الحديث الثامن عشر

يقول القرآن الكريم: إن الذين تخفق قلوبهم خوفاً عند ذكر الله، ويزداد إيمانهم عند تلاوة القرآن، وهم على ربهم يتوكلون، والذين يقيمون الصلاة وينفقون مما أعطيناهم: (أولئك هم المؤمنون حقاً لهم درجات)[1]، فهؤلاء هم المؤمنون الحقيقيون، ولهم درجات.

القرآن الكريم نفسه في مكان آخر يقول: (هم درجات)[2]، فالمؤمنون أنفسهم يصبحون درجات وأنواراً في الجنة.

فهنا مطلبان: المطلب الأول: أن الجنة للإنسان المؤمن، والمطلب الثاني: هو أن المؤمن هو الجنة، ويصل الإنسان الكامل إلى درجة (فروح وريحان وجنة نعيم)[3]، ويصبح هو الجنة، هذا الكمال لا يحصل بالعبادة فقط، بل بالوصول إلى سر العبادة.

يصلي الإنسان في وقت من الأوقات، ولكن حواسه ليست في الصلاة، فهذه الصلاة صحيحة من جهة الأحكام والتكليف، ولكنها ليست صلاة مقبولة على الوجه الكامل ليست صلاة ترفع صاحبها إلى الأعلى، لأن هذه الصلاة نفسها لا ترتفع إلى الأعلى، وفي وقت آخر تصلى الصلاة وليس فيها إلا ذكر الله سبحانه، ولا يخطر في حرم القلب إلا ذكر الحق سبحانه، هذه الصلاة هي التي ترتفع إلى الاعلى، وترفع صاحبها معها، فهذه الصلاة صحيحة ومقبولة.

ومن أجل أن نصل إلى سر الصلاة، يجب أن نواصل المحافظة على أنفسنا خارج الصلاة، فإذا انتبهنا إلى غذائنا، وحركاتنا، وأفكارنا فنكون في الصلاة مطمئنين، وإذا أحسسنا بعدم الراحة والاطمئنان في الصلاة، فالسبب راجع إلى أننا سمحنا للعدوان أن يهجم علينا، لأن جوارحنا كانت تمارس الأفعال غير المشروعة، فالشيء الذي نسمعه ونتكلم به، وذهابنا ومجيؤنا، كل هذه الأمور خزنت في نفوسنا، وعند الصلاة تهجم علينا، وحتى في حال الصيام والحج والجهاد تهجم علينا، وإذا لم نتزلف ولم نداهن، وكنا محافظين على أنفسنا خارج الصلاة، لن يكون لنا شغل بأحد، بل تكون حواسنا كلها في الصلاة، فنحس باللذة وتكون حواسنا متوجهة إلى الله سبحانه، فتشملنا رعاية الله ورحمته، فعبادة الذين وصلوا إلى سر العبادة، وهم أهل البيت ـ سلام الله عليهم ـ هي عصارة وخلاصة هذه المعارف.

قالوا لنا: إذا أردتم أن تعرفوا هل أنكم مقبولون عند الله أم لا؟ فانظروا إلى قلوبكم، ما مقدار حرمة الله في قلوبكم؟ أي حقيقة للقلب بحيث يستطيع أن يكون ميزاناً بين العبد والمولى؟ وأي ميزان هذا؟ إذ يستطيع أن يعرف أنه عزيز عند الله أم لا.

بعض الناس أضاعوا أنفسهم وقلوبهم، فالذي لا يعرف أين هو، ولماذا أتى، فهو قد أضاع نفسه، ولابد من وجود إنسان كامل هو الإمام المعصوم (ع)، يحدد لنا أماكن أنفسنا ووجودنا، فإذا لم يكن الإنسان في مكانه، فيظهر أنه قد أضاع نفسه.

لكل عبادة بشكل عام، وللصيام بشكل خاص طرق توضح لنا كيفية الوصول إلى سرها، وقد بين لنا امير المؤمنين هذا الطريق وقال: إذا كان قلبكم متوجهاً إلى الله سبحانه، فهذا يعني أن لطف الله قد شملكم، ونحن نحس بهذا المعنى بوضوح، فنحس بحالة من الخفة والتحرر، هذه علامة شمول لطف الله سبحانه فعدم التوجه لمغريات الطبيعة دليل على شمول لطف الله سبحانه.

وقد قال الإمام الصادق (ع) بهذا الخصوص: لا يجمع الله لمؤمن الورع والزهد في الدنيا إلا رجوت له الجنة، وإني لأحب الرجل المؤمن منكم إذا قال في صلاته أن يقبل بقلبه إلى الله تعالى، ولا يشغله بأمر الدنيا، فليس من مؤمن يقبل بقلبه في صلاته على الله، إلا اقبل عليه بوجهه، واقبل بقلوب المؤمنين إليه بالمحبة له بعد حب الله إياه[4].

فليس شيء أفضل من اجتناب الذنب، وأن يصلي المصلي بخشوع وتوجه إلى الله، وليس الكلام هنا عن الحكم والأمر الوجوبي، بل عن سر الصلاة وآدابها، لا تتخذوا الله وسيلة لدخولكم الجنة، أو نجاتكم من النار، فالله هدف وليس وسيلة، الله لا يأخذ بكم إلى النار، بل يأخذكم إلى الجنة، ولكن بشرط أن تعملوا بالآداب والعبادات، وأن لا يشغل قلب الإنسان المؤمن شيء، لأن أي شيء غير الله هو دنيا.

والشيطان يخدع كل إنسان في مجاله الخاص به، فهو يخدع العالم بطريق الايحاء له بأنه أكثر علماً، أو أكثر تعليماً للتلاميذ والطلبة، أو أكثر درساً وكتابة، وهذا تكاثر في مجال تخصصه، ويخدع المقاتل بأنه أكثر من غيره تواجداً في ساحة الحرب، أو أنه أكثر تضحية وفداءً، فالشيطان لا يترك أحداً، وإذا تحرر الإنسان من الوهم، فهو في أمن من كيد الشيطان.

لا يوجد ألذ من الإخلاص، بالنسبة للإنسان المخلص، لأن أمثاله لا يصل إليهم العدو الداخلي ولا الخارجي، وما توجه العبد المؤمن في الصلاة إلى الله إلا وتوجه الله عز وجل إليه بوجهه، وعطف عليه قلوب المؤمنين، فيصبح محبوباً من الجميع.

يعيش الإنسان بالحب، وبدونه لا يحس بطعم الحياة، وإذا شملت الإنسان رحمة الله ولطفه، فعندئذ سيكون محبوب قلوب المؤمنين، وهذه خصوصية وسر العبادة، ولو عبد الإنسان (لوجه الله) لأصبح إنساناً أبدياً، لأن وجه الله ليس له زوال.

يقول أمير المؤمنين (ع): (يموت منا من مات وليس بميت)[5]، ليست الدنيا محلاً للبقاء، الشيء الباقي والخالد هو المعرفة والعلم والإيمان، والعالم العارف المؤمن هو الخالد.

تأتي رسالة من الله عز وجل للمؤمن في الجنة: وعنوانها هو: (من الحي الذي لا يموت إلى الحي الذي لا يموت)، هذه الرسالة هي من الله عز وجل، وهو الذات التي لا تموت، إلى المؤمن الذي هو انعكاس للذات الحية، فيصبح مصوناً من الموت، هذا هو ماء الحياة، وإلا فقبل هذا يموت الناس ويمسحون من الذاكرة، شيء واحد يوصل الإنسان إلى ا لحياة الأبدية، وهو العبادة لوجه الله عز وجل، لأن: (كل شيء هالك إلى وجهه)، فالذي يعبد لوجه الله حي خالد إلى الأبد.

ليس كل الشهداء بدرجة واحدة، فلكل شهيد درجة تناسب معرفته وعلمه، وقيمة كل شهيد، بمقدار معرفته وسر عبادته، وكل دم يحفظ الدين بمقدار سره، مثلاً: إذا جاء سيل فلابد من وضع آلاف من أكياس الرمل لمنع السيل، وفي بعض الأحيان يمنع السيل كيس رمل واحد ويسيطر عليه، وكذلك قد يمنع شهيد واحد هجوم الأجانب ويسيطر على زمام الأمور، ولكن في بعض الأحيان لابد من تقديم ألف شهيد ليؤدوا مهمة دم شهد واحد، فليس كل دم يستطيع أن يوقف زحف الأعادي.

(الناس معادن كمعادن الذهب والفضة)[6]، وهذه من كلمات الرسول الأكرم محمّد (ص)، فمعادن الناس مختلفة، فبعضهم مثل الفحم الحجري، وبعضهم مثل الفضة، وبعضهم مثل الياقوت.

وصف أحد تلامذة الإمام الباقر (ع) كلام الإمام (ع) بالجواهر وقال: سمعنا اليوم منك جواهر عجيبة، فقال (ع): هلا عرفت الكلام بالذهب، (وهل الجواهر إلا الحجر)[7].

وكما أن الناس معادن مختلفة، فالشهداء كذلك، وكذلك العلماء والصلحاء والصديقون، فليس الجميع على حد سواء، بل لكل درجات.

يقول جلال الدين الرومي:

أخي أنت بفكرك وما عدا ذلك فأنت عظم ولحم وشعر.

وفي المسائل العلمية والعملية أنت يا أخي هذا الفكر، والإنسان يحشر مع نيته، ويحشر مع محبوبه، فإذا استطاع الإنسان أن يانس بهذه المعارف، وينال الشهادة، فإنه يلتقي بالله سبحانه، ويصبح دمه كدماء بقية الشهداء، سداً بوجه السيل الجارف.

سألت زينب الكبرى الإمام السجاد (ع) حين توديعها الأجساد الطاهرة وهي في حزن غامر: لماذا لم يسمحوا لنا بدفن هذه الأجساد بارقة العشق الإلهي، وهذه الأجساد المقطوعة الرؤوس؟ فقال (ع): هذه الأجساد ليست أجساداً عادية، إنها ستخرب المدن وتحيي هذه الصحراء، لتصبح خضراء عامرة، ولم يمض وقت حتى تحقق كلام الإمام (ع).

لكل شهيد، ولكل دم أثر بمقدار قلبه، ولهذا عندما يراد أن يعطى أجر هذه الاعمال وهذه الدماء، فإنه يعطى بمقدار معرفته، وقد بينت سورة ا لمجادلة الفرق بين العالم المؤمن والمؤمن، (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين اوتوا العلم درجات)[8]، أي أن العالم المؤمن يحصل على درجات، بينما المؤمن غير العالم يحصل على درجة واحدة، ولابد من أن يكون العلم نوراً وليس للدنيا، وأن لا يكون العالم متكسباً بعلمه.

في سورة المجادلة والأنفال كلام على الدرجات، وفي سورة الرحمن كلام على اتحاد المؤمن والدرجة، فيقول: (هم درجات) درجات يضيء القلب عندها بالنور، كالشمس تضيء للآخرين.

إن فضاء الجنة يضاء بنور المؤمن، وليس هناك شمس ولا قمر، لأن المنظومة الشمسية تفنى، (إذا الشمس كورت)[9]، فليس هناك مصباح ولا كهرباء ولا نجوم، والمؤمن هو الذي يضيء الفضاء الواسع للجنة، (نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم)[10]، وإذا كان (العلم نوراً يقذفه الله في قلب من يشاء، والإيمان نوراً يقذفه الله في قلب من يشاء، والعرفان نوراً يقذفه الله في قلب من يشاء)[11].

فيجب أن تتم تهيئة هذا النور في هذا العالم، ونور الإنسان بمقدار معرفته واطلاعه، والجنة تضيء بمقدار معرفته، كما أن فضاء الجنة يجعل الإنسان نورانياً.

وننقل حديث الإمام الصادق (ع) لتأييد هذا المعنى، قال سالم بن حفصة: قلت لاخواني عندما رحل الإمام الباقر (ع): لقد فقدنا إماماً كان ينقل عن رسول الله (ص) بلا واسطة مع أنه لم يدرك النبّي (ص)، فقالوا: لنذهب إلى جعفر بن محمّد ابن الإمام الباقر (ع) ونعزيه، يقول سالم بن حفصة: فذهبنا، وقلنا: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم قلنا: لقد فقدنا الذي كان ينقل عن رسول الله (ص)، وهو لم يدركه بلا واسطة، ولا نظن أن يأتي أحد مثله بعده، فسكت الإمام (ع) لحظات ثم قال: يقول الله تعالى: (إن من عبادي من يتصدق بشق تمرة فأربيها له كما يربي أحدكم فِلوَه حتى أجعلها له مثل أحد)، أي أجعل له هذه الصدقة مثل جبل أحد.

فقال سالم بن أبي حفصة لأصحابه عندما سمعوا من جعفر هذا الكلام: كان أبوه ينقل بلا واسطة عن النبّي (ص)، وإن جعفراً وصل إلى مقام ينقل عن الله بلا واسطة[12].

فالأئمة عندهم المعارف والعلوم الإلهية التي لم يتعلموها في مدرسة بل توارثوها أباً عن جد، عن رسول الله (ص) عن الله سبحانه.

عندما نقول: أن الله سبحانه متوجه إلى أوليائه، نعني أن هذه المعارف والعلوم يلقيها الله سبحانه إلى أوليائه، وليس هو الوحي التشريعي المخصوص بالأنبياء (ع)، لأن الوحي التشريعي خاص بالأنبياء لا غير، ولا يوجد أحد بعد خاتم الأنبياء ينزل عليه الوحي التشريعي، كأن يأتي له بحكم جديد، أو سنة جديدة، أما الإلهام وإلقاء المعارف الحقة، فالله سبحانه يلقيها في قلوب المؤمنين، بحيث يروي الإمام الصادق (ع) عن الله عز وجل بلا واسطة.

قال سالم بن حفصة: فخرجت مع أصحابي خارج بيت جعفر، وقلت لهم: لم أسمع ولم أشاهد مثل هذا الأمر العجيب، فقد كنا نسمع الباقر (ع) يقول: قال رسول الله (ص)، دون واسطة، مع أنه لم يشاهد النبّي (ص)، وكنا نعده كبيراً وعظيماً، أما الإمام الصادق (ع) فيقول: قال الله تعالى، دون واسطة.

جاء في دعاء أبي حمزة الثمالي: إلهي ليس بيني وبينك فاصلة، فإذا أردت أن أبوح لك بسري، قلته لك بلا واسطة، وإذا أردت أن تتلطف عليّ تلطفت، فليس بيني وبينك حجاب وشفيع، إلا حجاباً واحداً وهو أنا[13]، وقال الإمام الباقر (ع): (احتجب بغير حجاب محجوب، وأستتر بغير ستر مستور، وليس بينه تعالى وبين خلقه حجاب غير خلقه)[14]، ليس لله حجاب إلا خلقه، واحتجب لفرط نوره.

هناك حجاب واحد لا يدع الإنسان يرى الله، ألا وهو الأنانية، وحب الذات، ولا يقبل الله كل صدقة، فإن صدقات المنافقين لا تقبل، لأنها صدقة على نحو الغرامة والالزام، وليست مصحوبة بالنية، (ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً)[15]، فالانفاق الخالي من النية والاخلاص، لا يقبله الله تعالى، فإذا أنفق شخص مالاً في سبيل الإسلام، فهو غنيمة وليس غرامة، وهذه الغنيمة ينميها الله عز وجل، وتصبح كجبل أحد، وإن كان هذا بمقدار نصف تمرة، وعندما يدخل الإنسان إلى محكمة العدل الإلهي، يرى جبلاً من الخيرات في مقابله، وهذا يرجع إلى سر الصدقة، فأي صدقة لها سر، وأي صدقة ليست بذات سر؟

 



[1]  سورة الأنفال، الآية: 4.

[2]  سورة آل عمران، الآية: 163.

[3]  سورة الواقعة، الآية: 89.

[4]  الأمالي للشيخ المفيد، (المجلس 18، الحديث 1).

[5]  نهج البلاغة، الخطبة (87).

[6]  الفتوحات الكمية، باب (361)، الأسفار (ج4، ص34).

[7]  المواعظ العددية (ص5).

[8]  سورة المجادلة، الآية: 11.

[9]  سورة التكوير، الآية: 1.

[10]  سورة التحريم، الآية: 8.

[11]  الأسفار (ج1، ص288)، فصل (11) المرحلة العاشرة.

[12]  الأمالي للشيخ المفيد، (المجلس 42، الحديث 7).

[13]  دعاء أبي حمزة الثمالي، مفاتيح الجنان.

[14]  الكافي (ج1، ص81، الحديث 3).

[15]  سورة التوبة، الآية: 98.