سواء الاعتبارية أو غير الاعتبارية ليست أكثر من أدوات . إن تعلم علم الفقه والحقوق والأخلاق والسياسة ( التي هي من قبيل العلوم الإنسانية ) فهوليس مقدمة العمل . وان الفقه ليس مطلوباً ذاتاً من ناحية أنه علم بالحلال والحرام ، بل هو مطلوب لتجنب الحرام ، وامتثال الواجب ، وأمثال ذلك ، والإنسان يصبح فقيهاً عندما يعمل بأحكام الله ، وكذلك علم الأخلاق ليس مطلوب ذاتاً ، والإنسان يصبح عالماً بجميع الاخلاق حتى يتخلق في ظل علم الأخلاق .

العلم مقدمة العمل :
مثل هذه العلوم ، التي هي جزء من شعب العلوم الإنسانية تعد جزء من الحكمة العملية وكلها مقدمة عمل . أما العلوم النظرية كالالهيات والفلسفة التي يقال إنها علوم مطلوبة ذاتاً ومستقلة ، فليس بمعنى انها ليست مقدمة لعمل ، وليس المقصود ان فهم الالهيات مطلوب ومقصود ذاتاً ، وإذا قيل إن الفلسفة هي علم أصالي والمنطق علم أداتي فالمراد أن الفلسفة ليست علماً تدرس من أجل علوم أخرى في سلسلة العلوم والأفكار بل مطلوبة ذاتاً ، ليفهم الإنسان أن للعالم بداية ونهاية وله مبدأ ومعاد ، وبدء وحشر . هذا العلم ليس من أجل علم آخر . لكن المقصود ليس أن هذا العلم لا يكون مقدمة لشيء آخر . بل ان العلم الالهي هو مقدمة لأمر آخر وهو العمل ، غاية الأمر أن العمل على قسمين أيضاً . عمل الجارحة وعمل الجانحة .
عمل الجوارح بينه أهل الفن في مسائل الفقه والأخلاق وأمثال ذلك ، أما عمل الجانحة وعمل القلب الذي هو اعتقاد فانه يطرح في البحوث العقائدية . وإذا أصبح شخص ذا رؤية كونية فهو من أجل أن يكون معتقداً ويكون لديه إقرار بأن للعالم الهاً ، وان هناك حشر ونشر . فالعلم النظري رغم انه يؤمن كمال العقل النظري ولكن كمال الإنسان ، ليس بكمال عقله النظري فقط . العلم ليس من أجل كمال قوة النظر بل إن العلم هو من أجل


(179)

كمال إنسانية الإنسان (1) .

الشؤون الإنسانية :
إن لانسانية الإنسان جناحين وشأنين منفصلين . لو أراد الإنسان أن يبلغ الكمال يجب أن يصبح كاملاً في جناح النظر . ويصبح متكاملاً في جناح العمل أيضاً . عمل القلب هو هدف ، وعمل عقل النظر ، وهو الفكر والتفكير هو أداة ، توضيح الموضوع هو ان الروح لأنها مجردة فان شؤونها تكون مجردة أيضاً ، وربما نسجت حجب نورية بينها وأحياناً حجب غير نورية ، هناك حجب كثيرة بين شؤون الروح ، وهذه الحجب دقيقة ورقيقة إلى درجة ، يكون فهم أساس الحجاب ودقته ورقته ليس عملاً سهلاً .
وهناك نذكر مثلاً حسياً لتوضيح المسألة حتى نصل من هذا المثل الحسي إلى ممثل عقلي ، عند ذلك يبين ذلك الممثل بالآيات القرآنية حتى يتضح وجود حجب دقيقة ورقيقة بين شؤون النفس .

رواية عن الإمام الصادق :
ذلك المثل الحسي : جاء رجل إلى الإمام الصادق عليه السلام فقال : يا جعفر بن محمد دلني على معبودي . فقال له أبو عبدالله : اجلس ، وإذا غلام له صغير في كفه بيضة يلعب بها ، فقال له أبو عبدالله عليه السلام : ناولني يا غلام البيضة . فنالوه إياها ، فقال له أبو عبدالله : يا ديصاني : هذا حصن مكنون ، له جلد غليظ وتحت الجلد الغليط جلد رقيق وتحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة وفضة ذائبة ، فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضة ولا الفضة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة ، فهي على حالها لم يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن صلاحها ولا دخل فيها مفسد فيخبر عن فسادها . لا يدرى للذكر خلقت أم
____________
(1) أصول الكافي ، ج 1 ، ص 79 .
(180)
للأنثى ، تنفلق عن مثل الوان الطواويس ، أترى لها مدبراً ؟ فأطرق ملياً ثم قال : أشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له وان محمداً عبده ورسوله ، وإنك إمام من الله على خلقه وأنا تائب مما كنت فيه .

العقل العملي والعقل النظري :
أما الممثل العقلي فهو أن للإنسان شأناً باسم ( عقل النظر ) وهو يفكر بواسطة ذلك الشأن ، وله شأن آخر باسم ( عقل العمل ) حيث يتقبل بواسطة ذلك الشأن . والآيات القرآنية والروايات على قسمين أيضاً ؛ لأن الآيات والروايات مفسرة الإنسان ، والإنسان لديه هذه الشؤون ايضاً ، لذا يجب ان تفهم الآيات هذه الشؤون للإنسان .
قسم النظر يتولى الرؤية والتفكير ، وقسم العمل يتولى القبول والسعي والميل والجذبة وأمثال ذلك . كل ما هو عمل يعود إلى العمل ، وكان ما هو فكر يرجع إلى النظر ، وبين هذين الشأنين حجاب دقيق جداً لا يسمح ان ينتهي النظر إلى العمل مباشرة ، والذين خرقوا كل الحجب ، خرقت أمامهم الحجب المادية وكذلك خرقوا الحجب النورية .
في المناجاة الشعبانية دعاء بطلب التوفيق من الله ( حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة ) (1) ، عندما تشق الحجب النورية هذه ، عند ذلك يصبح النظر والعمل واحداً . عندما ينال الإنسان مقاماً رفيعاً يصبح علمه عين القوة وقوته عين العلم ، هما مفهومان ، ولكن لهما حقيقة واحدة . إذا وصل شخص إلى هذا المقام ، لم يعد هناك جدار بين فكره وسعيه ، سواء كان امرأة مثل فاطمة الزهراء عليها السلام أو رجلاً مثل علي بن أبي طالب عليه السلام ، لكن إذا لم يبلغ ذلك المقام الرفيع ، يكون هناك
____________
(1) المناجاة الشعبانية ، مفاتيح الجنان .
(181)

حجاب رقيق دائماً بين النظر والعمل ، وكلما نزل إلى الأسفل تصبح هذه المسافة أكثر وكلما صعد تصبح هذه المسافة أقل .
أحياناً يكون الإنسان عالماً ولكن بلا عمل ، وأحياناً هو متنسك كثير العمل وقليل التشخيص ، وأحياناً هو عالم بلا عمل وأحياناً جاهل متهتك . أوساط الناس سواء النساء أو الرجال ، هناك جدار رقيق بين نظرهم وعلمهم ، لذا يفهمون كثيراً من الأشياء ولكن لا يعملون بها . ويتعلقون بكثير من الأشياء لا ينسجم معها عقلهم النظري ولا يؤيدها ، ويلتزمون ببعض الاداب والرسوم والعادات والسنن التي لا توافق الفكر ، ويفكرون ببعض الأمور التي تنسجم مع عقل العمل ، هذا الجدال موجود دائماً بين الفكر والميل في أوساط الناس .

نماذج من تخطي عمل القلب والفكر في القرآن :
ذكر في القرآن الكريم المسافة والحجاب بين عمل القلب ، وتفكر الفكر . ويبين بعض النماذج .
النموذج الأول :
( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً ) (1) .
بعد مشاهدة آل فرعون معجزات موسى الكليم عليه السلام الكثيرة أصبح الحق بينا لهم ، ولم تكن لديهم مشكلة من حيث الفكر ، ولكن من حيث ( الذكر ) كانوا في مشقة ولم يستعدوا للقبول . ومع انه كان لديهم يقين بأن الحق مع موسى ولكن قلوبهم لم تخضع ، ورؤوسهم لم تصقل في الساحة الإلهية المقدسة ، كان العلم موجوداً ولكن العمل ، أي ميل القلب وعمل الجانحة والقلب لم يكن موجوداً . لذا قال فرعون لموسى الكليم :
____________
(1) سورة النمل ، الآية : 14 .
(182)

( اني لأظنك يا موسى مسحوراً ) (1) .
قال موسى الكليم عليه السلام :
( لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً ) (2) . أي أن موسى قال لفرعون : إنك أصبحت عالماً وليس لديك أية مشكلة علمية . وقد فهمت ان عملي هو إعجاز وليس سحراً فهمت أن سحر السحرة لا يقابل إعجازي ، ولكنك لا تقبل وإنما تصرّ على الهلاك ، أنت عالم ولكنك لا تقبل .
النموذج الثاني :
مسألة إبراهيم الخليل عليه السلام عندما حطم الأصنام ( فجعلهم جذاذاً إلا كبيراً لهم ) (3) عمل على توضيح وتبيين المسألة ، فحضر الوثنيون في ذلك المجمع وكان شعارهم هذا :
( حرقوه وانصروا آلهتكم ) (4) .
فقال إبراهيم الخليل :
( فأسألوهم إن كانوا ينطقون ) (5) .
( فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا انكم انتم الظالمون * ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ) (6) .
____________
(1) سورة الإسراء ، الآية : 101 .
(2) سورة الإسراء ، الآية : 102 .
(3) سورة الأنبياء ، الآية : 58 .
(4) سورة الأنبياء ، الآية : 68 .
(5) سورة الأنبياء ، الآية : 63 .
(6) سورة الأنبياء ، الآيتين : 64 ـ 65 .

(183)

نكسوا روؤسهم ليس أنهم خجلوا ، بل خجلوا في مقام الاحتجاج وكانوا يقولون لبعضهم : إنهم ظالمون ، ( إن الشرك لظلم عظيم ) (1) ، الظلم للمبدأ ، الظلم لنفس الإنسان الظلم للاعتقاد الصحيح والرسالة الصادقة للوحي وأمثال ذلك . فهموا أن الحق مع خليل الرحمن ولكن لم يقبلوا ذلك .
أن الإنسان إذا أصبح عالماً لا يتخلى أحياناً عن عقيدته الفاسدة ، ولا ينجذب للعقيدة الصحيحة . ان جهاز عمل الإنسان ليس تابعاً لنظره دائماً . وإلا لصرف فرعون النظر عن عقيدته الفاسدة السابقة ولقبل الاعتقاد الجديد . ولرفض قوم إبراهيم الشرك الذي كانوا مبتلين به سنين طويلة ولقبلوا العقيدة الحقة التي جاء بها إبراهيم .
إن هذا الجذب والدفع ، هذا الاعتقاد والإنكار ، هذا الإقرار والانكار ، هو عمل القلب . وعمل القلب يرتبط بنفس القلب ، وليس بالفكر ، لذا ذكر موسى الكليم عليه السلام لفرعون نموذجاً وقال له : إنه إذا اتضحت له الحقيقة من الناحية العلمية فليقبل كلامه ، ولكن فرعون لم يقبل . لم يكن قد قبل في القلب وانكر باللسان ؛ لأنه عندما تعرض للغرق قال عند ذلك بأنه آمن ، وقال الله تعالى :
( الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ) (2) .
وهذا بمعنى ان فرعون لم يكن آمن أساساً ، وأراد الايمان في لحظة الموت فقط ، ونموذج آخر قول إبراهيم الخليل : اقطعوا رباط القلوب بهذه الأصنام التي أصبحت بصورة حطب ، لكنهم لم يفعلوا ، أحياناً لا يحصل
____________
(1) سورة لقمان ، الآية : 13 .
(2) سورة يونس ، الآية : 91 .

(184)

قطع ارتباط القلب بالباطل والتعلق بالحق رغم التبيين وإحراز حقانيته ، وسره أن هناك حجاباً بين مركز الفكر وهو الجزم ومركز العزم وهو القلب . وليس الأمر هو أن الإنسان يؤمن بكل ما يفهمه ، كما أنه ليس كل مؤمن يكون عالماً . رغم انه ليس بدون علم إجمالي أو تقليدي .

انسجام العقل والقلب :
المسألة الأخرى هي ان كمال الإنسان هو في ان يحول إلى القلب ما فهمه حتى يحلق بجناح القلب وجناح العقل ، لا يمكن أبداً التحليق بجناح العقل لوحده ، أي أن الفكر هو جناح واحد ، كما أنه لا يمكن أبداً السفر بجناح القلب ، لأن العمل هو جناح واحد .
والذي هو من أهل السير والسلوك هو من أهل الفكر وأهل الذكر أيضاً ، يفهم ويقبل أيضاً . الشخص الذي آمن على أساس التقليد وأصبح مؤمناً على أساس الجهل لا يصل إلى المقصد ، رغم انه عالم في بعض طريقه ان الذي يصرف جميع عمره في طريق العلم ويسير ويسافر ، ولكن إلى بلاد قريبة لا بعيدة . الشخص الذي يصل إلى المقصد هو الذي يكون محققاً عن طريق الفكر ، ويكون متحققاً عن طريق الذكر .
من هنا يتضح ان الإلهيات والفلسفة ليست هدفاً ذاتياً أيضاً بل ليصبح ذا رؤية كونية حتى يؤمن بالتوحيد .

الإيمان ، عقد القلب والعقل :

وحيث توضح من حيث النظر ان للإنسان شأنين : أحدهما النظر والآخر العمل ، وأن الآيات القرآنية أيدت صحة هذا النظر والتقسيم ، يجب رؤية هل أن المرأة والرجل متساويان في هذه الجهة أم لا ؟ اتضح حتى الآن أن الأساس هو طريق القلب ، أي أن كل علم هوأرضية لأجل ان يقبل


(185)

القلب .
وفي البحوث الفلسفية إتضح ان للإنسان عقدين : عقد بين موضوع ومحمول القضية ، وهذا الانعقاد بعهدة عقل النظر الذي يتولى الفكر ويبحث بصورة تحقيقية محمولات موضوع من المواضيع ، فإذا لم يكن المحمول مناسباً للموضوع ، يبني القضية سالبة ، أي ليس هناك عقد ، وإذا كان المحمول من العوارض الذاتية ولوازم موضوع القضية يقيم عقداً بين المحمول والموضوع ، لذا تسمى القضية في اصطلاح المنطق ( عقد ) .
إن عمل عقل النظر هو تنفيذ العقد بين الطرفين أي بين الموضوع والمحمول فقط ، فإذا كنا نقول باتحاد العاقل والمعقول ـ كما أن الحق هو ذلك أيضاً ـ فان جناح النظر يصبح واحداً مع العلم . إذا انعقدت نفس الإنسان مع العلم في قسم النظر وأصبحت واحدة مع العلم ، فعند ذلك تكون قطعت نصف الطريق فقط ويلزم عقد آخر ، وذلك العقد الآخر ينعقد بين النفس وبين خلاصة تلك القضية ، وليس بين الموضوع والمحمول . العقد بين الموضوع والمحمول يسمى ( التحقيق ) والعقد بين ذلك الحق ( خلاصة التحقيق ) وبين النفس يسمى ( التحقيق والاعتقاد ) وهذا هو ( الإيمان ) .
ان الايمان ليس عمل عقل النظر ، بل عقل العمل ، يعقد عقل العمل بينه وبين عصارة التحقيق ، عقداً ويقول انني معتقد بهذه المسألة العميقة ، وهذه هي خلاصة العلم ، وهي نور ومتعلق بالنفس إذا كان شخص محققاً ولكن لم يكن متحققاً فهو يعيش بعقد واحد في الحقيقة ويعقد دائماً بين الموضوع والمحمول فقط ، ولا يطيع عقل العمل الذي يجب أن يطيعه ، ويقوم بشكل متواصل بحل العقد بين النفس وبين عصارة العلم ولا يسمح ان يصل العقد إلى النفس وتصبح النفس معتقدة ، بناء على هذا يقطع العمل طريقه ، ويقطع النظر طريقه ، لذا عندما سمع ذلك السالك هذه الآية


(186)

الكريمة :
( يا أيتها النفس المطمئنة * أرجعي إلى ربك راضية مرضية ) (1) .
اندهش ، وقال : أنا أقول تعالي ولكن هذه النفس لا تأتي ، أنا أشكو من نفسي . أي انني اشكو من جناح العمل والجذبة والسعي هذا ، أقول تعال ، لا يأتي وتعلق بالطبيعة ، ( اثاقلتم إلى الأرض ) (2) . ( أخلد إلى الأرض ) (3) . يسمع هذا النداء أن يقال لكن العقل لا يذهب ، العقل يفهم ، ولكن الذي يجب ان يذهب هو القلب ، والقلب إذا ابتلي بالإخلاد إلى الأرض ، لا يسافر ، العقل يسمع أمر الرجوع إلى الرب ، ولكن القلب لا يرجع .
بناء على هذا فإن هذا الجدال موجود دائماً بين العقل والقلب ، بين الذكر والفكر ، بين التفكير والسعي ، إذا استطاع أشخاص الملائمة بينهما في جبهة الجهاد الأكبر فـ ( طوبى لهم وحسن مآب ) (4) . السالك الجامع هو من أهل الفكر ومن أهل الذكر أيضاً ، محقق ومتحقق ، عالم وعادل ، وإذا لم يستطع الجمع إما أن يسقط أو يقطع قسماً من الطريق فقط .
إن المرأة والرجل وان اختلفا من حيث المركب ـ وهو البدن ـ وان كانا مختلفين من حيث أجهزة المخ ، ومن حيث أجنحة الفكر ، ليسا متساويين من حيث أجنحة الجذب والميل والانجذاب والعاطفة ، ويمكن أن يفكر أوساط من الرجال أفضل من أوساط من النساء ، ولكن لا يمكن ان يستطيع شخص إثبات ان أوساطاً من الرجال يطرحون ويقطعون أكثر من أوساط من
____________
(1) سورة الفجر ، الآيتين : 27 ـ 28 .
(2) سورة التوبة ، الآية : 38 .
(3) سورة الأعراف ، الآية : 176 .
(4) سورة الرعد ، الآية : 29 .

(187)

النساء طريق القلب ، طريق العاطفة ، طريق الموعظة ، طريق النصيحة ، الجذب ، السعي والجذبة بصورة أفضل ولا يوجد أي طريق لإثبات هذا الموضوع .

أهمية طريق القلب في القرآن والروايات :
نظرأً لأن القرآن ليس كتاب علم فقط ، بل كتاب نور (1) وهداية (2) ، لذا فانه لا يقتصر على توجيه الفكر بل يسعى بصورة مباشرة وغير مباشرة إلى مخاطبة القلب .
بيان المسألة هو أنه إذا أراد شخص تعليم مسألة لشخص ، فالمستمع في الحقيقة هو الجناح الفكري والعقل النظري لذلك الشخص ، والمدرس والمتكلم أو الكاتب له عمل مع الجهاز الفكري لقارىء أو السامع ، وبعد ذلك يتخذ قارىء أو سامع المسألة التي فهمها قراراً على أساس ذلك ، ويعمل بالشكل الذي يقبله ( أو الذي لا يقبله ) لذا قد يكتب الإنسان كتاباً فيه أثر علمي فقط أو يقول كلاماً فيه أثر فكري ، ولكن القرآن ليس كذلك ، فالقرآن في كثير من الآيات يتعامل مع القلب بمباشرة وفي بعضها يتكلم مع القلب بصورة غير مباشرة .
تلاحظون أن شخصاً إذا كتب موضوعاً جيداً بقلم جيد يتأثر القارىء بسرعة ، أو إذا قال أحد الصالحين والمتقين موعظة فإن أثرها يكون أعمق ، لأن هذا الأخير يتعامل بلغته مع فكر المستمع ، وكذلك مع ذكر وجهاز قبول المستمع ، إذا قرأ شخصاً شعراً جيداً يعرف مضمونه بدقة ويؤدية بلحن جيد فانه يؤثر ، سريعاً ، عندما يكون كل من المضمون والتلفظ واللافظ جيداً
____________
(1) ( فآموا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير ) سورة التغابن ، الآية : 8 .
(2) ( ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ) سورة البقرة ، الآية : 2 .

(188)

وحسناً ، فن المستمع عند الاستلام يستلم بجهاز الفكر وبجهاز الذكر والموعظة والجذب أيضاً . أو إذا كانت هناك مثلاً لوحة ملونة بلون جيد ، أو مكتوب عليها شعر أو مضمون نثري جيد فإن المشاهد يتأثر بسرعة ؛ لأن المضمون رفيع يقنع العقل والكيفية جميلة تعين جنبة العمل .
لذا قال تعالى لموسى وهارون عليهما السلام :
( فقولا له قولاً ليناً ) (1) .
أي تكلموا جيداً وتكلموا كلاماً جيداً أيضاً ، القول اللين لا يعني الضعيف ، لا يعني الموهون أو الموهوم . بل يعني المحكم والظريف ، لذا أقام موسى الكليم برهاناً قطعياً ، وتكلم أيضاً ببيان مليح ، وبين كذلك مسألة ( ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) (2) ، التي تتضمن ثلاثة أنظمة من النظام الداخلي ، الفاعلي والغائي في جملة قصيرة . هي قول محكم ، وتكلم مع فرعون بصورة موعظة وسألة موعظه وسأله إن كان راغباً في أن يقول كلاماً ينفعه ؟ هذا هو القول اللين .
على هذا الأساس قيل لنا أن لا ننظر في المسائل الفكرية إلى القائل .
« أنظر إلى ما قال ولا تنظر إلى من قال » (3) .
أما في مسائل القلب والمسائل التربوية فقد أوصينا أن نرى من القائل ، ولا نسمع أي كلام من أي شخص ، قال تعالى :
( فلينظر الإنسان إلى طعامه ) (4) .
____________
(1) سورة طه ، الآية : 44 .
(2) سورة طه ، الآية : 50 .
(3) كنز العمال ، ح 42218 وميزان الحكمة ، ج 6 ص 485 .
(4) سورة عبس ، الآية : 24 .

(189)

في سورة عبس آخر هذه الآية ورد أن الإمام السادس قال :
( علمه الذي يأخذ عمن يأخذه ) (1) .
وكذلك طبقاً لما ذكره المرحوم الكليني عندما سألوا المعصوم عليه السلام مع من نجلس ؟ من أي عالم نستفيد ؟ لم يقل ( انظر إلى ما قال ولا تنظر إلى من قال ) ، بل قال : اجلسوا إلى الشخص الذي :
( يذكركم الله رؤيته ويزيد في علمكم منطقه ويرغبكم في الآخرة عمله ) (2) .

ظرافة الميل القلبي في المرأة :
القرآن الكريم سعى لأن يتكلم مع الإنسان عن طريق الموعظة التي لها ارتباط مباشر بالقلب ، وكذلك عن طريق الحكمة التي لها ارتباط غير مباشر بالقلب وإذا لم تصل قناة العقل والفكر إلى دهليز الدخول إلى القلب والذكر فلا فائدة لها ، والنساء أكثر نجاحاً من الرجال في قسم القلب والميل والجذبة ، لذا تؤثر المناجاة في النساء أكثر من الرجال ، أو على الأقل مثل الرجال ، وتؤثر الموعظة في المرأة أكثر من الرجال أو بمساواة الرجال .
ليس الكلام فقط عن حجم مخ الرجل ، بل الكلام أيضاً عن ظرافة قلب المرأة ، ان المرأة تبكي أسرع بسبب أن جهاز قبولها أكثر عاطفية ، وأهم طريق ، هو طريق الذكر الذي مقدمته المرونة .
في القرآن الكريم عدة طوائف من الآيات بهذا الشأن ، بعض الآيات تتعلق بالعقل والتفكر التي يرافقها ( أفلا تعقلون ) (3) أو ( أفلا
____________
(1) أصول الكافي ، ج 1 ، ص 50 .
(2) أصول الكافي ، ج 1 ، ص 39 .
(3) سورة آل عمران ، الآية : 65 .

(190)

تتفكرون ) (1) . وبعضها يتعلق بطريق العمل . حيث قال : ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ) (2) .
هذا هو العقل العملي ، أحياناً يجمع هذين الاثنين معاً ، كما أنه يجمع التفكر والتعقل إلى جانب بعضهما ولكن ليس لدينا في القرآن سورة يكرر فيها الفكر . ولكن بعض سور القرآن يكرر فيها الذكر ، في سورة القمر كرر تعالى القول :
( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر ) (3) .
هذا المذكر يطلب متذكراً . القرآن كتاب تفكر وفكر وفيه آيات كثيرة تدعونا إلى التفكر والفكر ، ولكن لا يقول : هل هناك شخص ليصبح عالماً ؟ بل يقول هل يوجد أهل ذكر ؟ لم يقل هل يوجد أهل فكر ، لأن الفكر هو مقدمة للذكر .
بناء على هذا لا يمكن ان يقول شخص إن طريق القبول في المرأة اقل من الرجل . إذا كنا علماء ونتصور أن سعينا إلى حوزة والجامعة كافٍ ونقول : نحن وطريق المدرسة ، نحن وطريق الكتاب ، نحن وطريق الدرس والبحث والفهم ، من الممكن أن يأتي هذا السؤال إلى ذهن شخص ، ويقول يجب أن نفكر أعلى من هذا ولنعلم أن الحوزة والجامعة كلتاهما وسيلة حتى يصل الإنسان من التفكر إلى التذكر . عندما يقول الله تعالى إن كتابه هو كتاب ذكر وانه انزله للتذكر والتذكرة وهل من شخص يتذكر ، فهذا بمثابة هل من ناصر لله ، يطلب الله تعالى في هذه التعابير هل من متذكر ، هل من شخص يكون ذاكراً له ؟ عند ذلك نفهم ان المرأة هنا إن لم تقل لبيك قبل الرجل فعلى
____________
(1) سورة الأنعام ، الآية : 50 .
(2) سورة البقرة ، الآية : 44 .
(3) سورة القمر ، الآية : 17 .

(191)

الأقل يجيبان في وقت واحد .
نرى آل عمران ولدوا من امرأتين . في حال محراب ، الله تعالى لم يعط المسيح لمريم في الحوزة أو الجامعة . أعطاها في المحراب ، الملائكة لم يتكلموا مع مريم في الجامعة والحوزة ، بل تكلموا معها في المحراب . الملائكة لم يتكلموا مع زكريا في المراكز العلمية ، تكلموا معه في المحراب ، حيث قال :
( فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب ) (1) .
هذا المحراب هو حالة حرب . الصلاة هي محل حرب بين العقل والجهل . أحياناً يريد الإنسان النجاة من شر العلم . هذه الحرب تظهر في الصلاة ، وفي الصلاة ينجح الإنسان في التخلص من العلم ، يتخلص من شر الفهم . هذا الفهم يكون أحياناً علة للشر الذي يقول : ( أنا أعلم منه ) ، أما حين يتخلص الإنسان من شر الفهم ، فانه يجعل هذا الفهم مقدمة ويقول هكذا : إلهي فهمت أنك خلقتني من تراب حتى تجعلني متواضعاً لا أن تصب التراب على رأسي ، الفهم أساساً هو من أجل أن يمشي الإنسان ، لا من أجل أن يوجد داعية في الإنسان . إذ أخذ الذكر بزمام الفكر ، فهذا العلم هو :
« نور يقدمه الله في قلب من يشاء » (2) .
إذا لم يستطع الذكر أن يأخذ زمام الفكر ـ معاذ الله ـ فهذا هو التفاخر في العلم والتكاثر في المعلومات الذي يؤدي لأن يقول شخص إنني أفهم أفضل منه ، تأليفي أفضل ، تلاميذي أكثر ، درسي له راغبون أكثر ، أشرطة كاسيتي تؤخذ أكثر ، وهذه في الحقيقة أفاعٍ وعقارب تنفذ إلى النفس .
____________
(1) سورة آله عمران ، الآية : 39 .
(2) حديث نبويّ .

(192)

بناء على هذا لا يمكن القول أبداً : لأن حجم مخ المرأة أقل مثلاً : فانهن يختلفن عن الرجال في الرقي والحصول على السعادة . ليس هكذا ، بل الذي يتألم أكثر ، يصل إلى المقصد اسرع ولا يمكن القول أبداً : إن انين الرجل أكثر من المرأة ، ولا يمكن القول أبداً إن ذكر وتذكر وتذكرة هذه المجموعة أكثر من تلك المجموعة ، فالنتيجة انه عدا الناس الذين ذكرهم وفكرهم واحد ، سواء الزهراء أو علي عليهم السلام فان الأوساط من الناس قسمان . بعضهم طريق نظرهم أقوى . وبعضهم طريق علمهم أقوى .

تناسب الطريق مع سالكه :
بالنظر لأن طريق الوصول إلى المعارف الإلهية متعددة ، فمن الممكن أن يصل سالكوا هذا الطريق كل واحد من طرق خاصة إلى المقصد ( كلّ ميسر لما خلق له ) (1) . إن الله تعالى سهل قطع الطريق لكل سالك .
( ثم السبيل يسره ) (2) .
إي أن الله يسر قطع الطريق ، ولكن لا أن يكون قطع جميع الطرق سهلاً لجميع السالكين ، بل ان قطع كل طريق يكون سهلاً لسالك ذلك الطريق . ( كل ميسر لما خلق له ) ، وكما أن في صنف الرجال ، يختار كل شخص طريقاً خاصاً ، كذلك صنف المراة أيضاً ، كل مرأة تختار طريقها الخاص ، ومن الممكن أن يكون الطريق الذي تختاره امرأة صعباً على امرأة أخرى ، وكذلك من الممكن أن يكون قطع طريق النساء صعباً على الرجال ، وقطع طريق الرجال غير سهل على النساء أيضاً .
إذا كان جهاز وحجم مخ الرجل أكثر من جهاز وحجم مخ المرأة ،
____________
(1) سفينة البحار ، مادة يس ص 732 .
(2) سورة عبس ، الآية : 20 .

(193)

وافترضنا ان الرجل أقوى من المرأة في مسائل التفكير والفكر ، فلا يكون الرجل أيضاً أقوى في مسائل أخرى ، لأن طريق الفكر ليس هو كل الطرق فطريق الذكر ، والمحبة والموعظة ، ان لم يكن أقوى من طريق الفكر والتفكر ، فهو ليس أضعف منه .
هذان الطريقان لاءم بينهما القرآن ، ولو أراد شخص أن يصبح قوياً في طريق الجزم والنظر ، يجب أن يصل إلى العزم والتصميم أيضاً ، حتى يصبح حياً ، كما ان الشخص إذا كان قوياً في طريق العزم والتصميم ، يجب ان يصل إلى الجزم والفكر أيضاً ، حتى يصل إلى حياة أفضل ، القرآن يلائم دائماً بين جزم النظر وعزم العمل ، إذ من مجموع العلم والعمل ، والعمل والقوة تنشأ الحياة ، فالشخص الذي يعلم فقط لا يعتبره القرآن حياً ، والشخص الذي يعمل فقط ولكن ليس على أساس الفكر ، لا يعتبره القرآن متمتعاً بحياة طيبة ، حياة طوبى هي في ظل العلم الصادق والعلم الصحيح ، وللتلاؤم بين هذين الجناحين يطرح القرآن طريق العمل عندما يعرض المسائل العلمية ، وعندما ينصب طرق الذكر والموعظة للسالك ، يقدم له أيضاً طريق التفكر والفكر ، وإذا كان سالكوا هذا الطريق بعضهم أقوى في النظر ، وبعضهم في العمل فالنتيجة أن من الممكن أن يصلا إلى مقصد واحد ، وطريق القلب وهو طريق الموعظة والذكر والنصيحة ، إذا لم يكن النساء أقوى فيه من الرجال فلسن أضعف ، إذن لا يمكن القول إن المرأة في المعارف أقل من الرجل ، لأن المعارف ليست محدودة وخاصة بالفكر .

ارتباط القلب والعقل في منظار القرآن :
من أجل ان يربط القرآن الكريم طريق القلب وطريق العقل معاً ، ويعتبر العلم معبراً للعمل ، يطرح السيرة العلمية للأنبياء ، وكذلك سيرة الحكماء الصالحين بهذا الشكل ، وهي أنهم يتعلمون ويعلمون العلم مقروناً


(194)

بالعمل ، فمثلاً إبراهيم الخليل عليه السلام حين يعتزم طرح المسائل التوحيدية يقول :
( لا أحب الآفلين ) (1) .
إن ملة إبراهيم الخليل حصلت على رسمية بحيث أن القرآن دعانا إلى تعلم ملته ، فقال :
( ملّة أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين من قبل ) (2) .
قال إبراهيم عليه السلام بعرض طريق البصر وطريق القلب بدلاً من استدلال النظر وذلك في مقام طرح التوحيد وطرد الشرك فهو لا يدخل عن طريق البرهان ولا يقول : انه نظراً لأن الكوكب يتحرك والمتحرك يريد محركاً ، وإذن لا يمكن أن يكون المتحرك رباً ، بناء على هذا فمحركه هو الرب ، لأن برهان الحركة أو برهان الحدوث او برهان الإمكان وأمثال ذلك هي مجموعة أفكار نظرية .

أسلوب إبراهيم عليه السلام :
فسر الحكماء أصحاب الرأي والمتكلمون والمحققون وأهل التفسير كل منهم أسلوب خليل الرحمن هذا بنوع من التفسير ، بعضهم قال : إن مقصود إبراهيم الخليل عليه السلام هو إقامة برهان الإمكان ، أي بالنظر لأن الكواكب ( القمر والشمس ) هي ممكنة والممكن محتاج إلى الواجب فهي إذن ليست واجبة . بعض آخر قالوا : إن مراد إبراهيم عليه السلام ، هو برهان الحدوث ولأن هذه الكواكب حادثة لذا تتطلب محدثاً . وبعض آخر قالوا :
____________
(1) ( فلمّا جنّ عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلمّا اَفَلَ قال لا أحب الآفلين ) . سورة الأنعام ، الآية : 76 .
(2) سورة الحج ، الآية : 78 .

(195)

الاستدلال عن طريق برهان الحركة ، أي لأنها متحركة ، تتطلب محركاً ، وبعض طبقوا ذلك على برهان النظم ، أي أن السير المنتظم للشمس والقمر والكواكب وأمثالها هو دليل على وجود الناظم .
هذه البراهين كل منها بمقدارها مقبولة وتحظى بالاهتمام في محلها ، ولكن ظاهر الآية لا ينسجم مع أي منها ، ليس مراد الآية أن إبراهيم عليه السلام عرف الله بالطرق المذكورة ، بل إبراهيم الخليل يقول ( إني لا أحب الآفلين ) أي أن الله هو الذي يكون محبوباً ، والشيء الآفل ليس محبوباً ، فالشيء المحكوم بالأفول ليس رباً . ان الشمس والقمر ليسا رباً لأنهما ليسا محبوبين ، وليس من ناحية أنهما ممكنا الوجود . هنا جعل المحبة الحد الوسط للبرهان ، والمحبة ليست عمل العقل ، بل هي عمل القلب ، وإبراهيم عليه السلام أصبح خليل الرحمن من ناحية انه عرف الله عن طريق المحبة ، وليس عن طريق الفكرة ، فهو عرف الله بالذكر والرغبة وليس بالفكر .
في الكتب العقلية لا يطرح مثل هذا الكلام أبداً بأن يقول إنسان : إني لا أحب الآفل ، ويقول آخر إني أحبه . القرآن الذي هو كتاب نور ربط طريق القلب مع طريق العقل وعمل على انسجامهما ، لذا نرى انه في معرفة الله التي هي أبرز معرفة دينية ، مزج وعلم طريق القلب وطريق الفكر معاً .

سيرة لقمان الحكيم في التعليم والتربية :
قال تعالى بشأن لقمان :
( ولقد آتينا لقمان الحكمة ) (1) .
وقال تعالى :
____________
(1) سورة لقمان ، الآية : 12 .
(196)

( يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ) (1) .
ومن جمع هاتين الآيتين يستنبط ان لقمان الحكيم كان يتمتع بخير كثير . والله تعالى يعدّ كل الدنيا متاعاً قليلاً ويقول :
( قل متاع الدنيا قليل ) (2) .
ولكنه يعدّ الحكمة خيراً كثيراً وليس متاعاً كثيراً . وعندما يتكلم عن كلمات لقمان الحكيمة ، فإن أول كلام ينقله عن لقمان هو :
( يا بنيّ لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ) (3) .
ويقيم تعالى ، البرهان أحياناً لنفي الشرك ، ويقول :
( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) (4) .
هذا هو طريق الفكر والنظر لإقامة التوحيد ، وأحياناً نقرأ ( لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ) وهذا طريق الذكر وطريق العمل ، طريق العقل العملي والحكمة العملية ، يقول : إن الشرك سيّىء لأنه ظلم وعلى خلاف العقل العملي والقلب ، وليس مذموماً لأنه على خلاف العقل النظري فقط . ورغم ان القرآن الكريم يذكر الشرك بوصفه مسألة بدون البرهان ، أي أن الشرك لا يقبل الإثبات أبداً ، والذي يدعيه لا يستطيع أبداً الاستدلال على ذلك .
( ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند
____________
(1) سورة البقرة ، الآية : 269 .
(2) سورة النساء ، الآية : 77 .
(3) سورة لقمان ، الآية : 13 .
(4) سورة الأنبياء ، الآية : 22 .

(197)

ربّه) (1) .
أي أن الشرك هو أمر باطل وغير مبرهن . أما لقمان الحكيم فيثبت في تعليمه وتربيته مسألة نفي الشرك عن طريق عقل العمل وحكمة العمل ، أن قبح الظلم وحسن العدل لا يرتبط بعقل النظر والفكر بل يرتبط بطريق الذكر ، لأن مسألة الميل إلى العدل والنفور من الظلم ليس لها ارتباط بطريق الفكر . من الممكن أن يدرك الفكر قبح الظلم أو حسن العدالة ، أما تلك الجنبة من النفس التي لها ميل إلى العدل ونفور من الظلم فهي جنبة العمل والقلب وليس جنبة العقل والفكر .
فاتضح ان القرآن الكريم يربط هذه الطرق معاً حتى يستطيع الشخص جبران ضعف طريق العقل بقوة طريق القلب . وإذا أصبح شخص أقوى في طريق العقل والفكر يستطيع ترميم ضعف طريق القلب في ظل قوة العقل . لأن كل شخص مناسب للطريق الذي اختاره ، من هنا لا يمكن القول : إن صنفاً من الناس مقدم على صنف آخر ، أو أن ما يتمتعون به أكثر .

خلاصة البحث :
الشيء المهم الذي شغل الأذهان هو أن المرأة ضعيفة في مسائل التفكير ، حيث ان هذا الأمر قد بين بالتفضيل ، وهو أنه إذا سلم أن الرجل يفهم أفضل من المرأة ، فانه لم يثبت ان المرأة تقبل الموعظة أقل من الرجل ، وللوصول إلى المعارف الالهية ، هناك طريقان ، أحدهما طريق الفكر والآخر طريق الذكر ، أحدهما طريق العقل والآخر طريق القلب ، وإذا لم يكن ميل واتعاظ المرأة أكثر من الرجل ، فهي ليست أقل من الرجل . أحياناً يكون لدى الإنسان فكر قوي حتى يتحرك القلب في ظل الفكر ، وأحياناً يتحرك
____________
(1) سورة المؤمنون ، الآية : 117 .