(مسألة) ومما انفردت به الامامية القول: بوجوب الوقوف بالمشعر الحرام وأنه ركن من أركان الحج، جار مجرى الوقوف بعرفة في الوجوب، وخالف باقي الفقهاء في ذلك ولم يوجبه واحد منهم.
دليلنا بعد الاجماع المتردد قوله تعالى: (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام) والامر على الوجوب، ولا يجوز أن يوجب ذكر الله تعالى فيه إلا وقد أوجب الكون فيه، ولان كل من أوجب الذكر فيه أوجب الوقوف، فإن قالوا نحمل ذلك على الندب قلنا: هو خلاف الظاهر ويحتاج إلى الدلالة.
وأيضا فإن من وقف في المشعر وأدى سائر أركان الحج سقط الحج عن ذمته بلا خلاف، وليس كذلك إذا لم يقف به، فإن قيل هذه الآية تدل على وجوب الذكر وأنتم لا توجبونه وإنما توجبون الوقوف مثل عرفة، قلنا: لا يمتنع أن نقول بوجوب الذكر بظاهر هذه الآية.
وبعد فإن الآية تقتضي وجوب الكون في المكان المخصوص والذكر جميعا
وإذا دل الدليل على أن الذكر مستحب غير واجب أخرجناه عن الظاهر وبقى الآخر يتناوله الظاهر وتقدير الكلام فإذا أفضتم من عرفات فكونوا بالمشعر الحرام واذكروا الله تعالى فيه.
فإن قيل الكون في المكان يتبع الذكر في وجوب أو استحباب لانه إنما يراد له من أجله فإذا ثبت أن الذكر مستحب فكذلك الكون.
قلنا: لا نسلم أن الكون في ذلك المكان تابع للذكر لان الكون عبادة مفردة عن الذكر، والذكر عبادة أخرى وإحداهما لا تتبع الاخرى كما لا يتبع الذكر لله سبحانه وتعالى في عرفات الكون في ذلك المكان والوقوف به لان الذكر مستحب، والوقوف بعرفات واجب بلا خلاف، على أن الذكر إن لم يكن واجبا فشكرالله تعالى على نعمه واجب على كل حال، وقد أمر الله عزوجل بأن نشكره عند المشعر الحرام، فيجب أن يكون الكون بالمشعر واجبا، كما أن القول إذا أمرنا بإيقاعه عنده واجب.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون المشعر ليس بمحل للشكر وإن كان محلا للذكر وإن عطف الشكر على الذكر، قلنا: الظاهر بخلاف ذلك لان عطف الشكر على الذكر يقتضي تساوي حكمهما في المحل وغيره، وجرى ذلك مجرى قول القائل اضرب زيدا في الدار وقيده في أن الدار محل للفعلين معا.
(مسألة) ومما انفردت به الامامية القول: بأن من فاته الوقوف بعرفة وأدرك الوقوف بالمشعر الحرام يوم النحر فقد أدرك الحج، وخالف باقي الفقهاء في ذلك والحجة لنا بعد الاجماع المتقدم أنا قد دللنا على وجوب الوقوف بالمشعر الحرام، وكل من قال من الامة كلها بوجوب ذلك قال: أن الوقوف به إذا فات الوقوف بعرفة يتم معه الحج، والتفرقة بين المسألتين خلاف إجماع المسلمين.
(مسألة) ومما انفردت به الامامية القول: بأن الاحرام قبل الميقات لا ينعقد، وقد شاركها في كراهية ذلك مالك والشافعي إلا أنهما لا ينتهيان إلى نفي انعقاده، وذهب أبوحنيفة وأصحابه والشعبي وابن حي إلى أن أفضل الاحرام أن تحرم من دويرة أهلك.
دليلنا بعد الاجماع الذي مضى أن معنى ميقات في الشريعة هو الذي يتعين فلا يجوز التقدم عليه مثل مواقيت الصلاة، فتجويز التقدم على الميقات يبطل معنى هذا الاسم.
وأيضا فلا خلاف في أنه إذا أحرم من الميقات إنعقد حجه، وليس كذلك إذا أحرم قبله، وينبغي أن يكون من انعقاد إحرامه على يقين، فإن عارض المخالف بما يروونه عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعبدالله بن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله) إن إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك، فالجواب أن هذا خبر واحد، وقد بينا أن أخبار الآحاد لا توجب عملا كما لا توجب علما، ثم ذلك محمول على من منزله دون الميقات، فعندنا أن كل من كان كذلك فميقاته منزله، فإن اعترضوا بما يروونه عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: من أحرم من بيت المقدس غفر الله له ذنبه.
وفي خبر آخر من أهل بعمرة أو حجة من المسجد الاقصى إلى المسجد الحرام وجبت له الجنة.
فالجواب عنه بعد أنه خبر واحد حمله على أن من عزم على ذلك ونواه وقصد من المسجد الاقصى إلى المسجد الحرام غفر الله له، وقد يسمى القاصد إلى الامر باسم الفاعل له والداخل فيه، وهذا أكثر في اللسان العربي من أن يحصى.
(مسألة) ومما انفردت به الامامية القول: بأن من أحرم بالحج في
غير أشهر الحج وهي شوال وذي القعدة وتسع من ذي الحجة لم ينعقد إحرامه والشافعي يوافق الامامية في أن إحرامه بالحج لا ينعقد، لكنه يذهب إلى أنه ينعقد له عمرة.
وقال أبوحنيفة وأصحابه ومالك والثوري وابن حي أنه إذا أحرم بالحج قبل أشهر الحج انعقد إحرامه ولزمه.
وقد روي عن أبي حنيفة مع ذلك كراهيته، والحجة لنا إجماع الطائفة وأيضا قوله تعالى: (الحج أشهر معلومات) ومعنى ذلك وقت الحج أشهر معلومات، لان الحج نفسه لا يكون أشهرا، والتوقيت في الشريعة يدل على اختصاص الموقت بذلك الوقت وأنه لا يجزي في غيره.
وأيضا فقد ثبت أن من أحرم في أشهر الحج انعقد إحرامه بالحج بلا خلاف، وليس كذلك من أحرم قبل ذلك، فالواجب إيقاع الاحرام في الزمان الذي يحصل العلم بانعقاده فيه، فإن تعلق المخالف بقوله تعالى: (يسئلونك عن الاهلة قل هي مواقيت للناس والحج) فظاهر ذلك يقتضي أن الشهور كلها متساوية في جواز الاحرام فيها.
والجواب ان هذه أن آية عامة تخصصها بقوله تعالى: (الحج أشهر معلومات) وبحمل لفظة الاهلة على أشهر الحج خاصة على أن أبا حنيفة لا يمكنه التعلق بهذه الآية، لان الله تعالى قال: (مواقيت للناس والحج) والاحرام عنده ليس من الحج، وبعد فتوقيت العبادة يقتضي جواز فعلها بغير كراهية، وعند أبي حنيفة وأصحابه أنه مكروه تقديم الاحرام على أشهر الحج، وقد أجاب بعض الشافعية على التعلق بهذه الآية بأن قوله تعالى: (يسئلونك عن الاهلة قل هي مواقيت للناس) أي لمنافعهم وتجاراتهم، ثم قال: (والحج) فاقتضى ذلك أن يكون بعضها لهذا وبعضها لهذا، وهكذا نقول، ويجري ذلك مجرى قوله: هذا المال لزيد وعمر.
وأن الظاهر يقتضي اشتراكهما فيه، وهذا
ليس بمعتمد، لان الظاهر من قوله تعالى: (للناس والحج) يقتضي أن يكون جميع الاهلة على العموم لكل واحد من الامرين، وليس كذلك قولهم المال لزيد وعمرو، لانه لا يجوز أن يكون جميع المال لكل واحد منهما، فوجب الاشتراك لهذه العلة، وجرت الآية مجرى أن يقول هذا الشهر أجل لدين فلان ودين فلان، في أنه يقتضي أن يكون الاشتراك إلا لهذه العلة كون الشهر كله أجلا للدينيين جميعا، ولا ينقسم كانقسام المال فوجب الاشتراك لهذه العلة.
(مسألة) ومما انفردت به الامامية القول: بأن التمتع بالعمرة إلى الحج هو فرض الله تعالى على كل من نأى عن المسجد الحرام لا يجزيه مع التمكن سواه، وصفته أن يحرم من الميقات بالعمرة، فإذا وصل إلى مكة طاف بالبيت سبعا وسعى بين الصفا والمروة سبعا، ثم أحل من كل شئ أحرم منه، فإذا كان يوم التروية عند زوال الشمس أحرم بالحج من المسجد الحرام وعليه دم المتعة، فإن عدم الهدي وكان واجدا لثمنه تركه عند من يثق به من أهل مكة حتى يذبح عنه طول ذي الحجة فإن لم يتمكن من ذلك أخره إلى أيام النحر من العام القابل، ومن لم يجد الهدي ولا ثمنه كان عليه صوم عشرة أيام قبل التروية بيوم ويوم التروية ويوم عرفة، فمن فاته ذلك صام ثلاثة أيام من أيام التشريق، وباقي العشرة إذا عاد إلى أهله.
وخالف باقي الفقهاء في ذلك كله إلا أنهم اختلفوا في الافضل من ضروب الحج، فقال أبوحنيفة: وزفر القران أفضل من التمتع والافراد، وقال أبويوسف: التمتع بمنزلة القران وهو قول ابن حي وكره الثوري أن يقال بعضها أفضل من بعض.
وقال مالك والاوزاعي: الافراد أفضل.
وللشافعي قولان: أحدهما إن الافراد أفضل، والآخر أن التمتع أفضل وهو قول: أحمد بن حنبل
وأصحاب الحديث، دليلنا الاجماع المتردد، ويمكن أن يستدل أيضا على وجوب التمتع بأن الدليل قد دل على وجوب الوقوف بالمشعر، وأنه مجزي في تمام الحج عن الوقوف بعرفة إذا فات، وكل من قال بذلك أوجب التمتع بالعمرة إلى الحج والقول بوجوب أحدهما دون الآخر خروج عن إجماع المسلمين، ويمكن أن يستدل على ذلك بقوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله) وأمره تعالى على الوجوب والفور فلا يخلو من أن يأتي بهما على الفور بأن يبدء بالحج ويثني بالعمرة أو يبدء بالعمرة ويثني بالحج أو يحرم بالحج والعمرة معا، والاول يفسد بأن أحدا من الامة لا يوجب على من أحرم بالحج مفردا أن يأتي عقيبه بلا فصل بالعمرة، والقسم الاخير باطل عندنا أنه لايجوز أن يجمع في إحرام واحد بين الحج والعمرة كما لا يجمع في إحرام واحد بين حجتين أو عمرتين، فلم يبق إلا وجوب القسم الاخير وهو التمتع الذى ذهبنا إليه، فإن قيل: قد نهى عن هذه المتعة مع متعة النساء عمر بن الخطاب وأمسكت الامة عنه راضية بقوله.
قلنا: نهي من ليس بمعصوم عن الفعال لا يدل على قبحه، والامساك عن النكير لا يدل عند أحد من العلماء على الرضا إلا بعد أن يعلم أنه لا وجه له إلا الرضا، وقد بينا ذلك وبسطناه في كثير من كتبنا.
وبعد فإن الفقهاء والمحصلين من مخالفينا حملوا نهي عمر عن هذه المتعة على وجه الاستحباب لا على الحظر، وقالوا في كتبهم المعروفة المخصوصة بأحكام القرآن إن نهي عمر يحتمل أن يكون لوجوه منها أنه أراد أن يكون الحج في أشهر المخصوصة به والعمرة في غير تلك الشهور، ومنها إن أحب عمارة البيت وإن يكثر زواره في غير الموسم، ومنها أنه أراد إدخال الرفق على أهل الحرم بدخول الناس إليهم.
ورووا في تقوية هذا المعنى أخبارا موجودة في كتبهم لا معنى للتطويل
بذكرها، وفيهم من حمل نهي عمر عن المتعة على فسخ الحج إذا طاف له قبل يوم النحر.
وقد روي عن ابن عباس رحمة الله عليه أنه كان يذهب إلى جواز ذلك وأن النبي صلى الله عليه وآله كان أمر أصحابه في حجة الوداع بفسخ الحج من كان منهم لم يسق هديا ولم يحل هو عليه السلام لانه كان ساق الهدي، وزعموا أن ذلك منسوخ بقوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله) وهذا التأويل الثاني بعيد من الصواب، لان فسخ الحج لا يسمى متعة، وقد صارت هذه اللفظة بعرف الشرع مخصوصة بمن ذكرنا حاله وصفته.
وأما التأويل الاول فيبطله قوله أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما، وتشدده في ذلك وتوعده يقتضي أن لا يكون القول خرج مخرج الاستحباب على أن نهيه عن متعة النساء كان مقرونا بنهيه عن متعة الحج، فإن كان نهيه عن متعة الحج استحبابا فالمتعة الاخرى كذلك.
(مسألة) ومما انفردت به الامامية القول: بأن الجدال الذي منع منه المحرم بقوله تعالى: (ولا جدال في الحج) هو الحلف بالله صادقا أو كاذبا وأنه إن جادل وهو محرم صادقا مرة أو مرتين فليس عليه كفارة وليستغفر الله تعالى، وإن جادل ثلاث مرات صادقا فما زاد فعليه دم شاة، فإن جادل مرة واحدة كاذبا فعليه دم شاة، وإن جادل مرتين كاذبا فدم بقرة، فإن جادل ثلاث مرات كاذبا فعليه دم بدنة، وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك.
والحجة لنا إجماع الطائفة عليه، ولان اليقين ببرائة الذمة في قولنا دون قولهم، فإن قيل ليس في لغة العرب، أن الجدال هو الحلف.
قلنا: ليس ينكر أن يقتضي عرف الشريعة ما ليس في وضع اللغة على أن الجدال إذا كان الخصومة والمراء والمنازعة، وهذه أمور تستعمل للدفع والمنع والقسم بالله تعالى قد يفعل لذلك وفيه معنى المنازعة والخصومة.
(مسألة) ومما انفردت به الامامية القول: بأن من جامع بعد الاحرام وقبل التلبية لا شئ عليه، وخالف باقي الفقهاء في ذلك، والحجة فيه إجماع الطائفة عليه.
والوجه فيه أن التلبية عندهم بها يتم انعقاد الاحرام، فإذا لم يحصل فما انعقد، وما فعله كان رجوعا عن الاحرام قبل تكامله لا أنه نقض له بعد انعقاده، ويجب على هذا إذا أراد الاحرام أن يستأنفه ويلبي فإن الاحرام الاول قد رجع عنه.
(مسألة) ومما انفردت به الامامية القول: بأن من وطئ عامدا في الفرج قبل الوقوف بالمشعر فعليه بدنة، والحج من قابل ويجري عندهم مجرى من وطئ قبل الوقوف بعرفة، وإن وطئ بعد الوقوف بالمشعر لم يفسد حجه وكان عليه بدنة، وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك، لان أبا حنيفة وأصحابه يقولون أنه إن وطئ قبل الوقوف بالمشعر لم يفسد حجه والشافعى يقول: أنه يفسد غير أنه يقول فإن وطئ بعد وقوفه بالمشعر وقبل التحليل الاول يفسد أيضا حجه، ونحن لا نقول ذلك، فالانفراد بما ذكرناه صحيح.
ودليلنا على ما ذهبنا إليه بعد الاجماع المتردد أنه قد ثبت وجوب الوقوف بالمشعر، وإنه ينوب في تمام الحج عن الوقوف بعرفة عمن لم يدركه، وكل من قال بذلك أوجب بالجماع قبله فساد الحج ولم يفسده بالجماع بعده، فالتفرقة بين الامرين خلاف الاجماع فإن اعترضوا بما يروونه عن النبي (صلى الله عليه واله) من وقف بعرفة فقد تم حجه.
وفي خبر آخر: الحج عرفة، فالجواب أن هذه أخبار آحاد وهي معارضة بما يروونه عن النبي (صلى الله عليه واله) أنه قال لعروة بن مضرس بمزدلفة من وقف معنا هذا الموقف وصلى معنا هذه الصلاة، وقد كان قبل ذلك وقف بعرفة ساعة من
الليل أو نهارا فقد تم حجه، فشرط في تمام الحج الوقوف بالموقفين ويمكن حمل الخبرين اللذين رووهما على أن معظم الحج عرفة، ومعنى تم حجه قارب التمام، وهذا نظير قوله " ع " إذا رفع الامام رأسه من السجدة الاخيرة فقد تمت صلاته فالتفرقة بين الامرين خلاف إجماع الامامية.
(مسألة) ومما انفردت به الامامية ولها في بعضه موافق القول بأن من وطئ عامدا زوجته أو أمته فأفسد بذلك حجه يفرق بينهما ولا يجتمعان إلى أن يعود إلى المكان الذي وقع عليها فيه من الطريق، وإذا حجا من قابل فبلغا ذلك المكان فرغ بينهما ولم يجتمعا حتى يبلغ الهدى محله.
وقال الشافعى والثورى: ان من وطئ زوجته فافسد بذلك حجه ثم حج بها من قابل فبلغا الموضع الذى وطئها فيه فرغ بينهما، وهذا شطر ما قالته الامامية.
وروي عن مالك وسفيان مثل ذلك.
وقال أبوحنيفة وأصحابه لا يفرق بينهما بحال من الاحوال، دليلنا الاجماع المتردد، وأيضا فإن ذلك ينهى ويزجر عن فعل مثله وكأنه عقوبة على جنايته.
وقد روى مخالفونا عن عمر وابن عباس رضي الله عنه انهما قالا: إذا وطئ الرجل زوجته فقضيا من قابل وبلغ الموضع الذي وطئها فيه فرق بينهما ولم يعرف لهما مخالف.
(مسألة): ومما يظن انفراد الامامية به ولهم فيه موافق القول بأن المحرم لا يجوز له أن يستظل في محمله من الشمس إلا عن ضرورة، وذهبوا إلى أنه يفدي ذلك إذا فعله بدم، ووافق مالك في كراهية ذلك إلا أننا ما نظنه يوجب في فعله شيئا، وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك، والحجة فيه إجماع الطائفة والاحتياط لليقين بسلامة إحرامه.
(مسألة) ومما انفردت به الامامية القول: بأن من تزوج امرأة وهو
محرم عالما بأن ذلك محرم عليه بطل نكاحه ولم تحل له المرأة أبدا.
وهذا لم يوافق فيه أحد من الفقهاء ولان الشافعى ومالك وإن ابطلا النكاح المحرم، وجوز ذلك أبوحنيفة فانهما لا يقولان انه إذا فعل ذلك على بعض الوجوه حرمت عليه المرأة أبدا، دليلنا الاجماع المتردد.
ويمكن أن نقول للشافعي ومالك الموافقين لنا في تحريم نكاح المحرم إذا ثبت فساد نكاح المحرم باتفاق بيننا، وثبت أن ما صح فساده أو صحته في أحكام الشريعة لا يجوز تغير أحواله باجتهاد أو استفتاء مجتهد، لان الدليل قد دل عندنا على فساد الاجتهاد الذي يعنونه في الشريعة، فلم يبق إلا أن الفاسد يكون أبدا كذلك، والصحيح يكون على كل حال كذلك، وإذا ثبت هذه الجملة وجدنا كل من قال من الامة أن نكاح المحرم أو انكاحه فاسد على كل وجه، ومن كل أحد يذهب إلى ما فصلناه من انه إذا فعل ذلك عالما بطل نكاحه ولم تحل له المرأة أبدا، لان أحدا من الامة لم يفرق بين الموضعين والفرق بينهما خروج عن إجماع الامة، فان عارضونا بما يروونه عن أن النبي صلى الله عليه وآله انه نكح ميمونة وهو محرم، فالجواب أنه خبر واحد وتعارضه أخبار كثيرة رووها أنه تزوجها وهو حلال.
وقيل: يمكن أن يتناول خبر ميمونة على أن ابن عباس رضي الله عنه كان يرى أن من قلد الهدي كان محرما، فلما رآه قلد الهدي اعتقد أنه محرم.
وأيضا فيحتمل ان يكون أراد أنه تزوجها في الشهر الحرام، والعرب تسمي من كان في الشهر الحرام بأنه محرم.
واستشهدوا بقول الشاعر: قتلوا ابن عفان الخليفة محرما جهرا إن لم يكن عاقد الاحرام بلا خلاف وإنما كان في الشهر الحرام، ومما يمكن الاستدلال به على أن أصل المسألة ان النكاح سبب لاستباحة الوطئ بيقين، ولا يقين في أن عقد المحرم للنكاح سبب في الاستباحة فواجب تجنبه.
(مسألة) ومما ظن إنفراد الامامية به وهو أحد قولي الشافعي إن من وطئ ناسيا لم يفسد ذلك حجه ولا كفارة عليه.
وذهب أبو حنيفة إلى انه مع النسيان يفسد الحج وفيه الكفارة، وهو أحد قولي الشافعي.
دليلنا الاجماع المتردد، ويجوز أن يعارضوا بما يروونه عن النبي (صلى الله عليه واله) من قوله: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه، ومعلوم أنه صلى الله عليه وآله لم يرد رفع هذه الافعال وإنما أراد رفع أحكامها فان حملوا ذلك على رفع الاثم وهو حكم.
قلنا: هذا تخصيص بغير دليل على أن رفع الاثم عن الخاطئ مستفاد من قوله تعالى: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به) وحملوا كلامه تعالى على فائدة ولم تستفد أولى.
(مسألة) ومما انفردت به الامامية القول: بأن المحرم إذا قتل صيدا متعمدا عليه جزاءان، وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك، والحجة لنا فيه إجماع الطائفة وطريقة الاحتياط واليقين ببرائة الذمة، لانه لا خلاف في أنه بالقتل قد وجب لله في ذمته حق، وإذا فعل ما ذكرناه سقط ذلك الحق بيقين، وليس كذلك إن اقتصر على جزاء واحد.
ويمكن أن يقال: قد ثبت أن من قتل صيدا ناسيا يجب عليه الجزاء والعمد أغلظ من النسيان في الشريعة فيجب ان يتضاعف الجزاء عليه مع العمد.
(مسألة) ومما انفردت به الامامية القول: بأن المحرم إذا صاد في الحرم تضاعف عليه الفدية، والوجه في ذلك بعد إجماع الطائفة انه قد جمع بين وجهين يقتضي على كل واحد منهما الفداء وهو الصيد مع الاحرام، ثم إيقاعه في الحرم، ألا ترى ان المحرم إذا صاد في غير الحرم يلزمه الفدية، والحلال إذا صاد في الحرم لزمته الفدية، واجتماع الامرين يوجب اجتماع الجزائين.
(مسألة) ومما انفردت به الامامية القول: بأن من كسر بيض النعام وهو محرم وجب عليه أن يرسل فحولة الابل في إناثها بعدد ما كسر فما نتج من ذلك كان هديا للبيت، فإن لم يجد ذلك فعليه لكل بيضة شاة، فإن لم يجد فإطعام عشرة مساكين، فإن لم يجد صام عن كل بيضة ثلاثة أيام، وخالف باقي الفقهاء في ذلك وذهبوا إلى أن البيض مضمون بقيمته، وقال مالك يجب في البيضة عشر قيمة الصيد.
وقال داود والمزني: لا شئ في البيض، دليلنا بعد إجماع الطائفة ان اليقين ببراءة الذمة بعد العلم باشتغالها لا يحصل إلا بما ذكرناه، وأيضا فهو أحوط في منفعة الفقراء فيجب أن يكون أولى.
فان عارضونا بما يروونه عن أبي هريرة عن النبي أنه قال في بيض النعامة ثمنها، قلنا: هذا خبر واحد، ويجوز أن يكون لفظة ثمنها محمولة على الجزاء، فإن الجزاء والبدل في الشرع يجوز وصفهما بالثمن، لانه في مقابلة المثمن فيكون تقدير الكلام في بيض النعامة الجزاء الذي قررته الشريعة، وهو ما ذكرناه.
(مسألة) ومما ظن انفراد الامامية به القول: بأن من اضطر إلى أكل ميتة أو لحم صيد وجب أن يأكل الصيد ويفديه ولا يأكل الميتة.
وأبويوسف يوافق في ذلك لانه قال: يذبح الصيد ويأكله ويفديه، وهو أحد قولى الشافعي، وقال أبوحنيفة وأصحابه ومحمد بن الحسن: يأكل الميتة ولا يأكل الصيد، دليلنا إجماع الطائفة.
وأيضا فان الصيد له فداء في الشريعة يسقط إثمه وليس كذلك الميتة ولان في الناس من يقول: ان الصيد ليس بميتة وأنه يذكى وأكله مباح، والميتة متفق على حظرها، وربما رجحوا الميتة على الصيد بأن الحظر في الصيد ثبت من وجوه، منها تناوله، ومنها قتله، ومنها أكله، وكل ذلك محظور
وليس في الميتة إلا حظر واحد وهو الاكل، وهذا ليس بشئ، لانا لو فرضنا ان رجلا غصب شاة ثم وقذها وضربها حتى ماتت ثم أكلها لكان الحظر هاهنا من وجوه كما ذكرتم في الصيد وأنتم مع ذلك لا تفرقون بين أكل هذه الميتة وبين غيرها عند الضرورة وتعدلون إليها عن أكل الصيد.
(مسألة) ومما ظن انفراد الامامية به القول: بأن كفارة الجزاء على الترتيب دون التخيير ومثاله انهم يوجبون في النعامة مثلا بدنة فإن لم يجد اطعم ستين مسكينا فان لم يقدر صام شهرين متتابعين، والرواية الموافقة للامامية عن ابن عباس وابن سيرين أنهما قالا ذلك على الترتيب فلا يجوز أن يطعم مع القدرة على إخراج المثل ولا أن يصوم مع القدرة على الاطعام، وباقي الفقهاء يقولون ذلك على التخيير، دليلنا إجماع الطائفة، فإن قيل ظاهر القرآن يخالف مذهبكم، لانه تعالى قال: (فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما) ولفظة أو تقتضى التخيير قلنا: ندع الظاهر للدلالة كما تركنا ظاهر إيجاب الواو للجمع وحملناها على التخيير في قوله تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) ويكون معنى أو كذا إذا لم يجد الاول.
(مسألة) ومما انفردت به الامامية القول: بأن الجماع إذا تكرر من المحرم تكررت الكفارة سواء كان ذلك في مجلس واحد أو في أماكن كثيرة وسواء كفر عن الاول أو لم يكفر وخالف باقي الفقهاء في ذلك.
فقال أبوحنيفة: إذا جامع مرارا في مقام واحد فعليه كفارة واحدة وإن كان في أماكن متعددة فعليه لكل واحد كفارة، وقال أحمد عليه كفارة واحدة ما لم يكفر عن الاول.
وقال الثوري مثل ذلك.
وقال مالك والشافعي إذا جامع مرارا في مقام واحد فعليه كفارة واحدة، دليلنا الاجماع المتردد.
وأيضا طريقة اليقين ببراءة الذمة وليس لهم أن يقولوا أن الجماع الاول الحج والثاني لم يفسده، وذلك أن الحج وإن كان قد فسد بالاول فحرمته باقية ولهذا وجب المضي فيه فجاز أن تتعلق الكفارة بما يستأنف من ذلك.
(مسألة) ومما انفردت به الامامية القول: بوجوب التلبية فعندهم إن الاحرام لا ينعقد إلا بها إلا أن أبا حنيفة وإن وافق في وجوب التلبية فعنده ان الاحرام ينعقد بغيرها من تقليد الهدي وسوقه مع نية الاحرام.
وقال مالك والشافعي: التلبية ليست بواجبة، ويصح الدخول في الاحرام بمجرد النية.
دليلنا الاجماع المتكرر لانه إذا لبى دخل في الاحرام وانعقد بلا خلاف، وليس كذلك إذا لم يلب.
ويمكن الاستدلال على ذلك بأن فرض الحج مجمل في القرآن، وفعل النبي صلى الله عليه وآله إذا ورد في مورد البيان كان واجبا، لان بيان الشئ في حكم وجوبه.
وقد روى الناس كلهم أن النبي لبى لما أحرم فيجب بذلك وجوب التلبية ويقوى ذلك بما يروونه عنه صلى الله عليه وآله من قوله خذوا عني مناسككم، ورووا عنه صلى الله عليه وآله قال: أتاني جبرئيل عليه السلام فقال: مر أصحابك بأن يرفعوا أصواتهم بالتلبية فانها من شعار الحج.
ورووا عنه عليه السلام أنه قال لعائشة أنفضي رأسك وامتشطي واغتسلي ودعي العمرة وأهلي بالحج، والاهلال الحج التلبية، فالامر دل على الوجوب فان خالفوا بأن ا لمراد بالاهلال التلبية، وادعوا أن المراد بها الاحرام كان ذلك واضح البطلان، لان اللغة تشهد بما ذكرناه وكل أهل العربية قالوا استهل الصبي إذا رفع صوته عند الولادة صارخا قالوا: ومثله استهلال الحج الذي هو رفع الصوت بالتلبية، وكذلك استهلال السماء بالمطر إنما هو صوت وقعه على الارض.
(مسألة) ومما انفردت به الامامية القول: بأن من طاف طواف الزيارة فقد تحلل من كل شئ كان به محرما إلا النساء فليس له وطؤهن إلا بطواف آخر متى فعله حللن له، وهو الذى يسمى طواف النساء، وخالف باقي الفقهاء في ذلك، فإذا قيل هذا هو طواف الصدر، وعند أبي حنيفة أنه واجب ومن تركه لغير عذر كان عليه دم شاة، والشافعي في أحد قوليه يوافق به أبا حنيفة في أنه واجب.
قلنا: من أوجب طواف الصدر وهو طواف الوداع، فانه لا يقول: النساء يحللن به، بل يقول: ان النساء حللن بطواف الزيارة، فانفرادنا بذلك صحيح.
والحجة لنا الاجماع المتردد وأنه لا خلاف في أن النبي (صلى الله عليه واله) فعله وقد روي عنه عليه السلام أنه قال: خذوا عني مناسككم، وروي عنه صلى الله عليه وآله أيضا انه قال: من حج هذا البيت فليكن آخر عهده الطواف، وظاهر الامر(1) الوجوب.
فان قالوا: لو كان هذا الطواف واجبا لاثر في التحلل، قلنا: يؤثر عندنا في التحلل على ما شرحناه، وإنما يلزم هذا الكلام(2) أبا حنيفة، وكذلك إن قالوا: كان يجب أن يلزم المكي، لانه يلزم عندنا المكي إذا أراد التحلل وإتيان النساء.
(مسألة) ومما انفردت به الامامية القول: بأن من السنة المؤكدة إستلام الركن اليماني وتقبيله.
ووافق الشافعي في إستلامه دون تقبيله، وقال: إذا وضع يده عليه قبل يده ولم يقبله، وقال أبوحنيفة: ليس إستلام الركن اليماني من السنة ولا تقبيله.
وقال مالك: يستلمه ويضع يده
___________________
(1) وظاهر الامر للوجوب خ ل.
(2) هذا الكلام عند أبا حنيفة خ ل.
على فيه ولايقبلها.
وروي عن جابر وابن الزبير وأنس أنهم قالوا: من السنة إستلام الاركان كلها، دليلنا الاجماع المتردد، ويمكن معارضتهم بالاخبار التي رووها ان النبي إستلم الركن اليماني وركن الحجر وهي كثيرة.
(مسألة) ومما ظن انفراد الامامية به وقد ذهب إليه مالك القول: بأن من رمى صيدا وهو محرم فجرحه وغاب الصيد فلم يعلم هل مات أو اندملت جراحته فعليه فداؤه، وخالف باقي الفقهاء في ذلك.
والحجة لنا إجماع الطائفة.
ولان فيما ذهبنا إليه الاحتياط واليقين ببرائة الذمة، فإذا قيل: يجوز أن تكون الجراحة اندملت، قلنا: يجوز أن تكون ما اندملت وإنتهت إلى الاتلاف فالاظهر والاحوط ما ذهبنا إليه.
(مسألة) ومما ظن انفراد الامامية به القول: بأن المحرم إذا تلوط بغلام أو أتى بهيمة أو أتى امرأة في دبرها فسد حجه وعليه بدنة وإن ذلك جار مجرى الوطي في القبل، والشافعي يوافق في ذلك وأبوحنيفة وأصحابه يقولون أنه لا يفسد الحج، دليلنا الاجماع المتردد.
وأيضا فقد ثبت أن ذلك كله يوجب الحد، وكل ما أوجب به الحد افسد به الحج، والتفرقة بين الامرين خلاف الاجماع، ويمكن أن يقال لهم قد اتفقنا على أن ما ذكرناه أغلظ من ا لوطي في القبل، لان وطي الغلام لا يستباح بحال ولا وطي البهيمة، والوطي في القبل يجوز إستباحته في حال فكيف يجوز أن يفسد الحج الاخف ولا يفسده الاغلظ.
فإن قالوا: لو تعلق بالوطي في الدبر فساد الحج لتعلق به وجوب المهر، قلنا: هكذا نقول.
(مسألة) ومما ظن انفراد الامامية به أن المحرم إذا اشترط فقال عند دخوله في الاحرام فان عرض لي عارض يحبسني فحلني حيث حبستني جاز له أن
يتحلل عند العوايق من مرض وغيره بغير دم، وهذا أحد قولي الشافعي، وذهب أبوحنيفة وأصحابه وباقي الفقهاء إلى أن وجود هذا الشرط كعدمه، دليلنا الاجماع المتقدم، ويعارضون بما يروونه عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال لضباعة بنت الزبير: حجي واشترطي وقولي (اللهم فحلني حيث حبستني) ولا فائدة لهذا الشرط إلا التأثير في ما ذكرناه من الحكم، فإن احتجوا بعموم قوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله فان احصرتم فما استيسر من الهدي) قلنا: نحمل ذلك على من لم يشترط.
(مسألة) ومما ظن انفراد الامامية به وهو مذهب الشافعي القول: بأن رمي الجمار لا يجوز إلا بالاحجار خاصة دون غيرها من الاجسام، وقال أبوحنيفة يجوز بكل شئ من جنس الارض كالزرنيخ والنورة والكحل، فأما الذهب والفضة والخشب فلا يجوز، وقال أهل الظاهر يجوز بكل شئ.
دليلنا الاجماع المتردد وطريقة الاحتياط واليقين لانه لا خلاف في إجزاء الرمي بالحجر وليس كذلك غيره.
ويجوز أن نعارض مخالفينا في هذه المسألة بما يروونه عن الفضل بن العباس أنه قال: لما أفاض رسول الله صلى الله عليه وآله من عرفة وهبط وادي محسر قال يا أيها الناس عليكم بحصى الحدف، والامر على الوجوب، وتفرقة أبي حنيفة بين الذهب والفضة والخشب، وبين الزرنيخ والكحل باطلة، لان الكحل وإن كان مستحيلا من جوهر الارض فان استحالته قد سلبته إطلاق إسم الارض عليه فاذ ا جاز الرمي به وإن لم يسم أرضا، لانه من جوهر الارض، فإن الخشب كله والذهب والفضة مستحيل من جوهر الارض.
(مسألة) ومما انفردت به الامامية القول: بوجوب الخذف بحصى الجمار، وهو أن يضع الرامي الحصاة على إبهام يده اليمنى ويدفعها بظفر اصبعه الوسطى، ولم يراع ذلك أحد من الفقهاء.
والذي يدل على ما قلناه: إجماع الطائفة، ولان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أكثر الروايات أمر بالخذف، والخذف كيفية في الرمي مخالفة لغيرها.