[ 180 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
في ذمّ أصحابه
أَحْمَدُ اللهَ عَلَى مَا قَضَى مِنْ أَمْر، وَقَدَّرَ مِنْ فِعْل، وَعَلَى ابْتِلاَئِي بِكُم أَيَّتُهَا الْفِرْقَةُ الَّتِي إذَا أَمَرْتُ لَمْ تُطِعْ، وَإذَا دَعَوْتُ لَمْ تُجِبْ، إنْ أُمْهِلْتُمْ(1) خُضْتُمْ، وَإنْ حُورِبْتُمْ خُرْتُمْ(2)، وَإنِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى إمَام طَعَنْتُمْ، وَإنْ أُجِبْتُمْ إلَى مُشَاقَّة(3) نَكَصْتُمْ(4).
لاَ أَبَا لِغَيْرِكُمْ(5)! مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِكُمْ وَالْجِهَادِ عَلَى حَقِّكُمْ؟ الْمَوْتَ أَوِ الذُّلَّ لَكُمْ؟ فَوَاللهِ لَئِنْ جَاءَ يَوْمِي ـ وَلَيَأْتِيَنِّي ـ لَيُفَرِّقَنَّ بَيْني وَبَيْنَكُمْ وَأَنا لِصُحْبَتِكُمْ قَال(6)، وَبِكُمْ غَيْرُ كَثِير(7).
____________
1. أُمهِلْتم: أُخّرْتم، ويروى «أهملتم» بمعنى: خُلّيتم وتُرِكتم. 2. خُرْتم: ضعفتم وجبنتم.
3. المشاقّة: المقاطعة والمصارمة.
4. نَكَصْتُمْ: رجعتم القهقرى وأحجمتم.
5. المعروف في التقريع: لا أبا لكم، ولا أبا لك، وهو دعاء بفقد الاب أو تعيير بجهله، فتلطف الامام بتوجيه الدعاء أو الذمّ لغيرهم.
6. قَال: أي كاره.
7. غير كَثِير بكم: أي إني أفارق الدنيا وأنا في قلة من الاعوان، وإن كنتم حولي كثيرين.
____________
1. من شحذ السكين ـ كمنع ـ: أي حددها.
2. الْجُفَاةَ ـ جمع جاف ـ: أي غليظ.
3. الطَّغَامَ ـ بالفتح ـ: أرذال الناس.
4. المعونة: يراد بها هنا ما يعطى للجند لاصلاح السلاح، وعلف الدواب زائداً على العطاء المفروض، والارزاق المعينة لكل منهم.
5. التريكة ـ كسفينة ـ: بيضة النعامة بعد أن يخرج منها الفرخ تتركها في مجثمها، والمراد: أنتم خلف الاسلام وعِوَض السلف.
6. دَارَسْتُكُمُ الكتابَ: أى قرأت عليكم القرآن تعليماً وتفهيماً.
7. فاتحتكم: مجرده فتح بمعنى قضى، فهو بمعنى قاضيتكم أي حاكمتكم. والحِجاج: المحاجّة، أي قاضيتكم عندالحجة حتى قضيت عليكم بالعجز عن الخصام.
[حمد الله واستعانته]
الْحَمْدُ لله الَّذِي إلَيْهِ مَصَائِرُ الْخَلْقِ، وَعَوَاقِبُ الاَْمْرِ، نَحْمَدُهُ عَلَى عَظِيمِ إِحْسَانِهِ، وَنَيِّرِ بُرْهَانِهِ، وَنَوَامِي(3) فَضْلِهِ وَامْتِنَانِهِ، حَمْداً يَكُونُ لِحَقِّهِ قَضَاءً، وَلِشُكْرِهِ أَدَاءً، وَإلَى ثَوَابِهِ مُقَرِّباً، وَلِحُسْنِ مَزِيدِهِ مُوجِباً.
وَنَسْتَعِينُ بِهِ اسْتِعَانَةَ رَاج لِفَضْلِهِ، مُؤَمِّل لِنَفْعِهِ، وَاثِق بِدَفْعِهِ، مُعْتَرِف لَهُ بِالطَّوْلِ(4)، مُذْعِن لَهُ بِالْعَمَلِ وَالْقَوْلِ.
وَنُؤْمِنُ بِه إِيمَانَ مَنْ رَجَاهُ مُوقِناً، وَأَنَابَ إِلَيْهِ مُؤْمِناً، وَخَنَعَ(5) لَهُ مُذْعِناً، وَأَخْلَصَ لَهُ مُوَحِّداً، وَعَظَّمَهُ مُمَجِّداً، وَلاَذَ بِهِ رَاغِباً مُجْتَهِداً.
____________
1. المِدْرعة: ثوب يعرف عند بعض العامة بالدراعية، قميص ضيق الاكمام، قال في القاموس: ولا يكون إلاّ من صوف.
2. الثَفِنَة ـ بكسر بعد فتح ـ: ما يمس الارض من البعير بعد البُروك ويكون فيه غلظ من ملاطمة الارض، وكذلك كان في جبين أمير المؤمنين من كثرة السجود.
3. النوامي: جمع نام بمعنى زائد.
4. الطَوْل ـ بفتح الطاء وسكون الواوـ: الفضل.
5. خَنَعَ: ذل وخضع.
[الله الواحد]
لَمْ يُولَدْ سُبْحَانَهُ فَيَكُونَ فِي الْعِزِّ مُشَارَكاً، وَلَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ مُوْرُوثاً هَالِكاً، وَلَمْ يَتَقَدَّمْهُ وَقْتٌ وَلاَ زَمَانٌ، ولَمْ يَتَعَاوَرْهُ(1) زِيَادَةٌ وَلاَ نُقْصَانٌ، بَلْ ظَهَرَ لِلْعُقُولِ بِمَا أَرَانَا مِنْ عَلاَمَاتِ التَّدْبِيرِ الْمُتْقَنِ، وَالْقَضَاءِ الْمُبْرَمِ.
فَمِنْ شَوَاهِدِ خَلْقِهِ خَلْقُ السَّماوَاتِ مُوَطَّدَات(2) بِلاَ عَمَد، قَائِمَات بِلاَ سَنَد، دَعَاهُنَّ فَأَجَبْنَ طَائِعَات مُذْعِنَات، غَيْرَ مُتَلَكِّئَات(3) وَلاَ مُبْطِئَات، وَلَوْ لاَ إقْرَارُهُنَّ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَإِذْعَانُهُنَّ بِالطَّوَاعِيَةِ، لَمَا جَعَلَهُنَّ مَوْضِعاً لِعَرْشِهِ، وَلاَ مَسْكَناً لِمَلائِكَتِهِ، وَلاَ مَصْعَداً لِلْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ خَلْقِهِ.
جَعَلَ نُجُومَهَا أَعْلاَماً يَسْتَدِلُّ بِهَا الْحَيْرَانُ فِي مُخْتَلِفِ فِجَاجِ الاَْقْطَارِ، لَمْ يَمْنَعْ ضَوْءَ نُورِهَا ادْلِهْمَامُ(4) سُجُفِ(5) اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، وَلاَ اسْتَطَاعَتْ جَلاَبِيبُ(6) سَوَادِ الْحَنَادِسِ(7) أَنْ تَرُدَّ مَا شَاعَ(8) فِي السَّماوَاتِ مِنْ تَلاَْلُؤِ
____________
1. يتعاوره: يتداوله ويتبادل عليه.
2. موطَّدات: مُثبّتات في مَداراتها على ثقل أجرامها.
3. التلكّؤ: التوقّف والتباطؤ.
4. ادلهمام الظلمة: كثافتها و شدّتها.
5. السُجُف ـ بضمتين ـ: جمع سِجاف ـ ككتاب ـ: الستر.
6. الجلابيب ـ جمع جِلْبَاب ـ: ثوب واسع تلبسه المرأة فوق ثيابها كأنه مِلْحَفة، ووجه الاتسعارة فيها ظاهر. 7. الحَنادس ـ جمع حِنْدِس بكسر الحاء ـ: الليل المظلم.
8. شاع: تفرق.
فَسُبْحَانَ مَنْ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ سَوَادُ غَسَق دَاج(1)، وَلاَ لَيْل سَاج(2)، فِي بِقَاعِ الاَْرَضِينَ الْمُتَطَأْطِئَاتِ(3)، وَلاَ في يَفَاعِ السُّفْعِ(4) الْمُتَجَاوِرَاتِ، وَمَا يَتَجَلْجَلُ بِهِ الرَّعْدُ(5) فِي أُفُقِ السَّماءِ، وَمَا تَلاَشَتْ عَنْهُ بُرُوقُ(6) الْغَمَامِ، وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَة تُزِيلُهَا عَنْ مَسْقَطِهَا عَوَاصِفُ الاَْنْوَاءِ(7) وَانْهِطَالُ
____________
1. الغَسَق: الظلمة، والداجي: الشديد الظلام.
2. الساجي: الساكن.
3. المُتَطَأطئات: المنخفضات.
4. اليفاع: التل أو المرتفع مطلقاً من الارض. والسُفْع ـ جمع سَفْعاءـ: السوادء تضرب إلى الحمرة، والمراد منها الجبال، عبّر عنها بلونها فيما يظهر للنظر على بعد.
5. ما يَتَجَلْجَل به الرعد: صوته، والجَلْجَلَة: صوت الرّعد.
6. تَلاشت: اضمحلت، وأصله من لَشِىء بمعنى خَسّ بعد رفعة. وما يضمحل عنه البرق: هو الاشياء التي تُرى عند لمعانه.
7. العواصف: الرياح الشديدة، وإضافتها للانواء من إضافة الشيء لمصاحبه عادةً. والانواء ـ جمع نَوْء ـ: أحد منازل القمر، يعدّها العرب ثمانية وعشرين يغيب منها عن الافق في كل ثلاث عشرة ليلةً منزلةٌ ويظهر عليه أخرى.
[عود إلى الحمد]
وَالْحَمْدُ لله الْكَائِنِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ كُرْسِيٌّ أَوْ عَرْشٌ، أَوْ سَمَاءٌ أَوْ أَرْضٌ، أَوْ جَانٌّ أَوْ إنْسٌ، لاَ يُدْرَكُ بِوَهْم(2)، وَلاَ يُقَدَّرُ بِفَهْم، وَلاَ يَشْغَلُهُ سَائِلٌ(3)، وَلاَ يَنْقُصُهُ نَائِلٌ(4)، وَلاَ يَنْظُرُ بِعَيْن، وَلاَ يُحَدُّ بِأَيْن(5)، وَلاَ يُوصَفُ بِالاَْزْوَاجِ(6)، وَلاَ يُخْلَقُ بِعِلاَج(7)، وَلاَ يُدْركُ بِالْحَوَاسِّ، وَلاَ يُقَاسُ بِالنَّاسِ،
____________
1. السماء ـ هنا ـ: المطر.
2. الوهم ـ هنا ـ: الفكرة والتوهم.
3. لا يَشْغَلُه سائل: لاحاطة علمه وقدرته.
4. النائل: العطاء.
5. الاين: المكان.
6. الازواج ـ هنا ـ: القُرَناء والامثال، أي لا يقال: ذوقرناء، ولا هو قرين لشيء، ويراد من هذا نفي الاثنينية والتعدد عنه جلّ شأنه.
7. لا يُخْلَقُ بعلاج: أي أنه لا يشبه المخلوقات في احتياج وجودها إلى معالجة ومزاولة، لانّه بذاته واجب الوجود سبحانه.
بَلْ إِنْ كُنْتَ صَادِقاً أَيُّهَا الْمُتَكَلِّفُ(2) لِوَصْفِ رَبِّكَ، فَصِفْ جَبْرَئيلَ وَمِيكَائِيلَ وَجُنُودَ الْمَلاَئِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، فِي حُجُراتِ(3) الْقُدُسِ مُرْجَحِنِّينَ(4)، مُتَوَلِّهَةً(5) عُقُولُهُمْ أَنْ يَحُدُّوا أَحْسَنَ الْخَالِقينَ. وَإنَّمَا يُدرَكُ بِالصِّفَاتِ ذَوُوالْهَيْئَاتِ وَالاَْدوَاتِ، وَمَنْ يَنْقَضِي إِذَا بَلَغَ أَمَدَ حَدِّهِ بِالْفَنَاءِ، فَلاَ إلهَ إلاَّ هُوَ، أَضَاءَ بِنُورِهِ كُلَّ ظَلاَم، وَأَظْلَمَ بِظُلْمَتِهِ كُلَّ نُور.
[الوصية بالتقوى]
أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللهِ بِتَقْوَى اللهِ الَّذِي أَلْبَسَكُمُ الرِّيَاشَ(6)، وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمُ
____________
1. اللهَوَات ـ جمع لهَاة ـ: اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى الفم.
2. المتكلف: هو شديد التعرض لما لا يعينه.
3. الحُجُرات ـ جمع حُجْرة بضم الحاء ـ: الغرفة.
4. المُرْجَحِنّ ـ كالمقشعرّ ـ: المائل لثقله والمتحرك يميناً وشمالاً.
5. متولّهة: أي حائرة أو متخوّفة.
6. الرياش: اللباس الفاخر.
أَيْنَ الْعَمَالِقَةُ وَأَبْنَاءُ آلْعَمَالِقَةِ! أَيْنَ الْفَرَاعِنَةُ وَأَبْنَاءُ الْفَرَاعِنَةِ! أَيْنَ أَصْحَابُ مَدَائِنِ الرَّسِّ الَّذِينَ قَتَلُوا النَّبِيِّينَ، وَأَطْفَأُوا سُنَنَ الْمُرْسَلِينَ، وَأَحْيَوْا سُنَنَ الْجَبَّارِينَ! أَيْنَ الَّذِينَ سَارُوا بِالْجُيُوشِ، وَهَزَمُوا الاُلُوفَ، وَعَسْكَرُوا الْعَسَاكِرَ، وَمَدَّنُوا الْمَدَائِنَ؟!
منها:
قَدْ لَبِسَ لِلْحِكْمَةِ جُنَّتَهَا(2)، وَأَخَذَهَا بِجَمِيعِ أَدَبِهَا، مِنَ الاِْقْبَالِ عَلَيهَا، وَالْمَعْرِفِةِ بهَا، وَالتَّفَرُّغِ لَهَا، فَهِيَ عِنْدَ نَفْسِهِ ضَالَّتُهُ الَّتِي يَطْلُبُهَا، وَحَاجَتُهُ الَّتِي يَسْأَلُ عَنْهَا، فَهُوُ مُغْتَرِبٌ إِذَا اغْتَرَبَ الاِْسْلاَمُ، وَضَرَبَ بِعَسِيبِ ذَنَبِهِ(3)،
____________
1. الطُعْمة ـ بالضم ـ: المأكلة، أي مايؤكل. والمراد الرزق المقسوم.
2. جُنّة الحِكْمة: ما يحفظها على صاحبها من الزهد والورع، وأصل الجُنّة الوقاية، ومنه الدّرع والمجنّ، وما يتقى به.
3. عَسِيب الذَنَب: أصله.
ثم قال(عليه السلام):
أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدْ بَثَثْتُ لَكُمُ الْمَوَاعِظَ الَّتِي وَعَظَ بِهَا الاَْنْبِيَاءُ أُمَمَهُمْ، وَأَدَّيْتُ إِلَيْكُمْ مَا أَدَّتِ الاَْوصِيَاءُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، وَأَدَّبْتُكُمْ بِسَوْطِي فَلَمْ تَسْتَقِيمُوا، وَحَدَوْتُكُمْ بالزَّوَاجِرِ فَلَمْ تَسْتَوْسِقُوا(2). لله أَنْتُمْ! أَتَتَوَقَّعُونَ إِمَاماً غَيْرِي يَطَأُ بِكُمُ الطَّرِيقَ، وَيُرْشِدُكُمُ السَّبِيلَ؟
أَلاَ إِنَّهُ قَدْ أَدْبَرَ مِنَ الدُّنْيَا مَا كَانَ مُقْبِلاً، وَأَقْبَلَ مِنْهَا مَا كَانَ مُدْبِراً، وَأَزْمَعَ التَّرْحَالَ عِبَادُاللهِ الاَْخْيَارُ، وَبَاعُوا قَلِيلاً مِنَ الدُّنْيَا لاَ يَبْقَى، بِكَثِير مِنَ الاْخِرَةِ لاَيَفْنَى.
مَا ضَرَّ إِخْوَانَنَا الَّذِينَ سُفِكَتْ دِمَاؤُهُمْ ـ وَهُمْ بِصِفِّينَ ـ أَلاَّ يَكُونُوا الْيَوْمَ أَحْيَاءً؟ يُسِيغُونَ الْغُصَصَ، وَيَشْرَبُونَ الرَّنْقَ(3)! قَدْ ـ وَاللهِ ـ لَقُوا اللهَ فَوَفَّاهُمْ أُجُورَهُمْ، وَأَحَلَّهُمْ دَارَ الاَْمْنِ بَعْدَ خَوْفِهمْ.
____________
1. الجِران ـ ككتاب ـ: مقدّمُ عُنُق البعير من المذبح إلى المَنْحَر، والبعير أقل ما يكون نفعه عند بروكه، وإلصاق جِرانِهِ بالارض كناية عن الضعف.
2. استَوْسَقَتِ الابِل: اجتمعت وانضمّ بعضها إلى بعض.
3. الرَنِقُ ـ بكسر النون وفتحها وسكونها ـ: الكَدِر.
قال: ثمّ ضرب(عليه السلام) بيده إلى لحيته، فأطال البكاء، ثمّ قال:
أَوْهِ(5) عَلَى إِخْوَانِي الَّذِينَ تَلَوُا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ، وَتَدَبَّرُوا الْفَرْضَ فَأَقَامُوهُ، أَحْيَوُا السُّنَّةَ، وَأمَاتُوا الْبِدْعَةَ، دُعُوا لِلْجِهَادِ فَأَجَابُوا، وَوَثِقُوا بِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوا.
ثمّ نادى بأعلى صوته:
الْجِهَادَ الْجِهَادَ عِبَادَ اللهِ! أَلاَ وَإِنِّي مُعَسْكِرٌ فِي يَوْمي هذَا، فَمَنْ أَرَادَ الرَّوَاحَ إِلَى اللهِ فَلْيَخْرُجْ.
قال نوْفٌ: وعقد للحسين(عليه السلام) في عشرة آلاف، ولقيس بن سعد في
____________
1. عماربن ياسر: من السابقين الاولين.
2. أبوالهيثم مالك بن التّيّهان ـ بتشديد الياء وكسر ها ـ: من أكابر الصحابة.
3. ذوالشهادتين: خزيمة بن ثابت الانصاري، قبل النبي شهادته بشهادة رجلين في قصة مشهورة.
4. أُبردَ برؤوسهم: أي أرسلت مع البريد بعد قتلهم إلى الفجرة البغاة للتشفي منهم رضي الله عنهم.
5. أَوْهِ ـ بفتح الهمزة وسكون الواووكسر الهاء ـ كلمة توجّع.
أَحْمَدُهُ إِلَى نَفْسِهِ كَمَا اسْتَحْمَدَ(1) إِلَى خَلْقِهِ، وَجَعَلَ لِكُلِّ شَيْء قَدْراً، وَلِكُلِّ قَدْر أجَلاً، وَلِكُلِّ أَجَل كِتَاباً.
منها: في ذكر القرآن
فَالْقُرآنُ آمِرٌ زَاجِرٌ، وَصَامِتٌ نَاطِقٌ، حُجَّةُ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ، أَخَذَ عَلَيْهِمْ مِيثاقَهُ، وَارْتَهَنَ عَلَيْهِ أَنْفُسَهُمْ، أَتَمَّ نُورَهُ، وَأكْرَمَ بِهِ دِينَهُ، وَقَبَضَ نَبِيَّهُ(صلى الله عليه وآله) وَقَدْ فَرَغَ إِلَى الْخَلْقِ مِنْ أَحكَامِ الْهُدَى بِهِ.
فَعَظِّمُوا مِنهُ سُبْحَانَهُ مَا عَظَّمَ مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُخْفِ عَنْكُمْ شَيئاً مِنْ دِينِهِ، وَلَمْ يَتْرُكْ شَيئاً رَضِيَهُ أَوْ كَرِهَهُ إِلاَّ وَجَعَلَ لَهُ عَلَماً بَادِياً، وَآيَةً مُحْكَمَةً، تَزْجُرُ عَنْهُ، أَوْ تَدْعُو إِلَيْهِ، فَرِضَاهُ فِيَما بَقِيَ وَاحِدٌ، وَسَخَطُهُ فِيَما بَقِيَ وَاحِدٌ.
وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرْضَى عَنْكُمْ بِشَيء سَخِطَهُ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُم، وَلَنْ
____________
1. استَحْمَد: أي طلب من خلقه أن يحمدوه.
[الوصية بالتقوى]
وَأَوْصَاكُمْ بِالتَّقْوَى، وَجَعَلَهَا مُنْتَهَى رِضَاهُ، وَحَاجَتَهُ مِنْ خَلْقِهِ.
فَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِعَيْنِهِ(1)، وَنَوَاصِيكُمْ بِيَدِهِ، وَتَقَلُّبُكُمْ فِي قَبْضَتِهِ، إِن أَسْرَرْتُمْ عَلِمَهُ، وَإِن أَعْلَنْتُمْ كَتَبَهُ، قَدْ وَكَّلَ بِذلِكَ حَفَظَةً كِرَاماً، لاَ يُسْقِطُونَ حَقّاً، وَلاَ يُثْبِتُونَ بَاطِلاً.
وَاعْلَمُوا أَنَّهُ (مَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) مِنَ الْفِتَنِ، وَنُوراً مِنَ الظُّلَمِ، وَيُخَلِّدْهُ فِيَما اشْتَهَتْ نَفْسُهُ، وَيُنْزِلْهُ مَنْزِلَ الْكَرَامَةِ عِنْدَهُ، فِي دَار اصْطَنَعَهَا لِنَفْسِهِ، ظِلُّهَا عَرْشُهُ، وَنُورُهَا بَهْجَتَهُ، وَزُوَّارُهَا مَلاَئِكَتُهُ، وَرُفَقَاؤُهَا رُسُلُهُ.
فَبَادِرُوا الْمَعَادَ، وَسَابِقُوا الاْجَالَ، فَإِنَّ النَّاسَ يُوشِكُ أَنْ يَنْقَطِعَ بِهِمُ الاَْمَلُ، وَيَرْهَقَهُمُ الاَْجَلُ(2)، وَيُسَدَّ عَنْهُمْ بَابُ التَّوْبَةِ، فَقَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي مِثْلِ مَا سَأَلَ إِلَيْهِ الرَّجْعَةَ(3) مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَأَنْتُمْ بَنُو سَبِيل، عَلَى سَفَر مِنْ دَار
____________
1. يقال: فلان بعين فلان، إذا كان بحيث لا يخفى عليه منه شيء.
2. يَرْهَقُهُم بالاجل: أي يَغْشاهم بالمنية.
3. يريد بالرجعة هنا: ما يسأله الانسان المذنب من العودة إلى الدنيا ليعمل صالحاً كما قال الله: (ربّ ارجعونِ لعلّي أعملُ صالحاً فيما تركت)
وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ لِهذَا الْجِلْدِ الرَّقِيقِ صَبْرٌ عَلَى النَّارِ، فَارْحَمُوا نُفُوسَكُمْ، فَإِنّكُمْ قَدْ جَرَّبْتُمُوهَا فِي مَصَائِبِ الدُّنْيَا.
[أَ] فَرَأَيْتُمْ جَزَعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الشَّوْكَةِ تُصِيبُهُ، وَالْعَثْرَةِ تُدْمِيهِ، وَالرَّمْضَاءِ تُحْرِقُهُ؟ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ بَيْنَ طَابَقَيْنِ مِنْ نَار، ضَجِيعَ حَجَر، وَقَرِينَ شَيْطَان؟!
أَعَلِمْتُمْ أَنَّ مَالِكاً(1) إِذَا غَضِبَ عَلَى النَّارِ حَطَمَ بَعْضُهَا بَعْضَاً لِغَضَبِهِ، وَإِذَا زَجَرَهَا تَوَثَّبَتْ بَيْنَ أَبوَابِهَا جَزَعاً مِنْ زَجْرَتِهِ؟!
أَيُّهَا الْيَفَنُ(2) الْكَبِيرُ، الَّذِي قَدْ لَهَزَهُ الْقَتَيرُ(3)، كَيْفَ أَنْتَ إِذَا الْتَحَمَتْ أَطْوَاقُ النَّارِ بِعِظَامِ الاَْعْنَاقِ، وَنَشِبَتِ الجَوَامِعُ(4) حَتَّى أَكَلَتْ لُحُومَ السَّوَاعِدِ؟
فَاللهَ اللهَ مَعْشَرَ الْعِبَادِ! وَأَنْتُمْ سَالِمُونَ فِي الصِّحَّةِ قَبْلَ السُّقْمِ، وَفِي
____________
1. مالك: هوالموكّل بالجحيم.
2. اليَفَن ـ بالتحريك ـ: الشيخ المسنّ.
3. لَهَزَهُ: أي خالطة. والقَتير: الشيب.
4. نَشِبَتْ ـ كفرحت ـ:عَلِقَت. والجوامع ـ جمع جامعة ـ: الغلّ، لانها تجمع اليدين إلى العنق.
فَبَادِرُوا بِأَعْمَالِكُمْ تَكُونُوا مَعَ جِيرَانِ اللهِ فِي دَارِهِ، رَافَقَ بِهِمْ رُسُلَهُ، وَأَزَارَهُمْ مَلاَئِكَتَهُ، وَأَكرَمَ أَسْمَاعَهُمْ أَنْ تَسْمَعَ حَسِيسَ(3) نَار أَبَداً، وَصَانَ أَجْسَادَهَمْ أَنْ تَلْقَى لُغُوباً وَنَصَباً(4)، (ذلِكَ فُضْلُ اللهِ يُؤتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُوالْفَضْلِ الْعَظِيمِ)
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلى نَفْسِي وَأَنْفُسِكُمْ، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ!
____________
1. غَلِقَ الرهنُ ـ كفرح ـ: استحقّه صاحب الحق، وذلك إذا لم يكن فكا كه في الوقت المشروط.
2. يَبْلوكم: يختبركم.
3. الحسيس: الصوت الخفي.
4. لَغِب ـ كسمع ومنع وكرم ـ لَغَباً ولُغُوباً: أُعيي أشدّ الاعياء. والنَصَب: التعب أيضاً.
[ 184 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
قاله للبرج بن مسهر الطائي، وقد قال له بحيث يسمعه: لا حكم إلاَّ لله، وكان من الخوارج:
اسْكُتْ قَبَحَكَ اللهُ(1) يَا أَثْرَمُ(2)، فَوَاللهِ لَقَدْ ظَهَرَ الْحقُّ فَكُنْتَ فِيهِ ضَئِيلاً(3) شَخْصُكَ، خَفِيّاً صَوْتُكَ، حَتَّى إِذَا نَعَرَ(4) الْبَاطِلُ نَجَمْتَ نُجُومَ قَرْ نِ الْمَاعِزِ(5).
____________
1. قَبَحَكَ الله: كسرك، كما يقال: قبحت الجوزة: كسرتها.
2. أثْرَمُ: ساقط الثنيّة من الاسنان.
3. الضئيل: النحيف المهزول، كناية عن الضعف.
4. نَعَرَ: أي صاح.
5. نجمتَ: ظهرتَ وبزرت والتشبيه بقرن الماعز في الظهور على غير شرف وشجاعة ولاقدم، بل على غفلة.
[ 185 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[يحمدالله فيها ويثني على رسوله ويصف خلقاً من الحيوان]
[حمد الله تعالى]
الْحَمْدُ لله الَّذِي لاَ تُدْرِكُهُ الشَّوَاهِدُ، وَلاَ تَحْوِيهِ الْمَشَاهِدُ، وَلاَ تَرَاهُ النَّوَاظِرُ، وَلاَ تَحْجُبُهُ السَّوَاتِرُ، الدَّالِّ عَلَى قِدَمِهِ بِحُدُوثِ خَلْقِهِ، وَبِحُدُوثِ خَلْقِهِ عَلَى وجُودِهِ، وَبِاشْتِبَاهِهِمْ عَلَى أَنْ لاَ شَبَهَ لَهُ، الَّذِي صَدَقَ فِي مِيعَادِهِ، وَارْتَفَعَ عَنْ ظُلْمِ عِبَادِه، وَقَامَ بِالْقِسطِ فِي خَلْقِهِ، وَعَدَلَ عَلَيْهِمْ فِي حُكْمِهِ، مُسْتَشْهِدٌ بِحُدُوثِ الاَْشْيَاءِ عَلَى أَزَلِيَّتِهِ، وَبِمَا وَسَمَهَا بِهِ مِنَ الْعَجْزِ عَلَى قُدْرَتِهِ، وَبِمَا اضْطَرَّهَا إِلَيْهِ مِنَ الْفَنَاءِ عَلَى دَوَامِهِ، وَاحِدٌ لاَ بِعَدَد(1)، وَدَائِمٌ لاَ بِأَمَد(2)، وَقَائِمٌ لاَ بَعَمَد، تَتَلَقَّاهُ الاَْذْهَانُ لاَ بِمُشَاعَرَة(3)، وَتَشْهَدُ لَهُ الْمَرَائِي(4) لاَ بِمُحَاضَرَة، لَمْ تُحِطْ بِهِ الاَْوْهَامُ، بَلْ تَجَلَّى لَهَا بِهَا، وَبِهَا امْتَنَعَ مِنهَا، وَإِلَيْهَا حَاكَمَهَا، لَيْسَ بِذِي كِبَر امْتَدَّتْ بِهِ النِّهَايَاتُ فَكَبَّرَتْهُ تَجْسِيماً، وَلاَ بِذِي عِظَم تَنَاهَتْ بِهِ الْغَايَاتُ فَعَظَّمَتْهُ تَجْسِيداً بَلْ كَبُرَ شَأْناً، وَعَظُمَ سُلْطَاناً.
____________
1. واحد لا بعدد: أي لايتكون من أجزاء.
2. الامَد: الغاية.
3. المشَاعَرة: انفعال إحدى الحواس بما تحسّه من جهة عُروض شيء منه عليها.
4. المَرَائى ـ جمع مِرْآة بالفتح ـ: وهي المنظر، أي تشهد له مناظر الاشياء لابحضوره فيها شاخصاً للابصار.
[الرسول الاعظم]
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ الصَّفِيُّ، وَأَمِينُهُ الرَّضِيُّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أَرْسَلَهُ بِوُجُوبِ الْحُجَجِ، وَظُهُورِ الْفَلَجِ(1)، وَإِيضَاحِ الْمَنْهَجِ، فَبَلَّغُ الرِّسَالَةَ صَادِعاً(2) بِهَا، وَحَمَلَ عَلَى الْـمَحَجَّةِ دالاًّ عَلَيْهَا، وَأَقَامَ أَعْلاَمَ الاْهْتِدَاءِ وَمَنَارَ الضِّيَاءِ، وَجَعَلَ أَمْرَاسَ(3) الاِْسْلاَمِ مَتِينَةً، وَعُرَا الاِْيمَانِ وَثِيقَةً.
منها: في صفة عجيب خلق أصناف من الحيوان
وَلَوْ فَكَّروا فِي عَظِيمِ الْقُدْرَةِ، وَجَسِيمِ النِّعْمَةِ، لَرَجَعُوا إِلَى الطَّرِيقِ، وَخَافُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ، وَلكِنَّ الْقُلُوبَ عَلِيلَةٌ، وَالاَبْصَارَ مَدْخُولَةٌ!
ألاَ تَنْظُرُونَ إِلَى صَغِيرِ مَا خَلَقَ اللهُ، كَيْفَ أَحْكَمَ خَلْقَهُ، وَأَتْقَنَ تَرْكِيبَهُ، وَفَلَقَ لَهُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ، وَسَوَّى لَهُ الْعَظْمَ وَالْبَشَرَ(4)!.
انْظُرُوا إِلَى الَّنمْلَةِ فِي صِغَرِ جُثَّتِهَا، وَلَطَافَةِ هَيْئَتِهَا، لاَ تَكَادُ تُنَالُ بِلَحْظِ
____________
1. الفَلَج: الظفر، وظهوره: علو كلمة الدين.
2. صادعاً: جاهراً.
3. الامراس ـ جمع مَرَس بالتحريك وهو جمع مَرَسة بالتحريك ـ: وهو الحبل.
4. البَشَر: جمع بَشَرة، وهي ظاهر الجلد الانساني.
وَلَوْ فَكَّرْتَ فِي مَجَارِي أُكْلِهَا، وَفِي عُلْوهَا وَسُفْلِهَا، وَمَا فِي الجَوْفِ مِنْ شَرَاسِيفِ(5) بَطْنِهَا، وَمَا فِي الرَّأسِ مِنْ عَيْنِهَا وَأُذُنِهَا، لَقَضَيْتَ مِنْ خَلْقِهَا عَجَباً، وَلَقِيتَ مِنْ وَصْفِهَا تَعَباً!
فَتَعَالَى الَّذِي أَقَامَهَا عَلَى قَوَائِمِهَا، وَبَنَاهَا عَلَى دَعَائِمِهَا! لَمْ يَشْرَكْهُ فِي فِطْرَتِهَا فَاطِرٌ، وَلَمْ يُعِنْهُ عَلَى خَلْقِهَا قَادِرٌ.
وَلَوْ ضَرَبْتَ فِي مَذَاهِبِ فِكْرِكَ لِتَبْلُغَ غَايَاتِهِ، مَا دَلَّتْكَ الدَّلاَلَةُ إِلاَّ عَلَى أَنَّ
____________
1. الصَدَر ـ محرّكاً ـ: الرجوع بعد الورود.
2. بِوِفْقِها ـ بكسر الواوـ: أي بما يوافقها من الرزق ويلائم طبعها.
3. الصَفا: الحجر الاملس لا شقوق فيه.
4. الجامس: الجامد.
5. الشَرَاسِيف: مَقَاطّ الاضلاع، وهي أطرافها التي تشرف على البطن.
[خلقة السماء والكون]
وَكَذلِكَ السَّماءُ وَالْهَوَاءُ، وَالرِّيَاحُ وَالْمَاءُ.
فَانْظُرْ إِلَى الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَالنَّبَاتِ وَالشَّجَرِ، وَالْمَاءِ وَالْحَجَرِ، وَاخْتِلاَفِ هذَا اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَتَفَجُّرِ هذِهِ الْبِحَارِ، وَكَثْرَةِ هذِهِ الْجِبَالِ، وَطُولِ هذِهِ الْقِلاَلِ(2)، وَتَفَرُّقِ هذِهِ اللُّغَاتِ، وَالاَْلْسُنِ الْـمُخْتَلِفَاتِ.
فَالوَيْلُ لِمَنْ جَحَدَ الْمُقَدِّرَ، وَأَنْكَرَ الْمُدَبِّرَ! زَعَمُوا أَنَّهُمْ كَالنَّبَاتِ مَا لَهُمْ زَارعٌ، وَلاَ لاِخْتِلاَفِ صُوَرِهِمْ صَانِعٌ، وَلَمْ يَلْجَأُوا(3) إِلَى حُجَّة فِيَما ادَّعَوا، وَلاَ تَحْقِيق لِمَا أَوْعَوْا(4)، وَهَلْ يَكُونُ بِنَاءٌ مِنْ غَيْرِ بَان، أَوْ جِنَايَةٌ مِن غَيْرِ جَان؟!
____________
1. في بعض النسخ: النحلة.
2. القِلال ـ جمع قُلّة بالضم ـ: وهي رأس الجبل.
3. لم يلجأوا: لم يستندوا.
4. أوْعاه ـ كَوَعاه ـ: بمعنى حفظه.
[خلقة الجرادة]
وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ فِي الْجَرَادَةِ، إِذْ خَلَقَ لَهَا عَيْنَيْنِ حَمْرَ اوَيْنِ، وَأَسْرَجَ لَهَا حَدَقَتَيْنِ قَمْرَاوَيْنِ(1)، وَجَعَلَ لَهَا السَّمْعَ الْخَفِيَّ، وَفَتَحَ لَهَا الْفَمَ السَّوِيَّ، وَجَعَلَ لَهَا الْحِسَّ الْقَوِيَّ، وَنَابَيْنِ بِهِمَا تَقْرِضُ، وَمِنْجَلَيْنِ(2) بِهِمَا تَقْبِضُ، يَرْهَبُهَا الزُّرَّاعُ فِي زَرْعِهمْ، وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ذَبَّهَا(3)، وَلَوْ أَجْلَبُوا بِجَمْعِهِم، حَتَّى تَرِدَ الْحَرْثَ فِي نَزَوَاتِهَا(4)، وَتَقْضِي مِنْهُ شَهَوَاتِهَا، وَخَلْقُهَا كُلُّهُ لاَ يُكَوِّنُ إِصْبَعاً مُسْتَدِقَّةً.
فَتَبَارَكَ اللهُ الَّذِي (يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماوَاتِ وَالاَْرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً)، وَيُعَفِّرُ لَهُ خَدّاً وَوَجْهاً، وَيُلْقِي بِالْطَّاعَةِ إلَيْهِ سِلْماً وَضَعْفاً، وَيُعْطِي الْقِيَادَ رَهْبَةً وَخَوْفاً!
فَالطَّيْرُ مُسَخَّرَةٌ لاَِمْرِهِ، أَحْصَى عَدَدَ الرِّيشِ مِنْهَا وَالنَّفَسَ، وَأَرْسَى
____________
1. قَمْرَ اوَيْن: أي مضيئين، كأن كلا منهما ليلة قمراء أضاءها القمر.
2. المِنْجَل ـ كمنبر ـ: آلة من حديد معروفة يُقْضَبُ بها الرزع، قالوا: أراد بهما ـ هنا ـ رِجْلَي الجرادة، لاعوجاجهما وخُشونتهما.
3. ذَبَّها: دفعها.
4. نَزَواتها: وثباتها، نزا عليه: وثَبَ.
وَأَنْشَأَ (السَّحَابَ الثِّقَالَ)، فَأَهْطَلَ(2) دِيَمَهَا(3)، وَعَدَّدَ قِسَمَهَا(4)، فَبَلَّ الاَْرْضَ بَعْدَ جُفُوفِهَا، وَأَخْرَجَ نَبْتَهَا بَعْدَ جُدُوبِهَا(5).
فَاعِلٌ لاَ بِاضْطِرَابِ آلَة، مُقَدِّرٌ لاَ بِجَوْلِ فِكْرَة، غَنِيٌّ لاَ بِاسْتِفَادَة.
لاَ تَصْحَبُهُ الاَْوْقَاتُ، وَلاَ تَرْفِدُهُ(2) الاَْدَوَاتُ، سَبَقَ الاَْوْقَاتَ كَوْنُهُ، وَالْعَدَمَ وُجُودُهُ، وَالابْتِدَاءَ أَزَلُهُ.
بِتَشْعِيرِهِ الْمَشَاعِرَ عُرِفَ أَنْ لاَ مَشْعَرَ لَهُ(3)، وَبِمُضَادَّتِهِ بَيْنَ الاُْمُورِ عُرِفَ أَنْ لاَ ضِدَّ لَهُ، وَبِمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ الاَْشْيَاءِ عُرِفَ أَنْ لاَ قَرِينَ لَهُ.
ضَادَّ النُّورَ بِالظُّلْمَةِ، وَالْوُضُوحَ بِالْبُهْمَةِ، وَالْجُمُودَ بِالْبَلَلِ، وَالْحَرُورَ بِالصَّرَدِ(4).
مُؤَلِّفٌ بَيْنَ مُتَعَادِيَاتِهَا، مُقَارِنٌ بَيْنَ مُتَبَايِنَاتِهَا، مُقَرِّبٌ بَيْنَ مُتَبَاعِداتِهَا، مُفَرِّقٌ بَيْنَ مُتَدَانِيَاتِهَا(5).
____________
1. كل معروف بنفسه مصنوع: أي كل معروف الذات بالكُنْنه مصنوع، لان معرفة الكُنه إنّما تكون بمعرفة أجزاء الحقيقة، فمعروف الكنه مركب، والمركب مفتفر في الوجود لغيره، فهو مصنوع.
2. تَرْفِدُهُ: أي تعينه.
3. المَشْعَر ـ كمقعد ـ: محلّ الشعور أي الاحساس، فهو الحاسّة، وتَشْعِيرها: إعدادها للانفعال المخصوص الذي يعرض لها من المواد، وهو ما يسمّى بالاحساس، فالمَشْعَر من حيث هو مَشْعر منفعل دائماً، ولو كان لله مشعر لكان منفعلاً، والمنفعل لا يكون فاعلاً.
4. الصَرَد ـ محركا ـ: البرد، أصلها فارسية.
5. مُتَدَانِياتها: متقارباتها كالجزئين من عنصر واحد في جسمين مختلفي المزاج.
لاَ يَجْرِي عَلَيْهِ السُّكُونُ وَالْحَرَكَةُ، وَكَيْفَ يَجْرِي عَلَيْهِ مَا هُوَ أَجْرَاهُ، وَيَعُودُ فِيهِ مَا هُوَ أَبْدَاهُ، وَيَحْدُثُ فِيهِ مَا هُوَ أَحْدَثَةُ ؟! إِذاً لَتَفَاوَتَتْ ذَاتُهُ(2)، وَلَتَجَزَّأَ كُنْهُهُ، وَلاَمْتَنَعَ مِنَ الاَْزَلِ مَعْنَاهُ، وَلَكَانَ لَهُ وَرَاءٌ إِذْ وُجِدَ لَهُ أَمَامٌ، وَلاَلْـتَمَسَ الـتََّمامَ إِذْ لَزِمَهُ النُّقْصَانُ. وَإِذاً لَقَامَتْ آيَةُ الْمَصْنُوعِ فِيهِ، وَلَتَحَوَّلَ دَلِيلاً بَعْدَ أَنْ كَانَ مَدْلُولاً عَلَيْهِ، وَخَرَجَ بِسُلْطَانِ الاْمْتِنَاعِ(3) مِنْ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ مَا يُؤثِّرُ فِي غَيْرِهِ.
الَّذِي لاَ يَحُولُ وَلاَ يَزُولُ، وَلاَ يَجُوزُ عَلَيْهِ الاُْفُولُ(4).
____________
1. كل مخلوق يقال فيه: قد وجد، ووجد منذ كذا، وهذا مانع للقدم والازلية، وكل مخلوق يقال فيه: لولا خالقه ما وجد، فهو ناقص لذاته محتاج للتكملة بغيره.
2. لَتَفَاوَتَتْ ذاته: أي لا ختلفت باختلاف الاعراض عليها ولتجزّأت حقيقته، فان الحركة والسكون من خواصّ الجسم وهو منقسم.
3. سلطان الامتناع: هو سلطان العزّة الازلية.
4. الاُفُول: من أفَلَ النجمُ إذا غاب.
لاَ تَنَالُهُ الاَْوْهَامُ فَتُقَدِّرَهُ، وَلاَ تَتَوَهَّمُهُ الْفِطَنُ فَتُصَوِّرَهُ، وَلاَ تُدْرِكُهُ الْحَوَاسُّ فَتُحِسَّهُ، وَلاَ تَلْمِسُهُ الاَْيْدِي فَتَمَسَّهُ.
وَلاَ يَتَغَيَّرُ بِحَال، وَلاَ يَتَبَدَّلُ فِي الاَْحْوَالِ، وَلاَ تُبْلِيهِ اللَّيَالي وَالاَْيَّامُ، وَلاَ يُغَيِّرُهُ الضِّيَاءُ وَالظَّلاَمُ، وَلاَ يُوصَفُ بِشَيء مِنَ الاَْجْزَاءِ(2)، وَلاَ بِالجَوَارِحِ وَالاَْعْضَاءِ، وَلاَ بِعَرَض مِنَ الاَْعْرَاضِ، وَلاَ بِالْغَيْرِيَّةِ وَالاَْبْعَاضِ.
وَلاَ يُقَالُ: لَهُ حَدٌّ وَلاَ نِهَايَةٌ، وَلاَ انقِطَاعٌ وَلاَ غَايَةٌ، وَلاَ أَنَّ الاَْشْيَاءَ تَحْوِيهِ فَتُقِلَّهُ(3) أَوْ تُهْوِيَهُ(4)، أَوْ أَنَّ شَيْئاً يَحْمِلُهُ، فَيُمِيلَهُ أَوْ يُعَدِّلَهُ.
لَيْسَ فِي الاَْشْيَاءِ بِوَالِج(5)، وَلاَ عَنْهَا بِخَارِج.
____________
1. المراد بالمولود: المتولد عن غيره، سواء أكان بطريق التناسل المعروف أم بطريق النشوء كتولد النبات عن العناصر، ومن ولد له كان متولداً باحدى الطريقتين.
2. لا يوصف بشيء من الاجزاء: أي لايقال: ذوجزء كذا ولا ذوعضو كذا.
3. تُقلّه: أي ترفعه.
4. تُهْويه: أي تحطه وتسقطه.
5. والِج: أي داخل.
يُحِبُّ وَيَرْضَى مِنْ غَيْرِ رِقَّة، وَيُبْغِضُ وَيَغْضَبُ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّة.
يَقُولُ لِمَا أَرَادَ كَوْنَهُ: (كُنْ فَيَكُونَُ)، لاَ بِصَوْت يَقْرَعُ، وَلاَ بِنِدَاء يُسْمَعُ، وَإِنَّمَا كَلاَمُهُ سُبْحَانَهُ فِعْلٌ مِنْهُ أَنْشَأَهُ وَمَثَّلَهُ، لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِ ذلِكَ كَائِناً، وَلَوْ كَانَ قَدِيماً لَكَانَ إِلهاً ثَانِياً.
لاَ يُقَالُ: كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، فَتَجْرِيَ عَلَيْهِ الصِّفَاتُ الْـمُحْدَثَاتُ، وَلاَ يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ فَصْلٌ، وَلاَ لَهُ عَلَيْهَا فَضْلٌ، فَيَسْتَوِيَ الصَّانِعُ والْمَصْنُوعُ، وَيَتَكَافَأَ المُبْتَدَعُ وَالْبَدِيعُ.
خَلَقَ الْخَلاَئِقَ عَلَى غَيْرِ مِثَال خَلاَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَسْتَعِنْ عَلَى خَلْقِهَا بِأَحَد مِنْ خَلْقِهِ.
وَأَنْشَأَ الاَْرْضَ فَأَمْسَكَهَا مِنْ غَيْرِ اشْتِغَال، وَأَرْسَاهَا عَلَى غَيْرِ قَرَار، وَأَقَامَهَا بِغَيْرِ قَوَائِمَ، وَرَفَعَهَا بِغَيْرِ دَعائِمَ، وَحَصَّنَهَا مِنَ الاَْوَدَ(3) وَالاِْعْوِجَاجِ،
____________
1. اللهَوات ـ بفتح الهاء ـ جمع لهَاة: اللحمة في سقف أقصى الفم.
2. لا يتحفّظ: أي لا يتكلف الحفظ (ولا يؤودُهُ حفْظُهُما وهو العليّ العظيم)
3. الاَوَد: الاعْوِجاج.
هُوَ الظّاهِرُ عَلَيْهَا بِسُلْطَانِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَهُوَ الْبَاطِنُ لَهَا بِعِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَالْعَالي عَلَى كَلِّ شَيْء مِنهَا بِجَلاَلِهِ وَعِزَّتِهِ.
لاَ يُعْجِزُهُ شَيْءٌ مِنْهَا طَلَبَهُ، وَلاَ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ فَيَغْلِبَهُ، وَلاَ يَفُوتُهُ السَّرِيعُ مِنْهَا فَيَسْبِقَهُ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى ذِي مَال فَيَرْزُقَهُ.
خَضَعَتِ الاَْشْيَاءُ لَهُ، وَذَلَّتْ مُسْتَكِينَةً لِعَظَمَتِهِ، لاَ تَسْتَطِيعُ الْهَرَبَ مِنْ سُلْطَانِهِ إِلَى غَيْرِهِ فَتَمْتَنِعَ مِنْ نَفْعِهِ وَضَرِّهِ، وَلاَ كُفؤَ لَهُ فَيُكَافِئَهُ، وَلاَ نَظِيرَ لَهُ فَيُسَاوِيَهُ. هُوَ الْمُفْنِي لَهَا بَعْدَ وُجُودِهَا، حَتَّى يَصِيرَ مَوْجُودُهَا
____________
1. التَهَافُت: التساقط قطعةً قطعة.
2. الانفراج: الانشقاق.
3. الاوتاد: جمع وَتِد، ويراد به هنا الحبل.
4. الاسْداد: جمع سَدّ، والمراد بها الجبال أيضاً.
5. خَدّ: أي شقّ.
6. يَهِن ـ من الوَهْن ـ: بمعنى الضعف.
وَلَيْسَ فَنَاءُ الدُّنْيَا بَعْدَ ابْتِدَاعِهَا بِأَعْجَبَ مِنْ إنْشَائِهَا وَاخْتِرَاعِهَا، وَكَيفَ وَلَوْ اجْتَمَعَ جَمِيعُ حَيَوانِهَا مِنْ طَيْرِهَا وَبَهَائِمِهَا، ومَا كَانَ مِنْ مُرَاحِهَا(1) وَسَائِمِهَا(2)، وَأَصْنَافِ أَسْنَاخِهَا(3) وَأَجْنَاسِهَا، وَمُتَبَلِّدَةِ(4) أُمَمِهَا وَأَكْيَاسِهَا(5)، عَلَى إِحْدَاثِ بَعُوضَة، مَا قَدَرَتْ عَلَى إِحْدَاثِهَا، وَلاَ عَرَفَتْ كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى إِيجَادِهَا، وَلَتَحَيَّرَتْ عُقُولُهَا فِي عِلْمِ ذلِكَ وَتاهَتْ، وَعَجِزَتْ قُوَاهَا وَتَنَاهَتْ، وَرَجَعَتْ خَاسِئَةً(6) حَسِيرَةً(7)، عَارِفَةً بِأَنَّهَا مَقْهُورَةٌ، مُقِرَّةً بِالْعَجْزِ عَنْ إِنْشَائِهَا، مُذْعِنَةً بِالضَّعْفِ عَنْ إفْنَائِهَا؟!
وَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ، يَعُودُ بَعْدَ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَحْدَهُ لاَ شَيْءَ مَعَهُ، كَمَا كَانَ قَبْلَ
____________
1. مُرَاحها ـ بضم الميم ـ: اسم مفعول من أراح الابلَ، رَدّها إلى المُراح ـ بالضم كالمُناخ ـ أي المأوى. 2. السائم: الراعي، يريد ما كان في مأواه وما كان في مرعاه.
3. الاسناخ: الاصول، والمراد منها الانواع، أي الاصناف الداخلة في أنواعها.
4. المتبلِّدة: أي الغبية.
5. الاكياس: جمع كيّس ـ بالتشديد ـ: العاقل الحاذق.
6. الخاسىء: الذليل.
7. الحَسيِر: الكالّ المُعْيي.
لَمْ يَتَكَاءَدْهُ(1) صُنْعُ شَيْء مِنْهَا إِذْ صَنَعَهُ، وَلَمْ يَؤُدْهُ(2) مِنْهَا خَلْقُ مَا بَرَأَهُ(3) وَخَلَقَهُ، وَلَمْ يُكَوِّنْهَا لِتَشْدِيدِ سُلْطَان، وَلاَ لِخَوْف مِنْ زَوَال وَنُقْصَان، وَلاَ لِلاْسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَى نِدٍّ(4) مُكَاثِر(5)، وَلاَ لِلاْحْتِرَازِ بِهَا مِنْ ضِدٍّ مُثَاوِر(6)، وَلاَ لِلاْزْدِيَادِ بِهَا فِي مُلْكِهِ، وَلاَ لِمُكَاثَرَةِ شَرِيك فِي شِرْكِهِ، وَلاَ لِوَحْشَة كَانَتْ
____________
1. لم يَتَكَاءَدْهُ: لم يشق عليه.
2. لم يَؤُدْه: لم يُثْقِلْه.
3. بَرَأهُ: مرادف لخلقه. 4. النِّد ـ بكسر النون ـ: المِثْل.
5. المكاثَرة: المغالبة بالكثرة، يقال: كاثره فكثره أي غلبه.
6. المُثاوِر: المواثب المهاجم.
ثُمَّ هُوَ يُفْنِيهَا بَعْدَ تَكْوِينِهَا، لاَ لِسَأَم دَخَلَ عَلَيْهِ فِي تَصْرِيفِهَا وَتَدْبِيرِهَا، وَلاَ لِرَاحَة وَاصِلَة إِلَيْهِ، وَلاَ لِثِقَلِ شَيْء مِنْهَا عَلَيْهِ.
لاَ يُمِلُّهُ طُولُ بَقَائِهَا فَيَدْعُوَهُ إِلَى سُرْعَةِ إِفْنَائِهَا، لكِنَّهُ سُبْحَانَهُ دَبَّرَهَا بِلُطْفِهِ، وَأمسَكَهَا بِأَمْرِهِ، وَأَتْقَنَهَا بِقُدْرَتِهِ.
ثُمَّ يُعِيدُهَا بَعْدَ الْفَنَاءِ مِنْ غَيْرِ حَاجَة مِنْهُ إِلَيْهَا، وَلاَ اسْتِعَانَة بَشَيْء مِنْهَا عَلَيْهَا، وَلاَ لاِنصِرَاف مِنْ حَال وَحْشَة إلَى حَالِ اسْتِئْنَاس، وَلاَ مِنْ حَالِ جَهْل وَعَمىً إِلَى [حَالِ ]عِلْم وَالِْتمَاس، وَلاَ مِنْ فَقْر وَحَاجَة إِلَى غِنىً وَكَثْرَة، وَلاَ مِنْ ذُلٍّ وَضَعَة إِلَى عِزٍّ وَقُدْرَة.
ذَاكَ إِذَا عَضَّكُمُ الْبَلاَءُ كَمَا يَعَضُّ الْقَتَبُ(2) غَارِبَ الْبَعيرِ(3).
مَا أَطْوَلَ هذَا الْعَنَاءَ، وَأَبْعَدَ هذا الرَّجَاءَ!
أَيُّهَا النَّاسُ، أَلْقُوا هذِهِ الاَْزِمَّةَ الَّتِي تَحْمِلُ ظُهُورُهَا(4) الاَثْقَالَ مِنْ أيْدِيكُمْ، وَلاَ تَصَدَّعُوا(5) عَلَى سُلْطَانِكُمْ فَتَذُمُّوا غِبَّ فِعَالِكُمْ، وَلاَ تَقْتَحِمُوا مَا اسْتَقْبَلْتُمْ مِنْ فَوْرِ نَارِ(6) الْفِتْنَةِ، وأَمِيطُوا عَنْ سَنَنِهَا(7)، وَخَلُّو قَصْدَ السَّبِيلِ(8) لَهَا،
____________
1. الاحراج: التضييق.
2. القَتَب محركاً: الاكاف.
3. الغَارِب: مابين العُنُق والسَنام.
4. الازِمّة ـ كأئمة ـ: جمع زِمام، والمراد بظهورها ظهور المَزْمُومات بها.
5. لا تصدّعوا ـ بتخفيف إحدى التائين ـ: لاتتفرقوا.
6. فَوْر النار: ارتفاع لَهَبِها.
7. أميطوا عن سَنَنِها: أي تَنَحّوا عن طريقها وميلوا عن وجهة سيرها.
8. قصد السبيل: الطريق المستقيمة.
إِنَّمَا مَثَلي بَيْنَكُمْ مَثَلُ السِّرَاجِ فِي الظُّلْمَةِ، يَسْتَضِيءُ بِهِ مَنْ وَلَجَهَا. فَاسْمَعَوا أَيُّهَا النَّاسُ وَعُوا، وَأَحْضِروا آذَانَ قُلُوبِكُمْ تَفْهَمُوا.