الصفحة 51
فَإِنْ أقُلْ يَقُولُوا: حَرَصَ عَلَى الـمُلْكِ، وَإنْ أَسْكُتْ يَقُولُوا: جَزعَ(1) مِنَ المَوْتِ! هَيْهَاتَ(2) بَعْدَ اللَّتَيَّا وَالَّتِي(3)! وَاللهِ لاَبْنُ أَبي طَالِب آنَسُ بالمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْي أُمِّهِ، بَلِ انْدَمَجْتُ(4) عَلَى مَكْنُونِ عِلْم لَوْ بُحْتُ بِهِ لاَضْطَرَبْتُمُ اضْطِرَابَ الاَْرْشِيَةِ(5) في الطَّوِيِّ(6) البَعِيدَةِ!

[ 6 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
لمّا أشير عليه بألاّ يتبع طلحةَ والزبيرَ ولا يُرصدَ لهما القتال

[وفيه يبين عن صفته بأنه (عليه السلام) لا يخدع]

وَاللهِ لاَ أَكُونُ كالضَّبُعِ: تَنَامُ عَلى طُولِ اللَّدْمِ(7)، حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهَا طَالِبُهَا،

____________

1. جَزِعَ: خاف.

2. هَيْهات: بَعُدَ، والمراد نفي ما عساهم يظنون من جَزَعه من الموت عند سكوته.

3. بَعْدَ اللّتَيّا والتي: بعد الشدائد كبارها وصغارها.

4. اندَمَجْتُ: انطَوَيْتُ.

5. الارْشِيَة: جمع رِشاء بمعنى الحبل.

6. الطّوِيّ: جمع طويّة وهي البئر، والبئر البعيدة: العميقة.

7. اللّدْم: صوت الحجر أوالعصا أوغيرهما، تضرب به الارض ضرباً غير شديد.

الصفحة 52
وَيَخْتِلَهَا(1) رَاصِدُها(2)، وَلكِنِّي أَضْرِبُ بِالمُقْبِلِ إِلَى الحَقِّ المُدْبِرَ عَنْهُ، وَبِالسَّامِعِ المُطِيعِ العَاصِيَ المُريبَ(3) أَبَداً، حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيَّ يَوْمِي.

فَوَاللهِ مَا زِلتُ مَدْفُوعاً عَنْ حَقِّي، مُسْتَأْثَراً عَلَيَّ، مُنْذُ قَبَضَ اللهُ تعالى نَبِيَّهُ(صلى الله عليه وآله)حَتَّى يَوْمِ النَّاسِ هذَا.

[ 7 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[يذم فيها أتباع الشيطان]

اتَّخَذُوا الشَّيْطَانَ لاَِمْرِهِمْ مِلاَكاً(4)، وَاتَّخَذَهُمْ لَهُ أَشْرَاكاً(5)، فَبَاضَ وَفَرَّخَ(6)في صُدُورِهِمْ، وَدَبَّ وَدَرَجَ(7) في حُجُورِهِمْ، فَنَظَرَ بِأَعْيُنِهِمْ، وَنَطَقَ

____________

1. يَخْتِلها: يخدعها.

2. رَاصِدها: صائدها الذي يترقبها.

3. المُرِيب: الذي يكون في حال الشك والرّيْب.

4. مِلاك الشيء ـ بكسر الميم وفتحها ـ: قوامه الذي يُمْلَكُ به.

5. الاشْراك: جمع شَرَكَ وهو ما يُصاد به، فكأنهم اَلة الشيطان في الاضلال.

6. باضَ وفرّخَ: كناية عن تَوَطّنِهِ صدورهم وطولِ مُكْثِهِ فيها، لان الطائر لا يبيض ألاّ في عشّه، وفراخ الشيطان: وَسَاوِسُهُ. 7. دَبّ و دَرَجَ: تربى في حُجُورهم كما يُرَبى الطفل في حجرِ والديه.

الصفحة 53
بِأَلسِنَتِهِمْ، فَرَكِبَ بِهِمُ الزَّلَلَ(1)، وَزَيَّنَ لَهُمُ الخَطَلَ(2)، فِعْلَ مَنْ قَدْ شَرِكَهُ(3) الشَّيْطَانُ في سُلْطَانِهِ، وَنَطَقَ بِالبَاطِلِ عَلى لِسَانِهِ!

[ 8 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
يعني به الزبير في حال اقتضت ذلك

[ويدعوه للدخول في البيعة ثانية]

يَزْعُمُ أَنَّهُ قَدْ بَايَعَ بِيَدِهِ، وَلَمْ يُبَايعْ بِقَلْبِهِ، فَقَدْ أَقَرَّ بِالبَيْعَةِ، وَادَّعَى الوَلِيجَةَ(4)، فَلْيَأْتِ عَلَيْهَا بِأَمْر يُعْرَفُ، وَإِلاَّ فَلْيَدخُلْ فِيَما خَرَجَ مِنْهُ.

[ 9 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
[في صفته وصفة خصومه ويقال إنّها في أصحاب الجمل]

وقَدْ أَرْعَدُوا وَأبْرَقُوا(5)، وَمَعَ هذَيْنِ الاَْمْرَيْنِ الفَشَلُ(6)، وَلَسْنَا نُرْعِدُ حَتَّى

____________

1. الزّلَل: الغَلَط والخطأ.

2. الخَطَلُ: أقبح الخطأ.

3. شَرِكَهُ ـ كَعَلِمَهُ ـ: صار شريكاً له.

4. الوَليِجة: الدّخيلة وما يُضمر في القلب ويكتم.

5. أرْعَدُوا وأبْرَقُوا: أوْ عدُوا وتهَدّدُوا.

6. الفشل: الجُبْن والخور.

الصفحة 54
نُوقِعَ(1)، وَلا نُسِيلُ حَتَّى نُمْطِرَ.

[ 10 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[يريد الشيطان أويكني به عن قوم]

أَلاَ وإنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ جَمَعَ حِزْبَهُ وَاسْتَجْلَبَ خَيْلَهُ وَرَجِلَهُ(2)، وإِنَّ مَعِي لَبَصِيرَتي.

مَا لَبَّسْتُ عَلَى نَفْسِي(3)، وَلاَ لُبِّسَ عَلَيَّ.

وَايْمُ اللهِ لاَُفْرِطَنَّ(4) لَهُمْ حَوْضاً أَنَا مَاتِحُهُ(5)! لاَ يَصْدِرُونَ عَنْهُ(6)، وَلاَ يَعُودُونَ إِلَيْهِ.

____________

1. لسنانُرعد حتى نُوقِع: لا نهدّد عدواً إلاّ بعد أن نوقع بعدُوٍّ آخر.

2. الرّجِلُ: جمع راجِل.

3. ما لَبّسْتُ على نفسي: ما أوقعتها في اللّبْس والابهام.

4. أفْرَطَ الحوْضَ: ملاه حتى فاض.

5. الماتِحُ: المُسْتَقي.

6. يُصْدِرون عنه: يعودون بعد الاستقاء.

الصفحة 55

[ 11 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
[لابنه محمّد بن الحنفية لمّا أعطاه الراية يوم الجمل]

تَزُولُ الجِبَالُ وَلاَ تَزُلْ! عَضَّ عَلَى نَاجِذِكَ(1)، أَعِرِ(2) اللهَ جُمجُمَتَكَ، تِدْ(3) في الاَْرْضِ قَدَمَكَ، ارْمِ بِبَصَرِكَ أَقْصَى القَوْمِ، وَغُضَّ بَصَرَكَ(4)، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللهِ سُبْحَانَهُ.

[ 12 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
لمّا أظفره الله تعالى بأصحاب الجمل

وقد قال له بعض أصحابه:وددت أن أخي فلاناًمعك شاهداًليرى ما نصرك الله به علىأعدائك، فقال له عليه السلام:

أَهَوَى أَخِيكَ(5) مَعَنَا؟

قال: نَعَم.

قالَ: فَقَدْ شَهِدنَا، وَلَقَدْ شَهِدَنَا في عَسْكَرِنَا هذَا أَقْوَامٌ في أَصْلاَبِ الرِّجَالِ، وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ، سَيَرْعُفُ بِهِمُ الزَّمَانُ(6)، ويَقْوَى بِهِمُ الاِْيمَانُ.

____________

1. النّاجِذُ: أقصى الضّرْس، وجمعه نواجذ، وإذا عَضّ الرجل على أسنانه اشتدّت حَمِيّتُهُ.

2. أعِرْ: أمر من أعار، أي ابذل جمجمتك لله تعالى كما يبذل المعير ماله للمستعير.

3. بِدْ قَدَمَكَ: ثَبّتْها، من وَتَدَيَتِدُ. 4. غضّ النظر: كفّهُ، والمراد هنا: لا يَهُولَنّكَ منهم هائلٌ.

5. هوى أخيك: أي ميلُهُ ومحبته.

6. يَرْعُفُ بهم الزمان: يجود على غير انتظار كما يجود الانفُ بالرّعاف.

الصفحة 56

[ 13 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
في ذم البصرة وأهلها [بعد وقعة الجمل]

كُنْتُمْ جُنْدَ الْمَرْأَةِ، وَأَتْبَاعَ البَهِيمَةِ(1)، رَغَا(2) فَأَجَبْتُم، وَعُقِرَ(3) فَهَرَبْتُمْ.

أَخْلاَقُكُمْ دِقَاقٌ(4)، وَعَهْدُكُمْ شِقَاقٌ، وَدِيْنُكُمْ نِفَاقٌ، وَمَاؤُكُمْ زُعَاقٌ(5).

المُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مُرْتَهَنٌ(6) بِذَنْبِهِ، وَالشَّاخِصُ عَنْكُمْ مُتَدَارَكٌ بِرَحْمة مِنْ رَبِّهِ.

كَأَنِّي بِمَسْجِدكُمْ كَجُؤْجُؤِ سَفِينَة(7)، قَدْ بَعَثَ اللهُ عَلَيْها العَذَابَ مِنْ فَوْقِها وَمِنْ تَحتِها، وَغَرِقَ مَنْ في ضِمْنِها.

____________

1. أتْباع البهيمة: يريد بالبهيمة الجمل، وقصته مشهورة.

2. رَغَا الجملُ: أطلق رُغاءه، وهو صوته المعروف.

3. عُقِر الجملُ: جرح أو ضربت قوائمه، أوذبح.

4. أخْلاقكم دِقاقٌ: دنيئة.

5. زُعاق: مالح.

6. مُرْتَهَنٌ: من الارتهان والرهن، والمراد: مؤاخذ.

7. جُؤْجُؤُ السفينةِ: صدرُها، وأصل الجُؤجُؤ: عَظْمُ الصدرِ.

الصفحة 57
وفي رواية: وَأيْمُ اللهِ لَتَغْرَقَنَّ بَلْدَتُكُمْ حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلى مَسْجِدِهَا كَجُؤْجُؤِ سَفِينَة، أَوْ نَعَامَة جَاثِمَة(1).

وفي رواية أخرى: كَجُؤْجُؤِ طَيْر في لُجَّةِ بَحْر(2).

[ 14 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
في مثل ذلك

أرْضُكُمْ قَرِيبَةٌ مِنَ المَاءِ، بَعِيدَةٌ مِنَ السَّماءِ، خَفَّتْ عُقُولُكُمْ، وَسَفِهَتْ حُلُومُكُمْ(3)، فَأَنْتُمْ غَرَضٌ(4) لِنَابِل(5)، وَأُكْلَةٌ لاِكِل، وَفَرِيسَةٌ لِصائِد.

[ 15 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
فيما ردّه على المسلمين من قطائع عثمان(6)

وَاللهِ لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ، وَمُلِكَ بِهِ الاِْمَاءُ، لَرَدَدْتُهُ; فَإِنَّ في العَدْلِ سَعَةً، وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ العَدْلُ، فَالجَوْرُ عَلَيْهِ أَضيَقُ!

____________

1. جَاثِمةٌ: واقعةٌ على صدرها.

2. لُجّةُ البحر ـ وجمعها لُجَجٌ ـ: مَوْجُهُ.

3. سَفِهَت حلومُكُم: سَفِهَتْ: صارتْ سَفِيهة، بها خِفّة وطيش، وحُلُومُكم: جمع حِلْم وهو العقل، فهي كالعبارة قبلها: خَفّت عقولكم.

4. الغَرَض: ما يُنْصَبُ ليرمى بالسهام.

5. النّابِلُ: الضارب بالنّبْلِ.

6. قَطائِعُ عثمان: ما منحه للناس من الاراضي، وكان الاصل فيها أن تنفق غلتها على أبناء السبيل وأشباههم كقطائعه لمعاوية ومروان.

الصفحة 58

[ 16 ]
من كلام له (عليه السلام)
لمّا بويع بالمدينة

[وفيها يخبر الناس بعلمه بما تؤول إليه أحوالهم وفيها يقسمهم إلى أقسام]

ذِمَّتي(1) بِمَا أَقُولُ رَهِينَةٌ(2) وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ(3): إِنَّ مَنْ صَرَّحَتْ لَهُ العِبَرُ(4) عَمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ المَثُلاتِ(5)، حَجَزَهُ(6) التَّقْوَى عَنْ تَقَحُّمِ الشُّبُهَاتِ(7).

____________

1. الذّمّة: العهد.

2. رهينة: مرهونة، من الرهن.

3. الزعيم: الكفيل، يريد أنه ضامن لصدق ما يقول.

4. العِبَر ـ بكسر فتح ـ: جمع عِبرة، بمعنى الموعظة.

5. المَثُلاَتُ: العُقوبات.

6. حجزه: منعه.

7. تَقَحُّمُ الشّبُهَات: التّرَدّي فيها.

الصفحة 59
أَلاَ وَإِنَّ بَلِيَّتَكُمْ قَدْ عَادَتْ كَهَيْئَتِهَا(1) يَوْمَ بَعَثَ اللهُ نَبِيَّهُ(صلى الله عليه وآله)، وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالحَقِّ لَتُبَلْبَلُنَّ(2) بَلْبَلَةً، وَلَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً(3)، وَلَتُسَاطُنَّ(4) سَوْطَ)القِدْرِ(5)، حَتَّى يَعُودَ أَسْفَلُكُمْ أَعْلاَكُمْ، وَأَعْلاَكُمْ أَسْفَلَكُمْ، وَلَيَسْبِقَنَّ سَابِقُونَ كَانُوا قَصَّرُوا، وَلَيُقَصِّرَنَّ سَبَّاقُونَ كَانُوا سَبَقُوا.

وَاللهِ مَا كَتَمْتُ وَشْمَةً(6)، وَلا كَذَبْتُ كِذْبَةً، وَلَقَدْ نُبِّئْتُ بِهذا المَقامِ وَهذَا اليَوْمِ.

أَلاَ وَإِنَّ الخَطَايَا خَيْلٌ شُمُسٌ(7) حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُها، وَخُلِعَتْ لُجُمُهَا(8)،

____________

1. عادت كهيئتها: رجعت إلى حالها الاُولى.

2. لَتُبَلْبَلُنّ: لَتُخْلَطُنّ، ومنه «تَبَلْبَلَتِ الالسُنُ»: اختلطت.

3. لَتُغَرْبَلُنّ: لتمّيزنّ كما يميّز الدقيق عند الغربلة من نخالته.

4. لَتُسَاطُنّ: من السّوط، وهو أن تجعل شيئين في الاناء وتضربهما بيديك حتى يختلطا.

5. سَوْط القِدْر: أي كما تختلط الابْزَارُ ونحوها في القدر عند غليانه فينقلب أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها، وكل ذلك حكاية عما يأولون إليه من الاختلاف، وتقطع الارحام، وفساد النظام.

6. الوَشْمَةُ: الكلمة.

7. الشُمُسُ: جمع شَمُوس وهي من «شَمَسَ» كنصر أي منع ظهره أن يُرْكَبَ.

8. لُجُمُها: جمع لِجام، وهو عنان الدّابة الذي تُلجم به.

الصفحة 60
فَتَقَحَّمَتْ بِهِمْ في النَّارِ(1).

أَلاَ وَإِنَّ التَّقْوَى مَطَايَا ذُلُلٌ(2)، حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا، وَأُعْطُوا أَزِمَّتَها، فَأَوْرَدَتْهُمُ الجَنَّةَ.

حَقٌّ وَبَاطِلٌ، وَلِكُلٍّ أَهْلٌ، فَلَئِنْ أَمِرَ البَاطِلُ لَقَدِيماً فَعَلَ، وَلَئِنْ قَلَّ الحقُّ لَرُبَّما وَلَعَلَّ، وَلَقَلَّمَا أَدْبَرَ شَيءٌ فَأَقْبَلَ!
وأقول: إنّ في هذا الكلام الادنى من مواقع الاحسان ملا تبلغه مواقع الاستحسان، وإنّ حظ العجب منه أكثر من حظ العُجب به، وفيه ـ مع الحال التي وصفنا ـ زوائد من الفصاحة لا يقوم بها لسان، ولا يَطَّلع فَجها(3) إنسان، ولا يعرف ما أقوله إلاّ من ضرب في هذه الصناعة بحق، وجرى فيها على عرق(4)،)وَمَا يَعْقِلُهَا إلاّ العَالمِونَ).

ومن هذه الخطبة
[وفيها يقسّم الناس إلى ثلاثة أصناف]

شُغِلَ مَنِ الجَنَّةُ وَالنَّارُ أَمَامَهُ! سَاع سَرِيعٌ نَجَا، وَطَالِبٌ بَطِيءٌ رَجَا، وَمُقَصِّرٌ في النَّارِ هَوَى.

____________

1. تقحمت بهم في النار: أردتهم فيها.

2. الذُلُل: جمع ذَلول، وهي المُرَوّضَةُ الطائعة.

3. لا يَطّلع فَجَّهَا: من قولهم اطّلَعَ الارض أي بلغها. والفجّ: الطريق الواسع بين جَبَلَيْنِ.

4. العِرْق: الاصل.

الصفحة 61
الَيمِينُ وَالشِّمالُ مَضَلَّةٌ، وَالطَّرِيقُ الوُسْطَى هِيَ الجَادَّةُ(1)، عَلَيْهَا بَاقي الكِتَابِ وَآثَارُ النُّبُوَّةِ، وَمِنْهَا مَنْفَذُ السُّنَّةِ، وَإلَيْهَا مَصِيرُ العَاقِبَةِ.

هَلَكَ مَنِ ادَّعى، وَخَابَ مَنِ افْتَرَى، مَنْ أَبْدَى صَفْحَتَهُ لِلْحَقِّ هَلَكَ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلاً أَلاَّ يَعْرِفَ قَدْرَهُ، لاَيَهْلِكُ عَلَى التَّقْوَى سِنْخُ(2) أَصْل، وَلاَ يَظْمَأُ عَلَيْهَا زَرْعُ قَوْم.

فَاسْتَتِرُوا بِبُيُوتِكُمْ، وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ، وَالتَّوْبَةُ مِنْ وَرَائِكُمْ، وَلاَ يَحْمَدْ حَامِدٌ إِلاَّ رَبَّهُ، وَلاَ يَلُمْ لاَئِمٌ إِلاَّ نَفْسَهُ.

[ 17 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
في صفة من يتصدّى للحكم بين الاُْمة وليس لذلك بأَهل

إِنَّ أَبْغَضَ الخَلائِقِ إِلَى اللهِ تعالى رَجُلانِ: رَجُلٌ وَكَلَهُ اللهُ إِلَى نَفْسِهِ(3)، فَهُوَ جَائِرٌ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ(4)، مَشْغُوفٌ(5) بِكَلاَمِ بِدْعَة(6)، وَدُعَاءِ ضَلاَلَة، فَهُوَ

____________

1. الجادّة: الطريق.

2. السِّنْخُ: المثبّت، يقال: ثبتت السنّ في سِنْخِها: أي منبتها.

3. وكله الله إلى نفسه: تركه ونفسَهُ.

4. جَائرٌ عن قصد السبيل ـ هنا ـ: عادل عن جادّتهِ.

5. المشغوف بشيء: المولع به حتى بلغ حبه شغاف قلبه، وهو غلافه.

6. كلام البِدْعة: ما اخترعته الاهواء ولم يعتمد على ركن من الحق ركين.

الصفحة 62
فِتْنَةٌ لَمِنِ افْتَتَنَ بِهِ، ضَالٌّ عَنْ هَدْي مَنْ كَانَ قَبْلَهُ، مُضِلُّ لِمَنِ اقْتَدَى بِهِ في حَيَاتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ، حَمَّالٌ خَطَايَا غَيْرِهِ، رَهْنٌ بِخَطِيئَتِهِ(1).

وَرَجُلٌ قَمَشَ جَهْلاً(2)، مُوضِعٌ في جُهَّالِ الاُْمَّةِ(3)، غادر في أَغْبَاشِ(4) الفِتْنَةِ، عِم(5) بِمَا في عَقْدِ الهُدْنَةِ(6)، قَدْ سَمَّاهُ أَشْبَاهُ النَّاسِ عَالمِاً وَلَيْسَ بِهِ، بَكَّرَ فَاسْتَكْثَرَ مِنْ جَمْع، مَا قَلَّ مِنْهُ خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ، حَتَّى إِذَا ارْتَوَى مِنْ مَاء آجِن(7)، وَأكْثَر مِن غَيْرِ طَائِل(8)، جَلَسَ بَيْنَ النَّاسِ قَاضِياً ضَامِناً لِتَخْلِيصِ(9) مَا التَبَسَ عَلَى غيْرِهِ(10)، فَإِنْ نَزَلَتْ بِهِ إِحْدَى المُبْهَمَاتِ هَيَّأَ لَهَا

____________

1. رَهْنٌ بخطيئته: لا مخرج له منها.

2. قَمَشَ جهلاً: جمعه، وأصل القَمْش: جمع المتفرق.

3. مُوضِعٌ في جُهّالِ الامّة: مسرع فيها بالغش والتغرير، أوضع البعير: أسرع، وأوضعه راكبه فهو مُوضِعٌ به أي مسرع به.

4. أغباش: جمع غَبَش بالتحريك، وأغباش الليل: بقايا ظلمته. 5. عَم: وصف من العمى، والمراد: جاهل.

6. عَقْدُ الهُدنة: الاتفاق على الصلح والمسالمة بين الناس.

7. الماءُ الاجِنُ: الفاسد المتغير اللون والطعم.

8. غير طائل: دونٌ، خسيسٌ.

9. التخليص: التبيين. 10. التبسَ على غيره: اشتَبَهَ عليه.

الصفحة 63
حَشْواً(1) رَثّاً(2) مِنْ رَأْيِهِ، ثُمَّ قَطَعَ بِهِ، فَهُوَ مِنْ لَبْسِ الشُّبُهَاتِ في مِثْلِ نَسْجِ العَنْكَبُوتِ: لاَ يَدْرِي أَصَابَ أَمْ أَخْطَأَ، إنْ أَصَابَ خَافَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْطَأَ، وَإِنْ أَخْطَأَ رَجَا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَ.

جَاهِلٌ خَبَّاطُ(3) جَهلات، عَاش(4) رَكَّابُ عَشَوَات(5)، لَمْ يَعَضَّ عَلَى العِلْمِ بِضِرْس قَاطِع، يُذرِي الرِّوَايَاتِ إذْراءَ الرِّيحِ الهَشِيمَ(6)، لاَ مَلِيٌ(7) ـ وَاللهِ ـ بِإِصْدَارِ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ، وَلاَ هُوَ أَهْلٌ لِما فُوّضَ إليه، لاَ يَحْسَبُ العِلْمَ في شيْء مِمَّا أَنْكَرَهُ، وَلاَ يَرَى أَنَّ مِنْ وَرَاءِ مَا بَلَغَ منه مَذْهَباً لِغَيْرهِ، وَإِنْ أَظْلَمَ عَلَيْهِ أَمْرٌ اكْتَتَمَ بِهِ(8) لِمَا يَعْلَمُ مِنْ جَهْلِ نَفْسِهِ، تَصْرُخُ مِنْ جَوْرِ قَضَائِهِ

____________

1. الحَشْوُ: الزائد الذي لا فائدة فيه.

2. الرّثّ: الخَلَقُ البالي، ضد الجديد. 3. خَبّاط: صيغة المبالغة من خبط الليل إذا سار فيه على غير هدى.

4. عاش: خابط في الظلام.

5. العَشَوَات: جمع عَشوَة ـ مثلثة الاول ـ وهي ركوب الامر على غير هدى.

6. الهَشِيمُ: ما يَبِسَ من النّبْتِ وتهشّمَ وَتَفَتّتَ.

7. المَلِيّ بالشيء: القَيّمُ به الذي يجيد القيام عليه.

8. اكتتم به: فوّض إليه: كتمه وستره لما يعلم من جهل نفسه.

الصفحة 64
الدِّمَاءُ، وَتَعَجُّ مِنْهُ المَوَارِيثُ(1).

إِلَى اللهِ أَشْكُو مِنْ مَعْشَر يَعِيشُونَ جُهَّالاً، وَيَمُوتُونَ ضُلاَّلاً، لَيْسَ فِيهمْ سِلْعَةٌ أَبْوَرُ(2) مِنَ الكِتَابِ إِذَا تُلِيَ حَقَّ تِلاَوَتِهِ، وَلاَ سِلْعَةٌ أَنْفَقُ(3) بَيْعاً وَلاَ أَغْلَى ثَمَناً مِنَ الكِتَابِ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَلاَ عِنْدَهُمْ أَنْكَرُ مِنَ المَعْرُوفِ، وَلاَ أَعْرَفُ مِنَ المُنكَرِ!

[ 18 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
في ذمّ اختلاف العلماء في الفتيا

[وفيه يذم أهل الرأي ويكل أمر الحكم في أمور الدين للقرآن]

تَرِدُ عَلَى أحَدِهِمُ القَضِيَّةُ في حُكْم مِنَ الاَْحْكَامِ فَيَحْكُمُ فِيهَا بِرَأْيِهِ، ثُمَّ تَرِدُ تِلْكَ القَضِيَّةُ بِعَيْنِهَا عَلَى غَيْرِهِ فَيَحْكُمُ فِيها بِخِلافِ قَوْلِهِ، ثُمَّ يَجْتَمِعُ القُضَاةُ بِذلِكَ عِنْدَ إمامِهِم الَّذِي اسْتَقْضَاهُم(4)، فَيُصَوِّبُ آرَاءَهُمْ جَمِيعاً، وَإِلهُهُمْ وَاحِدٌ! وَنَبِيُّهُمْ وَاحِدٌ! وَكِتَابُهُمْ وَاحِدٌ!

____________

1. العَجّ: رفع الصوت، وعجّ المواريث هنا: تمثيل لحدّةِ الظلم وشدّة الجَوْر.

2. أبْوَرُ: من بَارَتِ السّلْعة: كَسَدَتْ.

3. أنْفَقُ: من النّفاق ـ بالفتح ـ وهو الرّواج.

4. الامام الذي استقضاهم: الذي ولاّهم القضاء.

الصفحة 65
أَفَأَمَرَهُمُ اللهُ ـ سُبْحَانَهُ ـ بِالاخْتلاَفِ فَأَطَاعُوهُ! أَمْ نَهَاهُمْ عَنْهُ فَعَصَوْهُ! أَمْ أَنْزَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ دِيناً نَاقِصاً فَاسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَى إِتْمَامِهِ! أَمْ كَانُوا شُرَكَاءَ لَهُ فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا وَعَلَيْهِ أَنْ يَرْضِى؟ أَمْ أَنْزَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ دِيناً تَامّاً فَقَصَّرَ الرَّسُولُ(صلى الله عليه وآله) عَنْ تَبْلِيغِهِ وَأَدَائِهِ؟ وَاللهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: (مَا فَرَّطْنَا في الكِتَابِ مِنْ شَيْء) وَفِيهِ تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيْء، وَذَكَرَ أَنَّ الكِتَابَ يُصَدِّقُ بَعْضاً، وَأَنَّهُ لاَ اخْتِلافَ فِيهِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).

وَإِنَّ القُرآنَ ظَاهِرُهُ أَنِيقٌ(1)، وَبَاطِنُهُ عَمِيقٌ، لاَ تَفْنَى عَجَائِبُهُ، وَلاَتَنْقَضِي غَرَائِبُهُ، وَلاَ تُكْشَفُ الظُّلُمَاتُ إلاَّ بِهِ.

[ 19 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
قاله للاشعث بن قيس وهو على منبر الكوفة يخطب

فمضى في بعض كلامه شيء اعترضه الاشعث، فقال: يا أميرالمؤمنين، هذه عليك لا لك، فخفض(عليه السلام) إليه بصره ثم قال:

ومَا يُدْرِيكَ مَا عَلَيَّ مِمَّا لِي؟ عَلَيْكَ لَعْنَةُ اللهِ وَلَعْنَةُ اللاَّعِنِينَ! حَائِكٌ ابْنُ حَائِك! مُنَافِقٌ ابْنُ كُافِر! وَاللهِ لَقَدْ أَسَرَكَ الكُفْرُ مَرَّةً وَالاسْلامُ أُخْرَى! فَمَا فَداكَ مِنْ وَاحِدَة مِنْهُمَا مَالُكَ وَلاَ حَسَبُكَ! وَإِنَّ امْرَأً دَلَّ عَلَى قَوْمِهِ السَّيْفَ، وَسَاقَ إِلَيْهِمُ الحَتْفَ، لَحَرِيٌّ أَنْ يَمقُتَهُ الاَْقْرَبُ، وَلاَ يَأْمَنَهُ الاَْبْعَدُ!

____________

1. أنيق: حسن مُعْجِبٌ (بأنواع البيان)، وآنقني الشيء: أعجبني.

الصفحة 66
يريد(عليه السلام): أنه أُسر في الكفر مرة وفي الاِسلام مرة.

وأما قوله: «دل على قومه السيف»، فأراد به: حديثاً كان للاشعث مع خالد بن الوليد باليمامة، غرّ فيه قومه ومكر بهم حتى أوقع بهم خالد، وكان قومه بعد ذلك يسمونه «عُرْفَ النار»، وهو اسم للغادر عندهم.

[ 20 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[وفيها ينفر من الغفلة وينبه إلى الفرار لله]

فَإِنَّكُمْ لَوْ عَايَنْتُمْ مَا قَدْ عَايَنَ مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ لَجَزِعْتُمْ وَوَهِلْتُمْ(1)، وَسَمِعْتُمْ وَأَطَعْتُمْ، وَلكِنْ مَحْجُوبٌ عَنْكُمْ مَا عَايَنُوا، وَقَرِيبٌ مَا يُطْرَحُ الحِجَابُ! وَلَقَدْ بُصِّرْتُمْ إِنْ أَبْصَرْتُمْ، وَأُسْمِعْتُمْ إِنْ سَمِعْتُمْ، وَهُدِيتُمْ إِنِ اهْتَدَيْتُمْ، وَبِحَقٍّ أَقَولُ لَكُمْ: لَقَدْ جَاهَرَتْكُمُ العِبَرُ(2)، وَزُجِرْتُمْ بِمَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ، وَمَا يُبَلِّغُ عَنِ اللهِ بَعْدَ رُسُلِ السَّماءِ(3) إِلاَّ البَشَرُ.

____________

1. الوَهَلُ: الخوف والفزع، من وَهِلَ يَوْهَلُ.

2. جَاهَرَتْكُمُ العِبَرُ: انتصبت لتنبهكم جهراً وصرحت لكم بعواقب أُموركم، والعِبر جمع عِبْرَة، والعِبرة: الموعظة.

3. رُسُلُ السماء: الملائكة.

الصفحة 67

[ 21 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[وهي كلمة جامعة للعظة والحكمة]

فإِنَّ الغَايَةَ أَمَامَكُمْ، وَإِنَّ وَرَاءَكُمُ السَّاعَةَ(1) تَحْدُوكُمْ(2)، تَخَفَّفُوا(3) تَلْحَقوا، فَإنَّمَا يُنْتَظَرُ بِأوَّلِكُمْ آخِرُكُمْ.
وأقول: إنّ هذا الكلام لو وزن بعد كلام الله سبحانه وكلام رسوله(صلى الله عليه وآله) بكل كلام لمال به راجحاً، وبرّز عليه سابقاً.

فأما قوله (عليه السلام): «تخففوا تلحقوا»، فما سمع كلام أقل منه مسموعاً ولا أكثر منه محصولاً، وما أبعد غورها من كلمة! وأنقع(4) نطفتها(5) من حكمة! وقد نبهنا في كتاب «الخصائص» على عظم قدرها وشرف جوهرها.

[ 22 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[حين بلغه خبر الناكثين ببيعته]

[وفيها يذم عملهم ويلزمهم دم عثمان ويتهدّدهم بالحرب]

[ذم الناكثين]

أَلاَ وإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ ذَمَّرَ حِزْبَهُ(6)، وَاسْتَجْلَبَ جَلَبَهُ(7)، لِيَعُودَ الجَوْرُ إِلَى أَوْطَانِهِ، وَيَرْجِعَ البِاطِلُ إِلَى نِصَابِهِ(8)، وَاللهِ مَا أَنْكَرُوا عَلَيَّ مُنْكَراً، وَلاَ جَعَلُوا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ نَصِفاً(9).

____________

1. الساعة: يوم القيامة.

2. تحدوكم: تَسُوقكم إلى ما تسيرون عليه.

3. تَخَفّفَوا: المراد هنا التخففُ من أوزار الشهوات.

4. أنْقَع: من قولهم: «الماء ناقع ونقيع» أي ناجع، أي إطفاء العطش.

5. النُّطْفة: الماء الصافي.

6. ذَمّرَ حِزْبَهُ: حثهم وحضّهم، وهو بالتشديد أدلّ على التكثير، ويروى مخففاً أيضاً من باب ضرب ونصر.

7. الجَلَب ـ بالتحريك ـ: ما يُجلب من بلد إلى بلد، وهو فعلٌ بمعنى مفعول مثل سَلَب بمعنى مسلوب، والمراد هنا بقوله و«استجلب جَلَبَه» جمع جماعته، كقوله «ذَمّرَ حزبه». 8. النِّصَاب ـ بكسر النون ـ: الاصل أوالمنبت وأول كل شيء.

9. النّصِف ـ بالكسر ـ: المنصف، أي: لم يحكّموا رجلاً عادلاً بيني وبينهم.


الصفحة 68

[ذم عثمان]

وَإِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً هُمْ تَرَكُوهُ، وَدَماً هُمْ سَفَكُوهُ، فَلَئِنْ كُنْتُ شَرِيكَهُمْ فِيهِ فَإِنَّ لَهُمْ لَنَصِيبَهُمْ مِنْهُ، وَلَئِنْ كَانُوا وَلُوهُ دُوني، فَمَا التَّبِعَةُ إِلاَّ عِنْدَهُمْ، وَإِنَّ أَعْظَمَ حُجَّتِهِمْ لَعَلَى أَنْفُسِهِمْ، يَرْتَضِعُونَ أُمّاً قَدْ فَطَمَتْ(1)، وَيُحْيُونَ بِدْعَةً قَدْ أُمِيتَتْ.

يا خَيْبَةَ الدَّاعِي! مَنْ دَعَا! وَإِلاَمَ أُجِيبَ! وَإِنِّي لَرَاض بِحُجَّةِ اللهِ عَلَيْهِمْ وَعِلْمِهِ فِيهمْ.

[التهديد بالحرب]

فَإِنْ أَبَوْا أَعْطَيْتُهُمْ حَدَّ السَّيْفِ، وَكَفَى بِهِ شَافِياً مِنَ البَاطِلِ، وَنَاصَراً لِلْحَقِّ!

____________

1. أُمّاً قد فَطَمَتْ: أي تَركت إرضاع ولدها بعد أن ذهب لبنها، يشبّه به طلَب الامر بعد فواته.

الصفحة 69
وَمِنَ العَجَبِ بَعْثُهُمْ إِلَيَّ أَنْ أَبْرُزَ لِلطِّعَانِ! وَأَنْ أصْبِرَ لِلْجِلادِ! هَبِلَتْهُمُ(1)الهَبُولُ(2)! لَقَدْ كُنْتُ وَمَا أُهَدَّدُ بِالحَرْبِ، وَلاَ أُرَهَّبُ بِالضَّرْبِ! وَإِنِّي لَعَلَى يَقِين مِنْ رَبِّي، وَغَيْرِ شُبْهَة مِنْ دِيني.

[ 23 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[وتشتمل على تهذيب الفقراء بالزهد وتأديب الاغنياء بالشفقة]

[تهذيب الفقراء]

أمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الاَْمْرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ إِلَى الاَْرْضِ كَقَطر المَطَرِ إِلَى كُلِّ نَفْس بِمَا قُسِمَ لَهَا مِنْ زِيَادَة أَوْ نُقْصَان، فإذا رَأَى أَحَدُكُمْ لاَِخِيهِ غَفِيرَةً(3) في أَهْل أَوْ مَال أَوْ نَفْس فَلاَ تَكُونَنَّ لَهُ فِتْنَةً، فَإِنَّ المَرْءَ المُسْلِمَ مَا لَمْ يَغْشَ دَنَاءَةً تَظْهَرُ فَيَخْشَعُ لَهَا إِذَا ذُكِرَتْ، وَيُغْرَى بهَا لِئَامُ النَّاسِ، كانَ كَالفَالِجِ(4) اليَاسِرِ(5) الَّذِي يَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزَة مِنْ قِدَاحِهِ تُوجِبُ لَهُ المَغْنَمَ، وَيُرْفَعُ عَنْهُ

____________

1. هَبِلَتْهُمْ: ثَكِلَتْهُمْ.

2. الهَبُول ـ بفتح الهاء ـ: المرأة التي لا يبقى لها ولد، وهو دعاء عليهم بالموت.

3. غفيرة: زيادة وكثرة.

4. الفالج: الظافر، فَلَجَ يَفْلُجُ ـ كنصر ينصر ـ: ظفر وفاز، ومنه المثل: «من يأتِ الحكم وحده يَفْلُجُ».

5. الياسر: الذي يلعب بقِداح المسير أي: المقامر، وفي الكلام تقديم وتأخير، ونَسَقُهُ: كالياسر الفالج، كقوله تعالى: (وغرابيب سُود)، وحَسّنَهُ أن اللفظتين صفتان، وإن كانت إحداهما إنّما تأتي بعد الاخرى إذا صاحبتها.

الصفحة 70
بها المَغْرَمُ.

وَكَذْلِكَ المَرْءُ المُسْلِمُ البَرِيءُ مِنَ الخِيَانَةِ يَنْتَظِرُ مِنَ اللهِ إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ: إِمَّا دَاعِيَ اللهِ فَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لَهُ، وَإِمَّا رِزْقَ اللهِ فَإِذَا هُوَ ذُوأَهْل وَمَال، وَمَعَهُ دِينُهُ وَحَسَبُهُ.

إِنَّ المَالَ وَالبَنِينَ حَرْثُ الدُّنْيَا، والعَمَلَ الصَّالِحَ حَرْثُ الاْخِرَةِ، وَقَدْ يَجْمَعُهُمَا اللهُ لاَِقْوَام، فَاحْذَرُوا مِنَ اللهِ مَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِهِ، وَاخْشَوْهُ خَشْيَةً لَيْسَتُ بَتَعْذِير(1)، وَاعْمَلُوا في غَيْرِ رِيَاء وَلاَ سُمْعَة; فَإِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ لِغَيْرِ اللهِ يَكِلْهُ اللهُ(2) إِلَى مَنْ عَمِلَ لَهُ.

نَسْأَلُ اللهَ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَمُعَايَشَةَ السُّعَدَاءِ، وَمُرَافَقَةَ الاَْنْبِيَاءِ.

[تأديب الاغنياء]

أَيُّهَا النّاسُ، إِنَّهُ لاَ يَسْتَغْنِي الرَّجُلُ ـ وَإِنْ كَانَ ذَا مَال ـ عَنْ عَشِيرَتِهِ، وَدِفَاعِهِمْ عَنْهُ بِأَيْدِيهِمْ وَأَلسِنَتِهمْ، وَهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ حَيْطَةً(3) مِنْ وَرَائِهِ وَأَلَمُّهُمْ لِشَعَثِهِ(4)، وَأَعْطَفُهُمْ عَلَيْهِ عِنْدَ نَازِلَة إنْ نَزَلَتْ بِهِ. وَلِسَانُ الصِّدْقِ(5) يَجْعَلُهُ اللهُ لِلْمَرْءِ في النَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ المَالِ: يُورِثُهُ غيرَهُ.

____________

1. التعذير ـ مصدر عذّرَ تَعْذيراً ـ: لم يثبُتْ له عُذْر.

2. يَكِلُه الله: يتركه، من وَكَلَ يَكِلُ: مثل وزن يزن.

3. حَيْطة ـ كبيعة ـ: رعاية وكلاءة.

4. الشَعَث ـ بالتحريك ـ: التفرق والانتشار.

5. لسان الصدق: حُسْنُ الذكر بالحق.

الصفحة 71

منها:

أَلاَ لاَيَعْدِلَنَّ أَحَدُكُمْ عَنِ القَرَابِةِ يَرَى بِهَا الخَصَاصَةَ(1) أنْ يَسُدَّهَا بِالَّذِي لايَزِيدُهُ إِنْ أَمْسَكَهُ وَلاَ يَنْقُصُهُ إِنْ أَهْلَكَهُ(2)، وَمَنْ يَقْبِضْ يَدَهُ عَنْ عَشِيرَتِهِ، فَإِنَّمَا تُقْبَضُ مِنْهُ عَنْهُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ، وَتُقْبَضُ مِنْهُمْ عَنْهُ أَيْد كَثِيرَةٌ; وَمَنْ تَلِنْ حَاشِيَتُهُ يَسْتَدِمْ مِنْ قَوْمِهِ المَوَدَّةَ.
وما أحسن المعنى الذي أراده(عليه السلام) بقوله: «ومن يقبض يده عن عشيرته...» إلى تمام الكلام، فإن الممسك خيره عن عشيرته إنما يمسك نفع يد واحدة; فإذا احتاج إلى نصرتهم، واضطر إلى مرافدتهم(3)، قعدوا عن نصره، وتثاقلوا عن صوته، فمنع ترافد الايدي الكثيرة، وتناهض الاقدام الجمة.

____________

1. الخَصَاصة: الفقروالحاجة الشديدة، وهي مصدر خَصّ الرجل ـ من باب عَلِمَ ـ خَصَاصاً وخَصَاصة، وخصاصاء ـ بفتح الخاء في الجميع ـ إذا احتاج وافتقر، قال تعالى: (ويُؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خَصاصةٌ)

2. أهلك المالَ: بِذَلَهُ.

3. المُرافَدَةُ: المُعاوَنَة.

الصفحة 72

[ 24 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[وهي كلمة جامعة له]

[فيها تسويغ قتال المخالف، والدعوة إلى طاعة الله، والترقي فيها لضمان الفوز]

وَلَعَمْرِي مَا عَلَيَّ مِنْ قِتَالِ مَنْ خَالَفَ الحَقَّ، وَخَابَطَ الغَيَّ(1)، مِنْ إِدْهَان(2) وَلاَ إِيهَان(3).

فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَفِرُّوا إِلَى اللهِ مِنَ اللهِ(4)، وَامْضُوا في الَّذِي نَهَجَهُ)لَكُمْ(5)، وَقُومُوا بِمَا عَصَبَهُ بِكُمْ(6)، فَعَلِيٌّ ضَامِنٌ لِفَلْجِكُمْ(7) آجِلاً، إِنْ لَمْ تُمنَحُوهُ عَاجِلاً.

____________

1. خابَطَ الغَيَّ: صارع الفساد، وأصل الخبْظ: السير في الطلام، وهذا التعبير أشد مبالغة من خَبَطَ في الغي، إذ جعله والغي متخابطَيْن يخبظ أحدهما في الاخر.

2. الادْهانُ: المنافَقَةُ والمصانَعَةُ، ولا تخلو من مخالفة الباطن للظاهر. 3. الايهان: مصدر أوْهَنْتُهُ، بمعنى أضعَفْته.

4. فِرّوا إلى الله من الله: اهربوا إلى رحمة الله من عذابه.

5. نَهَجَهُ لكم: أوْضَحَهُ وبَيّنَه.

6. عَصَبَهُ بكم ـ من باب ضرب ربطه بكم ـ أي: كلّفكم به، وألزمكم أداءه.

7. فَلْجكم: ظَفَركم وفَوْزكم.

الصفحة 73

[ 25 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)

وقد تواترت عليه الاَخبار(1) باستيلاءِ أصحاب معاوية على البلاد، وقدم عليه عاملاه على اليمن ـ وهما عبيدالله بن العباس وسعيد بن نمران ـ لمّا غلب عليها بُسْرُ بن أبي أَرْطَاة، فقام(عليه السلام)إلى المنبر ضجراً بتثاقل أَصحابه عن الجهاد، ومخالفتهم له في الرأْي، وقال

مَا هِيَ إِلاَّ الكُوفَةُ، أقْبِضُهَا وَأَبْسُطُهَا(2)، إنْ لَمْ تَكُوني إِلاَّ أَنْتِ، تَهُبُّ أَعَاصِيرُك(3)، فَقَبَّحَكِ اللهُ!

وتمثّل:

لَعَمْرُ أَبِيكَ الخَيْرِ يَا عَمْرُوإِنَّني * عَلَى وَضَر(4) ـ مِنْ ذَا الاِْنَاءِ ـ قَلِيلِ

ثم قال (عليه السلام):

أُنْبِئْتُ بُسْراً قَدِ اطَّلَعَ الَيمنَ(5)، وَإِنِّي وَاللهِ لاََظُنُّ هؤُلاءِ القَوْمَ سَيُدَالُونَ مِنْكُمْ(6) بِاجْتِماعِهمْ عَلَى بَاطِلِهمْ، وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ، وَبِمَعْصِيَتِكُمْ

____________

1. تواترت عليه الاخبار: ترَادَفَتْ وتواصَلَت.

2. أقْبضُها وأبْسُظُها: أي أتصرف فيها كما يتصرف صاحب الثوب في ثوبه يقبضه أويبسطه.

3. الاعاصير: جمع إعصار، وهي ريح تهب وتمتد من الارض نحو السماء كالعمود.

4. الوَضرُ ـ بالتحريك ـ: بقية الدّسم في الاِناء.

5. اطّلَعَ اليمنَ: غَشِيَها بجيشه وغزاها وأغار عليها.

6. سَيُدَالُونَ منكم: سيغلبونكم وتكون لهم الدولة بَدَلَكُمْ.