الحديث الرابع

إن للعبادة التي هي هدف الخلق أسراراً، وأسرار العبادة غير الآداب والأحكام، فللعبادة سلسلة من الأحكام ومجموعة من الآداب والأسرار، فأحكامها هي الواجبات المذكورة في الكتب الفقهية: كيفية الوضوء والصلاة، وبيان واجبات الصلاة وأركانها.

وأما آداب العبادة فقد ذكرتها الكتب الفقهية بعنوان المستحبات، وذكرت البقية في كتب الأخلاق.

وأما أسرار العبادات فإنها لم تذكر في الكتب الفقهية ولا في الكتب الأخلاقية، بل هي أمور روحية باطنية مرتبطة بروح الإنسان.

فالدعاء ـ مثلاً ـ له أحكام وآداب واسرار، وأحكام الدعاء تتعلق بما يطلبه الإنسان من الله عز وجل، كأن لا يطلب المحرم، ولا يقصد ضرر الآخرين، ونحو ذلك.

وأما آداب الدعاء فهي الهدوء والسكينة وعدم رفع الصوت إلى الحد المكروه، لأن الصوت العالي خلاف الأدب.

وأما أسرار الدعاء فهي روح الدعاء، حيث يشعر الداعي بأنه في محضر الله عز وجل، وأن المدعو سبحانه مطلع عليه وهو خير الشاهدين، وتذكر أسرار العبادات في الكتب العرفانية.

يقول تعالى:

(واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفةً ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين)، (الأعراف: 205) كن دائماً في ذكر الله، وليكن ذكره تعالى بقلبك وعلى شفتيك، وليكن ذلك بهدوء آناء الليل وأطراف النهار ـ وهو كناية عن الاستمرارية في الذكر.. ولا تكن من الغافلين.

عندما يخرج الإنسان في تظاهرة أو مسيرة، يرفع خلالها الشعارات، ينبغي له أن لا يتسم بالهدوء والسكينة، بل يرفع صوته بالتكبير والهتاف، كان الرسول (ص) يوصي المقاتلين بأن لا يخلدوا إلى السكون، بل عليهم أن يرفعوا أصواتهم بالشعارات.

وفي مواقع القتال تختلف الشعارات التي يرفعها الإنسان عن الشعارات في المظاهرات، وفي الصلاة أو بعدها يدعو المصلي بهدوء وسكينة وهو مكسور القلب وتلك هي آداب الدعاء.

ومن آداب الصلاة ما جاء في حديث الرسول (ص): "من اتقى على ثوبه في صلاته فليس لله اكتسى"، [من لا يحضره الفقيه ج1، باب 29، ح20]. فإذا كان للإنسان ثوبان أحدهما جديد والآخر قديم وبال، فلا يلبس وقت الصلاة إلا ثوبه القديم، فهو إنسان لا يرتدي ثيابه لله تعالى، بل للناس لأنه يعز ثوبه الجديد على الله، ومثله من كان يحذر الصلاة بالملابس الجديدة في الأماكن القذرة، حتى ولو أدى ذلك إلى تأخر صلاته إلى وقت القضاء، والعياذ بالله، وهذا آدب من آداب الصلاة وليس سراً من أسرارها، لأن أسرار الصلاة أمور باطنية.

إن لكل عبادة ـ صلاة كانت أم غيرها ـ باطناً مثالياً وباطناً عقلياً، والباطن المثالي يراه الإنسان في عالم البرزخ ـ والبرزخ هو عالم القبر ـ وليس للإنسان أربعة عوالم: عالم الدنيا، والقبر، والبرزخ، والقيامة الكبرى، لأن عالم القبر هو عالم البرزخ، فيصبح للإنسان ثلاثة عوالم: الدنيا والبرزخ والقيامة، سئل المعصوم (ع) عن عالم البرزخ متى يبدأ؟ فقال: "منذ القبر"، فالبرزخ هو القبر، في اللحظة التي يدخل الإنسان فيها القبر يبدأ عالم البرزخ، فكل شيء يرتبط بعالم المثال يراه الإنسان في عالم البرزخ، أما الباطن العقلي للعبادات، فيراه فوق عالم البرزخ، والروايات في هذا المضمون كثيرة.

عن أبي بصير تلميذ الإمامين الصادق والباقر (ع) أنه قال: "إذا مات المؤمن دخل معه في قبره ست صور، فيهن صورة هي أحسنهن وجهاً وأبهاهن هيئة، وأطيبهن ريحاً، وأنظفهن صورة، قال: فتقف صورة عن يمينه وأخرى عن يساره وأخرى بين يديه، وأخرى خلفه، وأخرى عند رجليه، وتقف التي هي أحسنهن فوق رأسه، فإن أتي عن يمينه منعته التي عن يمينه ثم كذلك إلى أن يُؤتى من الجهات الست قال: فتقول أحسنهن صورة: من أنتم جزاكم الله عني خيراً؟ فتقول التي عن يمين العبد: أنا الصلاة، وتقول التي عن يساره: أنا الزكاة، وتقول التي بين يديه: أنا الصيام، وتقول التي خلفه: أنا الحج والعمرة، وتقول التي عند رجليه: أنا بر من وصلت من إخوانك ثم يقلن: من أنت؟ فأنت أحسننا وجهاً وأطيبنا ريحاً وأبهانا هيئةً، فتقول أنا الولاية لآل محمد (ص)". [المحاسن، للبرقي، الحديث 432، ص232].

يتبين من ذلك أن للصلاة أحكاماً وآداباً وسراً وباطناً، فباطن الصلاة هو هذه الصورة النورانية اتي ترافق العبد المؤمن في القبر والإنسان يستطيع أن يرى صلاته ويتكلم معها، وصلاته تشفع له، وهي بذلك المثال والصورة، فجميع العبادات لها هذه الصور، وهي على هذا المنوال، وهذه الأحاديث النورانية ليست موجودة في الكتب الفقهية أو الأخلاقية، بل هي باطن العبادات، وهي مرتبطة بعلوم أخرى، وقد ذكرت هذه الأحاديث لبعض تلاميذ الأئمة (ع) على الرغم من كثرتهم.

جاء شخص إلى الإمام الرضا (ع) وقال له: ما الدليل على أن الله واحد وليس اثنين؟ فقال (ع): "قولك إنه اثنان دليل على أنه واحد لأنك لم تدع الثاني إلا بعد إثباتك الواحد، فالواحد مجمع عليه، والأكثر من واحد مختلف فيه". [أصول الكافي ج2 توحيد الصدوق ص207، ح5].

ويسأل الرسول (ص) في محل آخر: ما الدليل على وحدانية الله عز وجل؟ فيقول: "اتصال التدبير وتمام الصنع لقوله تعالى: (ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا). [توحيد الصدوق الباب 26، ح2].

هذه الصورة من كلامه (ص) ليست برهاناً، لكنها تكفي لإقناع شخص متوسط المعرفة، لكنه (ص) يوضح في محل ثان لتلميذ آخر مسائل التوحيد بشكل أدق، إن مثل حديث: "إن للصلاة باطناً وصورة" لا يذكر لأي شخص، ولا يطرح في أي مجلس، وحتى العلماء الكبار الذين جمعوا الأحاديث، كانوا ينتقون الأحاديث التي تناسب ذوقهم واختصاصهم العلمي.

وهنا يوضح الرسول (ص) معنى الصورة فيقول: الصورة النورانية التي على الطرف الأيمن للمؤمن في قبره هي باطن الصلاة، والصورة التي تقول أنا الزكاة هي التي على طرف الشمال، والزكاة لا تختص بالمال فقط، بل بكل نعمة يتفضل بها الله عز وجل، على عبده، فالإنسان مأمور بأداء زكاة النعم، جاء في الأحاديث: "زكاة العلم التعليم، وزكاة المال الانفاق، وزكاة الجمال العفاف، وزكاة الشجاعة الجهاد في سبيل الله". [غرر الحكم].

فإذا أعطي العلم فهو مكلف بتعليم الناس وإرشادهم، وإذا اعطي المال وجب انفاقه في سبيل الله، وإذا أعطي الجمال وجب عليه أن يكون أكثر عفة من الآخرين، ويجب على ذوي ملكات الشجاعة أن يكونوا أكثر حضوراً في مواقع القتال.

فإذا أنعم الله عز وجل بنعمة الشجاعة على أحد، فعليه مسؤولية أكبر وهي التضحية في سبيل الله، وهذه هي الزكاة، وإذا أدى الإنسان الزكاة تحولت في قبره إلى صورة نورانية تحشر معه وتقف على شماله تمنع عنه أي سوء.

أما الصورة التي تقول: أنا الصيام، فهي الصورة التي تقف في مقابله، وهذه الصورة النورانية هي باطن صوم الصائم الذي صام لله عز وجل، وهذا هو سر الصوم، أما الصورة التي تقف خلفه وتدفع عنه الأذى والسوء فهي صورة الحج والعمرة.

جاء شخص إلى الإمام السجاد (ع) في وقت مناسك الحج وقال: "كثر الضجيج وقل الحجيج" فقال الإمام (ع): ليس هكذا، بل قل: قل الحجيج وكثر الضجيج"، فالحجاج قليلون لكن الضوضاء كثيرة، وبعدها كشف الإمام (ع) لذلك القائل عن باطن الحجاج، فإذا بحيوانات تتحرك في أرض عرفات، والقليل منهم على هيئة الإنسان، فكل شخص له باطن، وباطنه متحد مع أعماله، لقد أطلع الإمام (ع) ذلك الشخص في أرض عرفات على بواطن الأفراد ليعرفه أنهم ليسوا جميعاً أناساً، فالإنسان يتحد مع عمله "يحشر الناس على نياتهم".، وكل إنسان يحشر على نيته، ويعرف الإمام المصعوم (ع) حقيقة الإنسان ويكشف هذه الحقيقة أحياناً.

وأما الصورة التي تقف عند رجليه فهي الصورة التي تقول: أنا الخير الذي قدمته لاخوانك، فكل خير يقدمه الإنسان لإخوانه، يصبح صورة نورانية تدافع عنه، فلا يمسه ضر ولا سوء، وعندما تكشف هذه الصور الخمس عن نفسها، تسأل الصورة التي على رأسه: من أنت يا من فقت الجميع نورانية وجمالاً؟ فتقول: أنا الولاية لأهل البيت (ع) فمحبة أهل البيت (ع) تكون بهذه الصورة النورانية الجميلة، تلك هي محبة علي وأبنائه الطاهرين (ع) وحب أتباعهم، تتمثل صورة لها إشراق وهيمنة على الإنسان، وهذا هو سر المحبة.

يكون للإنسان أحياناً نوع من التصور عن المعصومين (ع) وفي أحيان أخرى تكون للإنسان علاقة ورابطة مع الأئمة (ع)، وهذا هو سر الولاية، فعندما يكون الإنسان إليهم متلهفاً وبحبهم ولهاً، فإنه يحشر معهم.

اعترض شخص أمير المؤمنين (ع) في منتصف يوم شديد الحر وقال: عظني، فقال (ع): "لقد حضرت مجالسنا وسمعت كلامنا فما الفائدة من سماع موعظة في مثل هذا الوقت الحار؟ فقال: لا أدعك حتى أسمع منك نصيحة فقال (ع): "أنت مع من أحببت". [الآمالي، للشيخ المفيد ص6].

يقول الإمام (ع): إن الإنسان يحشر مع من أحب، فانظر إلى قلبك بأي شيء مرتبط؟ وأي شيء يحب؟ أو أي شيء يريد؟ علينا ان لا نفكر في كل شيء، ولا نفكر في أنفسنا، فمن الممكن أن يقضي الإنسان عمره وهو لا يعرف ماذا يريد، لا تكن همتكم في عدم الدخول إلى النار بعد الموت، يجب أن تكون همتنا الوصول إلى الأسرار الباطنية والعقلية، ولعلك تسأل: هل يمكن أن نرى باطن الصلاة؟ أي تلك الصورة النورانية! نعم يمكن للإنسان أن يرى صورة الصلاة، والحج والجهاد، نعم، إذا امتلك عيناً ملكوتية، فيمكنه أن يرى كثيراً من الأشياء، وعند ذاك لا يتحسر يوم القيامة، لماذا يغفل الإنسان عن كل هذه النعم لماذا يقنع بأنه لا يذهب إلى النار؟

قيل: إن درجات الجنة بعدد آيات القرآن الكريم، وإن للإنسان بيتاً في الجنة لو أن جميع أهل الدنيا سكنوا فيه لوسعهم، أي عالم هذا؟ وإلى أي مستوى تصل روح الإنسان؟ وأي مقام يحصل عليه الإنسان؟ وما هو سر العبادات؟ السر هو هذه الصور النورانية، هذه الأعمال الظاهرية، لها صور نورانية يحشر الإنسان معها، فهذه الصور معنا غير منفصلة عنا، إن أداء التكاليف الشرعية أو الاتيان بآداب العبادات هو قطع لنصف الطريق، أما الوصول ومعرفة أسرار العبادات، فهو قطع كل الطريق والوصول إلى نهايته، وهذا بعض ما جاء في الأحاديث عن بواطن العبادات.

قال الإمام علي (ع) للحارث الهمداني الذي كان من تلامذته: "كل من يمت يرني"، وقبل أن يقول هذا كان الإمام (ع) قد عرف نفسه وقال: أنا أخو الرسول، وأول من آمن به، وصدق به، وآدم أبو البشر لم يخلق بعد، أي عالم هذا؟ وبأي عالم هو مرتبط؟ هل هذا العالم هو عالم الطبيعة؟

المحتضر إذا قرب أجله يدخل عالم البرزخ، وعندها لا ينظر بعينه ولا يسمع بأذنه، وتنقطع حواسه عن العالم الدنيوي، وينقطع تعلق الروح بهذه الدنيا، ويرى إلى جانبه مجموعة من الضيوف الكرام النورانيين، أما أولاده وأقرباؤه فليس لهم ذكر، لأن عين الطبيعة قد أغلقت، وهو الآن يرى ضيوفاً كراماً لكنه لا يعرفهم، لا يعرف هذه الوجوه النورانية، وعندئذٍ يعرفون أنفسهم، فيقولون: هذا الذي في المقدمة هو رسول الله (ص) والذي بجانبه هو الإمام علي (ع)، وإلى جانب علي فاطمة (ع) وإلى جانبيها الحسن والحسين (ع)، ويعددون الأئمة (ع) واحداً تلو الآخر، وأول ما يرى الإنسان في عالم البرزخ هذه الصور النورانية، وتطرح في هذا المجال أسئلة كثيرة، فهل يرى جميع أهل القبور هذه الصور، أم المؤمنون منهم فقط؟ وإذا كان الجميع يرون أمير المؤمنين (ع)، فهل يرونه بصورة واحدة أم بصور متعددة؟

إن على الإنسان أن ينمي ويقوي غريزة الحب والعداوة التي يجدها في نفسه، بحيث يذوق طعم حبه، وإلا فالحب والعداوة عند الكثير من الناس، ولا يخلو شيء في الوجود من قوتي الجذب والدفع، السلب والإثبات لكن وجودهما في الإنسان المؤمن أشد وأقوى.

هناك رسالة في هذا المقام منسوبة للخواجة نصير الدين الطوسي ـ رضوان الله عليه ـ يقول فيها: إن قوة الجذب والدفع موجودتان في الجمادات والنباتات والحيوانات والإنسان، فان الحجر أو التراب إذا أراد أن يصبح ياقوتاً أو عقيقاً فإن التراب المستعد لذلك سوف يجذبه، أما التراب غير المستعد له فسوف يدفعه، إذ ليس كل تراب مستعداً لأن يصبح ياقوتاً أو عقيقاً فالجذب والدفع موجودان في كل المعادن والنباتات والتراب، فالنبات لا يجذب كل مادة، بل ينتقي المواد الصالحة ويدفع المواد الضارة.

ويكون الجذب والدفع في الحيوانات بصورة "شهوة" و"غضب" وإذا نزهت تكون بصورة "محبة" و"عداوة"، وإذا اكتملت نزاهتها أصبحت بشكل "إرادة" و"كراهية"، وإذا أصبحت أكثر رقة وشفافية، أصبحت بشكل "تولي" و"تبري"، وهذه من خواص المؤمنين الربانيين وصفاتهم.

يجب أن يحرز المؤمن التولي، بمعنى أن يحب العبادات وخصوصاً الصلاة يقول الإمام الحسين (ع) لأبي الفضل العباس (ع): قل لهؤلاء القوم أن يمهلونا هذه الليلة ـ ليلة العاشر من المحرم ـ لأن الله يعلم "أني أحب الصلاة".

الكل يؤدي هذه الأعمال الصورية الظاهرية، والكثير من الناس يعلم آداب الصلاة لكن الإمام الحسين (ع) يحب حقيقة الصلاة وباطنها.

نقل عن الإمام السجاد (ع) وعن بقية المعصومين (ع): "إذا صليت صلِّ صلاة مودع"، فعندما تصلي صلِّ وكأنك في آخر ساعة من ساعات عمرك، إذ لعلك لا تدرك الصلاة الأخرى.

فليس المهم أن نصلي، بل المهم أن نحب باطن الصلاة، وليس المهم أن نجاهد، بل المهم أن نحب الجهاد، لماذا اختفى اسم المقاتلين من الدنيا ولم يبق إلا اسم المجاهدين المسلمين خالداً على مر العصور؟ وسوف يبقى على مر الليالي والأيام.

فهل كانت حملة المغول وقتلهم الناس بتلك الصورة البشعة هينة؟ ألم يقتلوا الشيوخ والأكابر؟ ألم يرفعوا رؤوس الناس على الحراب محشوة بالتبن بعد سلخ جلودها؟ ألم يرسلوا قطعاً من أبدانهم إلى بغداد وتبريز وشيراز لكي يصاب الناس بالذعر والخوف؟ لقد دفنت هذه الجرائم والفضائح في بطون الكتب ولم يبق لها ذكر، لأن هذه الحروف لم يكن لها باطن أو روح، ولم تكن أصيلة، بل كانت من أجل الدنيا والشهرة، فدم الذي يحارب من أجل الأرض لا يساوي إلا التراب، أما الذي يحارب من أجل الله ويقتل فهو باق، فالمصلي باق وخالد، وكذلك الصائم، وهناك فرق بين قول شخص: أنا أصلي، وبين قول سيد الشهداء (ع): أنا أحب الصلاة.

شب حريق في بيت الإمام السجاد (ع) وكان مشغولاً بالصلاة وبعد أن أطفأله الناس قالوا للإمام: لقد شب حريق في بيتك ولم تلتفت إليه، ألم تسمع الضجيج؟ فقال: لا، فقالوا: وكيف ذلك؟ فقال (ع): كنت مشغولاً بنار الآخرة عن نار الدنيا.

هل يمكن للإنسان أن يرى نار الآخرة؟ نعم يستطيع أن يرى تلك النار، يقول القرآن الكريم: إذا وصل الإنسان إلى علم اليقين، عند ذلك يرى نار القيامة: (كلا لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين * ثم لتسألن يومئذ عن النعيم)، (التكاثر: 5 ـ 8) ويتبين من هنا أن باطن المعصية هو النار، وأن باطن الطاعة هو الجنة، فباطن الصلاة والصيام الجنة، ولو كنتم من أهل السلوك الحسن لرأيتم النار الآن، يقول المثنوي جلال الدين في شعر له:

"العبرة أن يرى الإنسان النار لا أن يُكب على وجهه في النار"

الفن والعبرة أن يرى الإنسان نار الذنوب، التي هي جهنم، فللذنوب أيضاً أحكام وأسرار، فباطن الذنوب نار متوقدة، وباطن الصلاة والصيام جنة.

عرّف مجموعة من أصحاب النبي (ص) والأئمة (ع) هذه الأسرار، قال الحارث بن مالك للنبي (ص): "يا رسول الله، إني أرى جهنم وأهلها والجنة وأهلها وأسمع أصواتهم"، إذن فأسرار العبادة ليست مقصورة على الأئمة (ع) أو خاصة بالأنبياء، وإن كانت لهم درجات ومنازل لا تدركها أفكارنا، وهذا لا يعني أن كل من رأى جهنم أو الجنة أصبح معصوماً، فعندما يبين الإمام الرضا (ع) مقام الإمامة يقول: "مقام الإمام بمكانة لا تصل إليها أفكاركم، وهو كالشمس الطالعة للعالم وهي بالأفق، بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار"، فأين العقول وأين الاختيار من هذا؟ الإمام كالشمس في كبد السماء، فكما أن الإنسان لا يصل إلى الشمس، فكذلك العقول لا تدرك حقيقة الإمام، إذ الإمام ليس إنساناً عادياً حتى يستطيع الناس معرفة حقيقته، بل هو قائد وخليفة عين من قبل الله عز وجل.

أما تلامذة الإمام (ع) فهم يستطيعون أن يروا الجنة وجهنم وباطن الذنوب، أو يرونها في المنام في أقل تقدير، أما نحن ففي حال اليقظة نائمون، لا النوم لنا درس ولا اليقظة، لأننا في حال اليقظة غافلون.

ينقل المرحوم الكليني ـ رضوان الله عليه ـ أنه: كان الرسول (ص) عندما يحضر المجلس يقول: "هل من مبشرات"؟ هل رأيتم البارحة (رؤيا) في منامكم؟ ينام الإنسان لكي يعرف شيئاً ما، لا أن يأكل كثيراً حتى ينام، الشيء الذي يشغلنا هو أن تمتلئ بطوننا طعاماً، حتى يغلب علينا النعاس، وهو هدر للعمر ليس إلا، إن من يقيس نفسه بالفساق والحقراء، يكون قد أضر بنفسه، يقول الإمام المجتبى (ع): "لا تقس نفسك بالحقراء والفساق".

هناك أسرار يمكن للإنسان أن يصل إليها، لكنها لا توصف، فليس الصيام أن يمتنع الإنسان عن طعامه في النهار.

تجشأ شخص في حضرة الرسول (ص) فقال (ص): "أقصر من جشئك، فإن أكثر الناس جوعاً يوم القيامة أكثرهم شبعاً في الدنيا"، [المحاسن للبرقي، ص447]. فليس مناسباً أن يملأ الإنسان بطنه طعاماً حتى إذا كان في جمع من الناس تجشأ، فإن كثرة الطعام تضر بالصحة ويجب على الإنسان أن يراعي أدب المجالس.

يقول الرسول (ص) عن هذه الأسرار: أنتم تستطيعون رؤية الجنة والنار، ولا تقولوا أن هذا مقام الإمام، فمقامه مقام سام لا يرقى إليه عقل الإنسان.

فإذا كانت أسرار العبادات هذه أسراراً مثالية برزخية، فكيف بالأسرار العقلية؟