الحديث الثالث عشر

يشاهد القارئ للقرآن المتكلم عندما ينال سر تلاوته، يقول الإمام علي (ع): "فتجلى لهم سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا رأوه"، [نهج البلاغة، الخطبة 147]. فالله عز وجل يتجلى لعباده في كتابه الكريم من دون أن يروه، وقال: كل الحقائق موجودة في القرآن الكريم، وأحداث الماضي والمستقبل موجودة فيه، والقرآن لا يجيبكم عندما تسألونه، ولا يتكلم معكم عندما تحدثونه، لكني أنا المتكلم بالقرآن، إنني أعرف أسرار القرآن، وأبينها لكم، وقد بين (ع) المعاني الحقة لقراءة القرآن، قال: إن الله عز وجل صاحب هذا القرآن قد تجلى لعباده في كتابه الكريم، ونقل نفس هذا المضمون عن الإمام الصادق (ع) حيث يقول: (لقد تجلى الله سبحانه وتعالى لعباده في كلامه ولكنهم لا يبصرون).

كان الإمام الصادق (ع) يكرر بعض آيات القرآن الكريم مثل (إياك نعبد) أو (مالك يوم الدين) ويقول: حتى كأني سمعته من قائله.

من أفضل وألطف التعابير في الفكر الإسلامي هذا التعبير (تجلى) لقد علمنا القرآن والأحاديث معنى التجلي، عندما يريد الله عز وجل أن ينزل حقيقة من عالم الغيب إلى هذا العالم يقول تجلى، والتجلي غير التجافي، وقد نزل القرآن الكريم في شهر رمضان المبارك مثل المطر عندما ينزل من الأعلى، فنزول المطر بشكل تجافي، أي عندما يكون في مكان فإنه يخلو منه مكان آخر، فعندما يكون في الأعلى فهو ليس في الأسفل، وعندما يسقط على الأرض فهو ليس في الأعلى، ولكن عندما يقول الله سبحانه: إنا أنزلنا القرآن في شهر رمضان، فهل هذا النزول مثل نزول المطر؟ فعندما يكون القرآن عندنا فهو ليس عندكم، وعندما ننزله لكم فهو ليس عندنا، أهكذا يكون نزول القرآن؟ ويكون معنى (إنا أنزلناه في ليلة القدر)، (القدر: 1) ومعنى (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن)؟ (البقرة: 185) إن نزول القرآن كنزول المطر؟ لا، الأمر ليس كذلك إن القرآن تنزل في هذا الشهر ولم ينزل، أي أن هذه الحقيقة التي كانت عند الله مازالت عنده، لكنها ترققت وتنزلت بصورة كلام لكي يتلفظ بها الإنسان، يسمعها ويكتبها ويقرؤها، فالقرآن تنزل ولم يتجاف.

فإذا اراد مجتهد أو حكيم رباني، أن يبين مطلباً من المطالب المعقولة أو المنقولة، التي هي جزء من المعارف الإسلامية وقد تكامل في ذهنه واراد إيصاله على الآخرين يقال: انه نزله للآخرين أو تنزل لهم، تنزل بشكل كتاب، أو نقط، أو بصورة أمواج راديوية أو بشكل مصور، وهذا لا يعني أن تلك الفكرة أو ذلك المعنى لا يبقى في ذهنه، وعندما يقال: إن المجتهد أنزل مطالب فقهية بصورة مسائل بسيطة يفهمها كل مكلف، فهذا لا يعني أن روحه العالية أصبحت خالية من ملكة  الاجتهاد، لأن الذي أنزله ليس ملكة الاجتهاد، بل إن الحقيقة التي يفهمها الناس هي التي تنزلت، وهذا هو معنى التنزيل، تنزل القرآن الكريم، وأحاديث أهل البيت (ع) تصف هذا المعنى بالتجلي.

الصحيفة السجادية للإمام السجاد (ع) هي زبور أهل البيت (ع) فيجب أن يكون إلى جانب القرآن الكريم كل من الصحيفة السجادية ونهج البلاغة.

وللسجاد (ع) دعاء باسم دعاء ختم القرآن عندما يتم الإنسان قراءة القرآن يدعو به، والدعاء المزبور في بيان عظمة القرآن، وما لقارئه من بركات وخيرات، حتى يصل إلى هذه الجملة "تجلى ملك الموت لقبضها من حجب الغيبوب ورماها عن قوس المنايا بأسهم وحشة الفراق"، [الصحيفة السجادية، دعاء ختم القرآن]. فملك الموت عزرائيل (ع) يتجلى للناس من خلف شعائر الغيب لقبض أرواحهم، اللهم ارحمنا في ذلك اليوم، فنزول عزرائيل ـ سلام الله عليه ـ يكون بتجليه للمحتضر.

هذا التجلي جاء في القرآن الكريم في خصوص موسى الكليم (ع): (فلما تجلى ربه للجبل)، (الأعراف: 143) وورد في نهج البلاغة، في خصوص القرآن وعظمته، ونقل عن الصادق (ع) في خصوص مكانة وعظمة القرآن، وعن زين العابدين في خصوص عزرائيل أيضاً، كأفضل تعبير وألطف معنى يجعل الإنسان مأنوساً بالغيب.

فإذا أردنا أن نعرف هل وصلنا إلى سر تلاوة القرآن أم لا، فلننظر هل زرنا بأرواحنا المتكلم في القرآن؟ هل شاهدنا بعيون قلوبنا صاحب هذه الكلمات؟ فإذا شاهدناه فهذا يعني أننا وصلنا إلى سر تلاوة القرآن، وإلا فمن الممكن أن يصل الإنسان لاحكام وآداب التلاوة، لكنه لا يصل إلى سر تلاوة القرآن.

في كتب أحاديث الإمامية أبواب متعددة بخصوص تلاوة القرآن وعظمة مقامه، مثل كتاب الكافي للشيخ الكليني ـ رضوان الله عليه ـ الذي يحتوي بحثاً باسم (فضل القرآن)، وباباً باسم (فضل حامل القرآن)، فالذي يحمل القرآن يحشر مع الملائكة، الذي يحمل القرآن ليس كاليهود الذين حملوا التوراة، فهؤلاء لم يحملوا التوراة، يقول تعالى في خصوص اليهود: (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً)، ونحن نرى خطر اليهود مذكوراً في هذه السورة عدة مرات، ولكي لا ينتشر خطر اليهود في أوساط المجتمع الإسلامي يقول تعالى في الآية: لا تعملوا بالقرآن مثلما عملت اليهود بالتوراة، لقد حملوا التوراة فلم يحملوها، نحن أعطيناهم التوراة لكنهم لم يأخذوها، والفضل للذي يحمل القرآن، وحمل القرآن هو أن يعرف معناه، ويعمل بأحكامه وآدابه ويوصل إلى أسراره، فحامل القرآن كما ينبغي له يكون كما قال الصادق (ع) "الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة الكرام البررة" [أصول الكافي ج2 كتاب فضل القرآن باب فضل حامل القرآن، الحديث 2]. فإذا فهم القرآن وعمل به فهو مع الملائكة يحشر مع السفرة الربانيين وأهل الكرامة، إن الكرامة التي ذكرت للقرىن الكريم تدل على أن باطن القرآن يوم القيامة يعبر من بين صفوف المؤمنين والصديقين والشهداء والصالحين، فهناك يوم القيامة صفوف كثيرة: صف المتقين، وصف الصالحين، وصف الشهداء، وصف الصديقين، وصف الربانيين الخ، فالشخص النوراني يعبر من بين هذه الصفوف، فيقول من فيها: نحن نعرف هذا حق المعرفة، إنه منا.

عن الصادق (ع) عن الرسول (ص)، أنه قال: "حملة القرآن عرفاء أهل الجنة"، [أصول الكافي ج2، كتاب فضل القرآن]. إن وجوه حملة القرآن معروفة ومشخصة لأهل الجنة، والذي يواجه مشقة في تعلم القرآن ويتحمل تلك المشقة فأجره مضاعف، وأما الذي يحفظ القرآن ويتعلم أحكامه دون تعب ومشقة فله أجر واحد، ولهذا يقول الإمام الصادق (ع): "إن الذي يعالج القرآن ويحفظه بمشقة منه له أجران". [أصول الكافي ج2 كتاب فضل القرآن].

وجاء عن الإمام الصادق (ع) (ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتى يتعلم القرآن أو يكون في تعليمه)، فليس من المناسب أن يموت الإنسان المؤمن وهو لا يعرف القرآن، لأن الإنسان بعد الموت يتكلم بلسان القرآن، وعند تلقين الميت نلقنه بالعربية، لأن الذي يموت وهو مسلم يظهر باطن عمله وتعلمه القرآن فيتكلم باللغة العربية لأنها لغة أهل الجنة، ولا يقال: كيف يتكلم العربية في الجنة من ليست لغته؟ إذ أن لغة أهل الجنة تابعة لعقيدتهم، وأصولاً يأتي اللسان والصورة بقالب يتناسب مع قلب الشخص، وإلا فكيف يأتي بعض الناس بصورة حيوانات والبعض الآخر بصورة إنسان؟ ويأتي بعض الناس سود الوجوه وبعضهم بيض الوجوه؟ إن الباطن هو الذي يكشف الصورة واللغة وليس الظاهر. العقيدة هي التي تعلم اللسان اللغة التي يتكلم بها يوم القيامة، الكل يتكلم العربية في الجنة لا غيرها، وخطيب أهل الجنة النبّي داود 0ع)، فقد قال أمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة: "أخي داود قارئ أهل الجنة، خطيب أهل الجنة"، [نهج البلاغة، الخطبة 160]. فالعقيدة هي التي تحكم حال الموت وبعده، فالذي يخرج من الدنيا وعقيدته الإسلام والقرآن فإنه يتكلم العربية ويفهمها.

من المؤسف أن يموت الإنسان وهو لا يعرف القرآن، إن عليه أن يتعلم القرآن، وجهاد الجهل نوع من الجهاد الأكبر، فمثلما للمقاتل في ساحات القتال حالات ثلاث، كذلك للجهاد ضد الجهل وسائر الرذائل الخلقية حالات ثلاث، المقاتل في ساحة الحرب أما أن يخسر ـ والخسارة أعم من الهزيمة والأسر ـ أو ينتصر، أو يستشهد في ساحة المعركة، وليس هناك حالة أخرى، والحرب مع الجهل والعدو الداخلي لها حالات ثلاث: أما أن يأسر، أو يستشهد، أو ينتصر.

فإذا انهزم الإنسان أمام رغباته وميوله النفسية، فهو أسير الهوى والشيطان، كالذي يقول: أفعل أي شيء يحلو لي، واقول أي شيء أحب، فهو قد هزم في ساحة الحرب مع العدو الداخلي، وهذه الهزيمة هي وقوع في شباك الكفر.

إذا كان الإنسان دائم الحرب مع خواطره وخلجاته النفسية التي تدفعه لارتكاب الذنب، ويسعى لأن لا يسقط في شباكها ثم يموت على هذه الحال، فهو شهيد في ساحة الحرب مع العدو الداخلي، وإذا طوع الإنسان خلجاته النفسية وأهواءه لعقله، بحيث لم يبق في نفسه شيء يؤذيه أو يعذبه فهذا الشخص منتصر في ساحة المعركة وفي جهاده الأكبر، وإلى هذا المعنى يشير الرسول (ص) بقوله: (ليس منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الشيطان، قالوا: وأنت يا رسول الله، قال: نعم، ولكن الله أعانني عليه فأسلم).

فإذا أردنا أن نعرف أننا منتصرون في هذه المعركة أم لا، فلننظر هل نسلم إلى الذنوب، أم لا، لا توجد ذلة أسوأ من الذنب، لهذا يقول المعصوم (ع)، لابد أن يجاهد الإنسان جهله، ويتعلم القرآن، يتعلم كيف ينتصر على الجهل، وكيف يجاهده، فإذا مات وهو في حال التعلم، فهو مثل الشهيد الذي يسقط في ساحة المعركة.

وقد جاء في الروايات: إذا مات المريض على فراشه، وهو معتقد بالأحكام (مات شهيداً) لأنه لم يستسلم في ساحة جهاد الهوس والهوى، لهذا يقول (ص) (ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتى يتعلم القرآن أو يكون في تعليمه)، فعلى الإنسان أن يواصل حربه مع الجهل إلى أن ينتصر أو يموت شهيداً، ولا يقع أسيراً.

وإذا تعلم أحد القرآن، ثم نسيه لعدم اهتمامه بمواصلة تعلمه، فيمكن أن يتعرض لعقاب شديد، والروايات بذلك كثيرة.

يقول الصادق (ع) (القرآن عهد الله إلى خلقه، فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده وأن يقرأ منه في كل يوم خمسين آية)، القرآن عهد الله إلى الإنسان، فمن اللائق به أن ينظر في هذا العهد في الليل والنهار، ويقرأ خمسن آية منه، لأن (النظر إلى المصحف عبادة)، النظر إلى كلمات الله عبادة، فهذا الكتاب ليس له شبيه، وليس كبقية الكتب التي إذا قرأها الإنسان ولم يعرف معناها فإنه لا يلتذ بها، وإذا قرأ أحد هذا الكتاب ولم يعرف معناه فله ثواب القراءة لأنه كتاب الله، ولا يستطيع أحد أن يتكلم بمثل هذا القرآن، فبمقارنة كتاب نهج البلاغة والفصاحة الذي فاقت شهرته الآفاق بالآيات القرآنية نجد أن للآيات بريقاً ولمعاناً خاصاً، بحيث لا يمكن أن نجعل كلمات الإمام (ع) مع صف القرآن الكريم، وعندما يقرأ الإنسان بعض خطب الرسول (ص) وتعترضه في وسط الخطبة آية قرآنية، فإنها تضيء وتتلألأ متميزة في الخطبة عن حديث الرسول (ص).

وهذا القرآن حبل إلهي، يقول تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً)، (آل عمران: 103) تمسكوا بحبل الله الذي هو كلامه ودينه سبحانه، لأن هذا الحبل متصل بسقف لا يزول أبداً، تمسكوا بهذا الحبل وارقوا إلى الأعلى، لا تبقوا في قعر البئر، لأن طرف هذا الحبل بيد الإنسان والطرف الآخر بيد الله عز وجل، فكل من أخذ بطرف الحبل وبحث في آيات القرآن، سيفهم معاني القرآن حتى يصل إلى لقاء الله.

فسر التلاوة أن يرى الإنسان طرف الحبل، فإذا وصل إلى المقام الذي يرى الحبل فيه بيد مَنْ؟ فقد وصل إلى سر التلاوة وسر القرآن، وإلا فالذي يقرأ القرآن ولا يعرف أن طرف الحبل بين مَن، فهو لم يصل إلى سر القرآن ولهذا قالوا (ع): يجب على الإنسان أن يقرأ خمسين آية في اليوم كحد أقل، لكي يكون على اتصال بعهد الله عز وجل، ولأجل توضيح أن القرآن حبل ممدود، طرفيه بيد الله عز وجل، وطرف الآخر بيد الإنسان، وكلما اطلع الإنسان على معاني وتفسير الآيات يبقى المجال مفتوحاً للبحث والتحقيق.

يقول الإمام السجاد (ع) (آيات القرآن خزائن فكلما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر ما فيها)، فآيات القرآن خزائن إلهية، والخزينة الإلهية لا تنفذ ولا تنتهي فكلما قرأتم آية، فمن اللائق أن تنظروا إلى داخل الخزينة لتروا ما فيها، وليس من الصحيح أن نقول أن هذه الأقوال قد تكررت، لأن القرآن يجري مجرى الشمس والقمر)، فكما تنير الشمس والمقر الحياة للإنسان في الليل والنهار، فكذلك القرآن ينير للإنسان درب السعادة في الشدائد والمحن ليل نهار فهو لا يصيبه الاضمحلال وتقادم العهد عليه، وهذا البيان تشبيه المعقول بالمحسوس.

ملاحظة: ان فهم المفسرين للآيات القرآنية مختلف، فمثلاً يقول البعض، إن المضاف محذوف في بعض الجمل، مثلاً في حادثة أخوة يوسف عندما أخذوه ولم يرجعوا به، فلما سألهم أبوهم يعقوب (ع) ماذا عملتم بيوسف؟ قالوا: (واسأل القرية) (يوسف: 82) فقال بعض: أي أسأل أهل القرية، بتقدير مضاف محذوف وهناك تفسير آخر لبعض المفسرين وهو أن معنى (واسأل القرية) أي اسأل من نفس القرية إذا استطعت أن تتكلم بلسان القرية وتفهم كلامها، فأبواب وجدران القرية تجيبك؟ لكنك لا تستطيع أن تسأل، فالذين يفهمون لسان الأبواب والجدران يسألون، فليس المضاف هنا محذوفاً، أليست الأبواب والجدران تشعر؟ اليست تشهد لصالحنا إن كنا صادقين، وتشهد علينا إن كنا ظالمين؟ ألا تشهد الأرض لأهلها؟ من هنا يتبين أن هذه الأشياء تفهم شيئاً، ألا يشفع أو يشكو المسجد من المصلين؟ في خصوص الحجر الأسود كان البعض يصر قائلاً لماذا نستلم الحجر الأسود أو نقبله؟ أنه (حجر لا يضر ولا ينفع) كبقية الأحجار، أرادوا أن يخلقوا بهذا بدعة، لولا وقوف المعصومين (ع) أمام هذه البدعة، فعن الصادق (ع) أن الذي وضع هذه البدعة، كذاب.

إن الحجر الأسود يشهد يوم القيامة ويشكو، فإذا لم يكن يضر وينفع فلماذا يشهد؟ وهو يمين الله في الأرض أنه تجلي يد الله عز وجل في الأرض وليس تجافيها، يخجل أهل المعنى من ارتكاب الذنوب ويقولون، كل الموجودات في العالم لها عيون وترى ما نفعل، فنحن في مرأى منها، فكيف نعصي؟ وهم يتجهون بهذه النظرة نحو القرآن، فآيات القرآن خزائن إلهية لا تنتهي بتفسير أو تفسيرين فعندما تطرح آية واحدة فإن باب خزينة إلهية واحدة يفتح، ومهما أخذتم منها فلا تنتهي.

إذا وصل الإنسان لباطن القرآن، وتلا القرآن تلاوة جيدة، فإن فضاء منزله سوف ينير كالنجوم، فالبيت الذي يقرأ فيه القرآن بيت نوراني، والملائكة تراه كما يرى أهل الأرض النجوم اللامعة، ينظر عزرائيل (ع) إلى البيت خمس مرات في اليوم، ويكون نظره في أوقات الصلاة، ليعرف ما يفعله الناس في أوقات الصلاة، وجاء بهذا الشأن عن النبّي الأكرم (ص) نوروا بيوتكم بتلاوة القرآن ولا تتخذوها قبوراً كما فعلت اليهود والنصارى صلوا في الكنائس والبيع وعطلوا بيوتهم).

هناك فرق بين البيت والمقبرة، فإذا كان مجموعة من الأفراد يعيشون معاً في بيت واحد وليس لهم أي أثر علمي، ولا حتى خدمة للإسلام والمسلمين فإن مسكنهم ليس بيتاً بل هو مقبرة، وأهله موتى.

لا تجعلوا البيوت مقابر، اجعلوا البيوت تشع نوراً للمجتمع، ولا تكونوا مثل اليهود والنصارى، إذا لم يعبدوا الله في بيوتهم بل في الكنائس، وفي وقت محدد فقط يجب أن تكون العبادة العامة في المساجد، والعبادة الخاصة في البيوت، فقد قالوا (ع): احفظوا المراكز الدينية والمساجد وصلاة الجمعة والجماعة، اسعوا ان لا تحرموا أنفسكم من هذا الفيض الإلهي العظيم.

يقول الإمام علي (ع) "الشاذ من الناس للشيطان كما أن الشاذ من الغنم للذئب"، [نهج البلاغة، الخطبة 127]. فكما أن الخروف المتخلف عن مجموعة يكون طعاماً للذئب، فالإنسان المنفرد عن المجتمع ولا يخضع لمسؤولية إمام الجمعة والجماعة فهو طعم للشيطان فالذي يترك المجتمع وينعزل عنه، مثل الشاة التي تترك القطيع.

جاء رجل أعمى إلى الإمام (ع) وقال: يتهيأ لي مرشد يوصلني أحياناً إلى المسجد، وأحيانا لا يتهيأ، فماذا أعمل؟ فقال (ع): خذ حبلاً واربطه بين المسجد ومركز عملك أو بيتك، فإذا لم يوجد أحد سيوصلك الحبل إلى المسجد، فالإمام (ع) يوصي الأعمى بأن يستخدم أي وسيلة توصله للمسجد.

إن الابتعاد عن الأمة الإسلامية والمسلمين خطر كبير على الفرد، والمشاركة معهم في صلاتهم، بركة، فالذي يوجد رابطة بين منزله والعبادة فقد جاء بالمسجد إلى بيته، كيف يسمح المسلم لنفسه أن يمضي الليل والنهار دون أن يقرأ القرآن في بيته؟ فالقرآن مؤثر عندما يقرأه الإنسان ويتأثر به ويعمل بأوامره.

قال (ع): نوروا بيوتكم بقراءة القرآن، أي بيت هذا؟ فالبيت المعمور هو الذي ينسجم مع القرآن وهو قلوبكم النورانية، تنوروا بفهم آيات القرآن واسعوا لأن لا يكون في قلوبكم غير الله، لأن كل نعمة يصيبها الإنسان هي من بركات القرآن، إن الذي يهجر القرآن لا يمكن أن يكون مرفوع الراس والبيت الذي يقرأ فيه القرآن كثيراً يتضاعف خيره (نوروا بيوتكم بالتلاوة فإن البيت إذا كثر فيه تلاوة القرآن كثر خيره).

يولد في بعض الأحيان ولد يكون مصدر خير وبركة للمجتمع ولا يعرف الإنسان أي نعمة يريد الله عز وجل أن يهبها إياه، يستدل الإمام علي (ع) في نهج البلاغة قائلاً: لا تبيعوا أنفسكم رخيصة، ثم يستدل استدلالاً منطقياً.

مقدمته الأولى: هل كان النبّي (ص) كريما عند الله أم لا؟ والجواب: كان النبّي (ص) أفض وأعز خلق الله لديه، ولم تكن كرامة أو عزه أو منزله إلا واعطاه إياها.

المقدمة الثانية: كانت حياة النبّي (ص) بسيطة، وكان يبيت جائعاً أياماً في شعب أبي طالب، وإذا كان قد حصل على مال من خديجة فقد صرفه في خدمة الإسلام، ولم يصرفه على نفسه، أي جوع ذاقه الرسول (ص) خلال هذه السنوات الثلاث في شعب أبي طالب؟

ومن ثم يقول (ع): أما أن يكون امتلاك المال كمالاً وشرفاً، ولازم ذلك أن النبّي (ص) لم يحصل على الكمال اللائق به، وأن الله سحبانه قد أهمله، وهذا غير صحيح، أو أن الله كرم نبيه وشرفه ولم يهمله، فاعلموا أن الله إذا أغنى شخصاً بالمال وشغله فقد أهانه، إذ سينصرف للعناية بالمال بنحو لا يتعلم معه المعارف الحقة.

 عندما يذكر الله عز وجل أهل العلم والمعرفة والحكمة والتوحيد فإنه يقرنهم بالملائكة، وعندما يتكلم على الأكل والشرب وأمثال ذلك ويذكر أصحاب هذه النعم فإنه يقرنهم بالحيوانات، في سورة آل عمران يقول تعالى (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم)، (آل عمران: 18) فالله يشهد بوحدانيته والملائكة وعلماء أهل التوحيد كذلك يشهدون بوحدانيته وذكر هنا العلماء والمفكرين مع الملائكة، أما عندما يتكلم عن الماديات يقول: نحن أمرنا الشمس أن تشرق والمطر أن ينزل لسقي أرضكم، لأجل أن ينمو زرعكم (متاعاً لكم ولأنعامكم)، (النازعات: 33) فيقرن هنا الإنسان بالحيوانات، لأنه يتكلم عن الماديات، وفي مكان آخر يقول تعالى: (كلوا وارعوا أنعامكم)، (طه: 54) كلوا مقداراً من الطعام واعطوا مقداراً لحيواناتكم، فإذا صرف الإنسان أكثر من المقدار الذي يحفظ به ماء وجهه فإنه يخسر عمره في طلب الدنيا، والواقع إنها خسارة كبيرة، الدنيا حاصل مجموعة من الأفراد غير الصالحين يقضون وقتهم على طاولة اللعب واللهو، فهل هذا معيار القيمة؟ ويمكن أن لا يحصل بعض الناس على مال طول حياتهم، وبالقدر الذي يخسره الطواغيت في لعب (اليانصيب) في ليلة واحدة وهذا ليس فخراً، أكثر من المقدار الذي تحفظ به ماء وجهك هو وبال عليك، وهذا لا يعني أن نجلس ولا ننتج ـ فالله تعالى يأمرنا بأن اعملوا لأجل أن تكون أمتكم مستقلة غير محتاجة، لكن لا يتعلق قلبكم بالآخرين، والله سبحانه يقول لمن يتعلق قلبه بغيره: أنت وحيواناتك عندي سواء (كلوا وارعوا انعامكم).

يتعين على الناس السعي للعمل والانتاج الكثير ليكتفي المجتمع الإسلامي وتؤمن حاجاته، يقول الإمام علي (ع) "من وجد ماء وتراباً ثم افتقر فابعده الله"، [وسائل الشيعة ج12، ص24]. فإذا وجد الفرد أو المجموعة ماءً وتراباً بالمقدار الكافي ثم افتقروا واحتاجوا لغيرهم، فالله عز وجل يبعدهم عن رحمته أليست هذه دعوة للعمل؟ فالأمة العاطلة لا يستجاب دعاؤها وليس شيء أسوأ من البطالة.

هذا هو الإسلام الذي يعطي الإرادة للأمة، وينفخ روح الكرامة والعزة في كل فرد.

قال فلاح لعلي (ع): إن بستاننا قليل الماء فجاء الإمام واراد أحداث عين أو بئر فيها، فأخذ معولاً وجعل يحفر ولكنه لم يصل إلى الماء، وجاء يوماً آخر وأخذ المعول وضرب به حتى سمع زفيره من كثر التعب والجهد إلى أن نبع الماء، وحينئذ قال 0ع): هذه البئر صدقة.

فإذا كنا ندعي أننا شيعة فعلينا أن نكون زاهدين في الدنيا، وأن نكون فاعلين في الحياة، أن ننتج حتى لا نكون محتاجين للأجانب، فأفضل بستان هو الذي يجري ماؤه منه وفيه، فكرة هذا الحديث هي أن نعمل فلا نحتاج للآخرين ولا نطمع بما في أيديهم قال (ع) "إن البيت إذا كثر فيه تلاوة القرآن كثر خيره" واتسع أهله وأضاء لأهل السماء كما تضيء نجوم السماء لأهل الدنيا).