الحديث الواحد والعشرون

من الأحاديث المهمة للرسول (ص) قوله: "أنا والساعة كهاتين"[1] أي: أنا ويوم القيامة مثل إصبعين أحدهما قريب من الآخر. وعندما يتكلم الرسول (ص) عن القيامة، والتي هي باطن الدنيا، فإن ملامح الرسول (ص) تتغير.

 إذا أراد أحد أن ينقل خبر هجوم العدو على جماعته في معركة غير متكافئة، فكيف سيكون حاله أثناء نقله للخبر؟

 إنه يقول: العدو قد هجم علينا، والعدو قريب منا، فاستعدوا. فعندما يكون الحديث عن القيامة فإن وجه النبّي الأكرم (ص) يتغير، فكأنما يخبر عن خطر يهدد حياة الناس.

يقول الإمام الصادق (ع): كان رسول الله (ص) على المنبر، وقد تغيرت قسمات وجهه الشريف، فنظر إلى الناس وقال: أيها الناس إني والساعة مثل هذين، ليس بيني وبين يوم القيامة فاصلة.

يقول الإمام الصادق (ع): أنا أعرف ما القيامة. وإن الذي غير وجه النبّي كونه مع القيامة. فليس بعيداً عنها.

وقال أمير المؤمنين (ع): "لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً"[2]. فلا يوجد فرق عندي بين أن أقف أمام الستارة أو خلفها. فأني أرى القيامة. أما رسول الله (ص) فهو فوق ذلك فهو يقول: أنا والساعة كهاتين؛ وأنا أعلم ما في القيامة، كالاصبعين المتجاورين. فإذا كان أحدهما ساخناً فالأخر يحس به. وإذا كان أحدهما بارداً فالآخر يحس به. وأنا والقيامة هكذا أعرف أخبارها. وأنتم غافلون عنها.

لماذا يحشر بعض الناس وهم عميان؟ السبب هو أن عيونهم اعتادت رؤية الأشياء في الدنيا، وهي أشياء ليست موجودة في القيامة. كما أن القيامة تحتاج إلى عين مناسبة وهؤلاء لم يتهيأوا لها. ولهذا لا يرون أي شيء. فهم عميان؛ وخرسان. فالنظام هناك نظام آخر.

 قال: أنا أعرف خبر القيامة، وأنتم جالسون مطمئنين؛ لأنكم لا تعلمون من أخبار يوم القيامة ما أعلمه.

ثم قال: (يا معشر المسلمين! إن افضل الهدى هدى محمّد ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ لأني لا أنقل لكم الأخبار عن بعد، بل إني قريب مع الواقع وفيه).

إن النبّي (ص) وآله الأطهار أكدوا أخبار يوم القيامة والجنة والنار، لكي يعتبر الناس ويكونوا على اطلاع بأحواله.

(وخير الحديث كتاب الله وشر الأمور محدثاتها). وأفضل الكلام كلام الله سبحانه، وقراءة القرآن، وفهمه، ومعرفته، والعمل به، ومعرفة باطنه. كما أنّه يحفظ السنن الإلهية. كما أن البدع من أخس الأمور وأحقرها.

(أيها الناس، من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك كلا أو ضياعاً، فعلي أو إلي)[3]. أيها الناس من ترك مالاً أو ضياعاً فهو لورثته. وإذا كان عليه قرض، فأنا متكفل به، فراجعوني بهم لأن الحكومة الإسلامية تؤمن حاجات المعوزين، ولا تسمح لهم بالتسول من الناس.

ينقل صاحب كتاب الغارات عن أستاذ أستاذه قائلاً: كنت طفلاً صغيراً، فأخذني أبي إلى جامع الكوفة. وكان عليّ بن أبي طالب (ع) واقفاً يخطب في صلاة الجمعة وقد رأيته (يروح بكمه). وكان المسجد مكتظاً بالناس. فأخذني أبي ووضعني على كتفه لأرى الموقف. فشاهدت الإمام (ع) وقلت لأبي: إن أمير المؤمنين يروح بكمه على نفسه لأن الهواء حار. فقال (ليس كذلك، فعلي بن أبي طالب لا يحس بالحر والبرد) وهذا راجع للدعاء الذي دعا به النبّي الأكرم محمّد (ص) لعلي (ع) حيث قال (ص): إلهي لا تذق علياً حر النار وأثر البرد. ولكن الإمام يفعل ذلك، لأنه ليس عنده غير هذا الثوب، ولأنه غسله، فإنه يجففه بهذه الحركة[4].

الشيء الذي يجب أن لا ننساه هو أن أمير المؤمنين (ع) قال: إن الحكومة الإسلامية لا تترك فقيراً.

قال: مرّ شيخ مكفوف البصر، وهو يستعطي فقال أمير المؤمنين: من هذا؟ فقالوا: هذا نصراني يا أمير المؤمنين. فقال: استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه؟ أنفقوا عليه من بيت المال. فالحكومة الإسلامية تتكفل العجزة حتى لا يسأل أحد أحداً. فإذا كان الشخص قادراً على العمل، فليعمل. وإذا كان غير قادر فيصرف عليه من بيت مال المسلمين[5].

ونحن أيضاً نستطيع أن نصل إلى مقام نقول فيه: (أنا والساعة كهاتين) نعم، نستطيع ذلك ولكن الرسول (ص) يعرف كل أحوال وقضايا يوم القيامة، أما نحن فنعرف شيئاً من يوم القيامة وهو من أثر اتباع هدي الرسول (ص).

يقول المرحوم ملا عبد الرزاق الكاشاني ـ رضوان الله عليه ـ (لقد شاهدنا من يأكل الغسلين). هذا الكلام كبير جداً. يقول تبارك وتعالى: إن الذين يأكلون الحرام في الدنيا سيأكلون الغسلين وهو القيح في جهنم: (لا يأكله إلا الخاطئون)[6]. فالظلمة هي باطن الطعام الحرام والمعصية، كما أن النور باطن العبادة.

يقول المرحوم صدر المتألهين[7]: لقد شاهدنا بعض الناس أن ناراً تخرج من أفواه البعض عندما يتكلمون. وعندما يسكتون فكأنما هناك تنور مشتعل أغلقت فوهته. فالغيبة، والفحش، والمعصية والتهمة، والاهانة، والكلام القبيح، وبذاءة اللسان، وإيذاء الآخرين، كلها نار تخرج من الفم. وهذه النار هي باطن الذنب، فإذا لم نستطع أن نقول: نحن والنار كهاتين، استطعنا أن نقول: نحن وبعض أسرار القيامة كهاتين. لقد قالوا لنا: إن طريق الوصول إلى الباطن هو العمل الصالح، وبه يصل الإنسان إلى ملكوت السماء.

إن وجه الرسول (ص) يتغير كلما تحدث عن يوم القيامة، بحيث يرتسم الخوف والخشية من الله على قسماته.

بعد أن شرع النبّي الأكرم (ص) في الخطبة، وحمد الله وأثنى عليه، وذكر كلاماً في خصوص الهداية، ارتفع صوته واحمر وجهه الشريف؛ لأنه يريد أن يقول خبراً مهماً. يريد أن يخبر عن يوم القيامة، وأن يتكلم عن جهنم.

فلماذا تغيرت أسارير وجهه المبارك؟

 الجواب: لأن الحديث عن يوم القيامة ليس بالأمر الهين.

 إن الموت أمر صعب بحيث ينسي الإنسان علومه ومعارفه التي تعلمها.

ونحن نعرف الآن الكثير من المسائل، ونحفظ الكثير من الأمور، ولكننا نسأل في القبر عن أبسط وأوائل المسائل الإسلامية. أما المسائل المعقدة والصعبة فلا نسأل عنها. لا نسأل عن المعراج ما هو، وعن الجبر والتفويض ماذا يعني، وما هو القضاء والقدر، وما هو لوح المحو والاثبات، أو اللوح والقلم، أو ماذا يعني شق القمر.

 ولكننا نسأل من هو ربكم؟

 وما هو دينكم؟........ وما هو كتابكم؟........ وما هي قبلتكم؟... ومن أي جهة؟

 نسأل عن أبسط المسائل والمعتقدات الإسلامية، نسأل عن الأمور التي نعلمها أطفالنا. ومع ذلك ينسى الكثير من الناس الاجابة عن أمثال هذه الأسئلة، والكثير من الأفراد ينسى هذه الأمور.

إن ضغطة القبر لا يبقى الإنسان معها محافظاً ذاكرته. يصاب الإنسان أحياناً بمرض الحصبة، وبعد أن يخرج من المستشفى يرى أنّه نسي كل دروسه ومعلوماته وبحوثه. والكثير من العلماء عندما يصابون بضرر في الدماغ، لا يتذكرون معلوماتهم حتى بعد تحسن أحوالهم.

يرى الإنسان في ضغطة الموت أنّه يذهب من الظاهر إلى الباطن، من الملك إلى الملكوت يسافر من عالم إلى عالم. وفي هذا الحال يسأل عن ربه وعن نبيه. فلا يتذكر، ولأجل هذا يطلب منا أن نكون ذاكرين للحق دائماً. (واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفةً ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين)[8].

ليكن الإنسان دائم الذكر للحق. لقد أمرنا أن نصلي خمس مرات في اليوم، وأن نصوم شهراً واحداً في السنة، وأن نحج مرة واحدة في العمر، وقالوا إن ذلك يكفي، ولكن ذكر الحق لم يحدد بحد ولا يكتفى منه بالقليل قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً).

فيجب على الإنسان أن يذكر الله دائماً وينمي ذكره في روحه.

كان الإمام الخميني (قدس سره) في آخر السنة الدراسية ينصح الطلاب، فنقل لهم هذا الحديث الذي وجدناه عند بحثنا عن موضوع القيامة: يسأل البعض يوم القيامة من نبيكم؟

 وبعد عدة أحقاب من سنوات العذاب يجيبون أن نبيهم هو الذي أنزل عليه القرآن. فهم لا يتذكرون حتى اسم نبيهم[9].

إن الموت وما بعده ليس بالأمر الهين. فلو كان الأمر هيناً، لأجاب الكل عن الأسئلة السهلة في القبر.

 يملأ الإنسان ورقة الأسئلة التي تقدم له في الدنيا باسرع وقت، ويقول فيها: ديني الإسلام، وكتابي القرآن، والكعبة قبلتي، وأمثال ذلك، لكن الأمر ليس كذلك في القبر، والسبب هو أنّه انتقل من عالم الملك إلى عالم الملكوت.

عندما يريد النبّي الأكرم (ص) أن يتحدث إلى الناس عن القيامة، فإن قسمات وجه الشريف تتغير فيصفر لونه.

 وإذا أراد قائد عسكري أن يقول لجنوده، انهضوا واهجموا، فبأي صورة سيعطي الأمر؟

 وإذا كان الجنود نائمين في أماكنهم، وهجم عليهم العدو بصورة مفاجئة، فهل يقول القائد لهم تفضلوا بالنهوض فإن العدو قد هجم علينا؟

أم يخاطبهم بلهجة صارمة وصوت مرتفع ووجه محمر؟

 وعندما يكون الكلام على القيامة وحوادثها وقضية الموت وجهنم والصراط والحساب، ومحكمة العدل الإلهي، فكأن الرسول (ص) يعطي خبر الهجوم (كأنه منذر حبش)[10]. يقول لعل القيامة تقوم اول الصباح أو عند الغروب، فليس معلوماً متى تقوم القيامة؟

قد يتغير الأمر فجأة، وإذا بالإنسان وهو في عالم آخر لا يعرفه، وقد ترك الشيء الذي كان يعرفه خلفه، إذا أغمض الإنسان عينيه ونقلوه من المشرق إلى المغرب أو من المغرب إلى المشرق، فالأمر لا يختلف كثيراً، إذا مات الإنسان فإنه يرى نفسه فجأة في عالم آخر، ليس بينه وبين عالمه السابق أي ارتباط، والأمور هناك تختلف تماماً.

يقول (ص): إن القيامة تأتيكم في الصباح أو المساء

 ثم يقول: أنا والقيامة كهاتين

 فأنا أعرف ما خبر القيامة

 وأعرف ما يحدث في جهنم

 وأعرف ما هو الصراط

 وما هو الحساب، وما الميزان ويقول (ص): إن الناس غافلون عما يجري هناك، ولا يعرفون من هو صاحب الكلمة، وماذا يريد من الإنسان.

ومن بعد هذا يتطرق الرسول (ص) إلى الأصل الآخر وهو الحكومة الإسلامية، ويقول: (من ترك مالاً فلأهله ومن ترك ديناً فعليّ أو إليّ).

لم نسمع في الأحاديث والخطب الأخرى للرسول (ص) أنّه عندما يريد أن يخطب بالناس فإن وجهه المبارك يحمر، ما كان الأمر كذلك في الحروب والحملات، فمع الضعف الذي كان يعاني منه المسلمون في حروبهم التي قاربت الثمانين حرباً، وكانت حروباً غير متكافئة من حيث العدة والعدد، ما كان الرسول (ص) يحمر وجهه المبارك عند إعلان الحرب أو الهجوم، كان المسلمون يقسمون التمرة قسمين ويأكلونها، بينما كان المشركون يذبحون الجمال ويأكلونها، لكن النبّي (ص) عندما كان يعلن الحرب أو الهجوم، لم يكن وجهه يتغير ولا يحمر، كان المسلمون فاقدين للإمكانات الحربية، ففي معركة بدر التي كانت أول حرب يخوضها المسلمون لم تكن القوتان متكافئتين من حيث العدة والعدد ولكن الرسول (ص) كان يقود تلك المعركة ولم تظهر عليه علامات الارتباك ولم يحمر وجهه.

يقول أمير المؤمنين (ع): وقف رسول الله (ص) في ليلة بدر متعبداً إلى جانب شجرة حتى الصباح[11]، بينما كان الآخرون قلقين مضطربين لإحساسهم بالخطر.

لكن عندما يكون الكلام على الموت وما بعده، فإن وجهه يحمر، ويرتفع صوته، وتتغير ملامحه، ويقول: أيها الناس ليس الموت وما بعده بالأمر الهين، فراقبوا أنفسكم.

(أنا والساعة كهاتين) إسألوني ماذا يحدث بعد الموت؟

 إسألوني عن معنى الجنة والصراط، وماذا يعني الحساب؟

 وأين يذهب الإنسان؟

إن قوله (ص): (أنا والساعة كهاتين) يتضمن خبراً عن باطن العبادة، قال تعالى: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين)

أي حتى تصل إلى هذا المقام، ألم يقل: (كلا لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم)[12]

 فإذا حصل لكم اليقين فسوف ترون نار جهنم، فالرسول (ص) يقول: أنا أستطيع أن أخبركم، لأنكم لا ترون، ولكني أرى النار والحساب.

لقد يسر الله عز وجل هذا الطريق لعبادة السالكين إليه، وعلمنا المعصومون (ع) هذه الطرق الواحدة تلو الأخرى، فمثلاً يقول (ع): يشعر الإنسان في شهر رمضان بالتعالي عن الذنوب فيقول لنفسه: أنا أكبر من أن ألوث نفسي بالذنوب وهذا من أثر الصيام، ومن أثر مقدماته الأولية التي هي الإمساك عن الطعام وقلة الأكل.

سئل أرسطو: لماذا تأكل قليلاً؟

 فقال: أنا آكل لأعيش، ويعيش الآخرون ليأكلوا.

 يقول الإمام الصادق (ع) نقلاً عن رسول الله (ص): جاءني جبرائيل (ع) في وقت غير معهود، فقلت: جئتني في وقت غير معهود، فهل عندك خبر مهم؟

 فقال: لا تخف فقد "غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر"، فقلت: فلأي شيء أتيت؟

 فقال جبرائيل (ع): نهاك الله عن عدة أشياء، الأول: عبادة الأوثان، والثاني: الشراب، والثالث: الجدال، فمجادلة الناس منهي عنها حتى في البحث العلمي[13].

ثم قال: لقد أضاف الله سبحانه على تلك الأشياء الثلاثة أمراً آخر، وهو ينفعك في جميع شؤون حياتك، قلت: وما ذلك؟

 فقال: (يقول لك ربك ما أبغضت وعاء قط كبغضي بطناً ملآناً)، وكثرة الطعام تقلل عمر الإنسان، وتسلب صحته، والأخطر من ذلك أنها تسلبه الفهم والفكر والشعور.



[1]  الأمالي للشيخ المفيد، المجلس 23، الحديث 14، والمجلس 24، الحديث 1.

[2]  الكافي للشيخ الكليني.

[3]  الأمالي للشيخ المفيد.

[4]  الغارات، (ج1، ص98).

[5]  تهذيب الأحكام (ج2، ص88).

[6]  سورة الحاقة، الآية: 37.

[7]  الخطبة الشعبانية، الأربعين، الشيخ البهائي، الحديث 9.

[8]  سورة الأعراف، الآية: 205.

[9]  راجع بهذا الشأن الأحاديث والروايات الخاصة بيوم القيامة. سورة الحج، آية: 1.

[10]  الأمالي، للشيخ المفيد، المجلس 24، الحديث 23.

[11]  إرشاد القلوب للديلمي ص239.

[12]  سورة التكاثر، الآية: 5 ـ 6.

[13]  بحار الأنوار (ج75، ص107، ج93، ص314).