير.

ولا تعلق لهم أيضا بما يروونه عنه عليه السلام من قوله وقد جاء رجل فقال: أفطرت في شهر رمضان، فقال " ع " أعتق رقبة، وذلك أن من قال بالتخيير يذهب إلى أنه مأمور بكل واحدة من الكفارات فلم يلزمه عليه السلام من عتق الرقبة إلا ما هو واجب في هذه الحال، ولم يقل له: عتق رقبة فانه لايجزيك سواها، كما لم يقل له أنت مخير بينها وبين غيرها، فظاهر الخبر إذا لا حجة فيه علينا.

(مسألة) ومما ظن إنفراد الامامية به ولها فيه موافق وسنذكره القول بأن الصوم يقضى عن الميت، كأنا فرضنا رجلا مات وعليه أيام من شهر رمضان لم يقضها بغير عذر فيتصدق عنه لكل يوم بمد من طعام، فإن لم يكن

[71]

له مال صام عنه وليه، فإن كان له وليان فأكبرهما، وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك ولا يرون أنه يصام عن الميت قضاء شهر رمضان وفي النذر بل يتصدق عنه.

وحكى عن أبي ثور أنه يصام عن الميت في قضاء رمضان، وفي المنذور وهذه موافقة للامامية.

والحجة للامامية الاجماع المتكرر، وقد طعن على ما نقوله بقوله تعالى: (وأن ليس للانسان إلا ما سعى) وأن ذلك ينبغي أن يكون سعي غيره له، وبما روي عن النبي صلى الله عليه وآله من قوله: إذا مات المؤمن انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية وولد صالح يترحم عنه وعلم ينتفع به، ولم يذكر "ع" الصوم عنه.

والجواب عن ذلك ان الآية إنما يقتضي أن لا يثاب الانسان إلا بسعيه، ونحن لا نقول أن الميت يثاب بصوم الحي عنه وتحقيق القول في هذا الموضع أن من مات وعليه صوم فقد جعل الله هذه الحالة سببا في وجوب صوم على وليه وسماه قضاء، لان سببه التفريط المتقدم، والثواب على الحقيقة في هذا الفعل لفاعله دون الميت.

فإن قيل: وما معنى قولهم: صام عنه إذا كان لا يلحقه وهو ميت ثواب، ولا حكم لاجل هذا العمل.

قلنا: معنى ذلك أنه صام وسبب صومه تفريط الميت، ولانه حصلت له به علقة، قيل: لاجلها عنه من حيث كان التفريط المتقدم سببا في لزوم هذا الصوم.

فأما الخبر الذي رووه فمحمول على هذا المعنى أيضا، وان المؤمن ينقطع بعد موته عمله فلا يلحقه ثواب ولا غيره، والذي ذهبنا إليه يخالف ذلك، وخبرهم هذا يعارض بما يروونه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله قال: من مات وعليه صيام صام عنه وليه.

وفي خبر آخر أن امرأة جائت إلى النبي (صلى الله عليه واله) فقالت له: إن على أمي

[72]

صوم شهر فأقضيه عنها؟ فقال صلى الله عليه وآله: أرأيت لو كان على أمك دين كنت تقضيه؟ قالت نعم يا رسول الله: فقال صلى الله عليه وآله: فدين الله أحق أن يقضى، وبما رواه ابن عباس رحمه الله عن النبي صلى الله عليه وآله في صوم النذر أنه أمر وليه أن يصوم عنه.

(مسألة) ومما انفردت به الامامية القول: بأن الاعتكاف لا ينعقد إلا في مسجد صلى فيه إمام عدل بالناس الجمعة وهي أربعة مساجد: المسجد الحرام ومسجد المدينة ومسجد الكوفة ومسجد البصرة، وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك لان أبا حنيفة وأصحابه يقولون بجواز الاعتكاف في كل مسجد جماعة، وبذلك قال الثوري وفي إحدى الروايتين عن مالك.

وروى ابن عبد الحكم عن مالك أنه لا يعتكف أحد إلا في مسجد الجامع أو في رحاب المساجد التي يجوز الصلاة فيها، وذهب حذيفة إلى أن الاعتكاف لا يصح إلا في ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وآله ومسجد إبراهيم الخليل عليه السلام.

والحجة لنا مضافا إلى الاجماع طريقة الاحتياط وبراء‌ة الذمة، لان من أوجب على نفسه الاعتكاف بنذر يجب أن يتيقن براء‌ة ذمته منه مما وجب عليه ولا يحصل له اليقين إلا بأن يعتكف في المواضع التي عيناها، ولان الاعتكاف حكم شرعي ويرجع في مكانه إلى الشرع، ولا خلاف في الامكنة التي عيناها مشروعة فيه، ولا دليل على جوازه فيما عداها، ولا اعتراض على ما قلناه بقوله تعالى: (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) لان هذا اللفظ مجمل، ولفظ المساجد ها هنا ينبغي عن الجنس لا عن الاستغراق، ولا منافاة بينه وبين مذهبنا.

ويجوز أن يكون وجه تخصيص هذه المساجد الاربعة لتأكد حرمتها وفضلها وشرفها على غيرها.

[73]

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية القول: بأن المعتكف إذا جامع نهارا كان عليه كفارتان، وإذا جامع ليلا كان عليه كفارة واحدة.

وإن أكره زوجته وهي معتكفة نهارا كان عليه أربع كفارات، وإن أكرهها وهي معتكفة ليلا كان عليه كفارتان، والكفارة هي التي تلزم المجامع نهارا في شهر رمضان.

وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك ولا يلزمون مفسد اعتكافه شيئا سوى القضاء.

وذهب الزهري والحسن إلى أنه إن وطئ في الاعتكاف لزمته الكفارة وهذا القول يوافق من وجه قول الامامية، إلا أننا ما نظن أنهما كانا يذهبان إلى أن الكفارة تلزم في الوطئ بالليل كما ذهبت الامامية إليه، دليلنا الاجماع المتقدم وطريقة الاحتياط، ولان المعتكف قد لزمه حكم متى أفسد اعتكافه بلا خلاف، وإذا فعل ما ذكرناه برئت ذمته بيقين بلا خلاف، وليس كذلك إذاقضى ولم يكفر.

(مسألة) ومما انفردت به الامامية القول: بأن الاعتكاف لا يكون أقل من ثلاثة أيام، ومن عداهم من الفقهاء يخالفون في ذلك، لان أبا حنيفة والشافعي يجوزان أن يعتكف يوما واحدا.

وقال مالك: لاإعتكاف أقل من عشرة أيام، دليلنا على ما ذهبنا إليه الاجماع المتكرر.

وأيضا فإن مقادير الازمنة للعبادات لا تعلم إلا بالنص وطريقة العلم وما تقوله الامامية من الزمان يستند إلى ما هذه صفته، وما يقول مخالفها يستند إلى طريقة الظن، والظن لا مجال له فيما جرى هذا المجرى، فتعلق مالك بأن النبي (صلى الله عليه واله) إعتكف في العشر الاواخر ليس بشئ لان اعتكافه (صلى الله عليه واله) عشرة أيام لا يدل على أنه لا يجزي أقل منها، وتعلق من حده بيوم واحد أو أقل من ذلك بقوله تعالى: (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد)

[74]

وإن الظاهر يتناول الزمان الطويل والقصير غير صحيح، لان الاعتكاف اسم شرعي، ومن ذهب إلى أنه ما انتقل في الشرع وأنه اسم لللبث المقصود بالعبادة يجعل له شروطا شرعية تراعى في اجراء الاسم عليه فلا بد من الرجوع إلى الشرع في الاسم أو في شروطه، والله تعالى نهى عن المباشرة مع الاعتكاف، فمن أين لهم أنه ما يكون في أقل من ثلاثة أيام يتناوله هذا الاسم ويحصل له الشروط الشرعية فلا دلالة إذا في هذا الظاهر.

(مسألة) ومما ظن إنفراد الامامية به القول: بأن المعتكف ليس له إذا خرج من المسجد أن يستظل بسقف حتى يعود إليه، والثوري يوافق الشيعة الامامية في ذلك.

وحكى عنه الطحاوي في كتاب الاختلاف ان المعتكف لا يدخل تحت سقف إلا أن يكون ممره فيه، فإن دخل فسد اعتكافه، وباقي الفقهاء يجيزون له الاستظلال بالسقف.

والحجة للامامية الاجماع المتقدم وطريقة الاحتياط واليقين بأن العبادة ما فسدت إلا بيقين ولا يقين إلا باجتناب ما ذكرناه.

(مسألة) ومما ظن إنفراد الامامية به القول: بأن للمعتكف أن يعود المريض ويشيع الجنازة وهو مذهب الحسن بن حي، وإنما خالف فيه باقي الفقهاء وروي عن الثوري أنه أجاز له عيادة المريض.

والحجة للامامية الاجماع المتقدم، وأيضا فإن تشييع الجنازة والصلاة على الميت من فروض الكفايات وعيادة المريض من السنن المؤكدة المفضلة، والاعتكاف لا يمنع من العبادات.

(مسألة) ومما ظن انفراد الامامية به القول: بأن ليس للمعتكف أن يبيع ويشتري ويتجر، ومالك يوافق الامامية في ذلك وإن كان أبوحنيفة وأصحابه والشافعي يجيزون للمعتكف التجارة والبيع والشري.

والحجة للامامية

[75]

الاجماع المتقدم، لان من اجتنب التجارة صح اعتكافه ولم يفسد بيقين وليس كذلك من اتجر.