باب المختار من كتب أميرالمؤمنين عليه السلام و رسائله إلى أعدائه وأمراء بلاده و يدخل في ذلك مااختير من عهوده إلى عمّاله و وصاياه لاهله وأصحابه |
[ 1 ]
من كتاب له (عليه السلام)
إلى أهل الكوفة، عند مسيره من المدينة إلى البصرة
مِنْ عَبْدِ اللهِ عَلِيّ أَمِيرِالْمُؤْمِنِينَ إلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ، جَبْهَةِ(1) الاَْنْصَارِ وَسَنَامِ(2) الْعَرَبِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أُخْبِرُكُمْ عَنْ أَمْرِ عُثْمانَ حَتَّى يَكُونَ سَمْعُهُ كَعِيَانِهِ(3):
إِنَّ النَّاسَ طَعَنُوا عَلَيْهِ، فَكُنْتُ رَجُلاً مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أُكْثِرُ اسْتِعْتَابَه(4)، وَأُقِلُّ عِتَابَهُ، وَكَانَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ أَهْوَنُ سَيْرِهِمَا فِيهِ الْوَجيِفُ(5)، وَأَرْفَقُ حِدَائِهِمَا(6) الْعَنِيفُ، وَكَانَ مِنْ عَائِشَةَ فِيهِ فَلْتَةُ غَضَب، فَأُتِيحَ لَهُ قَوْمٌ فَقَتَلُوهُ، وَبَايَعَنِي النَّاسُ غَيْرَ مُسْتَكْرَهِينَ وَلاَ مُجْبَرِينَ، بَلْ طَائِعِينَ مُخَيَّرِينَ.
____________
1. شبّههم بالجبْهَة من حيث الكرم.
2. شبّههم بالسَنام من حيث الرفعة.
3. عِيانه: رؤيته.
4. استعتابه: استرضاؤه.
5. الوَجِيف: ضرب من سير الخيل والابل سريع.
6. الحِدَاء: زجل الابل وسَوْقها.
فقال شريح: قد كان ذلك يا أميرالمؤمنين.
قال: فنظر إليه(عليه السلام) نظر مغضب ثمّ قال له:
يَا شُرَيْحُ، أَمَا إِنَّهُ سَيَأْتِيكَ مَنْ لاَ يَنْظُرُ فِي كِتَابِكَ، وَلاَ يَسْأَلُكَ عَنْ بَيِّنَتِكَ، حَتَّى يُخْرِجَكَ مِنْهَا شَاخِصاً(1)، وَيُسْلِمَكَ إلَى قَبْرِكَ خَالِصاً.
فَانْظُرْ يَا شُرَيْحُ لاَ تَكُونُ ابْتَعْتَ هذِهِ الدَّارَ مِنْ غَيْرِ مَالِكَ، أَوْ نَقَدْتَ الَّثمَنَ مِنْ غَيْرِ حَلاَلِكَ! فَإِذَا أَنْتَ قدْ خَسِرْتَ دَارَ الدُّنْيَا وَدَارَ الاْخِرَةِ!
أَمَا إِنَّكَ لَوْ كُنْتَ أَتَيْتَنِي عِنْدَ شِرَائِكَ مَا اشْتَرَيْتَ لَكَتَبْتُ لَكَ كِتاباً عَلَى هذِهِ النُّسْخَةِ، فَلَمْ تَرْغَبْ فِي شِرَاءِ هذِهِ الدَّارِ بِدِرْهَم فَمَا فَوْقُ.
والنسخة هذه:
هذَا مَا اشْتَرَى عَبْدٌ ذَلِيلٌ، مِنْ مَيِّت قَدْ أُزْعِجَ لِلرحِيلِ، اشْتَرَى مِنْهُ دَاراً مِنْ دَارِ الْغُرُورِ، مِنْ جَانِبِ الْفَانِينَ، وَخِطَّةِ(2) الْهَالِكِينَ، وَتَجْمَعُ هذِهِ الدَّارَ حُدُودٌ أَرْبَعَةٌ: الْحَدُّ الاَْوَّلُ يَنْتَهِي إِلَى دَوَاعِي الاْفَاتِ، وَالْحَدُّ الثَّانِي يَنْتَهِي إِلَى دَوَاعِي الْمُصِيباتِ، وَالْحَدُّ الثَّالِثُ يَنْتَهِي إلَى الْهَوَى الْمُرْدِي، وَالْحَدُّ
____________
1. شاخصاً: ذاهباً مبعداً.
2. خِطّة ـ بكسر الخاء ـ: الارض التي يختطّها الانسان ويعلم عليها بالخط ليعمرها.
اشْتَرَى هذَا الْمُغْتَرُّ بِالاَْمَلِ، مِنْ هذَا الْمُزْعَجِ بِالاَْجَلِ، هذِهِ الدَّارَ بِالْخُرُوجِ مِنْ عِزِّ الْقَنَاعَةِ، وَالدُّخُولِ فِي ذُلِّ الطَّلَبِ وَالضَّرَاعَةِ(2)، فَمَا أَدْرَكَ هذَا الْمُشْتَرِي فِيَما اشْتَرَى مِنْ دَرَك(3)، فَعَلَى مُبَلْبِلِ أَجْسَامِ(4) الْمُلُوكِ، وسَالِبِ نُفُوسِ الْجَبَابِرَةِ، وَمُزِيلِ مُلْكِ الْفَراعِنَةِ، مِثْلِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَتُبَّع وَحِمْيَرَ، وَمَنْ جَمَعَ الْمَالَ عَلَى الْمَالِ فَأَكْثَرَ، وَمَنْ بَنَى وَشَيَّدَ(5)، وَزَخْرَفَ وَنَجَّدَ(6)، وَادَّخَرَ واعْتَقَدَ(7)، وَنَظَرَ بِزَعْمِهِ لِلْوَلَدِ، إِشْخَاصُهُمْ(8) جَمِيعاً إِلَى
____________
1. يشرع: أي يفتح.
2. الضراعة: الذِلّة.
3. الدَرَك ـ بالتحريك ـ: التَبِعة.
4. مُبَلْبِلُ الاجسام: مهيج داءاتها المهلكة لها.
5. شيّد: رفع البناء.
6. نجّد ـ بتشديد الجيم ـ: أي زين.
7. اعتقد المال: اقتناه.
8. إشخاصهم: إرسالهم وترحيلهم حتى يحضروا بأشخاصهم.
شَهِدَ عَلَى ذلِكَ الْعَقْلُ إِذَا خَرَجَ مِنْ أَسْرِ الْهَوَى، وَسَلِمَ مِنْ عَلاَئِقِ الدُّنْيَا.
[ 5 ]
ومن كتاب له (عليه السلام)
إلى الاشعث بن قيس عامل أذربيجان
وَإِنَّ عَمَلَكَ لَيْسَ لَكَ بِطُعْمَة(1)، وَلكِنَّهُ فِي عُنُقِكَ أَمَانةٌ، وَأَنْتَ مُسْتَرْعىً لِمَنْ فَوْقَكَ، لَيْسَ لَكَ أَنْ تَفتَاتَ(2) فِي رَعِيَّة، وَلاَ تُخَاطِرَ إِلاَّ بِوَثِيقَة، وَفي يَدَيْكَ مَالٌ مِنْ مَالِ اللهِ عَزَّوَجَلَّ، وَأَنْتَ مِنْ خُزَّانِهِ(3) حَتَّى تُسَلِّمَهُ إِلَيَّ، وَلَعَلِّي أَلاَّ أَكُونَ شَرَّ وُلاَتِكَ(4) لَكَ، وَالسَّلاَمُ.
[ 7 ]
ومن كتاب منه(عليه السلام)
إليه أيضاً
أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ أَتَتْني مِنْكَ مَوْعِظَةٌ مُوَصَّلَةٌ(1)، وَرِسَالَةٌ مُحَبَّرَةٌ(2)، نَمَّقْتَهَا(3) بِضَلاَلِكَ، وَأَمْضَيْتَهَا(4) بِسُوءِ رَأْيِكَ، وَكِتَابُ امْرِىء لَيْسَ لَهُ بَصَرٌ يَهْدِيهِ، وَلاَ قَائِدٌ يُرْشِدُهُ، قَدْ دَعَاهُ الْهَوَى فَأَجَابَهُ، وَقَادَهُ الضَّلاَلُ فَاتَّبَعَهُ، فَهَجَرَ(5) لاَغِطاً(6)، وَضَلَّ خَابِطاً.
____________
1. مُوَصّلة ـ بصيغة المفعول ـ: ملفّقة من كلام مختلف وصل بعضه ببعض على التباين، كالثوب المرقع.
2. مُحَبّرَة: أي مزيّنه.
3. نَمّقتها: حسنت كتابتها. 4. أمضيْتها: أنفذتها وبعثتها.
5. هَجَرَ: هَذَى في كلامه ولغا.
6. اللغط: الجَلَبة بلا معنى.
ومن هذا الكتاب
لاَِنَّهَا بَيْعَهٌ وَاحِدَةٌ لاَ يُثَنَّى فِيهَا النَّظَرُ(1)، وَلاَ يُسْتَأْنَفُ فِيهَا الْخِيَارُ، الْخَارِجُ مِنْهَا طَاعِنٌ، وَالْمُرَوِّي(2) فِيهَا مُدَاهِنٌ(3).
[ 9 ]
ومن كتاب له (عليه السلام)
إلى معاوية
فَأَرَادَ قَوْمُنَا قَتْلَ نَبِيِّنَا، وَاجْتِيَاحَ(1) أَصْلِنَا، وَهَمُّوا بِنَا الْهُمُومَ(2)، وَفَعَلُوا بِنَا الاَْفَاعِيلَ(3)، وَمَنَعُونَا الْعَذْبَ(4)، وَأَحْلَسُونَا(5) الْخَوْفَ، وَاضْطَرُّونَا(6) إِلَى جَبَل وَعْر(7)، وَأَوْقَدُوا لَنَا نَارَ الْحَرْبِ، فَعَزَمَ اللهُ لَنَا(8) عَلَى الدَّبِّ عَنْ حَوْزَتِهِ(9)، وَالرَّمْيِ مِنْ وَرَاءِ حُرْمَتِهِ(10). مُؤْمِنُنَا يَبْغِي بِذلِكَ الاَْجْرَ، وَكَافِرُنَا
____________
1. الاجتياح: الاستئصال والاهلاك.
2. هموا بنا الهموم: قصدوا إنزالها بنا.
3. الافاعيل ـ جمع أُفْعولة ـ: الفَعْلة الرديئة.
4. العذب: هنيء العيش.
5. أحلسونا: ألزمونا.
6. اضطرونا: ألجأونا.
7. الجبل الوَعْر: الصعب الذي لا يرقى إليه.
8. عزم الله لنا: أراد لنا أن نذبّ عن حوزته.
9. المراد من الحَوْزة هنا: الشريعة الحقة.
10. رمى من وراء الحُرْمة: جعل نفسه وقاية لها يدافع السوء عنها، فهو من ورائها أوهي من ورائه.
فَيَاعَجَباً لِلدَّهْرِ! إِذْ صِرْتُ يُقْرَنُ بِي مَنْ لَمْ يَسْعَ بِقَدَمِي(4)، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ كَسَابِقَتِي(5) الَّتِي لاَ يُدْلِي أحَدٌ(6) بِمِثْلِهَا، إِلاَّ أَنْ يَدَّعِيَ مُدَّع مَا لاَ أَعْرِفُهُ،
____________
1. احمرار البأس: اشتداد القتال.
2. حَر الاسنة ـ بفتح الحاء ـ: شدة وقعها.
3. مؤتة ـ بضم الميم ـ: بلد في حدود الشام.
4. بقدم مثل قدمى جَرَتْ وثَبَتَتْ في الدفاع عن الدين.
5. السابقة: فضله السابق في الجهاد.
6. أدلى إليه برَحِمِهِ: توسَّلَ، و بمال دفعه اليه ; و كلا المعنيين صحيح.
وَمَتَى كُنْتُمْ يَا مُعَاوِيَةُ سَاسَةَ(6) الرَّعِيَّةِ، وَوُلاَةَ أَمْرِ الاُْمَّةِ ؟ بِغَيْرِ قَدَم سَابِق، وَلاَ شَرَف بَاسِق(7)، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ لُزومِ سَوَابِقِ الشَّقَاءِ، وَأُحَذِّرُكَ أَنْ تَكُونَ مُتَمادِياً فِي غِرَّةِ(8) الاُْمْنِيَّةِ(9)، مُخْتَلِفَ الْعَلاَنِيَةِ والسَّرِيرَةِ.
____________
1. المِجَنّ: التُرْس، أي: يوشك أن يطلعك الله على مهلكة لك لاتتقي منها بترس، ورويت: "مُنْج " بدل مجنّ.
2. قَعَسَ: تأخر.
3. الاُهبة ـ بضم الهمزة ـ: العُدّة.
4. الغُواة ـ جمع غاو ـ: قرين السوء الذي يزيّن لك الباطل ويغريك بالفساد.
5. المُتْرَف: من أطْغَتْه النعمة.
6. سَاسة: جمع سائس.
7. الباسِق: العالي الرفيع.
8. الغِرّة ـ بالكسر ـ: الغُرور.
9. الاُمْنِيَة ـ بضم الهمزة ـ: ما يتمناه الانسان ويؤمل إدراكه.
وَزَعَمْتَ أَنَّكَ جِئْتَ ثَائراً بِدَمِ(4) عُثْمانَ، وَلَقَدْ عَلِمْتَ حَيْثُ وَقَعَ دَمُ عُثْمانَ فَاطْلُبْهُ مِنْ هُنَاكَ إِنْ كُنتَ طَالباً، فَكَأَنِّي قدْ رَأَيْتُكَ تَضِجُّ مِنَ الْحَرْبِ إِذَا عَضَّتْكَ ضَجِيجَ آلْجِمَالِ بِالاَْثْقَالِ، وَكَأَنِّي بِجَمَاعَتِكَ تَدْعُونِي جَزَعاً مِنَ الضَّرْبِ الْمُتَتَابِعِ، وَالْقَضَاءِ الْوَاقِعِ، وَمَصَارِعَ بَعْدَ مَصَارِعَ، إِلَى كِتَابِ اللهِ، وَهِيَ كَافِرةٌ جَاحِدَهٌ، أَوْ مُبَايِعَةٌ حَائِدَةٌ(5).
____________
1. المَرِين ـ بفتح فكسر ـ: اسم مفعول من رانَ ذنبهُ على قلبه: غلب عليه فغطى بصيرته.
2. شدخاً: أي كسراً في الرطب.
3. المِنْهاج: هو ـ هنا ـ طريق الدين الحق.
4. ثأر به: طلب بدمه.
5. حائدة: من حاد عن الشيء إذا مال عنه وعدل عنه إلى سواه.
[ 11 ]
ومن وصية
وصّى بها(عليه السلام) جيشاً بعثه إلى العدو
فَإذَا نزَلتُمْ بِعَدُوّ أَوْ نَزَلَ بِكُمْ، فَلْيَكُنْ مُعَسْكَرُكُمْ فِي قُبُلِ(1) الاَْشْرَافِ(2)، أَوْ سِفَاحِ الْجِبَالِ(3)، أَوْ أثْنَاءِ(4) الاَْنْهَارِ، كَيْما يَكُونَ لَكُمْ رِدْءاً(5)، وَدُونَكُمْ مَرَدّاً(6)، وَلْتَكُنْ مُقَاتَلَتُكُمْ مِنْ وَجْه وَاحِد أَوِ اثْنيْنِ، واجْعَلُوا لَكُمْ رُقَبَاءَ فِي صَيَاصِي(7) الْجِبَالِ، وَمَنَاكِبِ(8) الْهِضَابِ(9)، لِئَلاَّ يَأْتِيَكُمُ الْعَدُوُّ مِنْ مَكَانِ مَخَافَة أَوْ أَمْن.
____________
1. قُبُل: قُدّام.
2. الاشراف ـ جمع شَرَف محركة ـ: العلو والعالي.
3. سِفاح الجبال: أسافلها.
4. الاثناء: منعطفات الانهار.
5. الرِدْء ـ بكسر فسكون ـ: العون.
6. المَرَدّ ـ بتشديد الدال ـ: مكان الرد والدفع.
7. صَيَاصي: أعالي.
8. المَنَاكب: المرتفعات.
9. الهِضاب ـ جمع هَضْبة بفتح فسكون ـ: الجبل لايرتفع عن الارض كثيراً مع انبساط في أعلاه.
وَإِيَّاكُمْ وَالتَّفَرُّقَ، فَإِذَا نَزَلْتُمْ فَانْزِلُوا جَمِيعاً، وَإذا ارْتحَلْتُمْ فَارْتَحِلُوا جَمِيعاً، وَإِذَا غشِيكُمُ اللَّيْلُ فَاجْعَلُوا الرِّمَاحَ كِفَّةً(1)، وَلاَ تَذُوقُوا النَّوْمَ إِلاَّ غِرَاراً(2) أَوْ مَضْمَضَةً(3).
____________
1. الظعن: السفر.
2. ينبطح السّحَر: ينبسط، مجاز عن استحكام الوقت بعد مضي مدة منه وبقاء مدة.
3. الشَنآن: البغضاء.
4. الاعذار إليهم: تقديم ما يُعْذَرون به في قتالهم.
[ 13 ]
ومن كتاب له (عليه السلام)
إلى أمير ين من أُمراء جيشه
وَقَدْ أَمَّرْتُ عَلَيْكُمَا وَعَلى مَنْ فِي حَيِّزِكُمَا(1) مَالِكَ بْنَ الْحَارثِ الاَْشْترِ، فَاسْمَعَا لَهُ وَأَطِيعاً، واجْعَلاَهُ دِرْعاً(2) وَمِجَنّاً(3)، فَإِنّهُ مِمَّنْ لاَ يُخَافُ وَهْنُهُ(4)، وَلاَ سَقْطَتُهُ(5)، وَلاَ بُطْؤُهُ عَمَّا الاْسْرَاعُ إِلَيْهِ أَحْزَمُ(6)، وَلاَ إِسْرَاعُهُ إِلَى مَا الْبُطءُ عَنْهُ أَمْثَلُ(7).
[ 16 ]
وكان يقول (عليه السلام)
لاصحابه عند الحرب
لاَ تَشْتَدَّنَّ عَلَيْكُمْ فَرَّةٌ بَعْدَهَا كَرَّةٌ(1)، وَلاَ جَوْلَةٌ بَعْدَهَا حَمْلَةٌ، وَأَعْطُوا السُّيُوفَ حُقُوقَهَا، وَوَطِّئُوا لِلْجُنُوبِ مَصَارِعَهَا(2)، وَاذْمُرُوا(3) أَنْفُسَكُمْ عَلَى الطَّعْنِ الْدَّعْسِيِّ(4)، وَالضَّرْبِ الطِّلَحْفِيِّ(5)، وَأَمِيتُوا الاَْصْوَاتَ(6)، فإِنَّهُ أَطْردُ لِلْفَشَلِ، [فـ] والَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، مَا أَسْلَمُوا وَلَكِنِ اسْتَسْلَمُوا، وَأَسَرُّوا الْكُفْرَ، فَلَمَّا وَجَدُوا أَعْوَاناً عَلَيْهِ أَظْهَرُوهُ.
____________
1. لا تشتدن عليكم فَرّة بعدها كرّة: لايشق عليكم الامر إذا انهزمتم متى عدتم للكَرّة، ولا تثقل عليكم الدورة من وجه العدوإذا كانت بعدها حملة وهجوم عليه.
2. وَطّئوا: مهّدوا للجُنوب، جمع جَنْب. مَصارِعها: أماكن سقوطها، أي اذا ضربتم فأحكموا الضرب ليصيب، فكأنكم مهدتم للمضروب مصرعه.
3. اذْمُرُوا ـ على وزن اكتبوا ـ أي: حرضوا.
4. الدَعْسيّ: اسم من الدَعْس أي الطعن الشديد.
5. الطِّلَحْفِيّ ـ بكسر الطاء وفتح اللام ـ: أشد الضرب.
6. إماتة الاصوات: انقطاعها بالسكوت.
[ 17 ]
ومن كتاب له (عليه السلام)
إلى معاوية، جواباً عن كتاب منه
وَأَمَّا طَلَبُكَ إِلَيَّ الشَّامَ، فَإِنِّي لَمْ أَكُنْ لاُِعْطِيَكَ الْيَوْمَ مَا مَنَعْتُكَ أَمْسِ.
وَأَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّ الْحَرْبَ قَدْ أَكَلَتِ الْعَرَبَ إِلاَّ حُشَاشَاتِ أَنْفُس بَقِيَتْ، فَمَنْ أَكَلَهُ الْحَقُّ فَإِلَى [الْجَنَّةِ،مَنْ أَكَلَهُ الْبَاطِلُ فَإِلَى] النّارِ.
وَأَمَّا اسْتِوَاؤُنَا فِي الْحَرْبِ والرِّجَالِ، فَلَسْتَ بِأَمْضَى عَلَى الشَّكِّ مِنِّي عَلَى الْيَقِينِ، وَلَيْسَ أَهْلُ الشَّامِ بِأَحْرَصَ عَلَى الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى الاْخِرَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّا بَنُو عَبْدِ مَنَاف، فَكَذلِكَ نَحْنُ، وَلكِنْ لَيْسَ أُمَيَّةُ كَهَاشِمَ، وَلاَ حَرْبٌ كَعَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلاَ أَبُوسُفْيَانَ كَأَبِي طَالِب، وَلاَ المُهَاجرُ(1) كَالطَّلِيقِ(2)، وَلاَ الصَّرِيحُ(3) كَاللَّصِيقِ(4)، وَلاَ الْـمُحِقُّ كَالْمُبطِلِ، وَلاَ
____________
1. المُهَاجِر: من آمن في المخافة وهاجر تخلصاً منها. 2. الطّليق: الذي أسر فاطلق بالمنّ عليه أو الفدية، وأبوسفيان ومعاوية كانا من الطلقاء يوم الفتح.
3. الصريح: صحيح النسب في ذوي الحسب.
4. اللَصِيق: من ينتمي إليهم وهو أجنبي عنهم.
وَفِي أَيْدِينَا بعْدُ فَضْلُ النُّبُوَّةِ الَّتِي أَذْلَلْنَا بِهَا الْعَزِيزَ، وَنَعَشْنَا(2) بِهَا الذَّلِيلَ.
وَلَمَّا أَدْخَلَ اللهُ الْعَرَبَ فِي دِينِهِ أَفْوَاجاً، وَأَسْلَمَتْ لَهُ هذِهِ الاُْمَّةُ طَوْعاً وَكَرْهاً، كُنْتُمْ مِمَّنْ دَخَلَ فِي الدِّينِ: إِمَّا رَغْبَةً وَإِمَّا رَهْبَةً، عَلَى حِينَ فَازَ أَهْلُ السَّبْقِ بِسَبْقِهِمْ، وَذَهَبَ الْمُهَاجِرُونَ الاَْوَّلُونَ بِفَضْلِهِمْ.
فَلاَ تَجْعَلَنَّ لِلشَّيْطَانِ فِيكَ نَصِيباً، وَلاَ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلاً، وَالسَّلاَمُ.
____________
1. المُدْغِل: المفسد.
2. نَعَشْنا: رَفَعْنا.
[ 18 ]
ومن كتاب له (عليه السلام)
إلى عبد الله بن العباس وهو عامله على البصرة
وَاعْلَمْ أَنَّ الْبَصْرَةَ مَهْبِطُ إِبْلِيسَ، وَمَغْرِسُ الْفِتَنِ، فَحَادِثْ أَهْلَهَا بِالاِْحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَاحْلُلْ عُقْدَةَ الْخَوْفِ عَنْ قُلُوبِهِمْ.
وَقَدْ بَلَغَنِي تَنَمُّرُكَ(1) لِبَنِي تَمِيم، وَغِلْظَتُكَ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّ بَنِي تَمِيم لَمْ يَغِبْ لَهُمْ نَجْمٌ(2) إِلاَّ طَلَعَ لَهُمْ آخَرُ(3)، وَإِنَّهُمْ لَمْ يُسْبَقُوا بِوَغْم(4) فِي جَاهِلِيَّة وَلاَ إِسْلاَم، وَإِنَّ لَهُمْ بِنَا رَحِماً مَاسَّةً، وَقَرَابَةً خَاصَّةً، نَحْنُ مَأْجُورُونَ عَلَى صِلَتِهَا، وَمَأزُورُونَ عَلَى قَطِيعَتِهَا.
فَارْبَعْ(5) أَبَا الْعَبَّاسِ، رَحِمَكَ اللهُ، فِيَما جَرَى عَلَى يَدِكَ وَلِسَانِكَ مِنْ خَيْر وَشَرّ! فَإِنَّا شَرِيكَانِ فِي ذلِكَ،كُنْ عِنْدَ صَالِحِ ظَنِّي بِكَ، وَلاَ يَفِيلَنَّ رَأَيِي(6) فِيكَ، وَالسَّلاَمُ.
____________
1. تَنَمّرُكَ: أي تنكّر أخلاقك.
2. غَيْبُوبة النجم: كناية عن الضعف.
3. طلوع النجم: كناية عن القوة.
4. الوَغْم ـ بفتح فسكون ـ: الحرب والحقد.
5. اربَعْ: الرفُقْ وقف عند حد ما تعرف.
6. فالَ رأيُهُ: ضعف.
[ 19 ]
ومن كتاب له (عليه السلام)
إلى بعض عماله
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ دَهَاقِينَ(1) أهْلِ بَلَدِكَ شَكَوْا مِنْكَ غِلْظَةً وَقَسْوَةً، وَاحْتِقَاراً وَجَفْوَةً، وَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَهُمْ أَهْلاً لاََنْ يُدْنَوْا(2) لِشِرْكِهِمْ، وَلاَ أَنْ يُقْصَواْ(3) وَيُجْفَوْا(4) لِعَهْدِهِمْ، فَالْبَسْ لَهُمْ جِلْبَاباً مِنَ اللِّينِ تَشُوبُهُ(5) بِطَرَف مِنَ الشِّدَّةِ، وَدَاوِلْ(6) لَهُمْ بَيْنَ الْقَسْوَةِ وَالرَّأْفَةِ، وَامْزُجْ لَهُمْ بَيْنَ التَّقْرِيبِ وَالاِْدْنَاءِ، وَالاِْبْعَادِ وَالاِْقْصَاءِ، إِنْ شَاءَاللهُ.
____________
1. الدَهَاقين: الاكابر، الزعماء أرباب الاملاك بالسواد، واحدهم دِهقان ـ بكسر الدال ـ ولفظه معرّب.
2. يُدْنَوا: يقرّبوا.
3. يُقْصَوْا: يبعدوا. 4. يُجْفَوا: يعاملوا بخشونة.
5. تشوبه: تخلطه.
6. داول: اسلك فيهم منهجاً متوسطاً.
[ 20 ]
ومن كتاب له (عليه السلام)
إلى زياد بن أبيه
وهو خليفة عامله عبدالله بن العباس على البصرة، وعبد الله عامل أميرالمؤمنين(عليه السلام)يومئذ عليها وعلى كور الاهواز(1) وفارس وكرمان:
وَإِنِّي أُقْسِمُ بِاللهِ قَسَماً صَادِقاً، لَئِنْ بَلَغَني أَنَّكَ خُنْتَ مِنْ فَيْءِ(2) الْمُسْلِمِينَ شَيْئاً صَغِيراً أَوْ كَبِيراً، لاََشُدَّنَّ عَلَيْكَ شَدَّةً تَدَعُكَ قَلِيلَ الْوَفْرِ(3)، ثَقِيلَ الظَّهْرِ(4)، ضَئِيلَ الاَْمْرِ(5)، وَالسَّلاَمُ.
[ 22 ]
ومن كتاب له (عليه السلام)
إلى عبدالله بن العباس
وكان ابن عباس يقول: ما انتفعت بكلام بعد كلام رسول الله كانتفاعي بهذا الكلام:
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْمَرْءَ قَدْ يَسُرُّهُ دَرَكُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَفُوتَهُ(1)، وَيَسُوؤُهُ فَوْتُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيُدْرِكَهُ(2)، فَلْيَكُنْ سُرُورُكَ بِمَا نِلْتَ مِنْ آخِرَتِكَ، وَلْيَكُنْ أسَفُكَ عَلَى مَا فَاتَكَ مِنْهَا، وَمَا نِلْتَ مِنْ دُنْيَاكَ فَلاَ تُكْثِرْ بِهِ فَرَحاً، وَمَا فَاتَكَ مِنْهَا فَلاَ تَأْسَ عَلَيْهِ جَزَعاً، وَلْيَكُنْ هَمُّكَ فِيَما بَعْدَ الْمَوْتِ.
____________
1. يفوته الشيء: يذهب عنه إلى غير رجعة.
2. يدركه: يناله ويصيبه.
[ 23 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
قاله قُبَيْلَ موته لمّا ضربه ابن ملجم على سبيل الوصية
وَصِيَّتِي لَكُمْ: أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئاً، وَمُحَمَّدٌ(صلى الله عليه وآله) فَلاَ تُضَيِّعُوا سُنَّتَهُ، أَقِيمُوا هذَيْنِ الْعَمُودَينِ، وَخَلاَ كُمْ ذَمٌّ(1).
أَنَا بالاَْمْسِ صَاحِبُكُمْ، وَالْيَوْمَ عِبْرَةٌ لَكُمْ، وَغَداً مُفَارِقُكُمْ، إِنْ أَبْقَ فَأَنَا وَلِيُّ دَمِي، وَإِنْ أَفْنَ فَالْفَنَاءُ مِيعَادِي، وَإِنْ أَعْفُ فَالْعَفْوُ لِي قُرْبَةٌ، وَهُوَ لَكُمْ حَسَنَةٌ، فَاعْفُوا (أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ)
وَاللهِ مَا فَجَأَنِي مِنَ الْمَوْتِ وَارِدٌ كَرِهْتُهُ، وَلاَ طَالِعٌ أَنْكَرْتُهُ، وَمَا كُنْتُ إِلاَّ كَقَارِب(2) وَرَدَ، وَطَالِب وَجَدَ، (وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلاَْبْرَارِ)
وقد مضى بعض هذا الكلام فيما تقدّم من الخطب، إلاّ أنّ فيه هاهنا زيادة أوجبت تكريره. |
____________
1. خلاكم ذمّ: عداكم وجاوزكم اللوم بعد قيامكم بالوصية.
2. القارب: طالب الماء ليلاً، ولايقال لطالبه نهاراً.
[ 24 ]
ومن وصية له (عليه السلام)
بما يُعمل في أمواله، كتبها بعد منصرفه من صفين
هذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِب أمِيرُالْمُؤْمِنِينَ فِي مَالِهِ، ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ، لِيُولِجَني(1) بِهِ الْجَنَّةَ، وَيُعْطِيَني الاَْمَنَةَ(2).
منها:
فَإِنَّهُ يَقُومُ بِذلِكَ الْحَسنُ بْنُ علِيّ، يأْكُلُ مِنْهُ بِالْمعْروفِ، وَيُنْفِقُ مِنْهُ فِي المَعْروفِ، فَإِنْ حَدَثَ(3) بِحَسَن حَدَثٌ وَحُسَيْنٌ حَيٌّ، قَامَ بِالاَْمْرِ بَعْدَهُ، وَأَصْدَرَهُ(4) مَصْدَرَهُ.
وَإِنَّ لاِبْنَيْ فَاطِمَةَ مِنْ صَدَقةِ عَلِيّ مِثْلَ الَّذِي لِبَنِي عَلِيّ، وَإِنِّي إِنَّمَا جَعَلْتُ الْقِيَامَ بِذلِكَ إِلَى ابْنَيْ فَاطِمَةَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ، وَقُرْبَةً إِلَى رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله)، وَتَكْرِيماً لِحُرْمَتِهِ، وَتَشْرِيفاً لِوُصْلَتِهِ(5).
وَيَشْتَرِطُ عَلَى الَّذِي يَجْعَلُهُ إِلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَ الْمَالَ عَلَى أُصُولِهِ(6)، وَيُنْقفِقَ مِنْ ثَمَرِهِ حَيْثُ أُمِرَ بِهِ وَهُدِيَ لَهُ،أَلاَّ يَبِيعَ مِنْ أَوْلاَدِ نَخِيلَ هذِهِ الْقُرَى
____________
1. يُولِجُهُ: يُدْخله.
2. الامَنَةُ ـ بالتحريك ـ: الامن.
3. الحَدَث ـ بالتحريك ـ: الحادث، أي الموت.
4. أصدره: أجراه كما كان يجري على يد الحسن.
5. الوُصْلة ـ بالضم ـ: الصلة وهي ـ هنا ـ القرابة.
6. ترك المال على أصوله: أن لا يباع منه شيء ولا يقطع منه غرس.