الصفحة 232
أَرَاهُمْ مَنْجَاتَهُمْ وَبَوَّأَهُمْ مَحَلَّتَهُمْ، فَاسْتَدَارَتْ رَحَاهُمْ(1)، وَاسْتَقَامَتْ)قَنَاتُهُمْ(2) وَايْمُ اللهِ، لَقَدْ كُنْتُ مِنْ سَاقَتِهَا حَتَّى تَوَلَّتْ بِحَذَافِيرِهَا، وَاسْتَوْسَقَتْ فِي قِيَادِهَا، مَا ضَعُفْتُ، وَلاَ جَبُنْتُ، وَلاَ خُنْتُ، وَلاَ وَهَنْتُ، وَايْمُ اللهِ، لاََبْقُرَنَّ الْبَاطِلَ(3) حَتَّى أُخْرِجَ الْحَقَّ مِنْ خَاصِرَتِهِ!
وقد تقدم مختار هذه الخطبة، إلاّ أنني وجدتها في هذه الرواية على خلاف ما سبق من زيادة ونقصان، فأوجبت الحال إثباتها ثانية.

[ 104 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[في بعض صفات الرسول الكريم وتهديد بني أمية وعظة الناس]

[الرسول الكريم]

حَتَّى بَعَثَ اللهُ مُحَمَّداً(صلى الله عليه وآله وسلم)، شَهِيداً، وَبَشِيراً، وَنَذِيراً، خَيْرَ الْبَرِيَّةِ طِفْلاً، وَأَنْجَبَهَا كَهْلاً، أَطْهَرَ الْمُطَهَّرِينَ شِيمَةً(4)، وَأَجْوَدَ الْمُسْتَمْطَرِينَ دِيمَةً(5).

____________

1. استدارت رَحاهم: كناية عن وفرة أرزاقهم، فإن الرّحَى إنما تدور على ما تطحنه من الحَبّ. والرّحَى: رحى الحرب يطحنون بها.

2. القَناة: الرمح. واستقامتها كناية عن صحة الاحوال وصلاحها.

3. لابقُرَنّ الباطلَ: من البَقْر ـ وهو الشق ـ والمراد: لاشُقّن جَوْفَ الباطل بقهر أهله، فأنتزع الحق من أيدي المبطلين. 4. الشِّيمة: الخُلُق.

5. الدّيمة ـ بكسر الدال ـ: المطر، يدوم في سكون. والمُسْتَمْطَر ـ بفتح الطاء ـ: مَن يُطْلَبُ منه المطر.

الصفحة 233

[بنو أمية]

فَمَا احْلَوْلَتْ الدُّنْيَا لَكُمْ فِي لَذَّتِهَا، وَلاَ تَمَكَّنْتُمْ مِنْ رَضَاعِ أَخْلاَفِهَا(1) إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا صَادَفْتُمُوهَا جَائِلاً خِطَامُهَا(2)، قَلِقاً وَضِينُهَا(3)، قَدْ صَارَ حَرَامُهَا عِنْدَ أَقْوَام بِمَنْزِلَةِ السِّدْر الْـمَخْضُودِ(4)، وَحَلاَلُهَا بَعِيداً غَيْرَ مَوْجُود، وَصَادَفْتُمُوهَا، وَاللهِ، ظِلاًّ مَمْدُوداً إِلَى أَجَل مَعْدُود، فَالاَْرْضُ لَكُمْ شَاغِرَةٌ(5)، وَأَيْدِيكُمْ فِيهَا مَبْسُوطَةٌ، وَأَيْدِي الْقَادَةِ عَنْكُمْ مَكْفُوفَةٌ، وَسُيُوفُكُمْ عَلَيْهِمْ مَسَلَّطَةٌ، وَسُيُوفُهُمْ عَنْكُمْ مَقْبُوضَةٌ.

أَلاَ إِنَّ لِكُلِّ دَم ثَائِراً، وَلَكُلِّ حَقٍّ طَالِباً، وَإِنَّ الثَّائِرَ فِي دِمَائِنَا كَالْحَاكِمِ في حَقِّ نَفْسِهِ، وَهُوَ اللهُ الَّذِي لاَ يُعْجِزُهُ مَنْ طَلَبَ، وَلاَ يَفُوتُهُ مَنْ هَرَبَ.

فَأُقْسِمُ بِاللهِ، يَا بَنِي أُمَيَّةَ، عَمَّا قَلِيل لَتَعْرِفُنَّهَا فِي أَيْدِي غَيْرِكُمْ وَفِي دَارِ عَدُوِّكُمْ! أَلاَ إِنَّ أبْصَرَ الاَْبْصَارِ مَا نَفَذَ فِي الْخَيْرِ طَرْفُهُ! أَلاَ إِنَّ أَسْمَعَ الاَْسْمَاعِ مَا وَعَى التَّذْكِيرَ وَقَبِلَهُ!

____________

1. الاخْلاف ـ جمع خِلْف بكسر الخاء وسكون اللام ـ: حَلمة ضَرْع الناقة.

2. الخِطام ـ ككتاب ـ: ما يوضع في أنف البعير لِيُقَادَبه.

3. الوَضَين: بِطانٌ عريض منسوج من سُيور أوشَعَر يكون للرحل كالحزام للسّرْج.

4. السِّدْر ـ بالكسر ـ: شجر النّبق. والمَخْضود: المقطوع شوْكُهُ.

5. شَاغرة: خالية.

الصفحة 234

[وعظ الناس]

أَيُّهَا النَّاسُ، اسْتَصْبِحُوا مِنْ شُعْلَةِ مِصْبَاح وَاعِظ مُتَّعِظ، وَامْتَاحُوا(1) مِنْ صَفْوِ عَيْن قَدْ رُوِّقَتْ(2) مِنَ الْكَدَرِ.

عِبَادَ اللهِ، لاَ تَرْكَنُوا إِلَى جَهَالَتِكُمْ، وَلاَ تَنْقَادُوا لاَِهْوَائِكُمْ، فَإِنَّ النَّازِلَ بِهذَا الْمَنْزِلِ نَازِلٌ بِشَفَا جُرُف هَار(3)، يَنْقُلُ الرَّدَى(4) عَلَى ظَهْرِهِ مِنْ مَوْضِع إِلَى مَوْضَع، لِرَأْي يُحْدِثُهُ بَعْدَ رَأْي، يُرِيدُ أَنْ يُلْصِقَ مَا لاَ يَلْتَصِقُ، وَيُقَرِّبَ مَا لاَ يَتَقَارَبُ! فَاللهَ اللهَ أَنْ تَشْكُوا إِلَى مَنْ لاَ يُشْكِي(5) شَجْوَكُمْ(6)، وَلاَ يَنْقُضُ بِرَأْيِهِ مَا قَدْ أَبْرَمَ لَكُمْ.

إِنَّهُ لَيسَ عَلَى الاِْمَامِ إِلاَّ مَا حُمِّلَ مِنْ أَمْرِ رَبِّهِ: الاِْبْلاَغُ فَي الْمَوْعِظَةِ، وَالاجْتِهَادُ فِي النَّصِيحَةِ، وَالاِْحْيَاءُ لِلسُّنَّةِ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا،

____________

1. امتاحوا: استَقُوا وانزِعوا الماء لريّ عطشكم من عين صافية صَفَتْ من الكَدَر.

2. رُوِّقَتْ: صُفِّيَتْ.

3. شفا جُرُف هار: شفا الشيء حَرْفُهُ. والجُرُف ـ بضمتين ـ: ما تجرفه السيول. والهاري ـ كالهائر ـ: المتهدم أوالمُشرِف على الانهدام.

4. الرّدَى: الهلاك.

5. يُشْكي: من أشْكاه إذا أزال شكواه.

6. الشّجْو: الحاجة.

الصفحة 235
وَإِصْدَارُ السُّهْمَانِ(1) عَلَى أَهْلِهَا.

فَبَادِرُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِ تَصْوِيحِ(2) نَبْتِهِ، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ تُشْغَلُوا بَأَنْفُسِكُمْ عَنْ مُسْتَثَارِ(3) الْعِلْمِ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ، وَانْهَوْا عَنْ المُنْكَرِ وَتَنَاهَوْا عَنْهُ، فَإِنَّمَا أُمِرْتُمْ بالنَّهْي بَعْدَ التَّنَاهِي!

[ 105 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[وفيها يبيّن فضل الاسلام ويذكر الرسول الكريم ثمّ يلوم أصحابه]

[دين الاسلام]

الْحَمْدُ للهِ الَّذِي شَرَعَ الاِْسْلاَمَ فَسَهَّلَ شَرَائِعَهُ لِمَنْ وَرَدَهُ، وَأَعَزَّ أَرْكَانَهُ عَلَى مَنْ غَالَبَهُ، فَجَعَلَهُ أَمْناً لِمَنْ عَلِقَهُ(4)، وَسِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ، وَبُرْهَاناً لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ، وَشَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ بِهِ، وَنُوراً لِمَنِ اسْتَضَاءَ بِهِ، وَفَهْماً لِمَنْ عَقَلَ، وَلُبّاً لَمِنْ تَدَبَّرَ، وَآيَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ، وَتَبْصِرَةً لِمَنْ عَزَمَ، وَعِبْرَةً لِمَنِ اتَّعَظَ، وَنَجَاةً

____________

1. السُهْمَانُ ـ بضم السين ـ: جمع سهم بمعنى الحظ والنصيب. وإصدار السُهْمانِ إعادتها إلى أهلها المستحقين لها لا ينقصهم منها شيء.

2. التّصْوِيح: التجفيف. وأصله: صَوّحَ النّبْتُ: إذا جَفّ أعلاه.

3. مُسْتَثَار: اسم مفعول بمعنى المصدر. والاستثارة طلب الثّوَر وهو السّطوع والظهور.

4. عَلِقَهُ ـ كَعَلِمَه ـ: تعلّق به.

الصفحة 236
لِمَنْ صَدَّقَ، وَثِقَةً لِمَنْ تَوَكَّلَ، وَرَاحَةً لِمَنْ فَوَّضَ، وَجُنَّةً(1) لِمَنْ صَبَرَ.

فَهُوَ أبْلَجُ الْمَنَاهجِ(2) وَاضِحُ الْوَلاَئِجِ(3)، مُشْرَفُ الْمَنَارِ(4)، مُشْرِقُ الْجَوَادِّ(5)، مُضِيءُ الْمَصَابِيحِ، كَرَيمُ الْمِضْمارِ(6)، رَفِيعُ الْغَايَةِ، جَامِعُ الْحَلْبَةِ(7)، مُتَنَافِسُ السُّبْقَةِ(8)، شَرِيفُ الْفُرْسَانِ.

التَّصْدِيقُ مِنْهَاجُهُ، وَالصَّالِحَاتُ مَنَارُهُ، وَالْمَوْتُ غَايَتُهُ، وَالدُّنْيَا مِضْمارُهُ، وَالْقِيَامَةُ حَلْبَتُهُ، وَالْجَنَّةُ سُبْقَتُهُ.

____________

1. الجُنّة ـ بضم الجيم ـ: الوقاية والصّوْن.

2. أبْلَجُ المَنَاهِجِ: أشد الطرق وضوحاً وأنْوَرُها.

3. الوَلائج: جمع وَلِيجة وهي الدخيلة والمذهب.

4. مُشْرَف ـ بفتح الراء ـ: من اشرف، والمراد به هنا المكان ترتفع عليه فتطّلع من فوقه على شيء. ومنار الدين: دلائله من العمل الصالح.

5. الجَوَادّ ـ جمع جادة ـ: وهي الطريق الواضح.

6. كريم المِضْمار: أي إذا سُوبِق سَبَقَ.

7. الحَلْبَة: خيل تجمع من كل صَوْب للنصرة، والاسلام جامعها يأتي إليه الكرائم والعِتاق.

8. السُبْقَة ـ بالضم ـ: جزاء السابقين.

الصفحة 237

منها: في ذكر النبي(صلى الله عليه وآله)

حَتَّى أَوْرَى(1) قَبَساً لِقَابِس(2)، وَأَنَارَ عَلَماً لِحَابِس(3)، فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ، وَشَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ، وَبَعِيثُكَ(4) نِعْمةً، وَرَسُولُكَ بِالْحقِّ رَحْمَةً.

اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَهُ مَقْسَماً(5) مِنْ عَدْلِكَ، وَاجْزِهِ مُضَعَّفَاتِ الْخَيْرِ مِنْ فَضْلِكَ.

اللَّهُمَّ أَعْلِ عَلَى بَنَاءِ الْبَانِينَ بَنَاءَهُ، وَأَكْرِمْ لَدَيْكَ نُزُلَهُ(6)، وَشَرِّفْ عِنْدَكَ مَنْزِلَهُ، وَآتِهِ الْوَسِيلَةَ، وَأَعْطِهِ السَّنَاءَ(7) وَالْفَضِيلَةَ، وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِ غَيْرَ خَزَايَا(8)، وَلاَ نَادِمِينَ، وَلاَ نَاكِبِينَ(9)، وَلاَ نَاكِثِينَ(10)، وَلاَ ضَالِّينَ، وَلاَ مَفْتُونِينَ.
وقد مضى هذا الكلام فيما تقدم، إلاّ أنّنا كرّرناه هاهنا لما في الروايتين من الاختلاف.

____________

1. أوْرَى: أوْقَدَ.

2. القَبَس ـ بالتحريك ـ: الشّعلة من النار تُقْتَبَسُ من مُعْظَم النار. والقابِسُ: اَخِذُ النار من النار.

3. الحَابِس: من حَبَسَ نَاقَتَهُ وَعَقَلَها حَيْرَةً منه لا يدري كيف يهتدي فيقف عن السير. وأنار له علماً: أي وضع له ناراً في رأس جبل ليستنقذه من حَيْرَته.

4. بَعِيثك: مبعوثك.

5. المَقْسم ـ كمقعد ومِنْبر ـ: النصيب والحظ.

6. النّزُل ـ بضمتين ـ ما هُيِّىء للضيف لينزل عليه.

7. السّناء ـ كسَحاب ـ: الرفعة.

8. خزايا: جمع خَزْيان، من «خَزِيَ» إذا خجل من قبيح ارتكبه.

9. ناكِبين: عادلين عن طريق الحق.

10. ناكثين: ناقضين للعهد.

الصفحة 238

منها: في خطاب أصحابه

وَقَدْ بَلَغْتُمْ منْ كَرَامَةِ اللهِ لَكُمْ مَنْزِلَةً تُكْرَمُ بِهَا إِمَاؤُكُمْ، وَتُوصَلُ بِهَا جِيرَانُكُمْ، وَيُعَظِّمُكُمْ مَنْ لاَ فَضْلَ لَكُمْ عَلَيهِ، وَلاَ يَدَلَكُمْ عِنْدَهُ، وَيَهَابُكُمْ مَنْ لاَ يَخَافُ لَكُمْ سَطْوَةً، وَلاَ لَكُمْ عَلَيْهِ إِمْرَةٌ، وَقَدْ تَرَوْنَ عُهُودَ اللهِ مَنْقُوضَةً فَلاَ تَغْضَبُونَ! وَأَنْتُمْ لِنَقْضِ ذِمَمِ آبَائِكُمْ تَأْنَفُونَ! وَكَانَتْ أَمُورُ اللهِ عَلَيْكُمْ تَرِدُ، وَعَنْكُمْ تَصْدُرُ، وَإِلَيْكُمْ تَرْجِعُ، فَمَكَّنْتُمُ الظَّلَمَةَ مِنْ مَنْزِلَتِكُمْ، وَأَلْقَيْتُمْ إِلَيْهِمْ أَزِمَّتَكُمْ، وَأَسْلَمْتُمْ أُمُورَ اللهِ فِي أَيْدِيهمْ، يَعْمَلُونَ بِالشُّبُهَاتِ، وَيَسِيرُونَ في الشَّهَوَاتِ، وَايْمُ اللهِ، لَوْ فَرَّقُوكُمْ تَحْتَ كُلِّ كَوْكَب، لَجَمَعَكُمُ اللهُ لِشَرِّ يَوْم لَهُمْ!

[ 106 ]
ومن خُطْبَة له (عليه السلام)
في بعض أيام صفين

وَقَدْ رَأَيْتُ جَوْلَتَكُمْ، وَانْحِيَازَكُمْ عَنْ صُفُوفِكُمْ، تَحُوزُكُمُ الْجُفَاةُ الطَّغَامُ(1)،

____________

1. الطَغام ـ كَجَراد ـ: أوغاد الناس.

الصفحة 239
وَأَعْرَابُ أَهْلِ الشَّامِ، وَأَنْتُمْ لَهَامِيمُ(1) الْعَرَبِ، وَيَآفِيخُ(2) الشَّرَفِ، وَالاَْنْفُ الْمُقَدَّمُ، وَالسَّنَامُ الاَْعْظَمُ، وَلَقَدْ شَفَى وَحَاوِحَ(3) صَدْرِي أَنْ رَأَيْتُكُمْ بِأَخَرَة(4)، تَحُوزُونَهُمْ كَمَا حَازُوكُمْ، وَتُزِيلُونَهُمْ عَنْ مَوَاقِفِهمْ كَمَا أَزَالُوكُمْ; حَسّاً(5) بالنِّصَالِ، وَشَجْراً(6) بِالرِّمَاحِ، تَرْكَبُ أُولاهُمْ أُخْرَاهُمْ كَالاِْبِلِ الْهِيمِ(7) الْمَطْرُودَةِ، تُرْمَى عَنْ حِيَاضِهَا، وَتُذَادُ(8) عَنْ مَوَارِدِهَا!

____________

1. لهَامِيم: جمع لِهْمِيم ـ بكسر اللام ـ وهو السابق الجَوَاد من الخيل والناس.

2. اليآفِيخ: جمع يَأفُوخ، وهو من الرأس حيث يلتقي عظم مقدّمه مع مؤخّره.

3. الوَحَاوِح ـ جمع وَحْوَحة ـ: صوت معه بُحَحٌ يصدر عن المتألم، والمراد حُرْقة الغيظ.

4. الاخَرَةُ ـ محركةً ـ: آخر الامر.

5. الحَسّ ـ بفتح الحاء ـ: القتل. 6. الشّجْر ـ كالضرب ـ: الطعن.

7. الهِيم ـ بكسر الهاء ـ: الابِل العِطاش. 8. تُذَادُ: تُمنَعُ.

الصفحة 240

[ 107 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
وهي من خطب الملاحم

[ الله تعالى ]

الْحَمْدُ للهِِ الْمُتَجَلِّي لِخَلْقِهِ بِخَلْقِهِ، وَالظَّاهِرِ لِقُلُوبِهِمْ بِحُجَّتِهِ، خَلَقَ الْخَلْقَ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّة، إِذْ كَانَتِ الرَّوِيَّاتُ لاَ تَلِيقُ إِلاَّ بِذَوي الضَّمائِرِ(1)، وَلَيْسَ بِذِي ضَمِير فِي نَفْسِهِ، خَرَقَ عِلْمُهُ بَاطِنَ غَيْبِ السُّتُرَاتِ(2)، وَأَحَاطَ بِغُمُوضِ عَقَائِدِ السَّرِيرَاتِ.

منها: في ذكر النبي(صلى الله عليه وآله)

اخْتَارَهُ مِنْ شَجَرَةِ الاَْنْبِيَاءِ، وَمِشْكَاةِ الضِّيَاءِ(3)، وَذُؤَابَةِ(4) الْعَلْيَاءِ، وَسُرَّةِ الْبَطْحَاءِ(5)، وَمَصَابِيحِ الظُّلْمَةِ، وَيَنَابِيعِ الْحِكْمَةِ.

____________

1. المراد بـ «ذوي الضمائر» ذووالقلوب والحواسّ البدائية.

2. السّترات: جمع سُتْرة، ما يُسْتَرُ به، أيّاً كان.

3. المِشْكاة: كل كُوّة غير نافذة، ومن العادة أن يوضع فيها المصباح.

4. الذّؤابة: الناصية، أومنبِتُها من الرأس.

5. البَطْحاء: ما بين أخْشَبَيْ مكة، كانت تسكنه قبائل من قريش، ويقال لهم قريش البِطاح.

الصفحة 241

منها:

طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ، قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ، وَأمْضى مَوَاسِمَهُ(1)، يَضَعُ من ذلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، مِنْ قُلُوب عُمْي، وَآذَان صُمٍّ، وَأَلْسِنَة بُكْم; مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ، وَمَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ; لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِأَضْوَاءِ الْحِكْمَةِ، وَلَمْ يَقْدَحُوا بِزِنَادِ الْعُلُومِ الثَّاقِبَةِ; فَهُمْ فِي ذلِكَ كَالاَْنْعَامِ السَّائِمَةِ، وَالصُّخُورِ الْقَاسِيَةِ.

قَدِ انْجَابَتِ السَّرائِرُ(2) لاَِهْلِ الْبَصَائِرِ، وَوَضَحَتْ مَحَجَّةُ الْحَقِّ)لِخَابِطِهَا(3)، وَأَسْفَرَتِ السَّاعَةُ عَنْ وَجْهِهَا، وَظَهَرَتِ الْعَلاَمَةُ لِمتَوَسِّمِهَا.

مَا لي أَرَاكُمْ أَشْبَاحاً بِلاَ أَرْوَاح، وَأَرْوَاحاً بِلاَ أَشْبَاح، وَنُسَّاكاً بِلاَ صَلاَح، وَتُجَّاراً بِلاَ أَرْبَاح، وَأَيْقَاظاً نُوَّماً، وَشُهُوداً غُيَّباً، وَنَاظِرَةً عُمْيَاً، وسَامِعَةً صُمَّاً، وَنَاطِقَةً بُكْماً!

رَايَةُ ضَلاَلة قَدْ قَامَتْ عَلَى قُطْبِهَا(4)، وَتَفرَّقَتْ بِشُعَبِهَا(5)، تَكِيلُكُمْ(6)

____________

1. مَوَاسِمُه: جمع مِيسَم ـ بكسر الميم ـ وهو المِكْواة، يجمع على مواسم وَمَيَاسم.

2. انجابَتْ، من قولهم: انجابت الناقة، إذا مدت عُنُقَها للحَلْب.

3. خابطها: السائر عليها.

4. قامت على قُطْبها: تمثيل لانتظام أمرها واستحكام قوتها.

5. شُعَب: جمع شُعْبة وهو الفرع.

6. تَكيلكم: أي تأخذكم للهلاك جملةً كما يأخذ الكيّال ما يكيله من الحَبّ.

الصفحة 242
بِصَاعِهَا، وَتَخْبِطُكُمْ بِبَاعِهَا(1). قَائِدُهَا خَارجٌ مِنْ الْمِلَّةِ، قَائِمٌ عَلَى الضِّلَّةِ; فَلاَ يَبْقَى يَوْمَئِذ مِنْكُمْ إِلاَّ ثُفَالَةٌ(2) كَثُفَالَةِ الْقِدْرِ، أَوْ نُفَاضَةٌ كَنُفَاضَةِ الْعِكْمِ(3)، تَعْرُكُكُمْ عَرْكَ الاَْدِيمِ(4)، وَتَدُوسُكُمْ دَوْسَ الْحَصَيدِ(5)، وَتَسْتَخْلِصُ الْمُؤْمِنَ مِنْ بَيْنِكُمُ اسْتَخْلاصَ الطَّيْرِ الْحَبَّةَ الْبَطِينَةَ(6) مِنْ بَيْنِ هَزِيلِ الْحَبِّ.

أَيْنَ تَذْهَبُ بِكُمُ الْمَذَاهِبُ، وَتَتِيهُ بِكُمُ الْغَيَاهِبُ، وَتَخْدَعُكُمُ الْكَوَاذِبُ؟ وَمِنْ أَيْنَ تُؤْتَوْنَ، وَأَنَّى تٌؤْفَكُون؟ فَلِكُلِّ أَجَل كِتَابٌ، وَلِكُلِّ غَيْبَة إِيَابٌ، فَاسْتَمِعُوا مِنْ رَبَّانِيِّكُمْ(7)، وَأَحْضِرُوهُ قُلُوبَكُمْ، واسْتَيْقِظُوا إِنْ هَتَفَ بِكُمْ(8)،

____________

1. تَخْبِطكم: من «خَبَطَ الشجرة» ضربها بالعصيّ ليتناثر ورقها، أومن خبط البعير بيده الارضَ أي ضربها. وعبّر بالباع ليفيد استطالتها عليهم، وتناولها لقريبهم وبعيدهم.

2. الثٌفالة ـ بالضم كالثّفل والثافل ـ: هو ما استقرّ تحت الشيء من كُدْرة. وثُقالة القِدْر: ما يبقى في قَعْرِهِ من عُكارة. والمراد: الارذال والسّفلة.

3. النّفاضة: ما يسقط بالنفض. والعِكْم ـ بالكسر ـ: العِدْل بالكسر أيضاً، وَنَمَطٌ تجعل فيه المرأة ذخيرتها. والمراد ما يبقى بعد تفريغه في خلال نسيجه فينفض لينظف.

4. العَرْك: شديد الدّلْك. وَعَرَكه: حَكّهُ حتى عفاه. والاديم: الجلد.

5. الحَصِيد: المحصود.

6. البَطِنة: السمينة.

7. الرّبّاني ـ بتشديد الباء ـ: المتألّهِ العارف بالله عزوجل.

8. هتف بكم: صاح بكم.

الصفحة 243
وَلْيَصْدُقْ رَائِدٌ(1) أَهْلَهُ، وَلْيَجْمَعْ شَمْلَهُ، وَلْيُحْضِرْ ذِهْنَهُ، فَلَقَدْ فَلَقَ لَكُمُ الاَْمْرَ فَلْقَ الْخَرَزَةِ، وَقَرَفَهُ قَرْفَ الصَّمْغَةِ(2).

فَعِنْدَ ذلِكَ أَخَذَ الْبَاطِلُ مَآخِذَهُ، وَرَكِبَ الْجَهْلُ مَرَاكِبَهُ، وَعَظُمَتِ الطَّاغِيَةُ، وَقَلَّتِ الدَّاعِيَةُ، وَصَالَ الدَّهْرُ صِيَالَ السَّبُعِ الْعَقُورِ، وَهَدَرَ فَنِيقُ(3) الْبَاطِلِ بَعْدَ كُظُوم(4)، وَتَوَاخَى النَّاسُ عَلَى الْفُجْورِ، وَتَهَاجَرُوا عَلَى الدِّينِ، وَتَحَابُّوا عَلَى الْكَذِبِ، وَتَبَاغَضُوا عَلَى الصِّدْقِ.

فَإِذَا كَانَ ذلِكَ كَانَ الْوَلَدُ غَيْظاً(5)، وَالْمَطَرُ قَيْظاً(6)، وَتَفِيضُ اللِّئَامُ فَيْضاً،

وَتَغِيضُ الْكِرَامُ غَيْضاً(7)، وَكَانَ أَهْلُ ذلِكَ الزَّمَانِ ذِئَاباً، وَسَلاَطَينُهُ سِبَاعاً، وَأَوْسَاطُهُ أُكَّالاً، وَفُقَرَاؤُهُ أَمْوَاتاً، وَغَارَ الصِّدْقُ، وَفَاض الْكَذِبُ، وَاسْتُعْمِلَتِ الْمَوَدَّةُ بِاللِّسَانِ، وَتَشَاجَرَ النَّاسُ بِالْقُلُوبِ، وَصَارَ الْفُسُوقُ نَسَباً، وَالْعَفَافُ عَجَباً، وَلُبِسَ الاِْسْلاَمُ لُبْسَ الْفَرْوِ مَقْلُوباً.

____________

1. الرائد: من يتقدم القوم ليكشف لهم مواضع الكَلا، ويتعرف سهولة الوصول اليها من صعوبته.

2. قرف الصّمْغة: قشرها. وخصّ هذا بالذكر لان الصمغة إذا قُشِرت لا يبقى لها أثر.

3. الفَنِيق: الفحل من الابل.

4. كُظُوم: إمساك وسكون.

5. كان الولد غيظاً: يغيظ والده لشُبُوبِهِ على العقوق. 6. القَيْظ: شدة الحر، والمراد بكون المطر قَيْظاً عدم فائدته. 7. تغيض: من «غاض الماء» إذا غار في الارض وجفّت ينابيعُهُ.

الصفحة 244

[ 108 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[في بيان قدرة الله وانفراده بالعظمة وأمر البعث]

[قدرة الله]

كُلُّ شَيْء خَاشِعٌ لَهُ، وَكُلُّ شَيْء قَائِمٌ بِهِ: غِنى كُلِّ فَقِير، وَعِزُّ كُلِّ ذَلِيل، وَقُوَّةُ كُلِّ ضَعِيف، وَمَفْزَعُ كُلِّ مَلْهُوف، مَنْ تَكَلَّمَ سَمِعَ نُطْقَهُ، وَمَنْ سَكَتَ عَلِمَ سِرَّهُ، وَمَنْ عَاشَ فَعَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَمَنْ مَاتَ فَإِلَيْهِ مُنْقَلَبُهُ.

لَمْ تَرَكَ الْعُيُونُ فَتُخْبِرَ عَنْكَ، بَلْ كُنْتَ قَبْلَ الْوَاصِفِينَ مِنْ خَلْقِكَ، لَمْ تَخُلُقِ الْخَلْقَ لِوَحْشَة، وَلاَ اسْتَعْمَلْتَهُمْ لِمَنْفَعَة، وَلاَ يَسْبِقُكَ مَنْ طلَبْتَ، وَلاَ يُفْلِتُكَ(1) مَنْ أَخَذْتَ، وَلاَ يَنْقُصُ سُلْطَانَكَ مَنْ عَصَاكَ، وَلاَ يَزِيدُ في مُلْكِكَ مَنْ أَطَاعَكَ، وَلاَيَرُدُّ أَمْرَكَ مَنْ سَخِطَ قَضَاءَكَ، وَلاَيَسْتَغْنِي عَنْكَ مَنْ تَوَلَّى عَنْ أَمْرِكَ.

كُلُّ سِرٍّ عِنْدَكَ عَلاَنِيَةٌ، وَكُلُّ غَيْب عِنْدَكَ شَهَادَةٌ. أَنْتَ الاَْبَدُ فَلاَ أَمَدَ لَكَ، وَأَنْتَ الْمُنْتَهَى فَلاَ مَحِيصَ عَنْكَ، وَأَنْتَ الْمَوْعِدُ فَلاَ مَنْجَى مِنْكَ إلاَّ إِلَيْكَ، بِيَدِكَ نَاصِيَةُ كُلِّ دَابَّة، وَإِلَيْكَ مَصِيرُ كُلِّ نَسَمَة.

سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ شَأْنَكَ! سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ مَا نَرَى مِنْ خَلْقِكَ! وَمَا

____________

1. لا يُفْلِتُكَ: لا يَنْفَلِتُ منك.

الصفحة 245
أصْغَرَ كُلَّ عَظِيمَة فِي جَنْبِ قُدْرَتِكَ! وَمَا أَهْوَلَ مَا نَرَى مِنْ مَلَكُوتِكَ! وَمَا أَحْقَرَ ذلِكَ فِيَما غَابَ عَنَّا مِنْ سُلْطَانِكَ! وَمَا أَسْبَغَ نِعَمَكَ فِي الدُّنْيَا، وَمَا أَصْغَرَهَا فِي نِعَمِ الاْخِرَةِ!

منها: [في الملائكة الكرام]

مِنْ مَلاَئِكَة أَسْكَنْتَهُمْ سَمَاوَاتِكَ، وَرَفَعْتَهُمْ عَنْ أَرْضِكَ; هُمْ أَعْلَمُ خَلْقِكَ بِكَ، وَأَخْوَفُهُمْ لَكَ، وَأَقْرَبُهُمْ مِنْكَ; لَمْ يَسْكُنُوا الاَْصْلاَبَ، وَلَمْ يُضَمَّنُوا الاَْرْحَامَ، وَلَمْ يُخْلَقُوا (مِنْ مَاء مَهين)(1)، وَلَمْ يَتَشَعَّبْهُمْ (رَيْبَ الْمَنُونِ)(2); وَإِنَّهُمْ عَلَى مَكَانِهمْ مِنْكَ، وَمَنْزِلَتِهِمْ عِنْدَكَ، وَاسْتِجْمَاعِ أَهْوَائِهِمْ فِيكَ، وَكَثْرَةِ طَاعَتِهِمْ لَكَ، وَقِلَّةِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ أَمْرِكَ، لَوْ عَايَنُوا كُنْهَ مَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ مِنْكَ لَحَقَّرُوا أَعْمَالَهُمْ، وَلَزَرَوْا(3) عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلَعَرَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ، وَلَمْ يُطِيعُوكَ حَقَّ طَاعَتِكَ.

[عصيان الخلق]

سُبْحَانَكَ خَالِقاً وَمَعْبُوداً! بِحُسْنِ بَلاَئِكَ(4) عِنْدَ خَلْقِكَ، خَلَقْتَ دَاراً،

____________

1. المَهِين: الحقير، يريد النُطْفَة.

2. المَنُون: الدهر. والرّيْب: صَرْفُهُ. أي لم تفرّقهم صروف الزمان.

3. زَرَى عليه ـ كرمى ـ: عَابَهُ.

4. البلاء يكون نعمة ويكون نقمةً، وَيتعيّن الاول بإضافة الحسن اليه. أي: ما عبدوك الاّ شكراً لنعمتك عليهم.

الصفحة 246
وَجَعَلْتَ فِيهَا مَأْدُبـَةً(1): مَشْرَباً وَمَطْعَماً، وَأَزْوَاجاً وَخَدَماً، وَقُصُوراً، وَأَنْهَاراً، وَزُرُوعاً، وَثِمَاراً.

ثُمَّ أَرْسَلْتَ دَاعِياً يَدْعُو إِلَيْهَا، فَلاَ الدَّاعِيَ أَجَابُوا، وَلاَ فِيَما رَغَّبْتَ رَغِبُوا، وَلاَ إِلَى مَا شَوَّقْتَ إِلَيْهِ اشْتَاقُوا.

أَقْبَلُوا عَلَى جِيفَة قَدْ افْتَضَحُوا بِأَكْلِهَا، وَاصْطَلَحُوا عَلَى حُبِّهَا، وَمَنْ عَشِقَ شَيْئاً أَعْشَى(2) بَصَرَهُ، وَأَمْرَضَ قَلْبَهُ، فَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْن غَيْرِ صَحِيحَة، وَيَسْمَعُ بَأُذُن غَيْرِ سَمِيعَة، قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ، وَأَمَاتَتِ الدُّنْيَا قَلْبَهُ، وَوَلِهَتْ عَلَيْهَا نَفْسُهُ، فَهُوَ عَبْدٌ لَهَا، وَلِمَنْ فِي يَدَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا، حَيْثُـمَا زَالَتْ زَالَ إِلَيْهَا، وَحَيْثُما أَقْبَلَتْ أَقْبَلَ عَلَيْهَا; لاَ يَنْزَجِرُ مِنَ اللهِ بِزَاجِر، وَلاَيَتَّعِظُ مِنْهُ بِوَاعِظ، وَهُوَ يَرَى الْمَأْخُوذِينَ عَلَى الْغِرَّةِ(3)، حَيْثُ لاَ إِقَالَةَ وَلاَ رَجْعَةَ، كَيْفَ نَزَلَ بِهمْ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَ، وَجَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا مَا كَانُوا يَأْمَنُونَ، وَقَدِمُوا مِنَ الاْخِرَةِ عَلَى مَا كَانُوا يُوعَدُونَ. فَغَيْرُ مَوْصُوف مَا نَزَلَ بِهمْ: اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ وَحَسْرَةُ الْفَوْتِ، فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ،

____________

1. المَأدُبة ـ بضم الدال وفتحها ـ: ما يصنع من الطعام للمدعوِّين في عرس ونحوه، والمراد منها هنا نعيم الجنة.

2. أعْشاه: أعماه.

3. على الغِرّة ـ بكسر الغين ـ: بغتة وعلى غفلة.

الصفحة 247
وَتَغَيَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ.

ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ فِيهِمْ وُلُوجاً(1)، فَحِيلَ بَيْنَ أَحَدِهِمْ وَبَيْنَ مَنْطِقِهِ، وَإِنَّهُ لَبَيْنَ أَهْلِهِ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ، وَيَسْمَعُ بِأُذُنِهِ، عَلَى صِحَّة مِنْ عَقْلِهِ، وَبَقَاء مِنْ لُبِّهِ، يُفَكِّرُ فِيمَ أَفْنَى عُمْرَهُ، وَفِيمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ! وَيَتَذَكَّرُ أَمْوَالاً جَمَعَهَا، أَغْمَضَ(2) فِي مَطَالِبِهَا، وَأَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّحَاتِهَا وَمُشْتَبِهَاتِهَا، قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ(3) جَمْعِهَا، وَأَشْرَفَ عَلَى فِرَاقِهَا، تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَهُ يَنْعَمُونَ فِيهَا، وَيَتَمَتَّعُونَ بِهَا، فَيَكُونُ الْمَهْنَأُ(4) لِغَيْرِهِ، وَالْعِبءُ(5) عَلَى ظَهْرِهِ. وَالْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُهُ(6) بِهَا، فَهُوَ يَعَضُّ يَدَهُ نَدَامَةً عَلَى مَا أَصْحَرَ لَهُ(7) عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ، وَيَزْهَدُ فِيَما كَانَ يَرْغَبُ فِيهِ أَيَّامَ عُمُرِهِ، وَيَتَمَنَّى أَنَّ الَّذِي كَانَ يَغْبِطُهُ بِهَا وَيَحْسُدُهُ

____________

1. وُلُوجاً: دُخُولاً.

2. أغْمَض: لم يفرِّق بين حلال وحرام، كأنه أغمض عينيه فلا يميّز.

3. تَبِعاتها ـ بفتح فكسر ـ: ما يطالبه به الناس من حقوقهم فيها، وما يحاسبه به الله من منع حقه منها وتخطّي حدود شرعه في جمعها.

4. المَهْنأ: ما أتاك من خير بلا مشقة.

5. العِبء: الحِمْل والثِّقَل.

6. غَلِقَتْ رهُونُهُ: استحقّها مُرْتَهِنُهَا، وَأعْوَزَتْهُ القدرةُ على تخليصها، كناية عن تعذّر الخلاص.

7. أصْحَرَ له: من «أصْحَرَ» إذا برز في الصحراء، أي على ما ظهر له وانكشف من أمره.

الصفحة 248
عَلَيْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ!

فَلَمْ يَزَلِ الْمَوْتُ يُبَالِغُ فِي جَسَدِهِ حَتَّى خَالَطَ [لِسَانُهُ ]سَمْعَهُ(1)، فَصَارَ بَيْنَ أَهْلِهِ لاَ يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ، وَلاَ يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ: يُرَدِّدُ طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ في وجُوهِهِمْ، يَرَى حَرَكَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ، وَلاَ يَسْمَعُ رَجْعَ كَلاَمِهِمْ.

ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ الْتِيَاطاً(2) بِهِ، فَقُبِضَ بَصَرُهُ كَمَا قُبِضَ سَمْعُهُ، وَخَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ، فَصَارَ جِيفَةً بَيْنَ أَهْلِهِ، قَدْ أوْ حَشُوا مِنْ جَانِبِهِ، وَتَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِهِ. لاَ يُسْعِدُ بَاكِياً، وَلاَ يُجِيبُ دَاعِياً.

ثُمَّ حَمَلُوهُ إِلَى مَخَطٍّ فِي الاَْرْضِ، فَأَسْلَمُوهُ فِيهِ إِلَى عَمَلِهِ، وَانْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِهِ(3).

[القيامة]

حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، وَالاَْمْرُ مَقَادِيرَهُ، وَأُلْحِقَ آخِرُ الْخَلْقِ بِأَوَّلِهِ، وَجَاءَ مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا يُرِيدُهُ مِنْ تَجْدِيدِ خَلْقِهِ، أَمَادَ(4) السَّماءَ وَفَطَرَهَا(5)،

____________

1. خالَطَ لسانُه سَمْعَهُ: شارك السمع اللسان في العجز عن أداءِ وظيفته.

2. الْتِياطاً: التصاقاً به.

3. زَوْرَته: زيارته.

4. أمادها: حركها على غير انتظام.

5. فَطَرَها: صَدَعَهَا.

الصفحة 249
وَأَرَجَّ الاَْرْضَ وَأَرْجَفَهَا، وَقَلَعَ جِبَالَها وَنَسَفَهَا، وَدَكَّ بَعْضُهَا بَعْضاً مِنْ هَيْبَةِ جَلاَلَتِهِ وَمَخُوفِ سَطْوَتِهِ، وَأَخْرَجَ مَنْ فِيهَا، فَجَدَّدَهُمْ بَعْدَ إِخْلاَقِهمْ(1)، وَجَمَعَهُمْ بَعْدَ تَفْرِيِقِهِم، ثُمَّ مَيَّزَهُمْ لِمَا يُريدُهُ مَنْ مَسْأَلَتِهِمْ عَنْ [خَفَايَا ]الاَْعْمَالِ وَخَبَايَا الاَْفْعَالِ، وَجَعَلَهُمْ فَرِيقَيْنِ: أَنْعَمَ عَلَى هؤُلاَءِ وَانْتَقَمَ مِنْ هؤُلاَءِ.

فَأَمَّا أَهْلُ الطَّاعَةِ فَأَثَابَهُمْ بِجِوَارِهِ، وَخَلَّدَهُمْ في دَارِهِ، حَيْثُ لاَ يَظْعَنُ النُّزَّالُ، وَلاَ تَتَغَيَّرُ بِهِمُ الْحَالُ، وَلاَ تَنُوبُهُمُ الاَْفْزَاعُ(2)، وَلاَ تَنَالُهُمُ الاَْسْقَامُ، وَلاَ تَعْرِضُ لَهُمُ الاَْخْطَارُ، وَلاَ تُشْخِصُهُمُ(3) الاَْسْفَارُ.

وَأَمَّا أَهْلُ الْمَعْصِيَةِ فَأَنْزَلَهُمْ شَرَّ دَار، وَغَلَّ الاَْيْدِيَ إِلَى الاَْعْنَاقِ، وَقَرَنَ النَّوَاصِيَ بِالاَْقْدَامِ، وَأَلْبَسَهُمْ سَرَابِيلَ الْقَطِرَانِ(4)، وَمُقَطَّعَاتِ(5) النِّيرَانِ، فِي

____________

1. إخْلاقهم: من قولهم: «ثوب خَلَق، وثياب أخلاق»، والمراد أن البِلى يشملهم كما يشمل الثياب البالية.

2. لا تَنُوبهم الافْزَاع: جمع فَزَع، بمعنى الخوف. تنوبهم: تنتابهم.

3. أشْخَصَهُ: أزعجه.

4. السّرْبال: القميص. والقَطِران معروف.

5. المقَطّعَات: كل ثوب يُقَطّعُ كالقميص والجبة ونحوها، بخلاف ما لا يُقَطّع كالازار والرداء.

الصفحة 250
عَذَاب قَدِ اشْتَدَّ حَرُّهُ، وَبَاب قَدْ أُطْبِقَ عَلَى أَهْلِهِ، فِي نَار لَهَا كَلَبٌ(1) وَلَجَبٌ(2)، وَلَهَبٌ سَاطِعٌ، وَقَصِيفٌ(3) هَائِلٌ، لاَ يَظْعَنُ مُقِيمُهَا، وَلاَ يُفَادَى أَسِيرُهَا، وَلاَ تُفْصَمُ كُبُولُهَا(4). لاَ مُدَّةَ لِلدَّارِ فَتَفْنَى، وَلاَ أَجَلَ لِلْقَوْمِ فَيُقْضَى.

منها: في ذكر النبي(صلى الله عليه وآله)

قَدْ حَقَّرَ الدُّنْيَا وَصَغَّرَهَا، وَأَهْوَنَ بَهَا وَهَوَّنَهَا، وَعَلِمَ أَنَّ اللهَ تعالى زَوَاهَا(5) عَنْهُ اخْتِيَاراً، وَبَسَطَهَا لِغَيْرِهِ احْتِقَاراً، فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ، وَأَمَاتَ ذِكْرَهَا عَنْ نَفْسِهَ، وَأَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ، لِكَيْلاَ يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً(6)، أوْ يَرْجُوَفِيهَا مَقَاماً.

بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ مُعْذِراً(7)، وَنَصَحَ لاُِمَّتِهِ مُنْذِراً، وَدَعاَ إِلَى الْجَنَّةِ مُبَشِّراً،

____________

1. عبّر «بالكَلَب» ـ محرّكاً ـ عَن هَيَجَانها.

2. اللّجَب: الصوت المرتفع.

3. القَصِيف: أشدّ الصوت.

4. كُبُول جمع كَبْل ـ بفتح فسكون ـ: القيد. وتُفْصَمُ: تنقطع.

5. زَوَاها: قَبَضَهَا. 6. الرِّيَاش: اللباس الفاخر.

7. مُعْذِراً: مبيّناًلله حجةً تقوم مقام العذر في عقابهم إن خالفوا أمره.

الصفحة 251
[وَخَوَّفَ مِنَ النَّارِ مُحَذِّراً].

[أهل البيت(عليه السلام)]

نَحْنُ شَجَرَةُ النُّبُوَّةِ، وَمَحَطُّ الرِّسَالَةِ، وَمُخْتَلَفُ الْمَلاَئِكَةِ(1)، وَمَعَادِنُ الْعِلْمِ، وَيَنَابِيعُ الْحُكْمِ، نَاصِرُنا وَمُحِبُّنَا يَنْتَظِرُ الرَّحْمَةَ، وَعَدُوُّنا وَمُبْغِضُنَا يَنْتَظِرُ السَّطْوَةَ.

[ 109 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[في أركان الدين]

[الاسلام]

إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَوَسَّلَ بِهِ الْمُتَوَسِّلُونَ إِلَى اللهِ سُبْحَانَهُ: الاِْيمَانُ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، وَالْجِهادُ فِي سَبِيلِهِ فَإِنَّهُ ذِرْوَةُ الاِْسْلاَمِ، وَكَلِمَةُ الاِْخْلاَصِ فَإِنَّهَا الْفِطْرَةُ، وَإِقَامُ الْصَّلاَةِ فَإِنَّهَا الْمِلَّةُ، وَإِيتَاهُ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا فَرِيضَةٌ وَاجِبَةٌ، وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ جُنَّةٌ مِنَ الْعِقَاب، وَحَجُّ الْبَيْتِ وَاعْتَِمارُهُ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَيَرْحَضَانِ الذَّنْبَ(2)، وَصِلَةُ الرَّحِمِ فَإِنَّهَا مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ وَمَنْسَأَةٌ(3) في

____________

1. مُخْتَلَف الملائكة ـ بفتح اللام ـ: محل اختلافهم أي ورود واحد منهم بعد الاخر، فيكون الثاني كأنه خَلَف للاول، وهكذا.

2. رَحَضَه ـ كمنعه ـ: غَسَلَه.

3. مَنْسَأة: مَطَالٌ فيه ومَزيد.

الصفحة 252
الاَْجَلِ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ فَإِنَّهَا تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ، وَصَدَقَةُ الْعَلاَنِيَةِ فَإِنَّهَا تَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ، وَصَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ فَإِنَّهَا تَقِي مَصَارعَ الْهَوَانِ.

أَفِيضُوا في ذِكْرِ اللهِ فَأنَّهُ أَحْسَنُ الذِّكْرِ، وَارْغَبُوا فِيَما وَعَدَ المُتَّقِينَ فَإِنَّ وَعْدَهُ أَصْدَقُ الْوَعْدِ، وَاقْتَدُوا بِهَدْيِ نَبِيِّكُمْ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ الْهَدْيِ، وَاسْتَنُّوا بِسُنَّتِهِ فَإِنَّهَا أهْدَى السُّنَنِ.

[فضل القرآن]

وَتَعَلَّمُوا الْقرْآن [فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ، وَتَفَقَّهُوا فِيهِ] فَإِنَّهُ رَبِيعُ الْقُلُوبِ، وَاسْتَشْفُوا بِنُورِهِ فَإِنَّهُ شِفَاءُ الصُّدُورِ، وَأَحْسِنُوا تِلاَوَتَهُ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ الْقَصَصِ.

وَإِنَّ الْعَالِمَ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ كَالْجَاهِلِ الْحَائِرِ الَّذِي لاَ يَسْتَفِيقُ مِنْ جَهْلِهِ، بَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ، وَالْحَسْرَةُ لَهُ أَلْزَمُ، وَهُوَ عَنْدَ اللهِ أَلْوَمُ(1).

[ 110 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[في ذم الدنيا]

أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا، فَإِنَّهَا حُلْوَةٌ خَضِرِةٌ، حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ، وَتَحَبَّبَتْ بِالْعَاجِلَةِ، وَرَاقَتْ بِالْقَلِيلِ، وَتَحَلَّتْ بِالاْمَالِ، وَتَزَيَّنَتْ بِالْغُرُورِ، لاَ تَدُومُ حَبْرَتُهَا(2)، وَلاَ تُؤْمَنُ فَجْعَتُهَا، غَرَّارَةٌ ضَرَّارَةٌ، حَائِلَةٌ(3) زَائِلَةٌ،

____________

1. ألْوَمُ: أشد لوماً لنفسه، لانه لا يجد عذراً يقبل أويرد.

2. الحَبْرَة ـ بالفتح ـ: السرور والنعمة.

3. حائلة: متغيّرة.

الصفحة 253
نَافِدَةٌ(1)بَائِدَةٌ(2)، أَكَّالَةٌ غَوَّالَةٌ(3)، لاَ تَعْدُوـ إِذَا تَنَاهَتْ إِلَى أُمْنِيَّةِ أَهْلِ الرَّغْبَةِ فِيهَا والرضى بِهَا ـ أَنْ تَكُونَ كَمَا قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ وتعالى: (كَمَاء أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّماَءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الاَْرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً(4) تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْء مُقْتَدِراً).

لَمْ يَكُنِ امْرُؤٌ مِنْهَا فِي حَبْرَة إِلاَّ أَعْقَبَتْهُ بَعْدَهَا عَبْرَةً(5)، وَلَمْ يَلْقَ منْ سَرَّائِهَا بَطْناً(6) إِلاَّ مَنَحَتْهُ مِنْ ضَرَّائِهَا ظَهْراً(7)، وَلَمْ تَطُلَّهُ(8) فِيهَا دِيمَةُ(9)

____________

1. نافدة: فانية. 2. بائدة: هالكة.

3. غَوّالة: مُهْلِكة.

4. الهَشِيم: النبت اليابس المكسّر.

5. العَبْرَة ـ بالفتح ـ: الدمعة قبل أن تفيض.

6. كنّى «بالبطن» عن الاقبال.

7. كنّى «بالظهر» عن الادبار.

8. الطَلّ: المطر الخفيف. وطَلّتْهُ السماء: أمطرتْه مطراً قليلاً.

9. الدّيمة: مطر يدوم في سكون، لا رعد ولا برق معه.

الصفحة 254
رَخَاء(1) إِلاَّ هَتَنَتْ(2) عَلَيهِ مُزْنَةُ بَلاَء! وَحَرِيٌّ إِذَا أَصْبَحَتْ لَهُ مُنْتَصِرَةً أَنْ تُمْسِيَ لَهُ مُتَنَكِّرَةً، وَإِنْ جَانِبٌ مِنْهَا اعْذَوْذَبَ وَاحْلَوْلَى، أَمَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ فَأَوْبَى(3)!

لاَ يَنَالُ امْرُؤٌ مِنْ غَضَارَتِهَا(4) رَغَباً(5)، إِلاَّ أَرْهَقَتْهُ(6) مِنْ نَوَائِبِهَا تَعَباً! وَلاَ يُمْسِي مِنْهَا فِي جَنَاحِ أَمْن، إِلاَّ أَصْبَحَ عَلَى قَوَادِمِ(7) خَوْف! غَرَّارَةٌ، غُرُورٌ مَا فِيهَا، فَانِيَةٌ، فَان مَنْ عَلَيْهَا، لاَ خَيْرَ في شَيْء مِنْ أَزْوَادِهَا إِلاَّ التَّقْوَى.

مَنْ أَقَلَّ مِنْهَا اسْتَكْثَرَ مِمَّا يُؤْمِنُهُ! وَمَنِ اسْتَكْثَرَ مِنْهَا اسْتَكْثَرَ مِمَّا

____________

1. الرّخاء: السّعة.

2. هَتَنَتِ المُزْن: انصبّت.

3. أوْبى: صار كثير الوباء، والوباء هو المعروف بالريح الاصفر.

4. الغَضَارة: النعمة والسّعة.

5. الرّغَب ـ بالتحريك ـ: الرغبة والمرغوب.

6. أرْهَقَتْهُ التعب: ألحقَتْهُ به.

7. القَوَادِم: جمع قادِمة، الواحدة من أربع أوعشر ريشات في مقدّم جناح الطائر، وهي القوادم، والعَشْر التي تحتها هي الخَوَافي.

الصفحة 255
يُوبِقُهُ(1)، وَزَالَ عَمَّا قَلِيل عَنْهُ.

كُمْ مِنْ وَاثِق بِهَا قَدْ فَجَعَتْهُ، وَذِي طُمَأْنِينَة إِلَيْهَا قَدْ صَرَعَتْهُ، وَذِي أُبَّهَة(2) قَدْ جَعَلَتْهُ حَقِيراً، وَذِي نَخْوَة(3) قَدْ رَدَّتْهُ ذَلِيلاً!

سُلْطَانُهَا دُوَّلٌ(4)، وَعَيْشُهَا رَنِقٌ(5)، وَعَذْبُهَا أُجَاجٌ(6)، وَحُلْوُهَا صَبِرٌ(7)، وَغِذَاؤُهَا سِمَامٌ(8)، وَأَسْبَابُهَا رِمَامٌ(9)! حَيُّهَا بِعَرَضِ مَوْت، وَصَحِيحُهَا بَعَرَضِ سُقْم! مُلْكُهَا مَسْلُوبٌ، وَعَزِيزُهَا مَغْلُوبٌ، وَمَوْفُورُهَا(10) مَنْكُوبٌ،

____________

1. يُوبِقُهُ: يُهْلكه.

2. أُبّهَة ـ بضم فتشديد ـ: عظَمَة. 3. النَّخْوَة ـ بفتح النون ـ: الافتخار.

4. دُوَّل ـ بضم الدال وفتح الواوالمشددة ـ: المتحوِّل.

5. رَنِق ـ بفتح فكسر ـ: كَدِر.

6. أُجاج: شديد المُلوحة.

7. الصّبِر ـ كَكَتِف ـ: عُصارة شجر مُرّ.

8. سِمام: جمع سم، مثلّث السين وهو من المواد ما إذا خالط المزاجَ أفسده فقتل صاحبه.

9. رِمام: جمع رُمّة بالضم: وهي القطعة البالية من الحبل.

10. مَوْفُورها: ما كثر منها. مصاب بالنكبة، وهي المصيبة: أي في مَعْرِض لذلك.

الصفحة 256
وَجَارُهَا مَحْرُوبٌ(1).

أَلَسْتُمْ فِي مَسَاكِنِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَطْوَلَ أَعْمَاراً، وَأَبْقَى آثَاراً، وَأَبْعَدَ آمَالاً، وَأَعَدَّ عَدِيداً، وَأَكْثَفَ جُنُوداً! تَعَبَّدُوا لِلدُّنْيَا أَيَّ تَعَبُّد، وَآثَرُوهَا أَيَّ إِيثَار، ثُمَّ ظَعَفُوا عَنْهَا بَغَيْرِ زَاد مُبَلِّغ وَلاَ ظَهْر قَاطِع(2).

فَهَلْ بَلَغَكُمْ أَنَّ الدُّنْيَا سَخَتْ لَهُمْ نَفْساً بِفِدْيَة(3)؟ أَوْ أَعَانَتْهُمْ بِمَعُونَة؟ أَوْ أَحْسَنَتْ لَهُمْ صُحْبَةً؟ بَلْ أَرْهَقَتْهُمْ بَالْفَوَادِحِ(4)، وَأوْهَنَتْهُمْ بِالْقَوَارِعِ(5)، وَضَعْضَعَتْهُمْ(6) بِالنَّوَائِبِ، وَعَفَّرَتْهُمْ(7) لِلْمَنَاخِرَ، وَوَطِئَتْهُمْ بَالْمَنَاسِمِ(8)،

____________

1. مَحْرُوب: من «حَرَبَهُ حَرْباً» ـ بالتحريك ـ إذا سلب ماله.

2. ظهر قاطع: راحلة تُرْكَبُ لقطع الطريق.

3. الفِدْية: الفِداء.

4. أَرْهَقَتْهُمْ: غَشِيَتْهُمْ. الفوادح ـ من فدحه الامر ـ إذا أثقله.

5. القوارع: المِحَن والدواهي.

6. ضَعْضَعَتْهُمْ: ذَلّلَتْهُمْ.

7. عَفّرَتْهم: كَبّتْهُمْ على مَنَاخِرَهِم في العَفَر، وهو التراب.

8. المَنَاسِم: جمع مِنْسَمْ، وهو مقدّم خُفّ البعير، أوالخُفّ نفسه.

الصفحة 257
وَأَعَانَتْ عَلَيْهِمْ (رَيْبَ الْمَنُونِ)، فَقَدْ رَأَيْتُمْ تَنَكُّرَهَا لِمَنْ دَانَ لَهَا(1)، وَآثَرَهَا وَأَخْلَدَ إِلَيْهَا(2)، حِينَ ظَعَنُوا عَنْهَا لَفِرَاقِ الاَْبَدِ.

هَلْ زَوَّدَتْهُمْ إِلاَّ السَّغَبَ(3)؟ أَوْ أَحَلَّتْهُمْ إِلاَّ الضَّنْكَ(4)؟ أوْ نَوَّرَتْ لَهُمْ إِلاَّ الظُّلْمَةَ؟ أَوْ أَعْقَبَتْهُمْ إِلاَّ النَّدَامَةَ؟

أَفَهذِهِ تُؤْثِرُونَ؟ أَمْ إِلَيْهَا تَطْمَئِنُّونَ؟ أَمْ عَلَيْهَا تَحْرِصُونَ؟ فَبِئْسَتِ الدَّارُ لَمَنْ لَمْ يَتَّهِمْهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا عَلَى وَجَل مِنْهَا!

فَاعْلَمُوا ـ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ـ بِأَنَّكُمْ تَارِكُوهَا وَظَاعِنُونَ عَنْهَا، وَاتَّعِظُوا فِيهَا بِالَّذِينَ (قَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً): حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِمْ فَلاَ يُدْعَوْنَ رُكْبَاناً(5)، وَأُنْزِلُوا [الاَْجْدَاثَ](6)فَلاَ يُدْعَوْنَ ضِيفَاناً، وَجُعِلَ لَهُمْ مِنَ الصَّفِيحِ(7)

____________

1. دَان لها: خضع.

2. أخلدَ لها: ركن إليها.

3. السّغَب ـ بالتحريك ـ: الجوع.

4. الضّنْكَ: الضّيق.

5. لا يُدْعَوْنَ رُكباناً: لا يقال لهم رُكْبان: جمع راكب، لان الراكب من يكون مختاراً، وله التصرّف في مركوبه.

6. الاجْدَاث: القبور.

7. الصّفِيح: وَجْهُ كل شيء عريض، والمراد وجه الارض.

الصفحة 258
أَجْنَانٌ(1)، وَمِنَ التُّرَابِ أَكْفَانٌ، وَمِنَ الرُّفَاتِ(2) جِيرَانٌ، فَهُمْ جِيرَةٌ لاَ يُجِيبُونَ دَاعِياً، وَلاَ يَمْنَعُونَ ضَيْماً، وَلاَ يُبَالُونَ مَنْدَبَةً، إِنْ جِيدُوا(3) لَمْ يَفْرَحُوا، وَإِنْ قُحِطُوا لَمْ يَقْنَطُوا، جَمِيعٌ وَهُمْ آحَادٌ، وَجِيرَةٌ وَهُمْ أَبْعَادٌ، مُتَدَانُونَ لاَ يَتَزَاوَرُونَ، وَقَرِيبُونَ لاَ يَتَقَارَبُونَ، حُلَمَاءُ قَدْ ذَهَبَتْ أَضْغَانُهُمْ، وَجُهَلاءُ قَدْ مَاتَتْ أَحْقَادُهُمْ، لاَ يُخْشَى فَجْعُهُمْ(4)، وَلاَ يُرْجَى دَفْعُهُمْ، اسْتَبْدَلُوا بِظَهْرِ الاَْرْضِ بَطْناً، وَبِالسَّعَةِ ضِيقاً، وَبِالاَْهْلِ غُرْبَةً، وَبِالنُّورِ ظُلْمَةً، فَجَاؤُوهَا كَمَا فَارَقُوهَا، حُفَاةً عُرَاةً، قَدْ ظَعَنُوا عَنْهَا بِأَعْمَالِهِمْ إِلَى الْحَيَاةِ الْدَّائِمَةِ وَالدَّارِ الْبَاقِيَةِ، كَمَا قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْق نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ).

[ 111 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
ذكر فيها ملك الموت وتوفية الانفس
[وعجز الخلق عن وصف الله]

هَلْ تُحِسُّ بِهِ إِذَا دَخَلَ مَنْزِلاً؟ أَمْ هَلْ تَرَاهُ إِذَا تَوَفَّى أَحَداً؟ بَلْ كَيْفَ يَتَوَفَّى

____________

1. الاجْنان: جمع جَنَن ـ بالتحريك ـ وهو القبر.

2. الرُفات: العظام المندقّة المحطومة.

3. جِيدُوا ـ بالبناء للمجهول ـ: مُطِرُوا.

4. لا يُخْشى فَجْعُهم: لا تَخافُ منهم أن يَفْجعوك بضرر.

الصفحة 259
الْجَنِينَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ؟! أَيَلِجُ(1) عَلَيْهِ مِنْ بَعْضِ جَوَارِحِهَا؟ أَمِ الرُّوحُ أَجَابَتْهُ بَإِذْنِ رَبِّهَا؟ أَمْ هُوَ سَاكِنٌ مَعَهُ فِي أَحْشَائِهَا؟ كَيْفَ يَصِفُ إِلهَهُ مَنْ يَعْجَزُ عَنْ صِفَةِ مَخْلُوق مِثْلِهِ؟!

[ 112 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[في ذم الدنيا]

وَأُحَذّرُكُمُ الدُّنْيَا، فَإِنَّهَا مَنْزِلُ قُلْعَة(2)، وَلَيْسَتْ بِدَارِ نُجْعَة(3)، قَدْ تَزَيَّنَتْ بَغُرُورِهَا، وَغَرَّتْ بِزِينَتِهَا، دَارُهَا هَانَتْ عَلَى رَبِّهَا، فَخَلَطَ حَلاَلَهَا بِحَرَامِهَا، وَخَيْرَهَا بِشَرِّهَا، وَحَيَاتَهَا بِمَوتِهَا، وَحُلْوَهَا بِمُرِّهَا، لَمْ يُصْفِهَا اللهُ لاَِوْلِيَائِهِ، وَلَمْ يَضِنَّ بِهَا عَلَى أَعْدَائِهِ، خَيْرُهَا زَهِيدٌ، وَشَرُّهَا عَتِيدٌ(4)، وَجَمْعُهَا يَنْفَدُ، وَمُلْكُهَا يُسْلَبُ، وَعَامِرُهَا يَخْرَبُ. فَمَا خَيْرُ دَار تُنْقَضُ نَقْضَ الْبِنَاءَ، وَعُمُر يَفْنَى فَنَاءَ الزَّادِ، وَمُدَّة تَنْقَطِعُ انْقِطَاعَ السَّيْرِ!

فاجْعَلُوا مَا افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ مِنْ طَلِبَتِكُمْ، وَاسْأَلُوهُ مِنْ أَدَاءِ حَقِّهِ مَا

____________

1. يَلِجُ: يدخل.

2. القُلْعة ـ بضم القاف وسكون اللام ـ: ليست بمُسْتَوْطَنَة.

3. النُجْعة ـ بضم النون ـ: طلب الكلافي موضعه، أي ليست محطّ الرحال ولا مبلغ الامال.

4. عَتِيد: حاضر.

الصفحة 260
سَأَلَكُمْ، وَأَسْمِعُوا دَعْوَةَ الْمَوْتِ آذَانَكُمْ قَبْلَ أَنْ يُدْعَى بِكُمْ.

إِنَّ الزَّاهِدِينَ في الدُّنْيَا تَبْكِي قُلُوبُهُمْ وَإِنْ ضَحِكُوا، وَيَشْتَدُّ حُزْنُهُمْ وَإِنْ فَرِحُوا، وَيَكْثُرُ مَقْتُهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَإِنِ اغْتُبِطُوا(1) بِمَا رُزِقُوا.

قَدْ غَابَ عَنْ قُلُوبِكُمْ ذِكْرُ الاْجَالِ، وَحَضَرَتْكُمْ كَوَاذِبُ الاْمَالِ، فَصَارَتِ الدُّنْيَا أَمْلَكَ بِكُمْ مِنَ الاْخِرَةِ، وَالْعَاجِلَةُ أَذْهَبَ بِكُمْ مِنَ الاْجِلَةِ، وَاِِنَّمَا أَنْتُم إِخْوَانٌ عَلَى دِينِ اللهِ، مَا فَرَّقَ بَيْنَكُمْ إِلاَّ خُبْثُ السَّرَائِرَ، وَسُوءُ الضَّمائِرِ، فَلاَ تَوَازَرُونَ، وَلاَ تَنَاصَحُونَ، وَلاَ تَبَاذَلُونَ، وَلاَ تَوَادُّونَ.

مَا بَالُكُمْ تَفْرَحُونَ بِالْيَسِيرَ مِنَ الدُّنْيَا تُدْرِكُونَهُ، وَلاَ يَحْزُنُكُمُ الْكَثِيرُ مِنَ الاخِرَةِ تُحْرَمُونَهُ! وَيُقْلِقُكُمُ الْيَسِيرُ مِنَ الدُّنْيَا يَفُوتُكُمْ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ ذلِكَ فِي وُجُوهِكُمْ، وَقَلَّةِ صَبْرِكُمْ عَمَّا زُوِيَ(2) مِنْهَا عَنْكُمْ! كَأَنَّهَا دَارُ مُقَامِكُمْ، وَكَأَنَّ مَتَاعَهَا بَاق عَلَيْكُمْ.

وَمَا يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ أَنْ يَسْتَقْبِلَ أَخَاهُ بِمَا يَخَافُ مِنْ عَيْبِهِ، إِلاَّ مَخَافَةُ أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ بِمِثْلِهِ، قَدْ تَصَافَيْتُمْ عَلَى رَفْضِ الاْجِلِ وَحُبِّ الْعَاجِلِ، وَصَارَ دِينُ أَحَدِكُمْ لُعْقَةً(3) عَلَى لِسَانِهِ، صَنِيعَ مَنْ قَدْ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ، وَأَحْرَزَ رِضَى سَيِّدِهِ.

____________

1. اغْتُبِطُوا ـ بالبناء للمجهول ـ: غبطهم غيرُهم بما آتاهم الله من الرزق.

2. زُوّيَ: من «زَوّاه» إذا نحّاه.

3. عبّر «باللّعْقة» عن الاقرار باللسان مع ركون القلب إلى مخالفته.

الصفحة 261

[ 113 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[وفيها مواعظ للناس]

الْحَمْدُ للهِ الْوَاصِلِ الْحَمْدَ بِالنِّعَمِ وَالنِّعَمَ بِالشُّكْرِ، نَحْمَدُهُ عَلَى آلاَئِهِ كَمَا نَحْمَدُهُ عَلَى بَلاَئِهِ، وَنَسْتَعِينُهُ عَلَى هذِهِ النُّفُوسِ الْبِطَاءِ(1) عَمَّا أُمِرَتْ بِهِ، السِّرَاعِ(2) إِلَى مَا نُهِيَتْ عَنْهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ مِمَّا أَحَاطَ بِهِ عِلْمُهُ، وَأَحْصَاهُ كِتَابُهُ: عِلْمٌ غَيْرُ قَاصِر، وَكِتَابٌ غَيْرُ مُغَادِر(3)، وَنُؤْمِنُ بِهِ إِيمَانَ مَنْ عَايَنَ الْغُيُوبَ، وَوَقَفَ عَلَى الْمَوْعُودِ، إِيمَاناً نَفَى إِخْلاَصُهُ الشِّرْكَ، وَيَقِينُهُ الشَّكَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، شَهَادَتَيْنِ تُصْعِدَانِ الْقَوْلَ، وَتَرْفَعَانِ الْعَمَلَ، لاَيَخِفُّ مِيزَانٌ تُوضَعَانِ فِيهِ، وَلاَ يَثْقُلُ مِيزَانٌ تُرْفَعَانِ مِنُهُ.

أُوصِيكُمْ، عِبَادَ اللهِ، بَتَقْوَى اللهِ الَّتي هِيَ الزَّادُ وَبِهَا الْمَعَاذُ: زَادٌ مُبْلِغٌ وَمَعَاذٌ مُنْجِحٌ، دَعَا إِلَيْهَا أَسْمَعُ دَاع، وَوَعَاهَا(4) خَيْرُ وَاع، فَأَسْمَعَ دَاعِيهَا،

____________

1. البِطاء ـ بكسر الباء ـ: جمع بطيئة.

2. السِّرَاع: جمع سريعة.

3. غير مُغَادِر: غير تارك شيئاً إلاّ أحاط به.

4. وَعَاها: حَفِطها وفهمها.

الصفحة 262
وَفَازَ وَاعِيهَا.

عِبَادَ اللهِ، إِنَّ تَقْوَى اللهِ حَمَتْ(1) أوْلِيَاءَ اللهِ مَحَارِمَهُ، وَأَلْزَمَتْ قُلُوبَهُمْ مَخَافَتَهُ، حَتَّى أَسهَرَتْ لَيَالِيَهُمْ، وَأَظْمَأَتْ هَوَاجِرَهُمْ(2); فَأَخَذُوا الرَّاحَةَ بِالنَّصَبِ(3)، وَالرِّيَّ بِالظَّمَإِ، وَاسْتَقْرَبُوا الاَْجَلَ فَبَادَرُوا الْعَمَلَ، وَكَذَّبُوا الاَْمَلَ فَلاَحَظُوا الاَْجَلَ.

ثُمَّ إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ فَنَاء، وَعَنَاء، وَغِيَر، وَعِبَر:

فَمِنَ الْفَنَاءِ أَنَّ الدَّهْرَ مُوتِرٌ قَوْسَهُ(4)، لاَ تُخْطِىءُ سِهَامُهُ، وَلاَ تُؤْسَى(5) جِرَاحُهُ، يَرْمِي الْحَيَّ بِالْمَوْتِ، وَالصَّحِيحَ بِالسَّقَمِ، وَالنَّاجِيَ بِالْعَطَبِ، آكِلٌ لاَ يَشْبَعُ، وَشَارِبٌ لاَ يَنْقَعُ(6).

وَمِنَ الْعَنَاءِ أَنَّ الْمَرْءَ يَجْمَعُ مَا لاَ يَأْكُلُ، وَيَبْني مَا لاَ يَسْكُنُ، ثُمَّ يَخْرُجُ

____________

1. حَمَى الشيء: منعه، أي منعتهم ارتكاب محرّماته.

2. الهَوَاجر: جمع هاجرة، شدة حرّ النهار، وقد أُظْمِئَتْ هذه الهواجرُ بالصيام.

3. النّصَب: التعب.

4. الدّهْر مُوتِرٌ قوْسَهُ: شَبّهه بمن أوْتَرَ قوسَهُ ليرمي بها أبناءه.

5. تُؤسى: تُداوى، من «أسَوْتُ الجراح» داويته. 6. لا يَنْقَع: لا يَشْتَفِي من العطش بالشرب.

الصفحة 263
إِلَى اللهِ، لاَ مَالاً حَمَلَ، وَلاَ بِنَاءً نَقَلَ!

وَمِنْ غِيَرِهَا(1) أَنَّكَ تَرَى الْمَرْحُومَ مَغْبُوطاً، والْمَغْبُوطَ مَرْحُوماً، لَيْسَ ذلِكَ إِلاَّ نَعِيماً زَلَّ(2)، وَبُؤْساً نَزَلَ.

وَمِنْ عِبَرِهَا أَنَّ المَرْءَ يُشْرِفُ عَلَى أَمَلِهِ فَيَقْتَطِعُهُ حُضُورُ أَجَلِهِ، فَلاَ أَمَلٌ يُدْرَكُ، وَلاَ مُؤَمَّلٌ يُتْرَكُ.

فَسُبْحَانَ اللهِ، مَا أَعَزَّ سُرُورَهَا! وَأَظْمَأَ رِيَّهَا! وَأَضْحَى فَيْئَهَا(3)! لاَ جَاء يُرَدُّ(4)، وَلاَ مَاض يَرْتَدُّ.

فَسُبْحَانَ اللهِ، مَا أَقْرَبَ الْحَيَّ مِنَ المَيِّتِ لِلَحَاقِهِ بِهِ، وَأَبْعَدَ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ لاِنْقِطَاعِهِ عَنْهُ!

إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بِشَرٍّ مِنَ الشَّرِّ إِلاَّ عِقَابُهُ، وَلَيْسَ شَيْءٌ بِخَيْر مِنَ الْخَيْرِ إِلاَّ ثَوَابُهُ، وَكُلُّ شَيْء مِنَ الدُّنْيَا سَمَاعُهُ أَعْظَمُ مِنْ عِيَانِهِ، وَكُلُّ شَيْء مِنَ الاْخِرَةِ عِيَانُهُ أَعْظَمُ مِنْ سَمَاعِهِ، فَلْيَكْفِكُمْ مِنَ الْعِيَانِ السَّمَاعُ، وَمِنَ الْغَيْبِ الْخَبَرُ.

وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا نَقَصَ مِنَ الدُّنْيَا وَزَادَ في الاْخِرَةِ خَيْرٌ مِمَّا نَقَصَ مِنَ

____________

1. غِيَرُها ـ بكسر الغين وفتح الراء ـ: تقلّباتها.

2. ليس ذلك إلاّ نعيماً زَلّ: من «زَلّ فلان زَليلاً وَزُلُولاً» إذا مرّ سريعاً. والمراد: انتقل.

3. أضْحى: برز للشمس. والفَيْء: الظلّ بعد الزوال، أومطلقاً.

4. لا جاء يُرَدّ: الجائي يريد به الموتَ.

الصفحة 264
الاْخِرَةِ وَزَادَ فِي الدُّنْيَا: فَكَمْ مِنْ مَنْقُوص رَابح وَمَزِيد خَاسِر! إنَّ الَّذي أُمِرْتُمْ بِهِ أَوْسَعُ مِنَ الَّذِي نُهِيتُمْ عَنْهُ، وَمَا أُحِلَّ لَكُمْ أَكْثَرُ مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ، فَذَرُوا مَا قَلَّ لِمَا كَثُرَ، وَمَا ضَاقَ لِمَا اتَّسَعَ.

قَدْ تُكُفِّلَ لِكُمْ بِالرِّزْقِ، وَأُمِرْتُمْ بَالْعَمَلِ، فَلاَ يَكُونَنَّ الْمَضْمُونُ لَكُمْ طَلَبُهُ أَوْلَى بِكُمْ مِنَ الْمَفْرُوضِ عَلَيْكُمْ عَمَلُهُ، مَعَ أَنَّهُ واللهِ لَقَدِ اعْتَرَضَ الشَّكُّ، وَدَخِلَ(1) الْيَقِينُ، حَتَّى كَأَنَّ الَّذِي ضُمِنَ لَكُمْ قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ، وَكَأَنَّ الَّذِي قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ قَدْ وُضِعِ عَنْكُمْ.

فَبَادِرُوا الْعَمَلَ، وَخَافُوا بَغْتَةَ الاَْجَلِ، فَإِنَّهُ لاَ يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الْعُمُرِ مَا يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الرِّزْقِ، مَا فَاتَ الْيَوْمَ مِنَ الرِّزْقِ رُجِيَ غَداً زِيَادَتُهُ، وَمَا فَاتَ أَمْسِ مِنَ الْعُمُرِ لَمْ يُرْجَ الْيَوُمَ رَجْعَتُهُ. الرَّجَاءُ مَعَ الْجَائِي، وَالْيَأْسُ مَعَ الْمَاضِي، فـَ (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

[ 114 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
في الاستسقاء

اللَّهُمَّ قَدِ انْصَاحَتْ(2) جِبَالُنَا، وَاغْبَرَّتْ أَرْضُنَا، وَهَامَتْ(3) دَوَابُّنَا، وَتَحَيَّرَتْ

____________

1. دَخِلَ ـ كفرح ـ: خالطَه فسادُ الاوهام.

2. انصاحَتْ: جَفّتْ أعالي بُقُولها وَيَبست من الجَدْب. وهذا أنسبُ من تفسير الرضيّ في آخر الدعاء.

3. هامَت: نَدّت وذهبَتْ على وجوهها من شدة المَحْل. وهذا أنسب من تفسير الهيام بالعطش كما يقول الرضي في آخر الدعاء.

الصفحة 265
في مَرَابِضِهَا(1)، وَعَجَّتْ عَجِيجَ الثَّكَالَى(2) عَلَى أَوْلاَدِهَا، وَمَلَّتِ التَّرَدُّدَ في مَرَاتِعِهَا، وَالحَنِينَ إِلَى مَوَارِدِهَا.

اللَّهُمَّ فَارْحَمْ أَنِينَ الاْنَّةِ(3)، وَحَنِينَ الْحَانَّةِ(4)!

اللَّهُمَّ فَارْحَمْ حَيْرَتَهَا فِي مَذَاهِبِهَا، وَأَنِينَهَا في مَوَالِجِهَا(5)!

اللَّهُمَّ خَرَجْنَا إِلَيْكَ حِينَ اعْتَكَرَتْ عَلَيْنَا حَدَابِيرُ السِّنِينَ، وَأَخْلَفَتْنَا مَخَايِلُ الْجُودِ(6); فَكُنْتَ الرَّجَاءَ لِلْمُبْتَئِسِ، وَالْبَلاَغَ(7) لِلْمُلْتَمِسِ.

نَدْعُوكَ حِينَ قَنَطَ الاَْنَامُ، وَمُنِعَ الْغَمَامُ، وَهَلَكَ الْسَّوَامُ(8)، أَلاَّ تُؤَاخِذَنَا

____________

1. مَرَابِض: جمع مَرْبِض، بكسر الباء، وهو مَبْرَك الغنم.

2. عَجّتْ عَجِيجَ الثّكَالى: صاحت بأعلى صوتها.

3. الانّة: الشاة.

4. الحانّة: الناقة.

5. مَوَالجها: مداخلها في المرارض.

6. مَخَايل: جمع مُخِيلة ـ كمُصِيبة ـ هي السحابة تظهر كأنّها ماطرة ثم لاتمطر. والجَوْد ـ بفتح الجيم ـ: المطر.

7. المُبْتَئِس: الذي مسّتْهُ البأساءُ والضرّاع، والبلاغ: الكفاية.

8. السّوامّ: جمع سائمة، وهي البهيمة الراعية من الابل ونحوها.