[مسائل الطلاق]

(مسألة) ومما إنفردت به الامامية القول: بأن الطلاق لا يقع مشروطا وإن وجد شرطه، وخالف باقي الفقهاء في ذلك وأوقعوا الطلاق عند وقوع شرطه الذي علقه المتلفظ به.

والدليل على صحة ما ذهبنا إليه بعد إجماع الطائفة أن تعليق الطلاق بالشرط غير مسنون والمشروع في كيفية الطلاق غيره فيجب أن لا يتعلق به حكم الفرقة، لان الفرقة حكم شرعي، والشرع هو الطريق إليه، فإذا انتفى الدليل الشرعي انتفى الحكم الشرعي.

فان قيل: وما الدليل على ان الطلاق المشروط غير مشروع، قلنا: لا شبهة في أن الله عزوجل ما شرع لمريد الطلاق أن يعلقه بشرط ربما حصل ذلك وربما لم يحصل وهو من ثبوته وفقده على عذر فكيف يسوغ لقاصد إلى أمر فعل ما لا يطابق غرضه وما يجوز معه ألا يحصل مراده، وإنما شرع له أن يتلفظ بالتطليقة الواحدة في الطهر الذي لا جماع فيه وأن يقول: أنت طالق، وهذا مما لا يخفى على متأمل على أن ثبوت الزوجية متيقن فلا ينتقل عنه إلى التحريم إلا بيقين، ولا يقين في الطلاق المشروط.

(مسألة) ومما انفردت به الامامية القول: بأن شهادة عدلين شرط في

[128]

وقوع الطلاق ومتى فقد لم يقع الطلاق، وخالف باقي الفقهاء في ذلك، والحجة لنا بعد إجماع الطائفة قوله جل ثناؤه: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم) إلى قوله: (فإذا بلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوى عدل منكم) فأمرنا بالاشهاد، وظاهر الامر في عرف الشرع يقتضي الوجوب فليس لهم أن يحملوا ذلك ها هنا على الاستحباب، فلا يخلو قوله جل ثناؤه: (واشهدوا) من أن يكون راجعا إلى الطلاق، كأنه قال: إذاطلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن واشهدوا، أو أن يكون راجعا إلى الفرقة أو إلى الرجعة التي عبر تعالى عنها بالامساك، ولا يجوز أن يرجع ذلك إلى الفرقة التي ليست هاهنا شيئا يوقع أو يفعل وإنما هو العدول عن الرجعة، وإنما يكون مفارقا لها بأن لا يراجعها فتبين بالطلاق السابق على أن أحدا لا يوجب في هذه الفرقة الشهادة، فظاهر الامر يقتضي الوجوب، ولا يجوز أن يرجع الامر بالشهادة إلى الرجعة، لان أحدا لا يوجب فيها الاشهاد وإنما هو مستحب فيها فثبت أن الامر بالاشهاد راجع إلى الطلاق.

فان قيل: كيف يرجع إلى الطلاق مع بعد ما بينهما، قلنا: إذا لا يليق إلا بالطلاق وجب عوده إليه مع بعد وقرب، فان قيل: أي فرق بينكم مع حملكم هذا الشرط على الطلاق وهو بعيد منه في اللفظ وذلك مجاز وعدول عن الحقيقة، وبيننا إذا حملنا الامر بالاشهاد هاهنا على الاستحباب ليعود إلى الرجعة القريبة منه في ترتيب الكلام، قلنا: حمل ما ظاهره الوجوب على الاستحباب خروج عن عرف الشرع بلا دليل، ورد الشرط إلى ما بعد عنه إذ لم يلق بما قرب ليس بعدول عن حقيقة الاستعمال توسع وتجوز، والقرآن والخطاب كله مملو من ذلك.

قال الله جل ثنائه: (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله

[129]

ورسوله وتعززوه وتوقروه وتسبحوه) والتسبيح وهو متأخر في اللفظ لا يليق إلا بالله جل ثناؤه دون رسول الله صلى الله عليه وآله.

(مسألة) ومما انفردت به الامامية أن الطلاق لا يقع إلا بلفظ واحد وهو قوله أنت طالق ولا يقع بفارقتك وسرحتك ولا باعتدي وحبلك على غاربك وبخلية وبرية وبتة وبتلة وكل لفظ عدا ما ذكرناه، واختلف الفقهاء في ألفاظ الطلاق، فقال أبوحنيفة: لفظ الطلاق الصريح ما تضمن الطلاق خاصة والباقي كنايات ويقع الطلاق بها مع النية.

وقال الشافعي: صريح الطلاق ثلاثة ألفاظ الطلاق والفراق والسراح وباقي الالفاظ كنايات لا يقع بها الطلاق إلا مع مقارنة النية لها ويقع من ذلك ما ينويه، وقسم الكنايات إلى قسمين ظاهرة، نحو قوله خلية وبرية وبتة وبتلة وباين وحرام، والكنايات الباطنة نحو قوله اعتدي واستبرى رحمك وتقنعي وحبلك على غاربك.

وقال مالك: الكنايات الظاهرة إذا لم ينو بها شيئا وقع الطلاق الثلاث وإن نوى واحدة أو اثنتين فإن كانت المرأة غير مدخول بها كان على ما نواه وإن كانت مدخولا بها وقعت الثلاث على كل حال.

وأما الكنايات الباطنة فقال في كلمتين منها وهي قوله اعتدي أو استبري رحمك إن لم ينو بها شيئا وقعت تطليقة رجعية وإن نوى شيئا كان على ما نواه به، ومالك يجعل الكنايات الظاهرة وهاتين الكلمتين من صريح الطلاق، والحجة لما نذهب إليه بعد إجماع الطائفة أن الطلاق يتبعه حكم شرعي لا يثبت إلا بأدلة الشرع، ولا خلاف في وقوعه باللفظة التي ذكرناها وما عداها من الالفاظ لم يقم دليل على وقوعه بها، فيجب نفي وقوعه، لان الحكم الشرعي لا بد من نفيه إذا انتفى الطريق إليه.

وأيضا فان ألفاظ القرآن كلها واردة بلفظ الطلاق، مثل قوله تعالى:

[130]

(يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) وما أشبه ذلك، وطلقتم مشتق من لفظ الطلاق دون غيره من الالفاظ فينبغي أن لا يتعلق الحكم إلا بهذا اللفظ.

فإن قيل: معنى طلقتم فارقتم، والفراق قد يكون بألفاظ مختلفة، قلنا: هذا خلاف الظاهر، لان لفظ طلقتم مشتق من حدث فيه طاء ولام وقاف، كما أن لفظ ضرب مشتق من حدث فيه ضاد وراء وباء، ومن فعل ما فيه معنى الضرب لا يقال ضرب فكذلك(1) لا يقال فيمن فعل ما فيه معنى الطلاق طلق فان قيل: لفظة الطلاق شرعية قلنا: معاذ الله هذه لفظة لغوية معروفة في خطاب أهل اللغة وإنما يتبعها أحكام شرعية لا تعرف في اللغة.

(مسألة) ومما انفردت به الامامية به اعتبارهم في اللفظ بالطلاق النية وإن المتلفظ بذلك إذا لم ينو الطلاق بعينه فلا حكم في الشريعة لكلامه، وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك ويذهبون إلى أن ألفاظ الطلاق الصريحة لا تفتقر إلى النية، وإنما يفتقر إلى النية كنايات الطلاق.

والحجة لنا بعد إجماع الطائفة أن الفرقة الواقعة بين الزوجين حكم شرعي ولا يثبت الاحكام الشرعية إلا بأدلة شرعية، وقد علمنا أنه إذا تلفظ بالطلاق ونواه فان الفرقة الشرعية تحصل بلا خلاف بين الامة وليس كذلك إذا لم ينو ولا دليل من إجماع ولا غيره يقتضي حصول الفرقة من غير نية، فان ذكروا في ذلك أخبارا يروونها فكلها أخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا وهي معارضة بأخبار ترويها الشيعة تتضمن أن الطلاق بغير نية لا حكم له ولا تأثير، ومما يمكن أن يعارضوا به ما يروونه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: الاعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى.

والمراد أن الاحكام إنما تثبت للاعمال في الشريعة بالنيات لان من المعلوم أن بالنيات يدخل العمل في أن يكون عملا، وإذا كان الفرقة بين


___________________

(1) وكذلك خ ل.

[131]

الزوجين من أحكام الطلاق الصحيح، وقد نفى النبي صلى الله عليه وآله الاحكام الشرعية عما لم تصاحبه النية من الاعمال فوجب أن لا يقع طلاق لا نية معه، وبمثل هذه الطريقة يعلم أن طلاق المكره لا يقع، فان الشافعي ومالك والاوزاعي يوافقوننا في أنه لا يقع، وإنما يخالف فيه أبوحنيفة وأصحابه، لانا إذا كنا قد دللنا على أن الطلاق يفتقر إلى النية والاختيار والمكره لا نية له في الطلاق وإنما اكره على لفظه فيجب أن لا يقع طلاقه.

ويمكن أن يعارضوا زايدا بما ذكرناه بما يروونه عن ابن عباس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله من قوله: رفع عن أمتي الخطاء والنسيان وما استكرهوا عليه، وإنما المراد لا محالة أحكام هذه الامور المتعلقة بها، فان قيل المراد به رفع الاثم.

قلنا: نحمله على الامرين لانه لا تنافي بينهما، وأيضا ما روته عايشة من أن النبي (صلى الله عليه واله) قال: لا طلاق ولا عتاق في إغلاق، وفسر أبوعبيد القاسم ابن سلام الاغلاق ها هنا بالاكراه.

وبمثل ما ذكرناه أيضا يعلم أن طلاق السكران غير واقع، ووافقنا في ذلك ربيعة والليث بن سعد وداود، وخالف باقي الفقهاء وقالوا: ان طلاق السكران يقع، وإنما قلنا: ان أدلتنا لا تتناول السكران، لان السكران لا قصد له ولا إيثار، وقد بينا أن الطلاق يفتقر إلى الايثار والاختيار، وعلى مثل ما ذكرناه يعتمد في أن طلاق الغضبان الذي لا يملك اختياره لا يقع، وإن خالف باقي الفقهاء في ذلك فإن استدلوا بما يروونه عنه عليه السلام من قوله ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والعتاق، والهزل ما لا نية فيه وقد جعله النبي (صلى الله عليه واله) في الطلاق مثل الجد، قلنا: هذا خبر واحد.

وقد دللنا على أن أخبار الآحاد لا يعمل بها في الشريعة ثم نقول: إذا

[132]

سلمناه أن الهزل ليس هو الذي لا يقصد ولا يعتمد ولا نية لصاحبه، وإنما هو الفعل الذي ليس الغرض فيه صحيحا موافقا للحكمة، فان اللاعب بالشطرنج وما جرى مجراها يسمى هازلا غير جاد، وإن كان ناويا قاصدا من حيث كان غرضه غير حكمي فكأنه أراد أن طلق وغرضه بالطلاق الذي قصده ونواه اضحاك ضاحك وإرضاء من لا يجب إرضاؤه.

فان الطلاق يقع ويكون في حكم الجد في الوقوع واللزوم وإن كان هزلا من حيث فقد الغرض الحكمي.

فإن قيل: فيجب إذا سمعنا متلفظا بالطلاق على الشرائط التي يقترحونها إذا ادعى أنه لم ينو الطلاق بقلبه أن نصدقه قلنا كذلك نقول، فإن كان صادقا فيما قال فلا تبعة عليه وإن كان كاذبا في نفي النية فقد أثم وحرج.

وعلى الظاهر أنه لم يطلق كما أنه لو طلق سرا من كل أحد ولم يقف على حاله سواه فانه يكون مطلقا فيما بينه وبين الله تعالى وعلى الظاهر غير مطلق، فان قيل: فما تقولون فيمن تلفظ بالطلاق ثم مات ولم يدر هل هو نوى أم لم ينو، قلنا اذا سمعنا تلفظه بالطلاق ولا إكراه ولا إمارة لنفي الاختيار فالظاهر أنه وقع عن إيثار ونية، وإنما يخرج عن هذا الظاهر إذا قال لنا: ما نويت الطلاق وأنكر النية ودفعها، فأما إذا مات عقيب القول فهو مطلق على الظاهر ومحكوم عليه في الشريعة بالفرقة.

(مسألة) ومما انفردت به الامامية القول: بأن الطلاق في المحيض لا يقع، وخالف باقي الفقهاء في ذلك وذهبوا إلى وقوعه إلا ابن علية فأنه روي عنه أن الطلاق في المحيض لا يقع.

والحجة لنا بعد إجماع الطائفة أنه لا خلاف في أن الطلاق في المحيض بدعة ومعصية، وإن اختلف في وقوعه لان الله تعالى قال فطلقوهن لعدتهن وفسروا ذلك بالطهر الذي لا جماع فيه، وإذا ثبت أن الطلاق في المحيض

[133]

بدعة ومخالف لما أمر الله تعالى بإيقاع الطلاق عليه ثبت أنه لا يقع لانا قد بينا أن النهي بالعرف الشرعي يقتضي الفساد وعدم الاجزاء.

وأيضا فان الطلاق حكم شرعي بغير شبهة ولا سبيل إلى إثبات الاحكام الشرعية إلا بأدلة شرعية، وقد ثبت بالاجماع أنه إذا طلق في طهر مع باقي الشرائط وقعت الفرقة ولم يثبت مثل ذلك في طلاق المحيض فيجب نفي وقوعه، ويمكن أن يورد عليهم على سبيل المعارضة بما يروونه من أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر النبي عن ذلك فردها النبي عليه فلم يره شيئا، وهذا صريح في عدم وقوعه وتأثيره.

فان قالوا: المراد بذلك لم يره إثما أو لم يره طلاقا باينا، قلنا: الظاهر من لفظة شئ مع النفي عدم التأثيرات كلها، ولو أراد ما ذكرتم لعدل عن هذه العبارة إلى أن يقول: لم يره إثما، أو لم يره طلاقا باينا، على انا نحمل ذلك على ما قلتم، وقلنا: لان اللفظ إذا احتمل للكل حمل على جميعه.

ويعارضون أيضا بما يروونه من أن ابن عمر طلق امرأته وهي حايض فقال النبي صلى الله عليه وآله لعمر أبيه مره فليراجعها، ثم ليدعها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر ثم ليطلقها إن شاء، وأمر النبي (صلى الله عليه واله) ظاهر الوجوب، وإذا أمر بالمراجعة وأوجبها دل على أن الطلاق لم يقع.

فإن قيل: إذا كان الطلاق في الحيض لا يقع، فأي معنى لقوله مره فليراجعها، والرجعة لا تكون إلا بعد طلاق سبق.

قلنا: معنى فليراجعها أي يردها إلى منزله ولا يفارقها، فان ابن عمر كان قد فارقها واعتزلها لما طلقها في الحيض، وظن أن طلاقه واقع فأخبره النبي صلى الله عليه وآله بأن قوله غير مؤثر، وأن الطلاق لم يقع وأمره بالعود إلى ما كان عليه.

[134]

وقد يقول أحدنا لمن تلفظ بما ظن أنه طلاق واقع وليس هو على الحقيقة كذلك رد زوجتك إليك وراجعها ولا تفارقها وليس هناك طلاق واقع، فإن قيل أي فرق بين ترككم ظاهر قوله فليراجعها الذي لا يفيد إلا الرجعة بعد الطلاق وبين تركنا ظاهر الايجاب في قوله مره فليراجعها، وحملنا ذلك على الاستحباب ليسلم ظاهر لفظة الرجعة.

قلنا: الفرق بين الامرين أن ظاهر الامر في الشريعة الوجوب وحمله على غيره مجاز وليس ظاهر لفظة رجوع يقتضي وقوع الطلاق قبلها، لانا قد بينا أنه قد يقال لمن لم يطلق وأخرج امرأته واعتزلها ظنا أنه قد طلق ردها وراجعها وأعدها وذلك حقيقة غير مجاز.

(مسألة) ومما انفردت به الامامية القول: بأن الطلاق الثلاث بلفظ واحد لا يقع، وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك.

وقد روي ان ابن عباس رحمة الله عليه وطاووسا يذهبان إلى ما تقوله الامامية وحكى الطحاوي في كتاب الاختلاف أن الحجاج بن أرطاة كان يقول: ليس الطلاق الثلاث بشئ.

وحكى في هذا الكتاب عن محمد بن إسحاق أن الطلاق الثلاث يرد إلى واحدة، دليلنا بعد الاجماع المتردد أن يدل على أن المشروع في الطلاق إيقاعه متفرقا، وقد وافقنا مالك وأبوحنيفة على أن الطلاق الثلاث في الحال الواحدة محرم مخالف السنة إلا أنهما يذهبان مع ذلك إلى وقوعه، وذهب الشافعي إلى أن الطلاق الثلاث في الحال الواحدة غير محرم.

والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى: (الطلاق مرتان) ولم يرد بذلك الخبر لانه لو أراده لكان كذبا وإنما أراد الامر فكأنه قال تعالى طلقوا مرتين، وجرى مجرى قوله تعالى: (ومن دخله كان آمنا)، والمراد يجب أن تؤمنوه، والمرتان لا تكونان إلا واحدة بعد أخرى، ومن جمع

[135]

الطلاق في كلمة واحدة لا يكون مطلقا مرتين، كما أن من أعطى درهمين مرة واحدة لم يعطهما مرتين.

فإن قيل: العدد إذا ذكر عقيب الاسم لم يقتض التفريق مثاله إذا قال له علي مائة درهم مرتان، وإذا ذكر العدد عقيب فعل اقتضى التفريق مثاله ادخل الدار مرتين أو ضربت مرتين، والعدد في الآية عقيب اسم لا فعل، قلنا قد بينا أن قوله تعالى: (الطلاق مرتان)، أن معناه طلقوا مرتين، فالعدد مذكور عقيب فعل لا اسم.

فإن قيل: إذا ثبت وجوب تفريق الطلاق فلا فرق بين أن يكون في طهر واحد أو طهرين وأنتم لا تجوزون تفريقه في طهر واحد، قلنا: إذا ثبت وجوب التفريق فكل من أوجبه يذهب إلى أنه لا يكون إلا في طهرين، فإن قيل: فإذا كان الثلاث لا تقع، فأي معنى لقوله تعالى: (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا)، وإنما المراد انك إذا خالفت السنة في الطلاق وجمعت بين الثلاث وتعديت ما حده الله تعالى لم تأمن ان تتوق نفسك إلى المراجعة فلا تتمكن منها.

قلنا: قوله تعالى: (لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) مجمل غير مبين فمن أين لكم أنه أراد ما ذكرتم، والظاهر غير دال على ما هو الامر الذي يحدثه الله تعالى والاشبه بالظاهر أن يكون ذلك الامر الذي يحدثه الله تعالى متعلقا بتعدي حدود الله، لانه تعالى قال: (تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) ويشبه أن يكون المراد لا تدري ما يحدث الله من عقاب يعجله في الدنيا على تعدي حدوده، وهذا أشبه بما ذكرناه، وأقل الاحوال أن يكون الكلام يحتمله فيسقط تعلقهم.

وقد قيل: أن قوله تعالى: (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا)

[136]

متعلق بالنهي عن إخراجهن من بيوتهن لئلا يبدو له في المراجعة، وهذا أيضا مما يحتمله الكلام، فمن أين لهم أن المراد ما ذكروه، وقد تعلقوا في أن الطلاق الثلاث في حال واحدة ليس ببدعة بما رواه سهل بن سعد الساعدي قال لاعن رسول الله صلى الله عليه وآله بين العجلاني وزوجته فلما تلاعنا قال الزوج إن أمسكتها فقد كذبت عليها هي طالق ثلاثا، فقال النبي صلى الله عليه وآله لا سبيل لك عليها.

وموضع الاستدلال منه أن العجلاني كان قد طلق في وقت لم يكن له أن يطلق فيه فطلق ثلاثا فبين له النبي صلى الله عليه وآله حكم الوقت وأنه ليس له أن يطلق فيه ولم يبين له حكم العدد، ولو كان ذلك العدد محرما وبدعة لبينه.

والجواب أنه لا دلالة للشافعي في هذا الخبر، لان الفرقة بلعان الزوج قد كانت واقعة عنده، وإنما تلفظ بالطلاق الثلاث بعد ما بانت منه فلم يكن لقوله حكم، فإن قال فألا أنكر النبي صلى الله عليه وآله على العجلاني في التلفظ بالثلاث في وقت واحد، قلنا: فألا أنكر (صلى الله عليه واله) عليه اعتقاده أن طلاقه يؤثر بعد اللعان والعذر في ترك إنكاره هذا هو العذر في ترك إنكار ذلك على أن خبر العجلاني وما أشبهه من الاخبار خبر واحد.

وقد بينا أن أخبار الآحاد لا توجب علما ولا عملا وهو معارض بأخبار كثيرة تتضمن ان إيقاع التطليقات الثلاث في الحال الواحدة بدعة وخلاف السنة فان احتج من يذهب إلى أن الطلاق الثلاث يقع وإن كان بدعة بما روى في حديث ابن عمر من انه قال للنبي (صلى الله عليه واله): أرأيت لو طلقتها ثلاثا، فقال صلى الله عليه وآله إذا عصيت ربك وبانت منك امرأتك، فالذي يبطل ذلك أنه لا تصريح في قوله أرأيت لو طلقتها ثلاثا وأنني كنت أفعل ذلك بكلمة واحدة وحالة واحدة، ويجوز أن يكون مراده انني لو طلقتها ثلاثا في ثلاثة أطهار تخللها المراجعة فلا شبهة في أن من طلق امرأة ثلاثا في ثلاثة أطهار أنه يسمى مطلقا ثلاثا،

[137]

فإذا قيل لا فائدة على هذا الوجه في قوله صلى الله عليه وآله: إذا عصيت ربك وبانت منك امرأتك، قلنا يحتمل ذلك المعصية بأمرين: أحدهما أن يكون النبي (صلى الله عليه واله) كان يعلم من زوجة ابن عمر خيرا وبرا يقضيان المعصية بفراقها، والامر الآخر أنه مكروه للزوج أن يخرج نفسه من التمكن من مراجعة المرأة، لانه لا يدري كيف ينقلب قلبه، وربما دعته الدواعي القوية إلى مراجعتها، فإذا خرج أمرها من يده ربما هم بالمعصية، ومن أبان زوجته بالتطليقات الثلاث في الاطهار الثلاثة، والمراجعة في خلال ذلك فهو محرم لها على نفسه حتى تنكح زوجا غيره، ووجه كراهية ذلك ما ذكرناه.

وجواب ثان في تأويل الخبر وهو أن نحمل قوله (صلى الله عليه واله) بانت زوجتك على أنها خرجت من العدة بانت، فان المطلق ثلاثا بلفظ واحد يقع منه تطليقة واحدة على الصحيح من مذهبنا، فإذا طلقها بكلمة واحدة ثلاثا وخرجت من العدة بانت منه، وإنما عصى ربه لانه أبدع بالجمع بين التطليقات الثلاث في الحال الواحدة.

فان تعلقوا أيضا بما يرووه من أن عبدالرحمن طلق امرأته تماضر ثلاثا فجوابه أنه يجوز أن يكون طلقها في أطهار ثلاثة مع مراجعة تخللت، وليس في ظاهر الخبر أنه طلقها بلفظ واحد أو حالة واحدة، وهذه الطريقة التي سلكناها يمكن أن تطرد في جميع أخبارهم التي يتعلقون بها مما يتضمن وقوع طلاق ثالث فقد فتحنا طريق الكلام على ذلك كله ونهجناه فلا معنى للتطويل بذكر جميع الاخبار على أن أخبارهم معارضة بأخبار موجودة في رواياتهم وكتبهم تقتضي أن الطلاق الثلاث لا يقع منها ما رواه ابن سيرين أنه قال حدثني من لا أتهم أن ابن عمر طلق امرأته ثلاثا وهي حائض فأمره النبي أن يراجعها، وبما رواه الحسن قال: أتى عمر برجل قد طلق امرأته ثلاثا بفم واحد فردها

[138]

عليه ثم أتي برجل آخر طلق امرأته ثلاثا بفم واحد فأبانها منه، فقيل له: انك بالامس رددتها عليه، فقال: خشيت أن يتتابع فيه السكران والغيران.

وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان يقول: أن الطلاق كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وعهد أبي بكر وصدر من أمارة عمر طلاق الثلاث واحدة ثم جعلها عمر بعد ذلك ثلاثا.

وروي عكرمة عن ابن عباس قال: طلق ركانة بن عبد يزيد امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا، فسأله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف طلقتها؟ فقال: طلقتها ثلاثا، قال: في مجلس واحد؟ قال: نعم، قال صلى الله عليه وآله: إنما تلك واحدة فراجعها إن شئت، قال: فراجعها والاخبار المعارضة لاخبارهم أكثر من أن تحصى.

(مسألة) ومما انفردت به الامامية القول: بأن الطلاق بعد الطلاق وإن كان في طهرين أو طهر واحد لا يقع إلا بعد تخلل المراجعة بجماع، والفقهاء كلهم يخالفون في ذلك، لان أبا حنيفة وإن جعل ذلك بدعة فإنه يذهب إلى وقوعه ولزومه، والحجة لنا بعد إجماع الطائفة إنا قد دللنا على أن إيقاع الطلاق بعد الطلاق من غير مراجعة بدعة وخلاف السنة، وقد بينا أن التحريم في الشرع يتبعه الفساد ونفي الاحكام الشرعية.

وأيضا فان من طلق على الترتيب الذي ذكرناه وقع طلاقه، وآثر ومن اتبع الطلاق بالطلاق من غير مراجعة لا إجماع عليه ولا دليل على وقوع طلاقه فيجب أن يحكم بنفيه.

فإن قيل كيف تذهبون إلى أن المطلق ثلاثا بكلمة يقع من طلاقه واحدة وهو مبدع مخالف للسنة، وعندكم أن البدعة لا يلحقها حكم شرعي، قلنا: إنما أبدع من جمع بين الثلاث في ضم قوله ثلاثا إلى قوله أنت طالق فألغينا من كلامه ما هو خلاف السنة وهو قوله ثلاثا وأسقطنا حكمه وأوجبنا

[139]

وقوع تطليقة واحدة، لانه بقوله أنت طالق قد تلفظ بلفظ الطلاق المسنون فيه فيجب إذا تكامل باقي الشرائط أن يقع واحدة، وجرى ذلك مجرى أن يقول أنت طالق، ويتبع ذلك بلفظ لا تأثير له مثل قوله قام زيد ودخلت الدار، وقد علمنا انه لو اتبع ذلك بشئ مما ذكرناه ولم يخرج لفظه بالطلاق من ان يكون واقعا وان اتبعه بهذيان لا حكم له.

فاذا قيل لم يسن له ان يقول لها انت طالق ثم ثلاثا فيجب أن لا يقع طلاقه، قلنا، ولم يسن له أن يقول أنت طالق ثم يسميها ومع ذلك فلو فعل خالف السنة ووقع طلاقه، لانا قد بينا أنه ما خالف السنة فيما وقع به الطلاق.

وإنما خالفها في غيره، ومخالفونا يوقعون الطلاق باللفظ الذي خولفت به السنة.

(مسألة) ومما انفردت به الامامية قولهم: أن الطلاق لا يقع إلا بالتعيين والتمييز، فإذا قال الرجل لاربع نسوة: إحداكن طالق فكلامه لغو لا حكم له في الشريعة.

وقال أبوحنيفة وأصحابه والثوري وعثمان البستي والليث إذا لم ينو واحدة بعينها حين قال فأنه يختار أيتهن شاء فيوقع الطلاق عليها والباقيات نساؤه.

وقال مالك: إذا لم ينو واحدة بعينها طلق عليه جميع نسائه.

وقال الشافعي: إذا قال لامرأتيه طالق أحديكما طالق ثلاثا منع منهما حتى يبين، فان قال لم أرد هذه كان إقرارا منه بالاخرى.

والحجة لنا على صحة ما ذهبنا إليه الاجماع المتكرر، وأيضا فان الطلاق حكم شرعي وقد ثبت وقوعه ولزومه مع التعيين، ولا دليل على وقوعه مع الجهالة فيجب نفي وقوعه، وأيضا فلا خلاف في أن المشروع في الطلاق تسمية المطلقة والاشارة إليها بعينها ورفع الجهالة عنها، وإذا لم يفعل ذلك فقد تعدى المشروع، وقد بينا أن الفساد تابع لما خالف الشرع،

[140]

ومذهب مالك أبعد من مذهب الجماعة " لانه إنما طلق واحدة وإن كانت لا بعينها فكيف يطلق عليه جميع نسائه، وقول غيره من الفقهاء في هذه المسألة أقرب إلى الصواب.

(مسألة) ومما انفردت به الامامية أن تعليق الطلاق بجزء من أجزاء المرأة أي جزء كان لا يقع فيه الطلاق، وخالف باقي الفقهاء في ذلك، فقال أبوحنيفة وأصحابه إلا زفر إذا علق الطلاق بما يعبر به عن جملة البدن مثل الرأس والجسد واليدين أو عن جزء شايع مثل ربعك أو نصفك وقع الطلاق ولا يقع بما عدا ذلك.

وقال الشافعي: إذا علقه بكل بعض من أبعاضها مثل يدك أو رجلك أو شعرك أو غير ذلك من الابعاض وقع الطلاق ووافقه على ذلك ابن أبي ليلى وزفر ومالك والليث وابن حي، دليلنا على ما ذهبنا إليه بعد إجماع الطائفة أن تعليق الطلاق ببعضها ليس من الالفاظ المشروعة في الطلاق فيجب أن لا يقع.

وأيضا فان الطلاق حكم شرعي، وقد ثبت أنه إذا علقه بها وكملت الشرائط وقع، ولم يثبت أنه إذا علقه ببعضها وقع، والحكم الشرعي يجب نفيه بانتفاء دليل شرعي عليه.

ومما يمكن أن يستدل به قوله تعالى: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن) فجعل الطلاق واقعا بما يتناوله اسم النساء، واليد والرجل لا يتناولهما هذا الاسم بغير شبهة، وفرق أبوحنيفة بين الرقبة والرأس والفرج وبين اليد والرجل، لانهم يقولون عندي كذا وكذا رأسا من ا لعبيد والاماء وكذا كذا رقبة وكذا كذا فرجا غير صحيح، لان جميع ما ذكروه مجاز واستعارة، وكلامنا على الحقائق، ولان اليد قد يعبر بها أيضا عن جميع البدن لانهم رووا عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال على اليد ما أخذت حتى ترده وأراد به الجملة وقال الله تعالى: (تبت يدا أبي لهب وتب)، وقال تعالى: (فبما كسبت أيديهم) وإنما أراد الجملة دون البعض.

[141]