الحديث العشرون

الأثر المهم المترتب على العبادة هو اليقين (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين)..

 وتعليق الحكم على الوصف، مشعر بعلية ذلك الوصف، اعبد ربك لأنه ربك، والرب تعني المالك والمدبر، إن مبديء الوجود هو المالك والمدبر، فعلى الإنسان أن يعبد ربه، لأنه مدبره، أليس الإنسان محتاجاً؟ لا يستطيع الإنسان أن يقضي حاجاته فلابد من غني مطلق يقضي حاجات الناس، وليس ذلك إلا الله سبحانه، فهو المدبر لأمور الناس.

وما العبادة إلا للاستفادة من كمال ونفع المعبود، لذا كان تعليق الحكم على الوصف، فقوله تعالى: (واعبد ربك) ناظر إلى قضية استدلالية، أي لأنه ربك فاعبده فلا تعبد الله لأجل الرزق، وهو رحيم، ولكن لا تعبده من أجل أن لا يدخلك النار، لتكن همتك عالية، فلا تعبد لأجل أن لا تذهب إلى جهنم، بل لا تعبد من أجل أن تدخل الجنة، وإن كان هو يدخلك الجنة، إذن لأي شيء تكون العبادة؟ إنها من أجل أن نصل إلى مقام الشهود، فلا توجد لذة أفضل من نعمة المعرفة.

في سورة الرحمن ذكر الله عز وجل أول نعمة، وهي نعمة قراءة القرآن، (الرحمن * علم القرآن)[1]، فتعليم القرآن ومعرفته وفهمه نعمة كبرى.

وبعد ذلك يذكر نعم الجنة، فلا يوجد أعلى من نعمة المعرفة والشهود واليقين، وعندما يشاهد الإنسان أسرار الوجود، فإنه لا يحس بلذات العالم الأخرى، الإنسان الذي يصل إلى مقام اليقين، يرى باطن العالم، ويرى داخله، ويشاهد باطن الآخرين، فهو لا يعتمد على نفسه، ولا على الغير، ولا يستعين بأحد، لأنه يعلم أنه لا يوجد سوى الله، فإذا وصل إلى مقام كهذا، عندئذ يتعلق بمحبوبه، ويعبده لأجل ذاته.

فمن المؤسف أن يترك الإنسان المعاصي خوف جهنم، من الأفضل أن يجعل الإنسان نفسه أعلى وأسمى من الذنب، من الأفضل والأحسن أن يعبد الإنسان ربه لذاته، لا من أجل أن لا يدخل إلى جهنم.

يعلمنا القرآن الكريم ويقول: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين)، وقد ذكر الله عز وجل أسماء الذين تنعموا بنعمة اليقين، مثل إبراهيم الخليل، فقال: لقد وصل إبراهيم الخليل إلى مقام اليقين، فإذا كان الكلام على تحطيم الأصنام فهو، وإذا كان الكلام على تحمل تلك النار فهو، حيث قال تعالى: (حرقوه وانصروا آلهتكم)[2]، فهو (ع) لم يعتمد على أحد، ولم يلتجئ إلى أحد، وقام بتحطيم الأصنام وحده، لأنه كان من أهل اليقين، وعندما يمدحه الله عز وجل في القرآن الكريم يقول: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين)[3]، نحن نطلع إبراهيم الخليل على باطن العالم لكي يصل إلى المقام الشامخ ألا وهو اليقين، والله سبحانه يدعونا إلى أن نعثر على الطريق الموصل إلى باطن العالم، فمثلاً عندما تدخلون مكتبة عامة، تجدون الكتب معروضة للجميع دون استثناء أما الكتب الخطية والكتب الشخصية فإنها لا تعرض للجميع، كما إن مفتاح تلك الخزينة التي توضع فيها الكتب الخطية لا يعطى لأي أحد، فالله سبحانه يقول: إن لعالم الخلقة ملكوتاً، وإن له باطناً، وإن له خزائن، وهذا الباطن والخزائن هي كتاب التكوين، وقد اطلع إبراهيم الخليل عليه وأنتم أيضاً انظروا لعلكم ترون شيئاً.

وفي مكان آخر يرغبنا الله سبحانه ويقول: (أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض)[4]، فلماذا رضي البعض بعالم الملك؟ واكتفوا بسلسلة من الأوامر الظاهرية لماذا لا ينظرون إلى باطن العالم؟ لماذا لا يرون روح العالم؟ لماذا لا يفتحون هذه الخزينة وينظرون إلى النسخ الخطية الأصيلة؟ لماذا لا يطالعون تلك الكتب؟ (أولم ينظروا).

فالآيات تحث على النظر، والنظر غير الرؤية، وقد ينظر الإنسان ولكنه لا يرى، وأحياناً ينظر ويرى، فضعاف البصر مثلاً لا يستطيعون أن يستهلوا إذا صعدوا سطح الدار، ولكن أصحاب الأبصار الحادة الذين يعرفون أين يطلع الهلال وأين يغرب، إذا استهلوا يستطيعون تحديد مكان الهلال ورؤيته.

ويرغبنا الله عز وجل في هذه الآية المباركة بالرؤية، ويذم البعض، ويقول: لماذا لا تنظرون إلى عالم الباطن؟ أليست الرؤية ممكنة؟ ولم لم تكن كذلك لما دعانا الله سبحانه إليها.

الملكوت يعني الباطن، والملك يعني الظاهر، وقد اقترنت (سبحان) مع الملكوت: (فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء)[5]، بينما تقترن تبارك مع الملك: (تبارك الذي بيده الملك)[6]، فبين الملك والملكوت ما بين الظاهر والباطن من الفرق.

دعانا الله تبارك وتعالى إلى النظر في عالم الباطن، وقد بين الذين وصلوا إلى باطن العالم الطريق لنا، والإمام الصادق (ع) وهو أفضل السالكين، بل قدوتهم في هذا الطريق، والإمام الباقر (ع) قد بين لنا طريق الوصول إلى الملكوت.

روى المرحوم الشيخ المفيد ـ رضوان الله عليه نقلاً عن الباقر أو الصادق (ع) أنّه قال: (ويل لقوم لا يدينون الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من قال لا إله إلا الله فلن يلج ملكوت السماء حتى يتم قوله بعمل صالح، ولا دين لمن دان الله بتقوية باطل، ولا دين لمن دان الله لطاعة الظالم، ثم قال: وكل القوم ألهاهم التكاثر حتى زاروا المقابر)[7].

الالتزام بالتعاليم الدينية وتنفيذ الأحكام الشرعية واجب، إلا أن يؤدي إلى ا لخطورة والضرر، ولابد من الإشراف على أعمال الآخرين بعنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإرشادهم وهدايتهم، والأمر بالفضيلة ومنع حدوث الرذيلة، فليس في الإسلام "ليس هذا شغلي"، و"هذا غير متعلق بي"، إذا أمرنا أحد بالمعروف، ونهانا عن المنكر، فلا نقول له: "هذا لا يعنيك"، وإذا ارتكب شخص ذنباً، فلا يمكن أن نقول: هذا لا يعنينا، لا يمكن أن نتخلى عن المسؤولية، ولا أن نقابل الأمرين بالمعروف بالرد الجارح، وإذا أمرنا أحد أن نعمل الخير فيجب أن نطيعه، وإذا قال شخص (لا إله إلا الله)، وجرت هذه الكلمة الطيبة على لسانه، فهذه الكلمة الطيبة لا تصعد إلى السماء مادامت لم تقترن بالعمل الصالح، القول ناقص، والعمل الصالح متمم ومكمل له، والذي يقول (لا إله إلا الله) ويجسد التوحيد في عمله، فهو يدخل إلى الملكوت وباطن العالم، ولا يمكن أن يدعو الإنسان نفسه إلى سر العبادة قبل أن يهتدي هو إلى سر لا إله إلا الله، وإذا عرف شخص عالم الملكوت فعندها لا يصيبه شك أو تردد، لأن الملكوت نتيجة اليقين.

قال عمار بن ياسر: ما كان عندنا شك أو تردد في حربنا ضد الأمويين، وقال: يا عليّ: لو أعلم أن رضا الله عز وجل يكون في أن أغرس سيفي هذا في صدري حتى يخرج طرفه من الجهة الأخرى (أي: أقتل نفسي بيدي) لفعلته.

جاء في نهج البلاغة: "ما شككت في الحق مذ أريته"[8]، فالذي (على بينة من ربه) لا يشك، وما نراه أحيانا من شك الإنسان وتردده، فإنما هو بسبب عدم معرفته الطريق، إلى عالم الملكوت، فتكون عبادته صورية، ولم يصل بعد إلى سر العبادة، فسر العبادة هو وجدان طريق الملكوت، ومشاهدة الملكوت مع اليقين، ولا يوجد أفضل وأسمى من اليقين في هذا العالم، والله سبحانه لا يعطي اليقين لكل شخص، بل لأفراد مخصوصين، لو كان إبراهيم الخليل ـ سلام الله عليه ـ موجوداً الآن، لقال لنا نفس الكلام الذي قاله لعبدة الأصنام (أف لكم ولما تعبدون من دون الله)[9]، أفٍ لكم أنتم أيها العابدون لأصنامكم الداخلية، أنتم تعبدون أهواءكم ورغباتكم.

ألسنا نعمل بما تحب وترغب فيه نفوسنا؟ ألسنا نفرح لمدح المادحين؟ ألسنا ننزعج ونغضب من انتقاد الناقدين؟ فكم نحب أنفسنا؟! ألسنا نعبد أنفسنا؟ فلو كان إبراهيم الخليل حاضراً، ألا يقول لنا: أف لكم ولما تعبدون؟ فانكم تعبدون الأهواء.

إذا وصلنا إلى الملكوت، فإننا نرى أنفسنا، وإذا شاهدنا أنفسنا وشاهدنا الآخرين، فلن نعتمد على غير الله لحظة واحدة، وعند ذاك نكون شيعة إبراهيم الخليل (ع)، (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبّي)[10]، الذين يتبعون إبراهيم الخليل (ع) بصدق، هم المؤمنون بإبراهيم، والمؤمنون بخاتم النبيين محمّد (ص)، فالإنسان الذي يقول: لبيك إلهي، هو الذي يجد طريقه إلى عالم الملكوت، أما الذين يؤيدون الكفار وينصرونهم فليسوا بمؤمنين، ونحن لا يمكننا أن نطبق هذه الأحاديث على الذين ظهر كفرهم ونفاقهم، فأولئك حسابهم واضح.

علينا أن لا نغفل عن محاسبة أنفسنا، فإذا نصرنا الباطل بشيء قليل، فهذا يعني أننا ابتعدنا عن الدين بنفس المقدار الذي قوينا به الباطل، إذ يقول سبحانه وتعالى: (ويل لكل همزة لمزة)[11]، والقرآن الكريم يحذر من أن نقوم بفعل يؤدي إلى إيذاء الآخرين أو تحقيرهم، وعلى هذا الاساس فإن الله سبحانه يحسب كل حركة تصدر منا، حتى حركة أجفاننا، (يعلم خائنة الأعين)[12]، يجب أن لا نغفل عن محاسبة أنفسنا، والإنسان عندما يؤيد ويقوي الظالم في وقت ما، فهو يكون غافلاً عن الدين في ذلك الوقت، لأن الباطل لا ينسجم مع شريعة الله: (قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد)[13].

يقول الإمام (ع): إذا اتجه الإنسان إلى الباطل، فإنه سوف يكون بعيداً عن الدين وخارجاً عن طاعة الله، والشيطان يخدع الناس بالتكاثر في مجال تخصصهم، أما من كان الكوثر من نصيبه، فهو لا ينخدع بالتكاثر، وهم قليلون.

ويظهر في شعر الفردوسي ما قاله الغزالي من أن حاصل تعب ومشقة سنوات عديدة من عمر الإنسان، ينشغل فيها بالعمل ليل نهار، فإذا مات وواجه العذاب فالسبب هو أنّه قضى عمره في سقي أشجار الشوك والعاقول، السبب هو سوء استخدام اللسان والفم واليد، ومن يزرع الشوك لا يحصد إلا شوكاً.

فكل من يرتكب ذنباً، فكأنما سكب دلواً من الماء على شجرة الشوك والعاقول، ثم نمت على أثر سقيه لها، وستكون هذه الأشواك وبالاً عليه بعد موته، إذ سيكون مثله مثل الذي يوضع على فراش (مملوء) بالأشواك، فكيف للإنسان أن يرتاح ويستقر على مثل هذا الفراش؟

وإذا وضع الإنسان على فراش مملوء بالشوك، فعلى أي جهة ينقلب فإن الشوك يؤذيه، فليس له راحة أو استقرار، وأي راحة وأي استقرار له في قبره الذي هو ملكوت هذا العالم؟ والذي كان كل سعيه وعمله فيه تنمية الشوك والعاقول.

وعندما يأنس الإنسان بالأحاديث الشريفة، فكل حديث يراه فهو يضيء له، وإذا فتح كتاب أحاديث، فكأنه دخل بستاناص يضوع عطراً، فترتاح نفسه لما يشمه من عطور، وإن ما يجده من الأنس مع أحاديث أهل البيت (ع) يزيل جميع تعبه، فليس طريق الملكوت حكراً لغيرنا، وإلا لما دعينا إليه.

في دعاء للإمام الرضا (ع): (إلهي لك الحمد أن أطعتك، ولا حجة لي إن عصيتك، ولا صنع لي ولا لغيري في إحسانك، ولا عذر لي إن أسأت، ما أصابني من حسنة فمنك، يا كريم اغفر لمن في مشارق الأرض ومغاربها من المؤمنين والمؤمنات)[14]، فوجده (ع) رحمة للعالمين، وعلى هذا، فإذا أردنا أن نعرف هل ذقنا الكوثر الذي هو باطن هذا العالم أم لا؟ فلننظر هل نحن مشغولون بالتكاثر أم لا؟

قال رسول الله (ص): (الورع عن محارم الله)[15]. فاجتناب كل ما حرم الله سبحانه هو الورع.

نقل عن السجاد (ع) أنّه قال في خصوص الورع: "من عمل بما افترض الله عليه فهو من خير الناس، ومن اجتنب عما حرم الله عليه فهو من أعبد الناس ومن أورع الناس، ومن قنع بما قسم الله له فهو من أغنى الناس"[16]. وعلى الإنسان أن لا يعمل بهذه التوجيهات لأجل أن لا يذهب إلى النار، فتلك عبادة العبيد. صحيح أن الذي يعبد (خوفاً من النار) لا يذنب، ولكن الإنسان إذا وصل إلى اليقين فإنه يرى باطن الذنب، وباطن الذنب جيفة وشعلة من النار.

سأل شخص الإمام السجاد (ع) قائلاً: هل تكتب الملائكة نياتنا وخواطرنا التي تمر في أذهاننا ولكن لم تدخل في حيز التنفيذ والعمل؟ فإنهم لا يرون ما في دواخلنا، فكيف يكتبون، ومن أين يفهمون؟ فقال (ع): هل رائحة البستان ورائحة القاذورات واحدة؟ فإذا مررت بجانب بستان فإنك تشم رائحة طيبة، وإذا مررت بجانب القاذورات فإنك تشم رائحة نتنة، فتفهم أن في الأول أزهاراً ذات رائحة طيبة، وفي الثانية نفايات وعفونة. وهكذا تشخص الملائكة الإنسان من رائحته الطيبة، فتعرف ما يجري في قلبه من أسرار طيبة، ونيات حسنة، وإرادة خيرة طاهرة. ومن الرائحة النتنة تعرف أن في داخل هذا الإنسان نيات خبيثة.

والإنسان إما أن يكون حديقة أو مزبلة، وإذا وصل الإنسان إلى مقام الملكوت، فإنه يشم رائحة الناس كما يشم رائحة البستان ورائحة القاذورات، ويشخص المنافق والكافر.

كان مجموعة من الناس جالسين تحت منبر أمير المؤمنين (ع)، فجاء أحد جواسيس الأمويين، وأشاع خبراً بين الناس وقال: مات خالد بن عرفطة، فلم يهتم الإمام بذلك بينما صدق الناس الخبر. لكن الإمام استمر في كلامه. ومرة أخرى قالوا: يا عليّ، يقولون مات خالد، فلم يهتم الإمام بهم. وفي المرة الثالثة قالوا: مثل قولهم الأول، فلم يلتفت الإمام لهم فقالوا: يا أمير المؤمنين، أصبح هذا الخبر شائعاً، فقال (ع): لا، إنه لم يمت، وسوف يحرض الحكومة الطاغية عليّ، ويدخل المسجد من هذا الباب، ثم أشار إلى رجل كان جالساً تحت المنبر، وقال: ويسلم الراية إلى هذا الرجل الذي يقوم ضد الحق؛ إنه لم يمت بعد[17].

وقد وقعت هذه النبوءة بعد فترة، وهذا من العلم الغيبي للإمام عليّ (ع). وإن معرفة أسرار الشخص الذي كان جالساً تحت المنبر، مثله مثل الملائكة التي ترى داخل الإنسان، سواء كان داخله طيباً أو نتناً. إذن فنحن أما أن نكون مشغولين بسقي الورود، وأما أن نكون مشغولين بحفر كنيف: (فأما إن كان من المقربين * فروح وريحان وجنة نعيم)[18]. وقد تجاوز الإنسان مرتبة (جنات تجري من تحتها الأنهار)[19]. وأصبح: (روح وريحان).

قد يرى الإنسان في وقت من الأوقات ان الاستار قد أزيحت وانكشفت أسراره، وافتضح أمره. ويقولون: إن العالم الذي لا يعمل بعلمه يؤذي الآخرين، لأنه أسوأ منهم. يتأذى أهل النار من رائحة العالم غير العامل، لأن رائحته أسوأ من رائحة بقية الموتى.

إذا افتضح أمر إنسان في الدنيا، فهو يستطيع أن يختفي ليحفظ ماء وجهه. ويتوارى عن الناس لكي لا يراه أحد. لكنه سيقف غداً أمام الحقيقة، وليس هناك مفر وملجأ يلتجئ إليه.

جاء في القرآن الكريم جواباً عن سؤال سئل به النبّي (ص): ما حال هذه الجبال يوم القيامة؟ (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً * فيذرها قاعاً صفصفاً * لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً)[20]. قل يا رسول الله (ص) كل هذه الجبال تدك، وتصبح مستوية ليس فهيا منخفض أو مرتفع، وليس فيها أشجار وجدران ليختفي وراءها أحد. إن نظر المحشر سيكون حاداً أو قوياً، فيستطيعون رؤية أي مكان يريدون: (فبصرك اليوم حديد)[21]. فأي مكان يستطيع الإنسان أن يخفي فيه نفسه؟ لقد قضى الإنسان عمره في الفحشاء والمنكر، ويريد الآن أن يخفي نفسه عن أنظار الناس، فكيف يمكن هذا؟

إن أكبر عار هو فقدان ماء الوجه. وعندما يريد الله سبحانه أن يمدح الأنبياء والمؤمنين يقول: (يوم لا يخزي الله النبّي والذين آمنوا معه)[22].

وعندما يبين الله سبحانه عظمة النبّي (ص) والمؤمنين يقول: في ذلك اليوم يحفظ ماء وجوههم. وإلا فماء وجوه الآخرين مفقود، لأن بواطنهم لم تكن مثل ظواهرهم. لا يوجد أسوأ من الفضيحة. قد يتحمل الإنسان الحرق بالنار، وقد يتقبل البقاء تحت القصف، والسير على الألغام طائفاً. ولكن ليس هناك أحد مستعداً لأن يسكب ماء وجهه.

يقول أهل النار: (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته)[23]. إن المسلم الذي يختلف ظاهره عن باطنه في خطر كبير؛ لأنه يدعو الناس إلى الأحكام والدين، مع أنّه لا يطبق ذلك، على نفسه، وإذا وصل شخص إلى اليقين والملكوت فإنه يشم رائحة الذنب، ويشمئز وينفر منها، وليس أحد مستعد لأن يأكل طعاماً نتن الرائحة. فإذا كانت الملائكة تشم الرائحة، وإذا كان الملكوتيون يشمون الرائحة، فعلينا أن لا نرفع الستارة التي تسترنا، وإذا رفعناها فلننظر ما نحن عليه، لأنه سوف يأتي يوم كشف الأستار. لا نقس أنفسنا بالكفار وسيئي الأعمال، ولنقس أنفسنا بأولئك الأطهار الذين سبقونا في المسير.



[1]  سورة الرحمن، الآية: 1 ـ 2.

[2]  سورة الأنبياء، الآية: 68.

[3]  سورة الأنعام، الآية: 75.

[4]  سورة الأعراف، الآية: 185.

[5]  سورة يس، الآية: 83.

[6]  سورة الملك، الآية: 1.

[7]  الأمالي، للشيخ المفيد المجلس (23، الحديث 7).

[8]  نهج البلاغة، الحكمة 184.

[9]  سورة الأنبياء، الآية: 67.

[10]  سورة آل عمران، الآية: 68.

[11]  سورة الهمزة، الآية: 1.

[12]  سورة غافر، الآية: 19.

[13]  سورة سبأ، الآية: 49.

[14] بحار الأنوار ج1 ص23.

[15]  أربعين الشيخ البهائي، الحديث 9.

[16]  الأمالي للشيخ المفيدن المجلس (23)، الحديث 9.

[17]  راجع سفينة البحار، كلمة خلد وحبب.

[18]  سورة الواقعة، الآية: 88 ـ 89.

[19]  سورة البقرة، الآية: 25.

[20]  سورة طه، الآية: 105 ـ 107.

[21]  سورة ق، الآية: 22.

[22]  سورة التحريم، الآية: 8.

[23]  سورة آل عمران، الآية: 192.