الزكـاة

هي عند الشيعة تالية الصلاة، بل في بعض الأخبار عن أئمة الهدى ما مضمونه: إن من لا زكاة له لا صلاة له(1) .

وتجب عندهم ـ كما عند عامة المسلمين ـ في تسعة أشياء:

الأنعام الثلاثة: الإبل، البقر، الغنم.

وفي الغلات الأربع: الحنطة، الشعير، التمر، الزبيب.

وفي النقدين الذهب والفضة.

وتستحب في مال التجارة، وفي الخيل، وفي كل ما تنبته الأرض من الحبوب: كالعدس، والفول، وأمثالها.

ولكلٍ من الوجوب والإستحباب شروط وقيود مفصلة في محالّها، ولا شيء منها إلا وهو موافق لمذهب من المذاهب المعروفة: الحنفي، الشافعي، المالكي، الحنبلي.

ومصرفها ما ذكره جل شأنه في آية: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين)(2) إلى آخرها.

____________

(1) انظر: الكافي 3: 479/2 و 5، الفقيه 2: 8/26.

(2) التوبة 9: 60.


الصفحة 244

زكاة الفطرة:

وهي تجب على كل إنسان بالغ عاقل غني، عن نفسه وعمن يعول به من صغير أو كبير، حر أو مملوك. وقدرها عن كل إنسان صاع من حنطة أو شعير، أو تمر، أو نحوهما مما يحصل به القوت.

ومذهب الشيعة هنا لا يخالف مذاهب السنة في شيء.


الصفحة 245

الخمس

ويجب عندنا في سبعة أشياء: غنائم دار الحرب، الغوص، الكنز، المعدن، أرباح المكاسب، الحلال المختلط بالحرام، الأرض المنتقلة من المسلم إلى الذمي.

والأصل فيه:

قوله تعالى (وأعلموا أن ما غنمتم من شيءٍ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى)(1) ... إلى آخرها.

والخمس عندنا حق فرضه الله تعالى لآلِ محمّدٍ صلوات الله عليه وعليهم، عوض الصدقة التي حرمها عليهم من زكاة الأموال والأبدان.

ويقسم ستة سهام ؟ ثلاثة لله ولرسوله ولذي القربى.

وهذه السهام يجب دفعها إلى الإمام إن كان ظاهراً، وإلى نائبه وهو (المجتهد العادل) إن كان غائباً، يدفع إلى نائبه في حفظ الشريعة، وسدانة الملة، ويصرفه على مهمات الدين، ومساعدة الضعفاء والمساكين، لا كما قال محمود الآلوسي في تفسيره مستهزئاً: ينبغي أن توضع هذه السهام في مثل هذه الأيام في السرداب(2) ! !

مشيراً إلى ما يرمون به الشيعة من أن الإمام غاب فيه ! ! وقد أوضحنا غير مرة أن من الأغلاط الشائعة عند القوم ـ من سلفهم إلى خلفهم وإلى اليوم ـ زعمهم أن الشيعة يعتقدون غيبة الإمام في السرداب، مع أن السرداب لا علاقة له بغيبة الإمام أصلا، وإنما تزوره الشيعة وتؤدي بعض المراسم العبادية فيه لأنه موضع تهجد الإمام وآبائه العسكريين، ومحل قيامهم في

____________

(1) الانفال 8: 41.

(2) روح المعاني 10: 5.


الصفحة 246

الأسحار لعبادة الحق جل شأنه.

أما الثلاثة الأخرى:

فهو حق المحاويج والفقراء من بني هاشم، عوض ماحرم عليهم من الزكاة.

هذا حكم الخمس عند الإمامية من زمن النبي إلى اليوم، ولكن القوم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله منعوا الخمس عن بني هاشم، وأضافوه إلى بيت إلمال، وبقي بنو هاشم لا خمس لهم ولا زكاة، ولعل إلى هذا أشار الإمام الشافعي (رحمه الله) حيث يقول في كتاب (الام) صفحة 69: فأما آل محمّدٍ الذين جعل لهم الخمس عوضاً من الصدقة، فلا يعطون من الصدقات المفروضات شيئاً ـ قل أو كثر ـ ولا يحل لهم أن يأخذوها، ولا يجزي عمن يعطيهموها إذا عرفهم ـ إلى أن قال ـ وليس منعهم حقهم في الخمس يجل لهم ما حرم عليهم من الصدقة. انتهى.

ومن جهة سقوطه عندهم لا تجد له عنواناً وباباً في كتب فقهائهم، حتى الشافعي في كتابه بخلاف الإمامية، فإنه ما من كتاب فقه لهم صغير أو كبير إلا وللخمس فيه عنوان مستقل كالزكاة وغيرها(1) . فالزكاة والخمس هما العبادة المالية المحضة، وأما المشتركة بينهما فالحج والجهاد.

____________

(1) نعم، ذكر الحافظ الثبت أبو عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة (224 هـ) في كتابه (كتاب الأموال) الذي هو من أهم الكتب ونفائس الاثار، ذكر كتاب الخمس مفصلاً، والأصناف التي يجب الخمس فيها، ومصرفه، وسائر أحكامه. وأكثر ما ذكره موافق لما هو المشهور عند الإمامية، فليراجع من شاء من صفحة 303 إلى 349. «منه قدس سره».


الصفحة 247

الحج

من أعاظم دعائم الإسلام عند الشيعة، وأهم أركانه، ويخير تاركه بين أن يموت يهودياً أو نصرانياً. وتركه على حدّ الكفر بالله كما يشير إليه قوله تعالى: (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) .

وهو نوع من الجهاد بالمال والبدن حقيقة، بل الحج جهاد معنوي، والجهاد حج حقيقي، وبإمعان النظر فيهما يعلم وجه الوحدة بينهما.

وبعد توفر الشرائط العامة في الإنسان: كالبلوغ، والعقل، والحرية. وخاصة: كالإستطاعة بوجدان الزاد والراحلة، وصحة البدن، وأمن الطريق، يجب الحج في العمر مرة واحدة فوراً.

وهو ثلاثة أنواع:

إفراد: وهو المشار إليه بقوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت)(1) .

وقران: وهو المراد بقوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله)(2) .

وتمتع: وهو المعنى بقوله جل وعلا (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج)(3) .

ولكل واحد منها مباحث وفيرة، وأحكام كثيرة، موكولة إلى محالّها من الكتب المطولة.

وقد سبرتُ عدة مؤلفات في الحج لعلماء السنة فوجدتها موافقة في

____________

(1) آل عمران 3: 97.

(2) البقرة 2: 196.

(3) البقرة 2: 196


الصفحة 248

الغالب لأكثر ما في كتب الإمامية، لا تختلف عنها إلا في الشاذ النادر.

والتزام الشيعة بالحج لا يزال في غاية الشدة، وكان يحج منهم كل سنة مئات الالوف، مع ما كانوا يلاقونه من المهالك والأخطار من انالس يستحلون أموالهم ودماءهم وأعراضهم، ولم يكن شيء من ذلك يقعد بهم عن القيام بذلك الواجب، والمبادرة إليه، وبذل المال والنفس في سبيله، وهم مع ذلك كله «ويا للأسف» يريدون هدم الإسلام ؟ !

الصفحة 249

الجهاد

وهو حجر الزاوية من بناء هيكل الإسلام، وعموده الذي قامت عليه سرادقه، واتسعت مناطقه، وامتدت طرائقه، ولولا الجهاد لما كان الإسلام رحمة للعالمين، وبركة على الخلق أجمعين.

والجهاد هو: مكافحة العدو، ومقاومة الظلم والفساد في الأرض، بالنفوس والأموال، والتضحية والمفاداة للحق.

والجهاد عندنا على قسمين:

الجهاد الأكبر: بمقاومة العدو الداخلي وهو (النفس) ومكافحة صفاتها الذميمة، وأخلاقها الرذيلة، من الجهل، والجبن، والجور، والظلم، والكبر، والغرور، والحسد، والشح، إلى آخر ما هناك من نظائرها (أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك).

والجهاد الأصغر: هو مقاومة العدو الخارجي، عدو الحق، عدو العدل، عدو الصلاح، عدو الفضيلة، عدو الدين.

ولصعوبة معالجة النفس، وانتزاع صفاتها الذميمة، وغرائزها المستحكمة فيها، والمطبوعة عليها، سمى النبي صلى الله عليه وآله هذا النوع في بعض كلماته (بالجهاد الأكبر) ولم يزل هو وأصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ طوال حياته وحياتهم مشغولين بالجهادين حتى بلغ الإسلام إلى أسمى مبالغ العز والمجد.

ولو أردنا أن نطلق عنان البيان للقلم فى تصوير ما كان عليه الجهاد بالأمس عند المسلمين، وما صار اليوم، لتفجرت العيون دماً، ولتمزقت القلوب أسفاً وندماً، ولتسابقت العبرات والعبارات، والكلوم والكلمات، ولكن ! أتراك فطنت لما حبس قلمي، ولوى عناني، وأجج لوعتي، وأهاج

الصفحة 250

أحزاني، وسلبني حتى سرية القول، وبثة المصدور، وبهذا المجمور:

فدع عنك نهباً صيح في حجراته ولكن حديثاً ما حديث الرواحل(1)

____________

(1) بيت شعري لامرئ القيس ذهب صدره مثلاً، والبيت من قصيدة له قالها في حادثة وقعت له حين نزل على خالد بن سدوس بن أصمع النبهاني، حيث أغار عليه باعث بن حويص وذهب بإبله، فقال له خالد: اعطني صنانعك ورواحلك حتى أطلب عليها مالك، ففعل، فذهب بها. وقيل إنه لحق بالقوم فاخذوا منه الرواحل وتركوه، فهجاه امرؤ القيس بهذه القصيدة.

وصدر البيت يضرب مثلاً لمن ذهب من ماله شيء ثم ذهب بعده ما هو أجل منه.

ومن أبيات القصيدة:

دع عنك نهبا صيح في حجراته ولكن حـديـثاً ماحـديـث الـرواحـل
كـان دثـاراً حـلـقت بـلـبـونه عـقـاب تنـوفي لاعقاب القواعل
تـلـعـب باعـث بـذمـة خـالد وأودى عصائم في الخطوب الاوائل
انظر: ديوان الشاعر: 146، مجمع الامثال 1: 470 /1402.


الصفحة 251

حديث
الامر بالمعروف والنهي عن المنكر

الذي هو من أهم الواجبات شرعاً وعقلاً، وهو أساس من أسس دين الإسلام، وهو من أفضل العبادات، وأنبل الطاعات، وهو باب من أبواب الجهاد، والدعوة إلى الحق، والدعاية إلى الهدى، ومقاومة الضلال والباطل، والذي ما تركه قوم إلا وضربهم الله بالذل، وألبسهم لباس البؤس، وجعلهم فريسة لكل غاشم، وطعمة كل ظالم.

وقد ورد من صاحب الشريعة الإسلامية، وأئمتنا المعصومين صلوات الله عليهم، في الحث عليه، والتحذير من تركه، وبيان المفاسد والمضار في إهماله ما يقصم الظهور، ويقطع الأعناق. والمحاذير التي أنذرونا بها عند التواكل والتخاذل في شأن هذا الواجب قد أصبحنا نراها عياناً، ولا نحتاج عليها دليلاً ولا برهاناً.

وياليت الامر وقف عند ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتجاوزه إلى أن يصير المنكر معروفاً والمعروف منكراً، ويصير الآمر بالمعروف تاركاً له، والناهي عن المنكر عاملاً به، فإنا لله وإنا إليه راجعون (ظهر الفسادُ في البرّ والبحر) فلا منكر مغير، ولا زاجر مزدجر. لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له، الناهين عن المنكر العاملين به(1) .

____________

(1) الروم 35: 41.

(2) ولله دين الإسلام ما أوسعه وأجمعه لقوانين السياسة الدينية والمدنية، وامهات أسباب الرقي والسعادة. فلما جعل الشارع الأحكام، ووضع الحدود والقيود للبشر، والأوامر والنواهي بمنزلة القوة التشريعية، احتاج ذلك إلى قوة تنفيذية، فجعل التنفيذ على المسلمين جميعا،

=>


الصفحة 252

هذه أمهات العبادات عند الإمامية طبق الشريعة الإسلامية، إكتفينا منها بالإشارة والعنوان، وتفاصيلها على عهدة مولفات أصحابنا من الصدر الأول إلى اليوم، الموجود منها في هذا العصر فضلاً عن المفقود ـ ينوف على مئات الالوف.

أما المعاملات: وهي ما يتوقف على طرفين: موجب وقابل، فتارة: يكون المقصد المهم منها المال، وهي عقود المعاوضات، وهي على قسمين:

العقود اللازمة: كالبيع، والإجارة، والصلح، والرهن، والهبة المعوضة، وما إلى ذلك من نظائرها، وهي عقود المغابنات.

والعقود الجائزة: كالقرض، والهبة غير المعوضة، والجعالة،

____________

<=

حيث أوجب على كل مسلم (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ليكون كل واحد قوة تنفيذية لتلك الأحكام، فكلكم راع وكلكم مسؤول [ عن رعيته ]، والجميع مسيطر على الجميع. فإذا لم تنجح هذه القوة، ولم يحصل الغرض منها بحمل الناس على الخير، وكفهم عن الشر، فهناك ولاية ولي الأمر، والراعي العام، والمسؤول المطلق، وهو الامام أو السلطان المنصوب لاقامة الحدود على المجرمين، وحفظ ثغور المسلمين.

وفي وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل به من الفوائد والثمرات، وعظيم الآثار، ما يضيق عنه نطاق البيان في هذا المقام، ولكن هل تجد مثل هذه السياسة في دين من الأديان ؟ وهل تجد أعظم وأدق من هذه الفلسفة أن يكون كل إنسان رقيباً على الآخر، ومهيمناً عليه ؟

وعلى كل واحد واجبات ثلاثة: أن يتعلم ويعمل، وأن يعلم، وأن يبعث غيره على العلم والعمل ؟

فتأمل واعجب بعظمة هذا الدين، وأعظم من ذلك واعجب من حالة أهليه اليوم، فلا حول ولا قوة إلا بالله.«منه قدس سره».

الصفحة 253
وأضرابها.

والكل مشروح في كتب الفقه، في متونها وشروحها، وأصولها وفروعها، وقواعدها وأدلتها، من مطولات ومختصرات.

ولكن أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ لا يحيدون قيد شعرة في شيء من أحكام تلك المعاملات ـ كما لا يحيدون في العبادات أيضاً ـ عن الكتاب والسنة، والقواعد المستفادة منها من استصحاب وغيره.

ولا يحل عندنا اكتساب المال إلا من طرقه المشروعة، بتجارة أو إجارة، أو صناعة أو زراعة، أو نحو ذلك. ولا يحل بالغصب، ولا بالربا، ولا بالخيانة، ولا بالغش، ولا التدليس، ولا تحل عندنا الخديعة للكافر فضلاً عن المسلم. كما يجب أداء الأمانة، ولا تحل خيانة الكافر فيها فضلاً عن المسلم.

وتارة: يكون الغرض المهم ليس هو المال، وإن تضمن المال، وذلك كعقود الزواج الذي يقصد منه النسل ونظام العائلة وبقاء النوع، وهو عندنا قسمان:

عقد الدوام: وهو الزواج المطلق.

والعقد المرسل (وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم)(1) .

وعقد الانقطاع: وهو الزواج المقيد والنكاح الموقت.

والأول هو الذي اتفقت عليه عامة المسلمين.

وأما الثاني ويعرف (بنكاح المتعة) المصرح به في الكتاب الكريم بقوله تعالى: (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أُجُرَهُنَّ)(2) فهو الذي انفردت به

____________

(1) النور 24: 32.

(2) النساء 4: 24.


الصفحة 254

الإمامية من بين سائر فرق المسلمين بالقول بجوازه وبقاء مشروعيته إلى الأبد، ولا يزال النزاع محتدماً فيه بين الفريقين، من زمن الصحابة وإلى اليوم. وحيث إن المسألة لها مقام من الاهتمام، فجدير أن نعطيها ولو بعض ما تستحق من البحث، إنارة للحقيقة، وطلبا للصواب.

فنقول: إن من ضروريات مذهب الإسلام ـ التي لا ينكرها من له أدنى إلمام بشرائع هذا الدين الحنيف ـ أن المتعة ـ بمعنى العقد إلى أجل مسمى ـ قد شرعها رسول الله صلى الله عليه واله، وأباحها، وعمل بها جماعة من الصحابة في حياته، بل وبعد وفاته، وقد اتفق المفسرون: أن جماعة من عظماء الصحابة كعبدالله بن عباس، وجابر بن عبدالله الأنصاري، وعمران بن الحصين، وأبن مسعود، وأُبي بن كعب، وغيرهم كانوا يفتون بإباحتها، ويقرأون الآية المتقدمة هكذا: (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى)(1) .

ومما ينبغي القطع به أن ليس مرادهم التحريف في كتابه جل شأنه، والنقص منه (معاذ الله) بل المراد بيان معنى الآية على نحو التفسير الذي أخذوه من الصادع بالوحي، ومن انزل عليه ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه.

والروايات التي أوردها ابن جرير في تفسيره الكبير وان كانت ظاهرة في أنها من صلب القران المنزل حيث يقول أبو نصيرة: قرأت هذه الآية على ابن عباس فقال: إلى أجل مسمى. فقلت: ما أقرأها كذلك، قال: والله لأنزلها الله كذلك (ثلاث مرات)(2) . ولكن يجل مقام حبر الامة عن هذه

____________

(1) انظر: جامع البيان للطبري 5: 9، التفسير العظيم لابن كثير 1: 474، تفسير الكشاف للزمخشري 1: 519، الجامع لاحكام القرآن للقرطبي 2: 147، السنن الكبرى للبيهقي 7: 205.

(2) جامع البيان للطبري 5: 9.


الصفحة 255

الوصمة، فلا بد أن يكون مراده ـ إن صحت الرواية ـ أن الله أنزل تفسيرها كذلك.

وعلى أي، فالإجماع، بل الضرورة في الإسلام قائمة على ثبوت مشروعيتها، وتحقق العمل بها، غاية ما هناك أن المانعين يدعون أنها نسخت وحُرمت بعد ما أبيحت، وحصل هنا الاضطراب في النقل والإختلاف الذي لا يفيد ظناً فضلاً عن القطع، ومعلوم ـ حسب قواعد الفن ـ ان الحكم القطعي لا ينسخه إلا دليل قطعي.

فتارة: يزعمون أنها نسخت بالسنة، وأن النبي حرمها، بعد ما أباحها(1) ، وأخرى: يزعمون أنها قد نسخت بالكتاب، وهنا وقع الخلاف والإختلاف أيضا، فبين قائل: أنها نسخت بآية الطلاق (إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن)(2) - (3) وآخر يقول: نسختها آية مواريث الأزواج (لكم نصف ما ترك أزواجكم)(4) - (5) وأجدني في غنى عن بيان هذه الاوهام وسخافتها، وأنه لا تنافي ولا تدافع بين هذه الآيات وتلك الاية حتى يكون بعضها ناسخا

____________

(1) أقوال القوم هنا متضاربة ومتعارضة أشد التعارض، فمنهم من يذهب إلى أنها ابيحت ثم نهي عنها يوم خيبر، وآخر أنها كانت مباحة وحرمت عام الفتح، وثالث أنها ابيحت وحرمت في حجة الوداع، ورابع أنها أبيحت عام أوطاس ثم حرمت... وهكذا، فراجع.

انظر: صحيح مسلم باب نكاح المتعة، مجمع الزوائد 4: 264، سنن ابي داود 2: 227، طبقات ابن سعد 4: 348، سنن البيهقي 4: 348، مصنف ابن أبي شيبة 4: 292، فتح الباري 11: 73، سنن الدارمي 2: 140، سنن ابن ماجة حديث 1962.

(2) الطلاق 65: 1.

(3) انظر: الجامع لاحكام القرآن للقرطبي 5: 130، التفسير الكبير للرازي 10: 49، سنن البيهقي 207:7.

(4) النساء 12:4.

(5) انظر الجامع لاحكام القرآن للقرطبي 5: 130، التفسير الكبير للرازي 10: 50.


الصفحة 256

لبعض.

وسيأتي له مزيد توضيح في بيان أنها زوجة حقيقية ولها جميع أحكامها.

نعم، يقول الأكثر منهم: أنها منسوخة بآية (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم)(1) - (2) حيث حصرت الاية أسباب حلية الوطء بأمرين: الزوجية، وملك اليمين.

قال الآلوسي في تفسيره: ليس للشيعة أن يقولوا أن المتمتع بها مملوكة، لبداهة بطلانه، أو زوجة، لانتفاء لوازم الزوجية: كالميراث، والعدة، والطلاق، والنفقة(3) ؟ ! انتهى.

وما أدحضها من حجة، أما أولاً: فإن أراد لزومها غالباً فهو مسلم ولا يجديه، وإن أراد لزومها دائماً، وأنها لا تنفك عن الزوجية، فهو ممنوع أشد المنع، ففي الشرع مواضع كثيرة لا ترث فيها الزوجة: كالزوجة الكافرة، والقائلة، والمعقود عليها في المرض إذا مات زوجها فيه قبل الدخول.

كما أنها قد ترث حق الزوجة مع خروجها عن الزوجية، كما لو طلق زوجته في المرض ومات فيه بعد خروجها عن العدة قبل انقضاء الحول.

إذاً فالإرث لا يلازم الزوجية طرداً ولا عكساً.

وأما ثانيا:

فلو سلمنا الملازمة، ولكن عدم إرث المتمتع بها ممنوع. فقيل: بأنها ترث مطلقاً. وقيل: ترث مع الشرط. وقيل: ترث إلامع شرط

____________

(1) المؤمنون 23: 6، والمعارج 0 7: 30.

(2) انظر: سنن الترمذي 50:5، سنن البيهقي 7: 206، الجامع لاحكام القرآن للقرطبي 5: 130، التفسير الكبير للرازي 10: 50، المبسوط للسرخسي 5: 152.

(3) روح المعاني 5: 7.


الصفحة 257

العدم.

والتحقيق حسب قواعد صناعة الإستنباط، ومقتضى الجمع بين الآيتين إن المتمتع بها زوجة، تترتب عليها آثار الزوجية إلا ما خرج بالدليل القاطع.

أما العدة، فهي ثابتة لها بإجماع الإمامية قولاً واحداً، بل وعند كل من قال بمشروعيتها.

أما النفقة، فليست من لوازم الزوجية، فإن الناشز زوجة ولا تجب نفقتها إجماعاً.

أما الطلاق، فهبة المدة تغني عنه، ولا حاجة إليه.

وأما ثالثاً:

فنسخ آية المتعة بآية الأزواج مستحيل، لأن آية المتعة في سورة النساء وهي مدنية(1) ، وآية الأزواج في سورة المؤمنين والمعارج، وكلاهما مكيتان(2) ، ويستحيل تقدم الناسخ على المنسوخ.

وأما رابعاً:

فقد روى جماعة من أكابر علماء السنة: أن اية المتعة غير منسوخة، منهم الزمخشري في (الكشاف) حيث نقل عن ابن عباس: أن آية المتعة من المحكمات(3) .

ونقل غيره: أن الحكم بن عيينة سئل: إن آية المتعة هل هي منسوخة ؟

فقال: لا(4) .

____________

(1) أنظر: الكشف عن وجوه القراءآت السبع 1: 375، الجامع لاحكام القرآن للقرطبي 5: 1، الكشاف للزمخشري 1: 492.

(2) انظر: الكشف عن وجوه القراءات السبع 2:125 و 334، الجامع لاحكام القرآن للقرطبي 12: 102 و 18: 278، الكشاف للزمخشري 3: 24 و 4: 456.

(3) الكشاف 1: 519.

(4) الدر المنثور للسيوطي 2: 140.


الصفحة 258

والخلاصة:

إن القوم يعد اعترافهم قاطبة بالمشروعية ادعوا أنها منسوخة، فزعموا تارة نسخ آية بآية وقد عرفت حاله، واخرى نسخ آية بحديث، واستشهدوا على ذلك بما رواه البخاري ومسلم من أن النبي صلى الله عليه وآله، نهى عنها وعن الحمر الأهلية في فتح مكه أو فتح خيبر أو غزوة أوطاس(1) .

وهنا اضطربت القضية اضطراباً غريباً، وتلونت ألواناً، وتنوعت أنواعاً، وجاء الخلف والاختلاف، الواسع الاكناف، فقد حكي عن القاضي عياض: أن بعضهم قال: إن هذا مما تداوله التحريم والإباحة والنسخ مرتين(2) !!

ولكن من توسع في تصفح أسفارهم، ومأثور أحاديثهم وأخبارهم، يجد القضية أوسع بكثير، ففي بعضها: أن النسخ كان في حجة الوداع [ السنة ] العاشرة من الهجرة(3) .

وأخرى: أنه في غزوة تبوك [ السنة ] التاسعة من الهجرة(4) .

وقيل: في غزوة أوطاس، أو غزوة حنين، وهما في [ السنة ] الثامنة في [ شهر ] شوال(5) .

وقيل: يوم فتح مكة، وهو في شهر رمضان من [ السنة ] الثامنة أيضاً(6) .

____________

(1) صحيح االبخاري 7: 12، صحيح مسلم 2: 1023/18 و1027/29، 30. وتقدمت الأشارة إلى ذلك، فراجع..

(2) شرح صحيح مسلم للنووي 9: 1 8 1، التفسير العظيم لابن كثير 1: 474.

(3) سنن ابي داود 2: 227، سنن البيهقي 4: 348، طبقات ابن سعد 4: 348.

(4) الجامع للأحكام القرآن للقرطبي 5: 130، سنن البيهقي 7: 207، مجمع الزوائد 4: 266، فتح الباري 11: 73.

(5) صحيح مسلم 2: 1023.

(6) صحيح مسلم 2: 1025، سنن البيهقي 7: 202، سنن الدارمي 2: 140، مجمع

=>


الصفحة 259

وقالوا: إنه أباحها في فتح مكة ثم حرمها هناك بعد أيام(1) .

والشائع ـ وعليه الأكثر ـ: أنه نسخها في غزوة خيبر [ في السنة ] السابعة من الهجرة، أو في عمرة القضاء، وهي في ذي الحجة من تلك السنة(2) .

ومن كل هذه المزاعم يلزم أن تكون قد ابيحت ونسخت خمس أو ست مرات لا مرتين أو ثلاث كما ذكره النووي وغيره في (شرح مسلم)(3) ! !

فما هذا التلاعب بالدين يا علماء المسلمين ؟ وبعد هذا كله، فهل يبقى قدر جناح بعوضة من الثقة في وقوع النسخ بمثل هذه الأساطير المدحوضة باضطرابها أولاً، وبأن الكتاب لا ينسخ باخبار الآحاد ثانياً، وبأنها معارضة باخبار كثيرة من طرقهم صريحة في عدم نسخها ثالثاً.

ففي صحيح البخاري: حدثنا أبو رجاء، عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله صلى الله

____________

<=

الزوائد 4: 264، مصنف ابن أبي شيبة 4: 2 29.

(1) صحيح مسلم 2: 1025، سنن البيهقي 7: 202.

(2) سنن ابن ماجة 1: 630/1961، صحيح مسلم 2: 1027.

والغريب أن القوم عند محاولتهم لايراد الادلة التي يحتجون بها لاثبات مدعاهم بتحريم نكاح المتعة لم يلتفتوا إلى كثير من مواضع الخلل البينة في استدلالاتهم ومحاجاتهم، بل والى مواضع التهافت البينة فيها، ومن ذلك قولهم بتحريمها في غزوة خيبر، حيث يظهر بطلان ذلك من عدة وجوه، لعل أوضحها ما ذكره ابن القيم في زاد المعاد (2: 158 و 204) في معرض رده لهذا الرأي السقيم، حيث قال ـ: وقصة خيبر لم يكن الصحابة يتمتعون باليهوديات، ولا استأذنوا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله، ولا نقله أحد قط في هذه الغزوة، ولا كان للمتعة فيها ذكر البتة، لا فعلاً ولا تحريماً... فان خيبر لم يكن فيها مسلمات وإنما كن يهوديات، واباحة نساء أهل الكتاب لم يكن ثبت بعد، إنما ابحن بعد... فتأمل.

(3) شرح صحيح مسلم للنووي 9: 180.


الصفحة 260

عليه وآله ولم ينزل قران بحرمتها، ولم ينه عنها رسول الله حتى مات، قال رجل برأيه ما شاء. محمد: يقال: أنه عمر. انتهى نص البخاري(1) .

وفي صحيح مسلم: بسنده عن عطاء قال: قدم جابر بن عبدالله الأنصاري معتمراً، فجئناه في منزله، فسأله القوم عن أشياء، ثم ذكروا المتعة فقال: نعم، استمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، وعلى عهد أبي بكر وعمر(2) .

وفيه: عن جابر أيضاً حيث يقول: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق لأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، وأبي بكر، حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث(3) .

وفيه: عن أبي نضرة قال: كنت عند جابر بن عبدالله فأتاه آت فقال: ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين، فقال جابر: فعلناهما مع رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم نهانا عنهما عمر، فلم نعد لهما(4) .

أقول: وإنما لم يعودوا لها لأن عمر كان يرجم من يثبت عنده أنه قد تمتع.

ومن يراجع هذا الباب من صحيح مسلم بإمعان يرى العجائب فيما أورده فيه من الأحاديث المثبتة والنافية، والنسخ وعدم النسخ، والجهني يقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله بالمتعة عام الفتح حين دخلنا

____________

(1) صحيح البخاري 6: 33، وانظر كذلك: صحيح مسلم 2: 900/172، التفسير الكبير للرازي 5 1: 49، تفسير البحر المحيط لابن حيان 3: 218، السنن الكبرى للبيهقي 5: 20.

(2) صحيح مسلم 2: 15/1023.

(3) صحيح مسلم 2: 1023/16.

(4) صحيح مسلم 2: 1023/17.


الصفحة 261

مكة، ثم لم نخرج حتى نهانا عنها(1) .

والنسخ تارة ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، واخرى إلى عمر، وأنها كانت ثابتة في عهد النبي وعهد أبي بكر، وأن علي بن أبي طالب عليه السلام نهى ابن عباس عن القول بالمتعة في مواطن فرجع عن القول بها(2) ، مع إنه روي أن ابن الزبير قام بمكة فقال: إن اناساً أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم (يعني ابن عباس) يفتون بالمتعة

فناداه (أي ابن عباس): إنك لجلف جاف، فلعمري لقد كانت المتعة تفعل على عهد إمام المتقين... الى آخر الحديث(3) .

وهذا يدل على بقائه على فتواه الى اخر عمره في خلافة ابن الزبير.

وأعجب من الجميع نسبة النهي عنها إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، مع أن حلية المتعة قد صار شعاراً لأهل البيت وشارة لهم، وعلي عليه السلام بالخصوص قد تظافر النقل عنه بانكار حرمة المتعة، ومن كلماته المأثورة التي جرت مجرى الأمثال قوله: «لولا نهي عمر عن المتعة ما زنى إلا شفا أو شقي».

ففي تفسير الطبري الكبير: روي عن علي بن أبي طالب أنه قال: «لولا أن عمر نهى الناس عن المتعة ما زنى إلا شقي ـ أو شفا(4) ـ»(5) .

____________

(1) صحيح مسلم 2: 22/1025.

(2) المصنف لعبدالرزاق 7: 501، الكشاف للزمخشري 1: 519.

(3) صحيح مسلم 2: 1026/27، سنن البيهقي 7: 5 0 2.

(4) أي قليل من الناس، وقيل: الا خطبتة قليلة من الناس لا يجدون ما يستحلون به الفروج.

انظر: الصحاح 6: 2393، لسان العرب 14: 437.

(5) جامع البيان للطبري 5: 9، وانظر كذلك: التفسير الكبير للرازي 10: 50، تفسير البحر المحيط لابن حيان 3: 218، الدر المنثور 2: 140.


الصفحة 262

ومن طرقنا الوثيقة عن جعفر الصادق عليه السلام أنه كان يقول: «ثلاث لا أتقي فيهن أحدا: متعة الحج، ومتعة النساء، والمسح على الخفين»(1) .

وكيف كان: فلا ريب حسب قواعد الفن، والأصول المقررة في (علم أصول الفقه) أنه اذا تعارضت الأخبار وتكافأت سقطت عن الحجة والاعتماد، وصارت من المتشابهات، ولا بد من رفضها والعمل بالمحكمات. وبعد ثبوت المشروعية والإباحة باتفاق المسلمين، واستصحاب بقائها، واصالة عدم النسخ عند الشك، يتعين القول بجوازها وحليتها إلى اليوم.

____________

(1) راجع كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي رحمه الله تعالى (21:5 ـ 80) فقد أورد الكثير من الاحاديث المبينة لاحكام هذا النوع من النكاح وشروطه، وأما الحديث المذكور أعلاه فقد وجدته مروياً بصيغة مختلفة، ولعل ذلك مرجعه السهو أو التصحيف. راجع الفقيه 1: 48/95.