الحديث الحادي عشر

الأصل المشترك بين كل العبادات هو أن الإنسان إذا وصل إلى أسرارها، فإنه يشاهد معبوده سبحانه، والسر يعني الباطن، فباطن عبادة المعبود هو مشاهدة المعبود، ولأجل أن يعرف الإنسان هل أنه يراعي الأحكام والآداب فقط، أم أنه تجاوز ذلك إلى سر العبادة؟ فليلاحظ هل أنه يرى معبوده أم لا؟ وهناك طريق لمعرفة ذلك، فإنه لمشاهدة المعبود درجات، فيمكنه أن يبدأ من الدرجات الأولى، لأن الدرجات النهائية هي مشاهدة المعبود، والدرجات الابتدائية لمشاهدة المعبود هي أن ينظر إلى قلبه ويتأمل فيه، هل يوجد فيه غير الله؟ بأي شيء هو متعلق؟ فإذا كان متعلقاً باللذائذ الشخصية، والأمور الجزئية، فليعلم أنه لم يصل إلى سر العبادات، وليس حب الله خالصاً في قلبه، فالذي يشاهد معبوده، يكون ضميره محل حضور وظهور ذلك المعبود.

وقد وصل الإمام علي (ع) إلى المراحل النهائية لمشاهدة المعبود، فهو يقول: (ما كنت أعبد رباً لم أره)، أي لست من أولئك الذين يعبدون الله دون أن يروه بعين الروح والباطن، الدرجة الأولى هي أن يلاحظ الإنسان ماذا يريد؟ هل يطلب الله لنفسه؟ أم نفسه لاجل الله سبحانه؟ هل يعبد الله ويتخذه وسيلة للعيش الهنيء، ويجعل العبادة وسيلة للدخول إلى الجنة؟ أم يجعل نفسه وعبادته لأجل رضى الله سبحانه وتعالى؟

هذا ما جاء في الخطبة الشعبانية للرسول الأكرم محمّد (ص) حيث يقول: (أدعوا الله بقلب طاهر ونيات صادقة)، وقد بين الإمام الصادق (ع) القلب الطاهر وهو: القلب الذي لا يخطر فيه غير الله عز وجل، وكذلك جاء عن الصادق (ع) في تبيان معنى الآية الكريمة: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً)، (الملك: 2) فالموت والحياة هما وسيلة للاختبار والامتحان، حتى يتميز صاحب الأعمال الحسنة عن غيره، وليس لتبيان من هو أكثر عبادة، فليس الكلام هنا عن الكمية، قال: (ليس يعني أكثركم عملاً، ولكن أصوبكم عملاً، وإنما الإصابة خشية الله والنية الصادقة، ثم قال: العمل الخالص الذي لا تريد أن يمدحك عليه أحد إلا الله  ـ عز وجل ـ والنية أفضل من العمل) [أصول الكافي ج2 باب الاخلاص، الحديث 4]. فالموت والحياة ما هما إلا ليتبين أي الناس أصوب عملاً.

قال: إن أهل الصواب والحقيقة أكثر خوفاً من الله، لأن قلوبهم خالصة لله، العمل الخالص هو الذي لا يرغب الإنسان أن يمدحه عليه أحد، ولا يقول لماذا لا تشكرونني؟ فمن المؤسف أن يعمل الإنسان عملاً، ويتوقع الشكر والمدح من الآخرين، إن ذلك المقام العظيم لا ينزله الإنسان بتوقع المدح والثناء من الآخرين، بل الإنسان الصالح، يطلب ويحب المدح والثناء الإلهي.

نعم، النية أفضل من العمل، لأن النية قوية وخالصة فإنها تدفع الإنسان نحو الخير، فالنية أصعب من العمل، ولهذا قالوا: (نية المؤمن خير من عمله)، وقالوا: (أفضل الأعمال أحمزها)، [بحار الأنوار ج7، ص191]. فكلما صعب العمل كان ثوابه أكثر.

هناك أصلان دينيان عندما نبحثهما معاً تكون النتيجة هي أن النية صعبة جداً، فكيف يكون أفضل الأعمال وأصعبها أقل ثواباً من النية وتكون النية أفضل منه؟ أليست النية أسهل من العمل؟

يمكن للإنسان أن يشارك في الحرب ويستشهد، فالشهادة ليست صعبة، ولكن الإخلاص لله هو الصعب، فضبط النفس ومخالفة الشيطان صعبة، ولهذا قال (ع): (النية أفضل من العمل)، لأن النية روح العمل، ولهذا يقولون: استحضر النية عند العبادة.

تصور أنك تصلي الظهر في لغة أهل المعنى وبالحمل الأولي قربة إلى الله، أما في الحمل الشائع فهو غفلة، فهذه ليست نية بذلك المعنى، النية هي انبعاث وتحليق الروح، فإذا طار الإنسان عن عالم الطبيعة، وصعد إلى الأعلى قيل: إنه نوى، لأن هذا في الحمل الشائع نية، وإلا فهو إخطار حصولي ومفهوم ذهني ليس إلا، وهذا هو الحد الأدنى من العبادة الواجبة علينا، وبها نسقط التكليف ولا تحتاج إلى إعادة وقضاء.

أما النية التي يكون باطن العمل مرتبطاً بها، فهي أعلى من العمل لأنها انبعاث الروح وتحليقها، تلك النية التي يقولون عنها: انها أفضل من العمل، وقالوا: إسألوا الله بنيات صادقة فهذه هي النية، إذا قرأ الإنسان القرآن، وقراءة القرآن عبادة، فإذا شاهد من يكلمه في قرائته، كان قد وصل إلى سر التلاوة، وإذا شاهد المعبود بروحه من خلال عبادته، فهو قد وصل إلى سر العبادة.

يقول أمير المؤمنين (ع): "فتجلى لهم سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا رأوه". [نهج البلاغة، الخطبة 147].

فتلاوة القرآن إذن لها سر وهو مشاهدة المتكلم، وقراءة القرآن لها آداب وأحكام، وهي كيفية أداء الكلمات والحروف من مخارجها، في أي مكان يقف وأين يصل، وهذا جزء من أحكام وآداب التلاوة، أما سر التلاوة فهو مشاهدة الله تعالى، وعليه يمكن للإنسان أن يقرأ كتاب الله بشكل يرى فيه المتكلم، وأن يتعبد بنحو يرى الله عز وجل، وإن المرحلة الدنيا من مشاهدة المعبود هي أن لا يوجد في قلبه أية علاقة أو رابطة بغير الله عز وجل، ويستطيع الإنسان أن يشخص بسهولة هل يوجد في قلبه حب الله أم حب غيره؟

يقول الإمام السجاد (ع): "لو مات ما بين المشرق والمغرب لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي". [أصول الكافي ج2 كتاب فضل القرآن، الحديث 13].

وكان (ع) إذا قرأ: مالك يوم الدين، يكررها حتى يكاد أن يموت [أصول الكافي ج2 كتاب فضل القرآن، الحديث 13]. فما معنى قول الإمام (ع) بأنه لو مات جميع الناس ولم يبق أحد على وجه الأرض، فلا يحس بالوحشة والغربة مادام القرآن الكريم معه؟ يحس الإنسان بالتعب النفسي والوحشة في بعض الأوقات لأنه ليس له مؤنس، وقد يكون المقصود من هذا هو أن الإمام (ع) لا يحس بالوحشة لو أصبح جميع الناس موتى أي كفاراً، لأن الكفر هو الموت الحقيقي.

الموت في الحقيقة هو موت الروح، والإنسان الكافر إنسان ميت من وجهة نظر القرآن، والإنسان الحي هو الذي يعتقد بدين الله عز وجل: (لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين)، (يس: 70) ويقول تبارك وتعالى لرسوله (ص)، في الوقت الذي يشمل الكفر جميع الأرض، إذا لم ينصرك أحد، فقم لوحدك: (لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين)، (النساء: 84) فإذا لم يحضر أحد إلى القتال، وأصبحت لوحدك في مقابل الأعداء، فحاربهم، لأن الذي أوحى إليك القرآن الكريم هو معك، فمن أحلى كلاماً من الله عز وجل؟

إن الله سبحانه وتعالى يتكلم مع الإنسان، وإن من آداب تلاوة القرآن أنه عندما يقرأ الإنسان هذه الآية الشريفة: (يا أيها الذين آمنوا) فليقل: (لبيك)، فهذا هو خطاب فعلي، والخطاب موجه لنا أيضاً، والإنسان يقول للمنادي: (لبيك)، وإن خطاب: (يا أيها الذين آمنوا) هو كلام الله، وكذلك قول الله تعالى لرسوله (ص): (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله)، (التوبة: 6) يشير إلى أن ما يقرأه الإنسان هو كلام الله، نسمعه من ألسنة عباده.

كيف يقول الله عز وجل عليكم أن تحاربوا الكفار، وإن الله عز وجل يعذب الكفار بأيديكم؟ فالعذاب هو عذاب الله سبحانه، لكن منفذي العذاب هم أنتم، فإن يدكم هي يد الله عز وجل: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم)، (التوبة: 14) فالإنسان هو اليد الفعلية للحق تعالى: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى). (الأنفال: 17)

إذا قرأ أحد القرآن فإنه يسمع كلام الله عز وجل، لهذا قال: إذا أراد الكافر أن يسمع آيات الله فأعطه الأمان حتى يسمع كلام الله، وكما أن يد المؤمن هي يد الله، كذلك كلام المؤمن حال قوله للحق وطلبه للحق، لذا عندما نسمع أحد يقرأ (يا أيها الذين آمنوا)، فمن أدب التلاوة والإستماع أن نقول: لبيك، وهو جواب للمنادي، فإن لم يكن هناك نداء فلا معنى للتلبية.

ليس القرآن الكريم مثل بقية الكتب، بل: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا)، (الأعراف، 204) أي أن تكون الأعضاء كلها أذناً صاغية لفهم القرآن.

وعندما يقرأ القرآن، فلا تتكلموا، لا أن تسكتوا فقط، بل استمعوا، وإذا لم يستمع الإنسان، فانه لا يفهم، والإستماع غير السماع، فعليه أن لا يكون ساكتاً فحسب، بل يكون متفهماً.

يقول الله سبحانه لرسول (ص) عندما يتكلم مع الكافرين، قل لهم: (قل يا أيها الكافرون)، أما عندما يريد أن يتكلم مع المؤمنين، فيكون الخطاب دون واسطة، ففي سورة الأنعام يقول تعالى: (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم). (الأنعام، 54)

إن للذي يشترك في جلسة القرآن درجة خاصة، فبعض الناس يسمع كلام النبّي (ص)، والبعض الآخر يسمع كلام الله عز وجل، لذا يقول السجاد (ع): إذا كان القرآن معي، فلا أستوحش من شيء ولا أخاف شيئاً، حتى لو مات أهل الدنيا بأجمعهم، سواءً كان موتهم ظاهرياً أم حقيقياً، والموت الحقيقي هو الكفر، فإذا أصبح كل أهل الدنيا كفاراً، فلا فرق عندي لأن القرآن معي.

نحن لا نستوحش من شيء، لأن المؤمن في حربه مع الكفار لا يفقد شيئاً، لا يمكنه تعويضه، باستثناء انتقاله من هذه الدنيا المحدودة إلى عالم الآخرة، فالمؤمن لا يخاف من الإنتقال من عالم الطبيعة إلى عالم ما وراء الطبيعة، وكذلك لا يخاف من الكفر العالمي.

سر العبادات أن يرى العابد معبوده في ضميره، وهذا الطريق ليس محالاً، لكن له أحكام وآداب وشروط، ومن أجل أن نعرف هل يوجد في ضميرنا معبود غير الله أم لا؟ وما العمل الذي يوصلنا لذلك؟ إنه سعي الإنسان لأن يحفظ عينه وأذنه من المعاصي، وأن يؤدي تكاليفه الشرعية في محل عمله وبيته، فهذه هي الطرق الموصلة لذلك المقام.

يقول المرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين ـ رضوان الله عليه ـ في شرح بعض أحوال العظماء، في كتابه الشريف المراجعات: عند بعض أهل العلم والسلوك برنامج عمل في بيوتهم، فهم يقسمون الأعمال بين أفراد العائلة، أي أن كل أفراد العائلة يعملون ليل نهار بحيث يبقى البيت مضيئاً ليلا نهار، فلا ينامون جميعهم في الليل، بعد تناول الطعام إلى الصباح، بل يتناوبون فيما بينهم على العبادة، فمثلاً يبقى فلان مشغولاً بالعبادة والدرس والبحث والتلاوة والدعاء إلى وقت معين، بينما ينام الباقون، ثم ينهض غيره للعبادة والذكر، ثم ينام الثاني بعد أن قضى وقتاً بالعبادة، وينهض الثالث، وهكذا يبقى البيت مضيئاً بالعبادة والدعاء إلى الصباح.

لو لاحظتم الأسرة التي ربت الشيخ الأنصاري، أو شخصية مثل بحر العلوم وأمثالهما، لوجدتم أي أسرتين كريمتين شريفتين كانتا، إنهما نتاج سنوات من التعب والتربية المتواصلة لأسلافهم الأبرار، ليس اعتباطاً أن يعطي الله عز وجل فرداً ممتازاً لامثال هذه الأسر بعد أن سعت لأن تبقى بيوتها مضيئة إلى الصباح، وأن لا يعمل في ذلك البيت إلا بما يرضي الله سبحانه، لكي يصبح ذلك البيت تدريجياً مركز النور والهداية، وتصبح مدينة كاملة مضيئة بهذا النور، البيت الذي يقرأ فيه القرآن ويكون هو الحاكم فيه، هذا البيت يضيء لملائكة السماء، مثلما تضيء النجوم لأهل الأرض، فعندما ينظر الإنسان إلى الفضاء الخارجي يرى بعض الأماكن مضيئة، والبعض الآخر مظلماً، بعضها فيه نجوم والآخر خالٍ منها، وكذلك الملائكة، عندما ينظرون لأهل الأرض يرون بعض الأماكن مضيئة والأخرى مظلمة أو قليلة النور، على أي حال فالبيت الذي يقرأ فيه القرآن يضيء لأهل السماء.

سميت الصديقة الكبرى ـ سلام الله عليه ـ الزهراء، أي المضيئة، فبيتها ومحرابها ومركز عبادتها كانت تضيء لأهل السماء، والإنسان الكامل يضيء لأهل السماء، هناك آيتان في القرآن الكريم تشيران إلى أن قسماً من الملائكة وحاملي العرش يطلبون ويسألون المغفرة للمؤمن، والقسم الآخر من الملائكة يطلبون المغفرة (لمن في الأرض)، لجميع الذين يعبدون الله في الأرض، (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا)، (غافر، 7) وفي آية أخرى الملائكة يطلبون المغفرة لجميع أهل الأرض.

قالوا: إن المراد من هاتين الآيتين واحد، ملائكة الرحمة حاملوا العرش يستغفرون للمؤمنين، ومفهوم الآية (ويستغفرون لمن في الأرض) أيضاً للمؤمنين، لأن غير المؤمن لا يرى فهو مظلم، وكل بيت تراه الملائكة تستغفر له، البيت الذي يكون الدين حاكماً فيه هو البيت المضيء والملائكة تستغفر له، أما بيت الكافر فهو مظلم، والملائكة لا تراه، وكذلك الله عز وجل لا ينظر إليهم يوم القيامة، (ولا يكلمهم الله يوم القيامة)، (البقرة: 174) (ولا ينظر إليهم يوم القيامة)، (آل عمران: 77) فكما أن النجوم تضيء لأهل الأرض بعنوان موجود نوراني، فكذلك البيوت التي يعبد الله فيها، تضيء لأهل السماء، فإذا استطاع الإنسان أن يجعل محل عمله أو بيته ومحيطه الذي يعيش فيه كذلك، فسيصل بالتدريج إلى مقام سام، ويكون الأمر في بداياته صعباً، لكن الإستمرار على الطريق ومواصلة السير يسهلانه.

يرى الإنسان أن الكلمة الباطلة تؤذيه، كما أن طرح المسائل العقلية والمعارف الإلهية وأمثال ذلك لبعض الناس يؤدي إلى امتعاضهم، بسبب أن ذوقهم وميولهم لا تتفق وهذه المعلومات، وإننا نجد الإنسان إذا اعتاد مجالسة التافهين، فإنه لا يتألم ولا يمتعض عند سماع كلامهم ولطائفهم من الآخرين، إن الإنسان يستطيع أن يربي نفسه في أي اتجاه يريد، فلماذا لا يربي نفسه على الخير والصلاح؟ لماذا لا نعتاد على فعل الخير؟

فإذا أردنا أن نعرف هل وصلنا إلى سر التلاوة أم لا؟ فلننظر هل نرى المتكلم أم لا؟ طريق معرفة أسرار العبادات هو أن لا يرى العبد معبوداً في قلبه غير الله سبحانه، وهذا أيضاً له درجات، وأساسه أن لا يرى الإنسان شيئاً أحق بالحب من الله عز وجل، وعندها ينتفي القلق عنه، لأن ما يفقده ليس له قيمة، أو ليس محبوباً له، والأشياء التي لا يرغبها زائلة، ولهذا لا يغتم ولا يحزن الإنسان العارف بفقد الأشياء.

يحزن الإنسان ويغتم أحياناً على ما مضى ويخاف مما سيأتي، فالشيء الذي يفقده يكون متأسفاً عليه وحزيناً، أو قد يخاف من أن يفقد شيئاً في المستقبل، فإذا تخلص الإنسان من الماضي والمستقبل المخيف، عند ذاك يكون كمن جاء من فوق الزمان، ووضع قدمه على الماضي والمستقبل، فليس يحزن على ما فقده، وليس خائفاً من فقد ما لديه، وفي تعبير ابن سينا: (العارف هش بش بسام يبجل الصغير تواضعاً كما يبجل الكبير وينبسط من الخامل مثل ما ينبسط من النية وكيف لا يهش وهو فرحان بالحق).

المؤمن فرح القلب دائماً، وهي علامة الظفر بأسرار العبادات، (واعلموا ان الله تعالى ـ جل ذكره ـ أقسم بعزته أن لا يعذب المصلين والساجدين ولا يروعهم بالنار يوم يقوم الناس لرب العالمين)، [الخطبة الشعبانية، أربعين ـ الشيخ البهائي ـ الحديث 9]. (لا يسمعون حسيسها). [الأربعين للشيخ البهائي، الحديث 9].

"أيها الناس من فطر منكم صائماً لله في هذا الشهر كان له بذلك عند الله عتق رقبة ومغفرة لما مضى، فقيل: يا رسول الله وليس كلنا يقدر على ذلك فقال (ع): إتقوا النار، ولو بشق تمرة"، فكل من فطر في هذا الشهر المبارك صائماً، فله ثواب من أعتق رقبة، وغفرت ذنوبه، هل يعطي الله ثواب عتق رقبة، أم أن الصائم يحرر نفسه؟ فقالوا للرسول (ص)، هذه الفضيلة لمن فطر صائماً واحداً، ونحن لا نقدر عليها، فكيف نصل إلى هذا الفيض من الثواب؟ فقال (ص): أنتم تستطيعون ذلك ولو بنصف تمرة، لقد كانت تلك الأيام صعبة، فإعطاء تمرة يحسب إفطاراً.

أراد أحدهم مرة أن يخدع الناس، فخطب بهم قائلاً: من أي شيء تشكون؟ من نقصان الحاجات أم من الغلاء؟ فما ذاك إلا بسبب المصلحة التي يراها الله سبحانه، فهو يقول في القرآن الكريم: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم)، (الحجر: 21) فالله سبحانه ينزل بمقدار المصلحة التي يراها، فلماذا تشكون؟ وكل شيء في أيديكم فهو من المخزون الإلهي وقد نزل إليكم، ويرى الله سبحانه في هذا المقدار الذي أنزله من خزائن الغيب صلاحكم، فلماذا تشكون من الغلاء والشحة؟

وعند ذاك قام الأحنف وقال لمعاوية معترضاً: يا معاوية هناك ثلاث مطالب وأنت خلطت بينها: المطلب الأول، هو أن كل الأسرار والحقائق في خزانة الغيب، وليس في ذلك شك، والمطلب الثاني: إن الله ينزل لعباده من هذه الخزانة بما يصلح حالهم، وهذا لا كلام فيه أيضاً، والمطلب الثالث هو أن الله سحبانه ينزل من هذه الخزانة بالمقدار اللازم لإدارة المسلمين، لكنك أخذته ووضعته في خزانتك وأخفيته عن الناس، ونحن نعترض على الأمر الثالث، ليس الكلام في أن الله أنزل قليلاً، إن الكلام في أن الله أعطى، لكنك أحتكرته، ومنعته الناس.

لو عرف الجميع وظيفتهم، ولم تكن فيهم صفة الجرذان، من الخزن والاحتكار، لما اصبحت الأشياء قليلة في هذه الدولة، لماذا يأتي مجموعة من الناس يوم القيامة بصورة نملة أو جرذ؟ لأن عندهم في الدنيا هذه الصفات، وقد رسخت في أرواحهم.

يقول الرسول الأكرم (ص): إذا لم تستطيعوا أن تفطروا صائماً فلا أقل من إعطائه نصف تمرة كافطار، وإذا لم يكن هذا، فأفطروا الصائم بقليل من الماء.

هكذا كانت تلك الأيام، كان الوضع المالي لبعض الناس في المدينة جيداً، ثم أصبحوا فقراء، وكان الآخرون فقراء منذ بداية أمرهم، وقد دعا الرسول (ص) العالم إلى الإسلام في هذا المجتمع الفقير، وقال: إنكم تتقدمون ولا يتسلط عليكم شيء إذا تخلصتم من التفكير بالبطون، وإذا تحررتم من قيود النفس والشهوات فلا يغلبكم أحد.

وقال (ص): أيها الناس من خفف منكم في هذا الشهر عما ملكت يمينه خفف الله عليه حسابه، ويرجع هذا البحث إلى الأفراد الذين يكون تحت أيديهم الخدم، فيجب عليهم أن يساعدوهم وأن يعاملوهم بالحسنى، في هذا الشهر المبارك يجب على الإنسان الرفق والإحسان للذين يعملون تحت يده، وإذا كان يوم القيامة يعرف من هو الآمر ومن هو المأمور، ولعل الذي هو راكب في الدنيا، يأتي يوم القيامة ماشياً، ولعل الماشي في الدنيا يأتي يوم القيامة راكباً، ولعل الذي هو أسير في الدنيا يأتي أميراً يوم القيامة والأمير في الدنيا يأتي أسيراً، (إن الغنى والفقر بعد العرض على الله).