الاْنَ عِبَادَ اللهِ وَالْخِنَاقُ(3) مُهْمَلٌ، وَالرُّوحُ مُرْسَلٌ، فِي فَيْنَةِ(4) الاِرْشَادِ، وَرَاحَةِ الاَْجْسَادِ، [وَبَاحَةِ الاحْتِشَادِ](5)، وَمَهَلِ الْبَقِيَّةِ، وَأُنُفِ الْمَشِيَّةِ(6)، وَإِنْظَارِ التَّوْبَةِ، وَانْفِسَاحِ الْحَوْبَةِ(7) قَبْلَ الضَّنْكِ(8) وَالْمَضِيقِ، وَالرَّوْعِ(9) وَالزُّهُوقِ(10)، وَقَبْلَ قُدُومِ الْغَائِبِ المُنتَظَرِ(11)، وَإِخْذَةِ الْعَزِيزِ الْمُقْتَدِرِ.
وفي الخبر: أنّه(عليه السلام) لمّا خطب بهذه الخطبة اقشعرت لها الجلود، وبكت العيون، ورجفت القلوب. ومن الناس من يسمي هذه الخطبة: «الغراء». |
____________
1. القِيد ـ بكسر القاف ـ: المقدار. والقد ـ بكسر القاف وفتحها ـ: القامة، والمراد مضجعه من القبر لانّه بمقدار قامة الانسان.
2. متعفّراً: قد لازم العَفَر أي التراب.
3. الخناق: الحبل الذي يُخْنَقُ به، وإهماله: عدم شدّهِ على العنق مدى الحياة.
4. الفَيْنة ـ بالفتح ـ: الحال والساعة والوقت.
5. باحَةُ الدار: ساحتها.
6. أُنُف ـ بضمتين ـ: مستأنف. والمَشِيّة ـ بتسهيل الهمزة وتشديد الياء ـ: أي المشيئة والارادة.
7. الحَوْبة: الحاجة والارَب; وانفساحها: سَعَتُها.
8. الضّنْك: الشدة.
9. الرّوْع: الخوف.
10. الزّهُوق: الاضمحلال.
11. الغائب المنتظر: الموت.
[ 83 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
في ذكر عمروبن العاص
عَجَباً لاِبْنِ النَّابِغَةِ(1)! يَزْعُمُ لاَِهْلِ الشَّامِ أَنَّ فِيَّ دُعَابَةً(2)، وَأَنِّي امْرُؤٌ تِلْعَابَةٌ(3): أُعَافِسُ وَأُمَارِسُ(4)! لَقَدْ قَالَ بَاطِلاً، وَنَطَقَ آثِماً.
أَمَا ـ وَشَرُّ الْقَوْلِ الْكَذِبُ ـ إِنَّهُ لَيَقُولُ فَيَكْذِبُ، وَيَعِدُ فَيُخْلِفُ، وَيُسْأَلُ فَيَبْخَلُ، وَيَسْأَلُ فَيُلْحِفُ(5)، وَيَخُونُ الْعَهْدَ، وَيَقْطَعُ الاِْلَّ(6); فَإِذَا كَانَ عِنْدَ
____________
1. النابغة: المشهورة فيما لا يليق بالنساء، من «نبغ» إذا ظهر.
2. الدُعابة ـ بالضم ـ: المزاح واللعب.
3. تِلعابة ـ بكسر التاء ـ: كثير اللعب.
4. أُعافِس: أعالج الناس وأُضاربهم مِزاحاً، ويقال: المعافسة: معالجة النساء بالمغازلة والممارسة كالمُعافَسة.
5. يُلْحِف: أي يلح.
6. الالّ ـ بالكسر ـ: القرابة، والمراد من قطع الالّ أن يقطع الرحم.
أَمَا واللهِ إِنِّي لَـيَمْنَعُنِي مِنَ اللَّعِبِ ذِكْرُ الْموْتِ، وَإِنَّهُ لَْيمَنَعُهُ مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ نِسْيَانُ الاْخِرَةِ، إِنَّهُ لَمْ يُبَايعْ مُعَاوِيَةَ حَتَّى شَرَطَ لَهُ أَنْ يُؤْتِيَهُ أَتِيَّةً(2)، وَيَرْضَخَ لَهُ عَلَى تَرْكِ الدِّينِ رَضِيخَةً(3).
منها:
فَاتَّعِظُوا عِبَادَ اللهِ بِالعِبَرِ النَّوَافِعِ، وَاعْتَبِرُوا بِالاْي السَّوَاطِعِ(1)، وَازْدَجِرُوا بِالنُّذُرِ الْبَوَالِغِ(2)، وَانْتَفِعُوا بِالذِّكْرِ وَالْمَوَاعِظِ، فَكَأَنْ قَدْ عَلِقَتْكُمْ مَخَالِبُ الْمَنِيَّةِ، وَانْقَطَعَتْ مِنْكُمْ عَلاَئِقُ الاُْمْنِيَّةِ، وَدَهِمَتْكُمْ مُفْظِعَاتُ الاُْمُورِ(3)، وَالسِّيَاقَةُ إِلى الْوِرْدِ المَوْرُودِ(4)، (وَكُلُّ نَفْس مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ): سَائِقٌ يَسُوقُهَا إِلَى مَحْشَرِهَا; وَشاهِدٌ يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِعَمَلِهَا.
منها: في صفة الجنّة
دَرَجَاتٌ مُتَفَاضِلاَتٌ، وَمَنَازِلُ مُتَفَاوِتَاتٌ، لاَ يَنْقَطِعُ نَعِيمُهَا، وَلاَ يَظْعَنُ مُقِيمُهَا، وَلاَ يَهْرَمُ خَالِدُهَا، وَلاَ يَبْأَسُ(5) سَاكِنُهَا.
[عظة النّاس]
فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُ مِنْكُمْ فِي أَيَّامِ مَهَلِهِ، قَبْلَ إِرْهَاقِ أَجَلِهِ(1)، وَفِي فَرَاغِهِ قَبْلَ أَوَانِ شُغُلِهِ، وَفِي مُتَنَفَّسِهِ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ بِكَظَمِهِ(2)، وَلْـيُمَهِّدْ لِنَفْسِهِ وَقَدَمِهِ، وَلْيَتَزَوَّدْ مِنْ دَارِ ظَعْنِهِ لِدَارِ إِقَامَتِهِ.
فَاللهَ اللهَ أَيُّهَا النَّاسُ، فِيَما اسْتَحْفَظَكُمْ مِنْ كِتَابِهِ، وَاسْتَوْدَعَكُمْ مِنْ حُقُوقِهِ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً، وَلَمْ يَتْرُكْكُمْ سُدىً، وَلَمْ يَدَعْكُمْ فِي جَهَالَة وَلاَ عَمىً، قَدْ سَمَّى آثَارَكُمْ(3)، وَعَلِمَ أعْمَالَكُمْ، وَكَتَبَ آجَالَكُمْ، وَأَنْزَلَ عَلَيْكُمُ (الْكِتَابَ تِبْيَاناً)، وَعَمَّرَ فِيكُمْ نَبِيَّهُ(4) أَزْمَاناً، حَتَّى أَكْمَلَ لَهُ وَلَكُمْ ـ فِيَما أنْزَلَ مِنْ كِتَابِهِ ـ [دِينَهُ] الَّذِي رَضِيَ لِنفْسِهِ، وَأَنْهَى إِلَيْكُمْ ـ عَلَى لِسَانِهِ ـ مَحَابَّهُ(5) مِنَ الاَْعْمَالِ وَمَكَارِهَهُ، وَنَوَاهِيَهُ وَأَوَامِرَهُ، فَأَلقَى إِلَيْكُمُ
____________
1. إرْهاق الاجل: أن يُعْجِلَ المُفَرّط عن تَدَارُكَ ما فاته من العمل، أي: يحول بينه وبينه.
2. الكَظَم ـ بالتحريك ـ: الحلق، أو مخرج النّفس; والاخذ بالكَظَم كناية عن التضييق عند مداركة الاجل.
3. سَمّى آثاركم: بين لكم أعمالكم وحَدّدها.
4. عَمّرَ نبيّه: مدّ في أجله.
5. مَحَابّه: مواضع حبّه، وهي الاعمال الصالحة.
فَاسْتَدْرِكُوا بَقِيَّةَ أَيَّامِكُمْ، وَاصْبِرُوا لَهَا أَنْفُسَكُمْ(1)، فَإِنَّهَا قَلِيلٌ فِي كَثِيرِ الاَْيَّامِ الَّتِى تَكُونُ مِنْكُم فِيهَاالْغَفْلَةُ وَالتَّشَاغُلُ عَنِ الْمَوْعِظَةِ; وَلاَ تُرَخِّصُوا لاَِنْفُسِكُمْ، فَتَذْهَبَ بِكُمُ الرُّخَصُ مَذَاهِبَ الْظَّلَمَةِ(2)، وَلاَ تُدَاهِنُوا(3) فَيَهْجُمَ بِكُمُ الاِْدْهَانُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ.
عِبَادَ اللهِ، إِنَّ أَنْصَحَ النَّاسِ لِنَفْسِهِ أَطْوَعُهُمْ لِرَبِّهِ، وَإِنَّ أَغَشَّهُمْ لِنَفْسِهِ أَعْصَاهُمْ لِرَبِّهِ; وَالْمَغْبُونُ(4) مَنْ غَبَنَ نَفْسَهُ، وَالْمَغْبُوطُ(5) مَنْ سَلِمِ لَهُ دِينُهُ، وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ، وَالشَّقِيُّ مَنِ انْخَدَعَ لِهَوَاهُ وَغُرُورِهِ.
وَاعْلَمُوا أَنَّ يَسِيرَ الرِّيَإِ(6) شِرْكٌ، وَمُجَالَسَةَ أَهْلِ الْهَوَى مَنْسَاةٌ
____________
1. اصبروا أنفسكم: اجعلوا لانفسكم صبراً فيها.
2. الظّلَمة: جمع ظالم.
3. المُداهَنَة: إظهار خلاف ما في الطّوِيّة، والادهان مثله.
4. المَغْبون: المخدوع.
5. المَغْبُوط: المستحق لتطلّع النفوس إليه، والرغبة في نيل مثل نعمته.
6. الرياء: أن تعمل ليراك الناس، وقلبك غير راغب فيه.
جَانِبُوا الْكَذِبَ فَإِنَّهُ مُجَانِبٌ لِلاِْيمَانِ، الصَّادِقُ عَلَى شَفَا مَنْجَاة وَكَرَامَة، وَالْكَاذِبُ عَلَى شَرَفِ مَهْوَاة وَمَهَانَة.
لاَ تَحَاسَدُوا، فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الاِْيمَانَ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ، وَلاَ تَبَاغَضُوا فَإِنَّهَا الْحَالِقَةُ(3)، وَاعْلَمُوا أَنَّ الاَْمَلَ يُسْهِي الْعَقْلَ، وَيُنْسِي الذِّكْرَ، فَأَكْذِبُوا الاَْمَلَ فَإِنَّهُ غُرُورٌ، وَصَاحِبُهُ مَغْرُورٌ.
قَدْ خَلَعَ سَرَابِيلَ الشَّهَوَاتِ، وَتَخَلَّى مِنَ الْهُمُومِ، إِلاَّ هَمّاً وَاحِداً انْفَرَدَ بِهِ، فَخَرَجَ مِنْ صِفَةِ الْعَمَى، وَمُشَارَكَةِ أَهْلِ الْهَوَى، وَصَارَ مِنْ مَفَاتِيحِ أَبْوَابِ الْهُدَى، وَمَغَالِيقِ أَبْوَابِ الرَّدَى.
قَدْ أبْصَرَ طَرِيقَهُ، وَسَلَكَ سَبِيلَهُ، وَعَرَفَ مَنَارَهُ، وَقَطَعَ غِمَارَهُ(4)، وَاسْتَمْسَكَ مِنَ الْعُرَى بِأَوْثَقِهَا، وَمِنَ الْحِبَالِ بِأَمْتَنِهَا، فَهُوَ مِنَ الْيَقِينِ عَلَى مِثْلِ ضَوْءِ الشَّمْسِ، قَدْ نَصَبَ نَفْسَهُ للهِ ـ سُبْحَانَهُ ـ فِي أَرْفَعِ الاُْمُورِ، مِنْ إِصْدَارِ كُلِّ وَارِد عَلَيْهِ، وَتَصْيِيرِ كُلِّ فَرْع إِلى أَصْلِهِ. مِصْبَاحُ ظُلُمَات، كَشَّافُ غَشَوَات، مِفْتَاحُ مُبْهَمَات، دَفَّاعُ مُعْضِلاَت، دَلِيلُ فَلَوَات(5)، يَقُولُ فَيُفْهِمُ، وَيَسْكُتُ فَيَسْلَمُ.
____________
1. القِرَى ـ بالكسر ـ: ما يُهَيّأ للضيف، وهو هنا العمل الصالح يهيّئه للقاء الموت وحلول الاجل. 2. النّهَلُ: أول الشرب، والمراد: أخذ حظاً لا يحتاج معه إلى العمل، وهو الشرب الثاني.
3. الجَدد ـ بالتحريك ـ: الارض الغليظة، أي: الصلبة المستوية، ومثلها يسهل السير فيه.
4. الغِمار: جمع غَمْر ـ بالفتح ـ وهو معظم البحر، والمراد أنه عبر بحار المهالك إلى سواحل النجاة.
5. الفَلَوَات: جمع فَلاة، وهي الصحراء الواسعة، مجاز عن مجالات العقول في الوصول إلى الحقائق.
قَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْعَدْلَ، فَكَانَ أَوَّلَ عَدْلِهِ نَفْيُ الْهَوَى عَنْ نَفْسِهِ، يَصِفُ الْحَقَّ وَيَعْمَلُ بِهِ، لاَ يَدَعُ لِلْخَيْرِ غَايَةً إِلاَّ أَمَّهَا(1)، وَلاَ مَظِنَّةً(2) إِلاَّ قَصَدَهَا، قَدْ أَمْكَنَ الْكِتَابَ مِنْ زِمَامِهِ(3)، فَهُوَ قَائِدُهُ وَإِمَامُهُ، يَحُلُّ حَيْثُ حَلَّ ثَقَلُهُ(4)، وَيَنْزِلُ حَيْثُ كَانَ مَنْزِلُهُ.
[صفات الفساق]
وَآخَرُ قَدْ تَسَمَّى عَالمِاً وَلَيْسَ بِهِ، فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَّال وَأَضَالِيلَ مِنْ ضُلاَّل، وَنَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكاً مِنْ حبالِ غُرُور، وَقَوْلِ زُور، قَدْ حَمَلَ الْكِتَابَ عَلَى آرَائِهِ، وَعَطَفَ الْحَقَّ(5) عَلى أَهْوَائِهِ، يُؤْمِنُ مِنَ الْعَظَائِمِ، وَيُهَوِّنُ كَبِيرَ الْجَرَائِمِ، يَقُولُ: أَقِفُ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ، وَفِيهَا وَقَعَ، وَيَقُولُ: أَعْتَزِلُ الْبِدَعَ، وَبَيْنَهَا اضْطَجَعَ، فَالصُّورَةُ صُورَةُ إِنْسَان، وَالْقَلْبُ قَلْبُ حَيَوَان، لاَ يَعْرِفُ بَابَ الْهُدَى فَيَتَّبِعَهُ، وَلاَ بَابَ الْعَمَى فيَصُدَّ عَنْهُ، فَذلِكَ مَيِّتُ الاَْحْيَاءَ!
____________
1. أمّها: قَصَدَها.
2. مظنّة: أي موضع ظنّ لوجود الفائدة.
3. أمْكَنَهُ من زِمامِهِ: تمثيل لانقياده إلى أحكامه، كأنه مطية والكتاب يقوده إلى حيث شاء.
4. ثَقَلُ المسافر ـ محرّكةً ـ: متاعه وحَشَمه; وثَقَلُ الكتاب: ما يحمل من أوامرَ ونَوَاه.
5. عَطَفَ الحقّ: حمل الحقّ على رغباته، أي: لا يعرف حقّاً إلا إياها.
[عترة النبي]
(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ)؟ و (أَنَّى تُؤْفَكُونَ)(1)! وَالاَْعْلاَمُ(2) قَائِمَةٌ، وَالاْيَاتُ وَاضِحَةٌ، وَالْمَنَارُ(3) مَنْصُوبَةٌ، فَأَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ(4)؟ بَلْ كَيْفَ تَعْمَهُونَ(5) وَبَيْنَكُمْ عِتْرَةُ(6)نَبِيِّكُمْ؟ وَهُمْ أَزِمَّةُ الْحَقِّ، وَأَلْسِنَةُ الصِّدْقِ! فأَنْزِلُوهُمْ بِأَحْسَنِ مَنَازِلِ القُرْآنِ، وَرِدُوهُمْ وُرُودَ الْهِيمِ الْعِطَاشِ(7).
أَيُّهَا النَّاسُ، خُذُوهَا عَنْ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ(صلى الله عليه وآله): «إِنَّهُ يَمُوتُ مَنْ مَاتَ مِنَّا وَلَيْسَ بِمَيِّت، وَيَبْلَى مَنْ بَلِيَ مِنَّا وَلَيْسَ بِبَال»، فَلاَ تَقُولُوا بِمَا لاَتَعْرِفُونَ،
____________
1. تُؤفَكُون: تُقْلبون وتُصرفون، بالبناء للمجهول.
2. الاعلام: الدلائل على الحق من معجزات ونحوها.
3. المنار: جمع منارة.
4. يُتاه بكم: من التّيه بمعنى الضلال والحَيْرة.
5. تَعْمَهون: تتحيّرون.
6. عِتْرَة الرّجلِ: نَسْلُه ورَهْطُه. 7. رِدُوهم وُرُودَ الهيمِ العِطاش: أي هَلُمّوا إلى بحار علومهم مسرعين كما تسرع الهيم ـ أي الابل العطشى ـ إلى الماء.
منها: [في الظنّ الخاطئ]
حَتَّى يَظُنَّ الظَّانُّ أَنَّ الدُّنْيَا مَعْقُولَةٌ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ(3)، تَمْنَحُهُمْ دَرَّهَا(4)، وَتُورِدُهُمْ صَفْوَهَا، وَلاَ يُرْفَعُ عَنْ هذِهِ الاُْمَّةِ سَوْطُهَا وَلاَ سَيْفُهَا، وَكَذَبَ الظَّانُّ لِذلِكَ. بَلْ هِيَ مَجَّةٌ(5) مِنْ لَذِيذِ الْعَيْشِ يَتَطَعَّمُونَهَا بُرْهَةً، ثُمَّ يَلْفِظُونَهَا جُمْلَةً!
____________
1. الثّقَل ـ هنا ـ: بمعنى النفيس من كل شيء وفي الحديث عن النبىِ(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «تركتُ فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي» أي: النفيسين.
2. فرَشْتُكُمْ: بَسَطْتُ لكم.
3. معقولة عليهم: مسخّرة لهم، كأنّهم شدّوها بعقال كالناقة.
4. تمنحهم دَرّها: أي لبنها.
5. مَجّة ـ بفتح الميم ـ: مصدر مرة من «مجّ الشراب من فيه» إذا رَمَى بِهِ.
[ 87 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[وفيها بيان للاسباب التي تهلك الناس]
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحانَهُ لَمْ يَقْصِمْ(1) جَبَّارِي دَهْر قَطُّ إِلاّ بَعْدَ تَمْهِيل وَرَخَاء، وَلَمْ يَجْبُرْ عَظْمَ(2) أَحَد مِنَ الاُْمَمِ إِلاَّ بَعْدَ أَزْل(3) وَبَلاَء، وَفِي دُونِ مَا اسْتَقْبَلْتُمْ مِنْ خَطْب وَاسْتَدْبَرْتُمْ مِنْ خَطْب مُعْتَبَرٌ! وَمَا كُلُّ ذِي قَلْب بَلَبِيب، وَلاَ كُلُّ ذِي سَمْع بِسَمِيع، وَلاَ كُلُّ ذِي نَاظِر بِبَصِير.
فَيَا عَجَباً! وَمَا لِيَ لاَ أَعْجَبُ مِنْ خَطَإِ هذِهِ الْفِرَقِ عَلَى اختِلاَفِ حُجَجِهَا فِي دِينِهَا! لاَ يَقْتَصُّونَ أَثَرَ نَبِيٍّ، وَلاَيَقْتَدُونَ بَعَمَلِ وَصِيٍّ، وَلاَ يُؤْمِنُونَ بَغَيْب، وَلاَ يَعِفُّونَ(4) عَنْ عَيْب، يَعْمَلُونَ فِي الشُّبُهَاتِ، وَيَسِيرُونَ فِي الشَّهَوَاتِ، الْمَعْرُوفُ فِيهمْ مَا عَرَفُوا، وَالْمُنْكَرُ عِنْدَهُمْ مَا أَنْكَرُوا، مَفْزَعُهُمْ فِي
____________
1. يَقصِم: يُهْلِك، وحدّ القصم الكسر.
2. جَبِرَ العظمَ: طيّبَه بعد الكسر حتى يعود صحيحاً.
3. الازْل ـ بفتح الهمزة وسكون الزاي ـ: الشدّة.
4. ولا يَعِفّون ـ بكسر العين وتشديد الفاء ـ: من «عَفَفْت عن الشيء» إذا كففت عنه، أي يستحسنون ما بدالهم استحسانه، ويستقبحون ما خطر لهم قبحه بدون رجوع إلى دليل بيّن، أوشريعة واضحة، يثق كل منهم بخواطر نفسه، كأنه أخذ منها بالعروة الوثقى على ما بها من جهل ونقص.
وَاللهِ مَا أَسْمَعَكُمُ الرَّسُولُ(صلى الله عليه وآله) شَيْئاً إِلاَّ وَهَا أَنَا ذَا الْيَوْمَ مُسْمِعُكُمُوهُ، وَمَا أَسْمَاعُكُمُ الْيَوْمَ بِدُونِ أَسْمَاعِكُمْ بِالاَْمْسِ، وَلاَ شُقَّتْ لَهُمُ الاَْبصَارُ، وَجُعِلَتْ لَهُمُ الاَْفْئِدَةُ في ذلِكَ الاَْوَانِ، إِلاَّ وَقَدْ أُعْطِيتُمْ مِثْلَهَا فِي هذَا الزَّمَانِ. وَوَاللهِ مَا بُصِّرْتُمْ بَعْدَهُمْ شَيْئاً جَهِلُوهُ، وَلاَ أُصْفِيتُمْ بِهِ(3) وَحُرِمُوهُ، وَلَقَدْ نَزَلَتْ بِكُمُ الْبَلِيَّةُ جَائِلاً خِطَامُهَا(4)، رِخْواً بِطَانُهَا(5)، فَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ مَا أَصْبَحَ فِيهِ أَهْلُ الْغُرُورِ، فَإِنَّمَا هَوَ ظِلٌّ مَمْدُودٌ، إِلَى أَجَل مَعْدُود.
____________
1. مُرْتَهَنُون: أي محبوسون على عواقبها في الدنيا من الذل والضعف.
2. الاحْقَاب: جمع حُقب ـ بالضم وبضمتين ـ قيل: ثمانون سنة، وقيل أكثر، وقيل: هو الدهر.
3. أُصْفِيتم: أي خُصصتم، مبني للمجهول.
4. الخِطام ـ ككتاب ـ: ما جُعل في أنف البعير لينقاد به، وجولان الخطام: حركته وعدم استقراره، لانّه غير مشدود.
5. بِطان البعير:حِزامٌ يُجْعَلُ تحت بطنه، ومتى استرخى كان الراكب على خطر السقوط.
[ 89 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[وتشتمل على قِدم الخالق وعظم مخلوقاته، ويختمها بالوعظ]
[الْحَمْدُ للهِ] الْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَة، الْخَالِقِ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّة(1)، الَّذِي لَمْ يَزَلْ قَائِماً دَائِماً; إِذْ لاَ سَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاج، وَلاَ حُجُبٌ ذَاتُ إِرْتَاج(2)، وَلاَ لَيْلٌ دَاج(3)، وَلاَ بَحْرٌ سَاج(4)، وَلاَ جَبَلٌ ذُوفِجَاج(5)، وَلاَ فَجٌّ ذُواعْوِجَاج، وَلاَ أَرْضٌ ذَاتُ مِهَاد(6)، وَلاَ خَلْقٌ ذُوااعْتَِماد(7): ذلِكَ مُبْتَدِعُ الْخَلْقِ(8)
____________
1. روية: فكر، وامعان نظر، وأصلها الهمز، لقولك: رأوت في الامر.
2. الارتاج: جمع رَتَج ـ بالتحريك ـ وهو الباب العظيم.
3. الداجي: المظلم.
4. الساجي: الساكن.
5. الفِجاج: جمع فَجّ، وهو الطريق الواسع بين جبلين.
6. المِهاد ـ بزنة كتاب ـ: الفِراش.
7. الخَلق: بمعنى المخلوق; ذواعتماد: أي بطش وتصرف بقصد وإرادة.
8. مُبْتدع الخلق: منشئه من العدم المحض.
قَسَمَ أَرْزَاقَهُمْ، وَأَحْصَى آثَارَهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ، وَعَدَدَ أنْفاسَهُمْ، وَخَائِنَةَ أعْيُنِهِمْ(3) وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ مِنَ الضَّمِيرِ، وَمُسْتَقَرَّهُمْ وَمُسْتَوْدَعَهُمْ مِنَ الاَْرْحَامِ وَالظُّهُورِ، إِلَى أَنْ تَتَنَاهَى بِهِمُ الْغَايَاتُ.
هُوَ الَّذِي اشْتَدَّتْ نِقْمَتُهُ(4) عَلَى أَعْدَائِهِ فِي سَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَاتَّسَعَتْ رَحْمَتُهُ لاَِوْلِيَائِهِ فِي شِدَّةِ نِقْمَتِهِ، قَاهِرُ مَنْ عَازَّهُ(5)، وَمُدَمِّرُ مَنْ شَاقَّهُ(6)، وَمُذِلُّ مَنْ نَاوَاهُ(7)، وَغَالِبُ مَنْ عَادَاهُ.
____________
1. وارثُهُ: الباقي بعده.
2. دائبان: تثنية دائب، وهو المُجِدّ المجتهد، وصفهما بذلك لتعاقبهما على حال واحدة لايفتران ولا يسكنان.
3. خائنة الاعين: ما يسارق من النظر إلى ما لا يحل.
4. النقمة: الغضب، ويجوز نَقِمَة ونِقْمَة على وزن كلِمَة وكِلْمَة.
5. عَازّه ـ بالتشديد ـ: رامَ مشاركته في شيء من عزته; غالبه.
6. شاقّه: نازَعَه.
7. نَاوَأه: خالفه وهي مهموزة، إلاّ أنّها سُهّلت لتشاكل «عاداه».
عِبَادَ اللهِ، زِنُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُوزَنُوا، وَحَاسِبُوهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَتَنَفَّسُوا قَبْلَ ضِيقِ الْخِنَاقِ، وَانْقَادُوا قَبْلَ عُنْفِ السِّيَاقِ(2)، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ لَمْ يُعَنْ عَلَى نَفْسِهِ(3) حَتَّى يَكُونَ لَهُ مِنْهَا وَاعِظٌ وَزَاجِرٌ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا زَاجِرٌ وَلاَ وَاعِظٌ.
[وصف الله تعالى]
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لاَ يَفِرُهُ الْمَنْعُ(1) وَالْجُمُودُ، وَلاَ يُكْدِيهِ(2) الاِْعْطَاءُ وَالْجُودُ; إِذْ كُلُّ مُعْط مُنْتَقِصٌ سِوَاهُ، وَكُلُّ مَانِع مَذْمُومٌ مَا خَلاَهُ، وَهُوَ الْمَنَّانُ بِفَوَائِدِ النِّعَمِ، وَعَوائِدِ المَزِيدِ وَالْقِسَمِ، عِيَالُهُ الْخَلاَئِقُ، ضَمِنَ أَرْزَاقَهُمْ، وَقَدَّرَ أَقْوَاتَهُمْ، وَنَهَجَ سَبِيلَ الرَّاغِبِينَ إِلَيْهِ، وَالطَّالِبِينَ مَا لَدَيْهِ، وَلَيْسَ بِمَا سُئِلَ بِأَجْوَدَ مِنْهُ بِمَا لَمْ يُسْأَلُ.
الاَوَّلُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلٌ فَيَكُونَ شَيءٌ قَبْلَهُ، وَالاخِرُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ بَعْدٌ فَيَكُونَ شَيْءٌ بَعْدَهُ، وَالرَّادِعُ أَنَاسِيَّ(3) الاَْبْصَارِ عَنْ أَنْ تَنَالَهُ أَوْ تُدْرِكَهُ، مَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ دَهْرٌ فَيَخْتَلِفَ مِنْهُ الحَالُ، وَلاَ كَانَ فِي مَكَان فَيَجُوزَ عَلَيْهِ الانتِقَالُ، وَلَوْ وَهَبَ مَاتَنَفَّسَتْ عَنْهُ مَعَادِنُ(4) الْجِبَالِ، وَضَحِكَتْ عِنْهُ
____________
1. يَفِرُهُ المنعُ: يزيد في ماله. وهو من وَفَرَ وُفُواراً.
2. يُكْدِيه: يُفْقِره ويُنْفِذُ خزائنه.
3. أناسيّ: جمع إنسان، وإنسان البصر: هو ما يرى وسط الحدقة ممتازاً عنها في لونها.
4. تَنَفّس المعادن: كناية عن انغلاقها عن الجواهر.
[صفاته تعالى في القرآن]
فَانْظُرْ أَيُّهَا السَّائِلُ: فَمَا دَلَّكَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَتِهِ فَائْتَمَّ بِهِ(8) وَاسْتَضِىءْ بِنُورِ هِدَايَتِهِ، وَمَا كَلَّفَكَ الشَّيْطَانُ عِلْمَهُ مِمَّا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ عَلَيْكَ فَرْضُهُ،
____________
1. ضحك الاصداف: كناية عن انفتاحها عن الدّرّ وتشققها.
2. الفِلِزّ ـ بكسر الفاء واللام ـ: الجوهر النفيس، واللّجَيْن: الفضة الخالصة، والعِقْيان: ذهب ينمو في معدنه.
3. نُثَارة الدرّ ـ بالضم ـ: مَنْثُورُه.
4. حَصِيد المَرْجان: محصوده، يشير إلى أن المرجان نبات.
5. أنفده: بمعنى أفناه، ونَفِدَ ـ كفرح ـ أي فَنِيَ.
6. يَغِيض ـ بفتح حرف المضارعة ـ: من «غاض» المتعدي، يقال: غاض الماء لازماً، وغاضه الله متعدياً. ويقال: أغاضه أيضاً، وكلاهما بمعنى أنقصه وأذهب ما عنده. 7. يُبْخِلُهُ ـ بالتخفيف ـ: من «أبخلت فلاناً» وَجَدْته بخيلاً.
8. ائْتمّ به: أي اتبعه فصفْه كما وصفه اقتداء به.
وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ هُمُ الَّذِينَ أَغْنَاهُمْ عَنِ اقْتِحَامِ السُّدَدِ(2) الْمَضْرُوبَةِ دُونَ الْغُيُوبِ، الاِْقْرَارُ بِجُمْلَةِ مَا جَهِلُوا تَفْسِيرَهُ مِنَ الْغيْبِ الْـمَحْجُوبِ، فَمَدَحَ اللهُ ـ تَعَالَى ـ اعْتِرَافَهُمْ بِالْعَجْزِ عَنْ تَنَاوُلِ مَا لَمْ يُحِيطُوا بِهِ عِلْماً، وَسَمَّى تَرْكَهُمُ التَّعَمُّقَ فِيَما لَمْ يُكَلِّفْهُمُ الْبَحْثَ عَنْ كُنْهِهِ رُسُوخاً، فاقْتَصِرْ عَلَى ذَلِكَ، وَلاَتُقَدِّرْ عَظَمَةَ اللهِ سُبْحَانَهُ عَلَى قَدْرِ عَقْلِكَ فَتَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ.
هُوَ الْقَادِرُ الَّذِي إِذَا ارْتَمَتِ الاَوْهَامُ(3) لِتُدْرِكَ مُنْقَطَعَ(4) قُدْرَتِهِ، وَحَاوَلَ الْفِكْرُ الْمُبَرَّأُ(5) مِنْ خَطَرَاتِ الْوَسَاوِسِ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ فِي عَمِيقَاتِ غُيُوبِ مَلَكُوتِهِ، وَتَوَلَّهَتِ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ(6) لِتَجْرِيَ فِي كَيْفِيَّةِ صِفَاتِهِ، وَغَمَضَتْ(7)
____________
1. كل علمه: فَوّضْ علمه.
2. السَّدَد: جمع سدة، وهي الرتاج. 3. ارتَمَتِ الاوهام: ذهبت أمام الافكار كالطليعة لها.
4. مُنْقَطَع الشيء: ما اليه ينتهي.
5. المبرّأ: المجرد.
6. تَوَلّهَت القلوب اليه: اشتد عشقها حتى أصابها الوَلَهُ ـ وهو الحَيْرة ـ وقوي ميلها لمعرفة كنهه.
7. غمضت: خفيت طرق الفكر ودقت، وبلغت في الخفاء والدقة حداً لا يبلغه الوصف.
الَّذِي ابْتَدَعَ الْخَلْقَ(7) عَلَى غَيْرِ مِثَال امْتَثَلَهُ(8)، وَلاَ مِقْدَار احْتَذَى عَلَيْهِ(9)، مِنْ خَالِق مَعْبُود كَانَ قَبْلَهُ، وَأَرَانَا مِنْ مَلَكُوتِ قُدْرَتِهِ، وَعَجَائِبِ مَا
____________
1. رَدَعَها: رَدّها.
2. المَهَاوي: المَهَالِك.
3. السُّدَف ـ بضم ففتح ـ: جمع سدفة، وهي القطعة من الليل المظلم.
4. جُبِهَت ـ بالبناء للمجهول ـ: ضُرِبَتْ جَبْهَتُها: والمراد عادت خائبة.
5. الجَوْر: العدول عن الطريق، والاعتساف: السلوك على غير جادّة.
6. الرّوِيّات: جمع رَوِيّة، وهي الفكر.
7. ابتدعَ الخلقَ: أوجده من العدم المحض على غير مثال سابق.
8. امتَثَلَهُ: حاذاه وحاكاه.
9. لا مقدار سابق احتَذَى عليه: قاس وطبق عليه.
فَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ شَبَّهَكَ بِتَبَايُنِ أَعْضَاءِ خَلْقِكَ، وَتَلاَحُمِ حِقَاقِ(2) مَفَاصِلِهِمُ الْـمُحْتَجِبَةِ(3) لِتَدْبِيرِ حِكْمَتِكَ، لَمْ يَعْقِدْ غَيْبَ ضَمِيرِهِ عَلَى مَعْرِفَتِكَ، وَلَمْ يُبَاشِرْ قَلْبَهُ الْيَقِينُ بِأَنَّهُ لاَنِدَّ لَكَ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ تَبَرُّؤَ التَّابِعِينَ مِنَ المَتبُوعِينَ إِذْ يَقُولُونَ: (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلاَل مُبِين * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)
كَذَبَ الْعَادِلُونَ بِكَ(4)، إِذْ شَبَّهُوكَ بِأَصْنَامِهِمْ وَنَحَلُوكَ حِلْيَةَ الْـمَخْلُوقِينَ(5) بِأَوْهَامِهمْ، وَجَزَّأُوكَ تَجْزِئَةَ الْـمُجَسَّماتِ بِخَوَاطِرِهِمْ،
____________
1. المِسَاك ـ بكسر الميم ـ: ما يمسك الشيء كالمِلاك ما به يملك.
2. الحِقاق: جمع حُقّة ـ بضم الحاء ـ وهو رأس العظم عند المَفْصِل.
3. احتجاب المفاصل: استتارها باللحم والجلد.
4. العادلون بك: الذين عدلوا بك غيرك، أي سوّوْه بك وشبّهوك به.
5. نَحَلُوكَ: أعطَوْك، وحِلْية المخلوقين: صفاتهم الخاصة بهم من الجسمانية وما يتبعها.
فَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ سَاوَاكَ بِشَيْء مِنْ خَلْقِكِ فَقَدْ عَدَلَ بِكَ، وَالْعَادِلُ كَافِرٌ بِمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ مُحْكَمَاتُ آياتِكَ، وَنَطَقَتْ عَنْهُ شَوَاهِدُ حُجَجِ بَيِّنَاتِكَ، وَإِنَّكَ أَنْتَ اللهُ الَّذِي لَمْ تَتَنَاهَ فِي الْعُقُولِ، فَتَكُونَ في مَهَبِّ فِكْرِهَا مُكَيَّفاً(2)، وَلاَ فِي رَوِيَّاتِ خَوَاطِرِهَا [فَتَكُونَ ]مَحْدُوداً مُصَرَّفاً(3).
منها:
قَدَّرَ مَا خَلَقَ فَأَحْكَمَ تَقْدِيرَهُ، وَدَبَّرَهُ فَأَلْطَفَ تَدْبِيرَهُ، وَوَجَّهَهُ لِوِجْهَتِهِ فَلَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ مَنْزِلَتِهِ، وَلَمْ يَقْصُرْ دُونَ الاِْنْتِهَاءِ إِلى غَايَتِهِ، وَلَمْ يَسْتَصْعِبْ(4) إِذْ أُمِرَ بِالْمُضِيِّ عَلَى إِرَادَتِهِ، وَكَيْفَ وَإِنَّمَا صَدَرَتِ الاُْمُورُ عَنْ مَشيئَتِهِ؟ الْمُنْشِىءُ أصْنَافَ الاَْشْيَاءِ بِلاَ رَوِيَّةِ فِكْر آلَ إِلَيْهَا، وَلاَ قَريحَةِ غَرِيزَة(5)
____________
1. قَدّرُوك: قاسوك.
2. مُكَيّفاً: ذا كيفية مخصوصة.
3. مُصَرّفاً: أي تُصَرّفُكَ العقولُ بأفهامها في حدودك.
4. اسْتَصْعَبَ الركوبُ: لم يَنْقَدْ في السير لراكبه.
5. غريزة: طبيعة ومزاج، أي ليس له مزاج كما للمخلوقات الحساسة فينبعث عنه إلى الفعل، بل هو انفعال بماله بمقتضى ذاته، لابأمر عارض.
____________
1. أفادها: استفادها.
2. الريث: التثاقل عن الامر.
3. الانَاة: تُؤدَة يمازجها رَوِيّة في اختيار العمل وتركه. والمتلكىء: المتعلل.
4. أودَها: اعوجاجها.
5. نَهَجَ: عَيّنَ وَرَسَمَ.
6. قرائنها: جمع قرينة، وهي النفس، أي وصل حبال النفوس ـ وهي عالم النور ـ بالابدان، وهي من عالم الظلمة.
7. الغرائز: الطبائع. 8. بَدَايَا: جمع بَدِيء، أي مصنوع.
منها: في صفة السماء
وَنَظَمَ بِلاَ تَعْلِيق رَهَوَاتِ فُرَجِهَا(1)، وَلاَحَمَ صُدُوعَ انْفِرَاجِهَا(2)، وَوَشَّجَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَزْوَاجِهَا(3)، وَذَلَّلَ لِلْهَابِطِينَ(4) بِأَمْرِهِ، وَالْصَّاعِدِينَ بِأَعْمَالِ خَلْقِهِ، حُزُونَةَ(5) مِعْرَاجِهَا، وَنَادَاهَا بَعْدَ إِذْ هِيَ دُخَانٌ مُبِينٌ، فَالْتَحَمَتْ عُرَى أَشْرَاجِهَا(6)، وَفَتَقَ بَعْدَ الارْتِتَاقِ صَوَامِتَ(7) أَبْوَابِهَا، وَأَقَامَ رَصَداً(8) مِنَ
____________
1. رَهَوَات: جمع رَهْوَة، أي المكان المرتفع. ويقال للمنخفض أيضاً، فهو من الاضداد. والفُرَج: جمع فُرْجَة ـ بضم فسكون ـ وهي المكان الخالي.
2. لاحَمَ: أي ألصقَ; والصّدوع: جمع صَدْع، وهو الشّق، أي ما كان في الجِرْم الواحد منها من صدْع لَحَمَهُ سبحانه، وأصلحه فسوّاه.
3. وَشّجَ ـ بالتضعيف ـ: أي شَبّك، من «وَشّجَ مَحْمِلهُ» إذا شبّكه بالاربطة حتى لا يسقط منه شيء. وأزواجها: أمثالها وقرائنها من الاجرام الاخرى.
4. يريد بالهابطين والصاعدين الارواح السّفْلِيّة والعُلْوية.
5. الحزُونة: الصّعوبة.
6. الاشْرَاج: جمع شرَج ـ بالتحريك ـ وهي العُرْوة، وهي مقبض الكُوز والدّلْو وغيرهما، وتسمى مَجَرّة السماء شرَجاً، تَشبيهاً بشرَج العَيْبة، وأشار بإضافة العُرَى للاشراج إلى أن كل جزء من مادتها عروة للاخر يجذبه إليه ليتماسك به، فكلٌ ماسك وكلّ ممسوك: فكلّ عُرْوة وله عُرْوة.
7. صَوَامِتُ: أي لا فراغ فيها.
8. الرّصَد: الحَرَس.
____________
1. الشُّهُب الثواقب: النجوم الشديدة الضياء.
2. النِّقاب: جمع نقب، وهو الخرق.
3. تَمُور: تضطرب في الهواء.
4. بِأيْدِهِ: بقوته.
5. مُبْصِرَة: أي جعل شمس هذه الاجرام السماوية مضيئةً يبصر بضوئها مدة النهار كله دائماً.
6. مَمْحُوّة: يمحى ضوؤها في بعض أطراف الليل في أوقات من الشهر، وفي جميع الليل أياماً منه.
7. مَنَاقِل مَجْرَاهما: الاوضاع التي ينقلان فيها من مَدَارَيْهما.
8. فَلَكَهَا: هو الجسم الذي ارتكزت فيه، وأحاط بها، وفيه مَدارها.
9. نَاطَ بها: عَلِقَ بها وأحاطها. 10. دَرَارِيّها: كواكبها وأقمارها.
ومنها: في صفة الملائكة(عليهم السلام)
ثُمَّ خَلَقَ سُبْحَانَهُ لاِِسْكَانِ سَمَاوَاتِهِ، وَعِمَارَةِ الصَّفِيحِ(2) الاَْعْلَى مِنْ مَلَكُوتِهِ، خَلْقاً بَدِيعاً مِنْ مَلاَئِكَتِهِ، وَمَلاََ بهِمْ فُرُوجَ فِجَاجِهَا، وَحَشَا بِهِمْ فُتُوقَ أَجْوَائِهَا(3)، وَبَيْنَ فَجَوَاتِ تِلْكَ الْفُرُوجِ زَجَلُ(4) الْمُسَبِّحِينَ مِنْهُمْ فِي حَظَائِرِ(5) الْقُدُسِ(6)، وَسُتُرَاتِ(7) الْحُجُبِ، وَسُرَادِقَاتِ(8) الْـمَجْدِ، وَوَرَاءَ
____________
1. أذْلال ـ على وزن أقْفال ـ: جمع ذِلّ ـ بالكسر ـ وهو مَحَجّة الطريق.
2. الصّفيح: السماء.
3. الاجْواء: جمع جوّ.
4. الزّجَل: رفع الصوت.
5. الحَظائر: جمع حَظِيرة، وهي الموضع يحاط عليه لتأوي اليه الغنم والابل توقّياً من البرد والريح، وهو مجازها هنا عن المقامات المقدسة للارواح الطاهرة.
6. القُدُس ـ بضمّتين أوبضم فسكون ـ: الطهر.
7. السّتُرَات: جمع سُتْرة، وهي ما يُسْتَتَرُ به.
8. السُّرَادِقَات: جمع سُرَادِق، وهو مايُمَدّ على صحن البيت فيغطيه.
أَنْشَأَهُمْ عَلَى صُوَر مُخْتَلِفَات، وَأَقْدَار مُتَفَاوِتَات، (أُولِي أَجْنِحَة مَثْنَى وَثُلاَثَ) تُسَبِّحُ جَلاَلَ عِزَّتِهِ، لاَ يَنْتَحِلُونَ مَا ظَهَرَ فِي الْخَلْقِ مِنْ صُنْعِهِ، وَلاَ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَخْلُقُونَ شَيْئاً مَعَهُ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ، (بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأمْرِهِ يَعْمَلُونَ).
جَعَلَهُمُ اللهُ فِيَما هُنَالِكَ أَهْلَ الاَْمَانَةِ عَلَى وَحْيِهِ، وَحَمَّلَهُمْ إِلى الْمُرْسَلِينَ وَدَائِعَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَعَصَمَهُمْ مِنْ رَيْبِ الشُّبُهَاتِ، فَمَا مِنْهُمْ زَائِغٌ عَنْ سَبِيلِ مَرْضَاتِهِ، وَأَمَدَّهُمْ بِفَوَائِدِ المَعُونَةِ، وَأَشْعَرَ قُلُوبَهُمْ تَوَاضُعَ إِخْبَاتِ(5) السَّكِينَةِ، وَفَتَحَ لَهُمْ أَبْوَاباً ذُلُلاً(6) إِلى تَمَاجِيدِهِ، وَنَصَبَ لَهُمْ مَنَاراً(7)وَاضِحَةً
____________
1. الرّجيج: الزلزلة والاضطراب.
2. تَسْتَكُّ منه: تصمّ منه الاذان لشدته.
3. سُبُحات نور: طبقات نور، وأصل السّبُحات الانوار نفسها.
4. خاسئة: مدفوعة مطرودة عن الترامي إليها.
5. الاخْبات: الخضوع والخشوع.
6. ذُلُل: جمع ذَلُول: خلاف الصّعب.
7. مَنَاراً: جمع مَنَارة.
____________
1. الاعْلام: مايقام للاهتداء به على أفواه الطرق ومرتفعات الارض، والكلام تمثيل لما أنار به مداركهم حتى انكشف لهم سر توحيده. 2. مُوصِرات الاثام: مُثْقِلاتها.
3. ارْتَحَلَهُ: وضع عليه الرّحْلَ ليركبه.
4. العُقَب: جمع عقبة وهي النّوْبة.
5. النّوازع: جمع نازعة وهي النجم.
6. مَعَاقِد: جمع مَعْقَد: مَحَلّ العَقْد، بمعنى الاعتقاد.
7. الاحَن: جمع إحْنة، وهي الحِقد والضغينة.
8. لاَقَ: لَصَقَ.
9. تَقْتَرع ـ بالقاف المثناة ـ: من الاقتراع بمعنى ضرب القُرْعة.
10. الرّيْن ـ بفتح الراء ـ: الّدنَس، وما يُطْبَعُ على القلب من حُجُب الجهالة.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ خَرَقَتْ أَقْدَامُهُمْ تُخُومَ الاَْرْضِ السُّفْلَى، فَهِيَ كَرَايَات بِيض قَدْ نَفَذَتْ فِي مَخَارِقِ(4) الْهَوَاءِ، وَتَحْتَهَا رِيحٌ هَفَّافَةٌ(5) تَحْبِسُهَا عَلَى حَيْثُ انْتَهَتْ مِنَ الْحُدُودِ الْمُتَنَاهِيَةِ، قَدِاسْتَفْرَغَتْهُمْ(6) أَشْغَالُ عِبَادَتِهِ، ووَسّلَت حَقَائِقُ الاِْيمَانِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَعْرِفَتِهِ، وَقَطَعَهُمُ الاِْيقَانُ بِهِ إِلى الْوَلَهِ(7) إِليْهِ، وَلَمْ تُجَاوِزْ رَغَبَاتُهُمْ مَا عِنْدَهُ إِلى مَا عِنْدَ غَيْرِهِ.
قَدْ ذَاقُوا حَلاَوَةَ مَعْرِفَتِهِ، وَشَرِبُوا بِالْكَأْسِ الرَّوِيَّةِ(8) مِنْ مَحَبَّتِهِ،
____________
1. الدّلَح ـ بضم الدال ـ: جمع دَالِح، وهو: الثقيل بالماء من السحاب.
2. القَتْرة ـ هنا ـ: الخفاء والبطون، ومنها قالوا: أخذه على قَتْرَة، أي من حيث لا يدري.
3. الايْهم ـ بالياء المثنّاة ـ: الذي لا يهتدى فيه. ومنه «فلاة يَهْماء».
4. مَخَارق: جمع مَخْرِق، أي موضع لخَرْق.
5. ريح هفّافة: طيبة ساكنة.
6. استفرغتهم: جعلتهم فارغين من الاشتغال بغيرها.
7. الوَلَه: شدّة الشوق.
8. الرّوِيّة: التي تروي وتطفىء العطش.
____________
1. السّوَيْداء: حبّة القلب ومحلّ الروح الحيواني منه.
2. الوَشِيجة: أصلها عِرْقُ الشجرة أراد منها هاهنا بواعث الخوف من الله.
3. لم يُنْفِدْ: لم يُغْنِ.
4. رِبَق: جمع رِبْقة ـ بالكسر، والفتح ـ وهي: العُرْوة من عُرَى الرّبق ـ بكسر الراء ـ: وهو حبل فيه عدة عُرى تُرْبَطُ فيه البُهْم.
5. الاستكانة: ميل للسكون من شدة الخوف، ثم استعملت في الخضوع.
6. الدّأوب: من دَأبَ في العمل: بالغ في مداومته حتى أجهده.
7. لم تَغِضْ: لم تنقص.
8. أسَلَةَ اللسان: طرفه.
9. الهمس: الخفي من الصوت.
قَدِْ اتَّخَذُوا ذَا الْعَرْشِ ذَخِيرَةً لِيَومِ فَاقَتِهمْ(4)، وَيَمَّمُوهُ(5) عِنْدَ انْقِطَاعِ الْخَلْقِ إِلى الـمَخْلُوقِينَ بِرَغْبَتِهمْ، لاَ يَقْطَعُونَ أَمَدَ غَايَةِ عِبَادَتِهِ، وَلاَ يَرْجِعُ بِهمُ الاِسْتِهْتَارُ(6) بِلُزُومِ طَاعَتِهِ، إِلاَّ إِلَى مَوَادَّ(7) مِنْ قُلُوبِهمْ غَيْرِ مُنْقَطِعَة مِنْ
____________
1. المقَاوِم: جمع مَقام، والمراد الصفوف.
2. لاتَعْدُوا على عزيمة: لاتَسْطو عليها.
3. انْتَضَلَتِ الابل: رمت بأيديها في السير مسرعة. وخدائع الشهوات للنفس: ما تزيّنه لها، أي: لم تسلك خدائع الشهوات طريقاً في هممهم.
4. فاقَتهم: حاجتهم.
5. يَمّمُوه: قصدوه بالرغبة والرجاء عندما انقطع الخَلْق سواهم إلى المخلوقين.
6. الاستهتار: التولّع.
7. مواد: جمع مادّة، أصلها من «مدّ البحر» إذا زاد، وكل ما أعنت به غيرك فهو مادّة.
____________
1. الشفقة ـ هنا ـ: الخوف.
2. يَنُوا: من وَنى يَنِي إذاتأنّى.
3. وشيك السعي: مقاربه وهيّنه.
4. الشفقات: تارات الخوف وأطواره. والوجل: الخوف أيضاً.
5. تشعبتهم: فرقتهم صروف الريب: جمع ريبة، وهي ما لا تكون النفس على ثقة من موافقته للحق.
6. الاخْياف: جمع خَيْف ـ بالفتح ـ وهو في الاصل: ما انحدر عن سفح الجبل، والمراد هنا سواقط الهمم.
7. الونَى: مصدروني ـ كتعب ـ أي: تأنى.
8. الاهاب: جلد الحيوان.
9. حافذ: خفيف، سريع.
ومنها: في صفة الارض ودحوها على الماء
كَبَسَ(1) الاَْرْضَ عَلى مَوْرِ(2) أَمْوَاج مُسْتَفْحِلَة(3)، وَلُجَجِ بِحَار زَاخِرَة(4)، تَلْتَطِمُ أَوَاذِيُّ(5) أمْواجِهَا، وَتَصْطَفِقُ مُتَقَاذِفَاتُ أَثْبَاجِها(6)، وَتَرْغُو زَبَداً كَالْفُحُولِ عِنْدَ هِيَاجِهَا، فَخَضَعَ جِمَاحُ الْمَاءِ الْمُتَلاَطِمِ لِثِقَلِ حَمْلِهَا، وَسَكَنَ هَيْجُ ارْتِمَائِهِ إِذْ وَطِئَتْهُ بِكَلْكَلِهَا(7)، وَذَلَّ مُسْتَخْذِياً(8) إِذْ
____________
1. كبس النهرَ والبئرَ: أي طمهما بالتراب، وعلى هذا كان حق التعبير «كبس بهامور أمواج». لكنه أقام الالة مُقام المفعول لانّها المقصود بالعمل.
2. المور: التحرك الشديد.
3. المستفحلة: الهائجة التي يصعب التغلب عليها.
4. زاخرة: ممتلئة.
5. أواذيّ: جمع آذي وهو أعلى الموج.
6. اصطفقت الاشجار: اهتزت بالريح، والاثباج: جمع ثبج ـ بالتحريك ـ وهو في الاصل ما بين الكاهل والظهر، استعارة لاعالي الموج، التي يقذف بعضها بعضاً.
7. الكَلْكَل: في الاصل الصدر، استعارة لما لاقى الماء من الارض.
8. مستخذياً: منكسراً، مسترخياً.
____________
1. تَمَعّكَت الدابة: تمرغت في التراب.
2. اصطخاب: افتعال من الصخب بمعنى ارتفاع الصوت.
3. ساجياً: ساكناً.
4. الحَكَمَة ـ محركةً ـ: ماأحاط بِحَنَكَيِ الفرس من لجامه، وفيها العِذَارَان. 5. مَدْحُوّة: مبسوطة.
6. البَأوُ: الكبر، والزهو.
7. الغُلَوَاء ـ بضم الغين وفتح اللام ـ: النشاط وتجاوز الحد.
8. كَعَمَ البعيرَ ـ كمنع ـ: شدّ فاه لئلا يعضّ أويأكل، وما يشد به كِعَام ـ ككتاب ـ.
9. الكِظّة ـ بالكسر ـ: ما يعرض من امتلاء البطن بالطعام، ويراد بها هنا ما يشاهد في جَرْي الماء من ثقل الاندفاع. 10. النّزَق والنزَقان: الخفة والطيش. والنزقات: الدفعات منه.
فَلَمَّا سَكَنَ هَيْجُ الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ أَكْنَافِهَا(2)، وَحَمْلِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ الْبُذَّخِ(3) عَلَى أَكْتَافِهَا، فَجَّرَ يَنَابِيعَ الْعُيُونِ مِنْ عَرَانِينِ(4) أُنُوفِهَا، وَفَرَّقَهَا فِي سُهُوبِ(5) بِيدِهَا(6) وَأَخَادِيدِهَا(7)، وَعَدَّلَ حَرَكَاتِهَا بِالرَّاسَيَاتِ مِنْ جَلاَمِيدِهَا(8)، وَذَوَاتِ الشَّنَاخِيبِ الشُّمِّ(9) مِنْ صَيَاخِيدِهَا(10)، فَسَكَنَتْ مِنَ
____________
1. الزّيَفَان: التبختر في المشية.
2. أكنافها: نواحيها.
3. البُذّخ: بمعنى الشّمّخ، جمع شامخ، وباذخ: أي عال ورفيع.
4. عَرَانين: جمع عِرْنِين ـ بالكسر ـ وهو ما صلب من عظم الانف، والمراد أعالي الجبال.
5. السّهوب: جمع سَهْب ـ بالفتح ـ أي: الفلاة.
6. البيد: جمع بَيْداء، وهي الارض الفلاة.
7. الاخاديد: جمع أخدود، وهي الحُفَر المستطيلة في الارض، والمراد منها مجاري الانهار.
8. الجَلامِيد: جمع جُلْمود، وهو الحجر الصّلْد.
9. الشنَاخيب: جمع شُنْخُوب، وهو رأس الجبل; والشّمّ: الرفيعة.
10. صَيَاخيدها: جمع صَيْخُود، وهو الصخرة الشديدة.
____________
1. المَيَدان ـ بالتحريك ـ: الاضطراب.
2. أديمها: سطحها.
3. التغلغل: المبالغة في الدخول.
4. مُتَسَرِّبة: أي داخلة.
5. الجَوْبات: جمع جَوْبة، بمعنى الحفرة، والخياشيم: جمع خَيْشوم، وهو منفذ الانف إلى الرأس.
6. ركوب الجبال أعناقَ السهول: استعلاؤها عليها، وأعناقها: سطوحها.
7. جرَاثيمها: المراد هنا ما سفل عن السطوح من الطبقات الترابية.
8. مرافق البيت: ما يستعان به فيه، وما يحتاج إليه في التعيش.
9. الارض الجُرُز ـ بضمتين ـ: التي تمر عليها مياه العيون فتنبت.
10. روابيها: مرتفعاتها.