الحديث السادس عشر

يدل الكلام الذي تكلم به الإمام السجاد (ع) على منبر الشام على أن الأئمة (ع) قد وصلوا إلى اسرار العبادة فمن كلامه (ع) أنه قال: "أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا"[1] يعني أني وصلت إلى سر تلك العبادة التي تؤدى في مكة ومنى، وهي التي أوصلتني إلى هذا المقام.

أنا ابن من يقدم القرابين لحفظ الدين والشريعة، ذلك ابن منى، فالإنسان المستعد لتقديم أفضل الشهداء من أجل حفظ الدين وقد وصل إلى حقيقة التضحية، هو ابن منى وإن كان لم يذهب إليها.

وعندما يذكر الله سبحانه وتعالى سر الأضحية فإنه يقول: هذا القربان له ظاهر وله باطن، ظاهر القربان لا يصل إلى الله، أما باطن التضحية والقربان فيصل إلى الله عز وجل: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم)[2]، الدم واللحم لا يصل إلى سبحانه، والتقوى هي التي تصل إليه سبحانه من القرابين والاضحيات وروح وسر هذه العبادة هو الذي يصل إلى الله عز وجل.

كان الناس في زمن الجاهلية عندما يذبحون ذبيحة يعلقون جزءاً منها على جدران الكعبة ويلطخونه بالدم لكي يتقبل عملهم، وعندما جاء الإسلام أبطل هذا العمل وقال: إن اللحم والدم لا يصل إلى الله سبحانه، وإنما التقوى في هذا العمل هي التي تصل إليه، إذن، الإنسان المتقي هو الذي وصل إلى حقيقة وباطن العبادة، ويسعى لأن يصل إلى أسرارها النهائية.

لأن أمير المؤمنين (ع) كان المثل الأعلى في العبادة، فإنه يقول: "ما كنت أعبد رباً لم أره"[3]، وفي المعاد قال (ع): "لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً"[4]، كلمات الإمام (ع) تفتح الطريق أمام الإنسان للوصول إلى أسرار العبادة، وبعدما ضرب مولى المتقين على رأسه، أوصى بوصايا، وهذه الوصايا لم تكن للإمام الحسن والحسين فقط، بل جاء في ثناياها: أوصيكم، وأوصي كل من يصله كتابي هذا فهذه الوصية لجميع المسلمين: "وصيتي لكم أن لا تشركوا بالله شيئاً"[5]، والعمل الذي تتلقونه لا تنسبوه إلى غير الله فهذا شرك، المشركون كانوا ينسبون عمل الله سبحانه إلى غيره ويعبدون الأصنام من دون الله، وكانوا يعتقدون بأن هناك مبدءاً خالقاً للكون وهو الله، ومبدأ آخر يدير الكون، والوصية التوحيدية هي أن لا تكل الأمور لا إلى نفسك ولا إلى غيرك، بل اعلم ان الأمور كلها من الله سبحانه وهو المدبر لهذا العالم، لا توجد نعمة أعلى من نعمة التوحيد، ولا يوجد ذنب أسوا من الشرك، (إن الشرك لظلم عظيم)[6]، فهل من الصحيح أن يجلس الإنسان إلى مائدة الله في جميع حالات وجوده ثم يعتقد بغير الله؟ هذا شرك وفضيحة في الدارين.

"ومحمد (ص) فلا تضيعوا سنته" احفظوا رسالة النبّي (ص) بعد التوحيد، فاحترموا الوحي والنبوة، لا تضيعوا سنة الرسول الأكرم (ص) احترموا أخلاق وآداب النبّي (ص): احترموا الأحاديث التي نقلت عن الرسول (ص)، فلا تضيعوا دينه.

بعد أن أكد أصل التوحيد وأصل النبوة والدين قال: "اقيموا هذين العمودين واوقدوا هذين المصباحين"، أقيموا هذين العمودين يعني الأول: التوحيد والثاني: النبوة، واحفظوا هذين المصباحين مشتعلين واسعوا أن لا ينطفئ هذان المصباحان، مصباح التوحيد ومصباح الوحي، المعاد يرجع إلى المبدأ، لأن الإنسان في المعاد يحضر عند الله إذ كان مبدؤه منه، وإذا حفظتم هذين المصباحين فإن عقلكم وشرعكم لا يذمانكم، وإذا أطفأتم هذين المصباحين فإن عقلكم وشرعكم يذمانكم.

"أنا بالأمس صاحبكم واليوم عبرة لكم وغداً مفارقكم" بالأمس كنت معكم وبين أظهركم، وأنتم أيضاً كنتم معي، أما اليوم فأنا عبرة لكم، اليوم أمامكم على فراش المرض، فانظروا إلي وخذوا العبرة، إن القدرة والسلامة والثروة ليست باقية، لا يكون الإنسان دائماً سالماً وقوياً، وغدا سأفارقكم، فإذا نجيت من هذه الضربة ولم استشهد فالقصاص من الضارب بيدي، إما أن أعفوا أو أقتص، وإذا رحلت والارتحال مصيرنا جميعاً لأن: (كل نفس ذائقة الموت)[7]، فضربة بضربة ولا تمثلوا بالرجل.

ماء الحياة كناية عن الإيمان والحب، والله تعالى يقول لرسوله (ص): (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت)[8] لم نخلد الذين سبقوك في هذه الدنيا، فالذين قبلك رحلوا عنها، وكذلك الذين سيأتون بعدك، هذه الدنيا مجرد معبر لا يمكن أن تكون للبقاء، ثم قال (ع): والله هذه الحادثة التي وقعت وهذه الضربة التي على رأسي لم تكن ثقيلة عليّ ولم تكن أمراً غير متوقع، الموت شيء أنتظره منذ سنوات: "تالله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه"[9]، أنا لا استوحش من الموت، بل آنس به كما يأنس الطفل بثدي أمه، لأن الطفل يتحرك على أساس الغريزة والحاجة الطبيعية، أما أنا فحبي وعلاقتي بالشهادة على أساس الحاجة العقلية، الطفل كلما يكبر تقل علاقته بأمه لكني كلما كبرت ازدادت رغبتي بالشهادة وحبي لها، فأنا لا أخاف من الموت "ما فاجاءني من الموت وارد كرهته"[10]، لم يأت أمر أكرهه، ولم يكن هذا شيئاً غريباً عليّ، إذا طلع الموت من حافة المشرق فأنا أعرفه نجمه، وجه الموت ليس غريباً عليّ ولقائي بالموت كلقاء الشخص العطشان الذي يسعى للحصول على الماء فالتقى به، الموت يوصلني إلى نبع الحياة، كان الموت مطلبي فعثرت عليه، قال: لقد كان المضيّف وأنا اليوم ضيفه، لقد وجدت ضالتي ووصلت إلى مقصدي، لم أفقد شيئاً ولم ينقص مني شيء، (وما عند الله خير وأبقى)[11].

قال أمير المؤمنين (ع) لأم كلثوم وهو على فراش المرض: لو ترين مثل ما أرى لما بكيتني، فقالت: ماذا ترى؟ قال (ع): أرى صفوف الملائكة والأنبياء (ع) وهم ينتظرون قدومي، الكل وقف في صف لاستقبالي، فهذا لا يستدعي البكاء.

كلام الإمام الحسين (ع) في سفره التاريخي إلى كربلاء كان يتضمن هذا المعنى نفسه فهو يقول: ما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف فإني مشتاق إلى رؤية أجدادي وأبي وأمي، اشتياق يعقوب إلى يوسف، أراد (ع) أن يبين أن الموت ليس شيئاً مخيفاً، لأننا نترك أفراد غير صالحين، ونلتقي بأفراد صالحين مثل الأنبياء (ع).

وفي مقطع آخر من وصيته (ع): " كنت جاراً لكم جاوركم بدني أياماً يقول (ع): إن جسدي هو الذي كان جاراً لكم، أما روحي فلم تكن معكم.

وعهد بوصيته إلى الإمام الحسين (ع) والإمام الحسين (ع)، وعلى هذا الأساس فيكون الإمام الحسن قد بلغ مقام الإمام الشامخ، وأوصى الناس جميعاً أن لا ينسوا الصلاة ولا ينسوا اليتامى وقال (ع) بخصوص زيارة بيت الله الحرام، لا تتركوا الحج، وإلا سلط الله عليكم العذاب دون إمهال.

كان الحسن والحسين ـ سلام الله عليهما حاضرين عنده ـ فوضح لهما الإمام (ع) كل أمر من أمور دينهم ودنياهم وعلمهم ما أودعه عنده رسول الله (ص) من علم إلهي، وكان الإمام علي بن أبي طالب يعلم أنه سيستشهد، وهذا العلم علم ولائي وليس له أثر شرعي.

وقال أيضاً: "كن وصي نفسك" فعلى كل شخص أن يكون وصي نفسه، لا يترك أعماله وتكاليفه بعهدة الوصي، وعليه أن يؤدي ما بذمته من صلاة وصيام وواجبات أخرى.

أنجزوا كل تلك الأعمال بأنفسكم ولا تتركوها للوصي، الوصي يكون على الصغار يقوم بأعمالهم، ويتعهد أمورهم، لا أن يقوم بالأعمال الباقية بعهدة الميت.



[1]  خطبة الإمام السجاد (ع) في مسجد دمشق الجامع بحار الأنوار (ج45، ص138).

([2] ) سورة الحج، الآية: 37

[3]  التوحيد للصدوق، باب (43، الحديث 2).

[4]  الكافي حلية الأولياء، أبو نعيم الاصفهاني (ج1، ص18)، احياء العلوم للغزالي جاء بمضامين مختلفة.

[5]  نهج البلاغة، الكتاب 23.

[6]  سورة لقمان، الآية: 13.

[7]  سورة الأنبياء، الآية: 35.

[8]  سورة الأنبياء، الآية: 34.

[9] نهج البلاغة، الخطبة 5.

[10]  نهج البلاغة، الكتاب 23.

[11]  الخصال للشيخ الصدوق، جلاء العيون، سيد عبد الله شبر (ج1، ص268).