الصفحة 266
بَأَعْمَالِنَا، وَلاَ تَأْخُذَنَا بِذُنُوبِنَا، وَانْشُرْ عَلَيْنَا رَحْمَتَكَ بِالسَّحَابِ الْمُنْبَعِقِ(1)، وَالرَّبِيعِ الْمُغْدِقِ(2)، وَالنَّبَاتِ الْمُونِقِ(3)، سَحّاً وَابِلاً(4) تُحْيِي بِهِ مَا قَدْ مَاتَ، وَتَرُدُّ بِهِ مَا قَدْ فَاتَ.

اللَّهُمَّ سُقْيَا مِنْكَ مُحْيِيَةً مُرْوِيَةً، تَامَّةً عَامَّةً، طَيِّبَةً مُبَارَكَةً، هَنِيئَةً مَرِيعَةً(5)، زَاكِياً(6) نَبْتُهَا، ثَامِراً(7) فَرْعُهَا، نَاضِراً وَرَقُهَا، تُنْعِشُ بِهَا الضَّعِيفَ مِنْ عِبَادِكَ، وَتُحْيِي بِهَا الْمَيِّتَ مِنْ بِلاَدِكَ!

اللَّهُمَّ سُقْيَا مِنْكَ تُعْشِبُ بِهَا نِجَادُنَا(8)، وَتَجْرِي بِهَا وِهَادُنَا(9)، وَيُخْصِبُ

____________

1. انْبَعَقَ المُزْن: انفرج عن المطر كأنما هو حيّ، انشقت بطنه فنزل ما فيها.

2. أغْدَقَ المطرُ: كثر ماؤه.

3. المُونِقُ: من «آنَقَني» إذا أعجبني، أومن «آنَقَهُ» إذا سرّه وأفرَحَه.

4. سَحّاً: صَبّاً. والوابل: الشديد من المطر الضخم القِطْر.

5. المَرِيعَة ـ بفتح الميم ـ: الخصيبة.

6. زاكياً: نامياً.

7. ثامِراً: مُثْمِراً، آتياً بالثمر.

8. النّجاد ـ جمع النجد ـ: ما ارتفع من الارض.

9. الوِهاد ـ جمع الوَهْدة ـ: ما انخفض من الارض.

الصفحة 267
بِهَا جَنَابُنَا(1) وَتُقْبِلُ بِهَا ثِمَارُنَا، وَتَعِيشُ بِهَا مَوَاشِينَا، وَتَنْدَى بِهَا أَقَاصِينَا(2)، وَتَسْتَعِينُ بِهَا ضَوَاحِينَا(3)، مِنْ بَرَكَاتِكَ الْوَاسِعَةِ، وَعَطَايَاكَ الْجَزِيلَةِ، عَلَى بَرِيَّتِكَ الْمُرْمِلَةِ(4)، وَوَحْشِكَ الْمُهْمَلَةِ.

وَأَنْزِلْ عَلَيْنَا سَمَاءً مُخْضِلَةً(5)، مِدْرَاراً هَاطِلَةً، يُدَافِعُ الْوَدْقُ(6) مِنْهَا الْوَدْقَ، وَيَحْفِزُ(7) الْقَطْرُ مِنْهَا الْقَطْرَ، غَيْرَ خُلَّب بَرْقُهَا(8)، وَلاَ جَهَام عَارِضُهَا(9)، وَلاَ قَزَع رَبَابُهَا(10)، وَلاَ شَفَّان ذِهَابُهَا(11)، حَتَّى يُخْصِبَ لاِِمْرَاعِهَا

____________

1. الجَناب: الناحية.

2. القاصية: البعيدة عنا من أطراف بلادنا في مقابلة جنابنا.

3. ضاحية الماء: التي تشرب ضُحىً، والضّوَاحي: جمعها.

4. المُرْمِلة ـ بصيغة الفاعل ـ: الفقيرة.

5. مُخْضِلة: من «أخْضَلَهُ» إذا بلّهُ.

6. الوَدْق: المطر.

7. يَحْفِز: يدفع.

8. البرق الخُلّب: ما يُطْمِعُك في المطر ولا مطرَ معه.

9. الجَهَام ـ بفتح الجيم ـ: السّحاب الذي لا مطرَ فيه. والعارض: ما يعْرِض في الافُق من السحاب.

10. الرّباب: السحاب الابيض. والقَزَع من الرّباب فسّره الرّضي بالقطع الصغيرة المتفرقة من السحاب.

11. الذِّهاب ـ بكسر الذال ـ: جمع ذِهبَة ـ بكسر الذال أيضاً ـ: الامطار القليلة أوالليّنة، كما قال الشريف في تفسيرها.

الصفحة 268
الُْمجْدِبُونَ، وَيَحْيَا بِبَرَكَتِهَا المُسْنِتُونَ(1)، فَإِنَّكَ تُنْزِلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا، وَتَنْشُرُ رَحْمَتَكَ، وَأَنْتَ الْوَلِيُّ الْحَميدُ.
تفسير ما في هذه الخطبة من الغريب

قوله (عليه السلام): (انْصَاحَتْ جِبَالُنَا) أي: تَشَقّقَتْ مِنَ المُحُولِ، يُقَالُ: انْصَاحَ الثّوْبُ: إذَا انْشَقّ، وَيُقَالُ أيْضاً: انْصَاحَ النّبْتُ وَصَاح وَصَوّح: إذَا جَفّ وَيَبِسَ. وَقَوْلُهُ: (وَهَامَتْ دَوَابّنَا) أيْ: عَطِشَتْ، وَالْهُيَامُ: الْعَطَشُ. وَقَوْلُهُ: (حَدَابِيرُ السّنِينَ) جمع حِدبار، وهي: الناقَة التي أنضاها السّيْرُ، فشبّه بها السنة التي فشا فِيهَا الجَدْبُ، قَالَ ذوالرّمّةِ:

حَدَابِيرُ مَا تَنْفَكُّ إلاّ مُنَاخَةً * عَلَى الْخَسْفِ أوْ نَرْمِي بِهَا بَلَداً قَفْرَا
وَقَولُهُ: (وَلاَ قَزَع رَبَابُهَا)، الْقَزَعُ: الْقِطَعُ الصّغَارُ الْمُتَفَرّقَهُ مِنَ السَّحَابِ. وَقَوْلُهُ: (وَلاَ شَفّان ذِهَابُهَا) فَإنّ تَقْديرَهُ: وَلاَ ذَاتَ شَفّان ذِهَابُهَا. وَالشّفّانُ: الرّيحُ البَارِدَةُ. وَالذِّهَابُ: الامْطَارُ اللّيّنَةُ، فَحَذَفَ (ذَاتَ) لِعِلْمِ السّامِعِ بِهِ.

[ 115 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[وفيها ينصح أصحابه]

أَرْسَلَهُ دَاعِياً إِلَى الْحَقِّ، وَشَاهِداً عَلَى الْخَلْقِ، فَبَلَّغَ رَسَالاَتِ رَبِّهِ غَيْرَ وَان(2) وَلاَ مُقَصِّر، وَجَاهَدَ فِي اللهِ أَعْدَاءَهُ غَيْرَ وَاهِن(3) وَلاَ مُعَذِّر(4)، إِمَامُ

____________

1. المُسْنِتُون: المُقْحِطُون.

2. وان: متباطىء متثاقل.

3. واهِن: ضعيف.

4. المُعَذِّر: من يعتذر ولا يثبت له عذر.

الصفحة 269
مَنِ اتَّقَى، وَبَصَرُ مَنِ اهْتَدَى.

وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ مِمَّا طُوِيَ عَنْكُمْ غَيْبُهُ، إِذاً لَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ(1)، تَبْكُونَ عَلَى أَعْمَالِكُمْ، وَتَلْتَدِمُونَ(2) عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَتَرَكْتُمْ أَمْوَالَكُمْ لاَ حَارِسَ لها وَلاَ خَالِفَ(3) عَلَيْهَا، وَلَهَمَّتْ(4) كُلَّ امْرِىء مِنْكُمْ نَفْسُهُ، لاَ يَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهَا; وَلَكِنَّكُمْ نَسِيتُمْ مَا ذُكِّرْتُمْ، وَأَمِنْتُمْ مَا حُذِّرْتُمْ، فَتَاهَ عَنْكُمْ رَأْيُكُمْ، وَتَشَتَّتَ عَلَيْكُمْ أَمْرُكُمْ.

وَلَوَدِدْتُ أَنَّ اللهَ فَرَّقَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَأَلْحَقَنِي بِمَنْ هُوَ أَحَقُّ بِي مِنْكُمْ، قَوْمٌ واللهِ مَيَامِينُ(5) الرَّأْيِ، مَرَاجِيحُ(6) الْحِلْمِ، مَقَاوِيلُ(7) بِالْحَقِّ،

____________

1. الصُّعُدات ـ بضمتين ـ: جمع صَعيد بمعنى الطريق، أي: لتركتم منازلهم وهِمْتُم في الطّرُق من شدة الخوف.

2. الالْتِدام: ضرب النساء صدورهن أووجوهَهن للنياحة.

3. الخالف: مَن تتركه في أهلك ومالك، إذاخرجت لسفرأ وحرب.

4. هَمّتْهُ: حَزَنَتْهُ وَشَغَلَتْهُ.

5. ميامين ـ جمع مَيْمُون ـ: مُبارَك.

6. مَرَاجيح: أي حُلَماء، من «رجح» إذا ثَقُلَ ومال بغيره، والمراد الرزانة.

7. مَقاوِيل: جمع مِقْوَال: من يُحْسنُ القولَ.

الصفحة 270
مَتَارِيكُ(1) لِلْبَغْيِ. مَضَوْا قُدُماً(2) عَلَى الطَّرِيقَةِ، وَأَوْجَفُوا(3) عَلَى الْـمَحَجَّةِ(4)، فَظَفِرُوا بَالْعُقْبَى الْدَّائِمَةِ، وَالْكَرَامَةِ الْبَارِدَةِ(5).

أَمَا وَاللهِ، لَيُسَلَّطَنَّ عَلَيْكُمْ غُلاَمُ ثَقِيف الذَّيَّالُ(6) الْمَيَّالُ، يَأْكُلُ خَضِرَتَكُمْ، وَيُذِيبُ شَحْمَتَكُمْ، إِيه أَبَا وَذَحَةَ!
قال السيّد: الْوَذَحَةُ: الخُنْفُسَاءُ. وهذا القول يومىءُ به إلى الحجاج، وله مع الوذحة حديث ليس هذا موضع ذكره.

____________

1. مَتَارِيك ـ جمع مِتْرَاك ـ: المبالغ في الترك. 2. القُدُم ـ بضمتين ـ: المُضِيّ أمام، أي سابقين.

3. الوَجِيف: ضرب من سير الخيل والابل. وأوْجَفَ خيلَة: سيّرها بهذا النوع، والمراد السرعة.

4. المَحَجّة: الطريق المستقيمة.

5. الكرامة الباردة: من قولهم «عيش بارد» أي هنيء.

6. الذّيّال: الطويل القَدّ. الطويل الذّيْل: المتبختر في مشيته.

الصفحة 271

[ 116 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
[يوبخ البخلاء بالمال والنفس]

فَلاَ أَمْوَالَ بَذَلُْتموهَا لِلَّذِي رَزَقَهَا، وَلاَ أَنْفُسَ خَاطَرْتُمْ بِهَا لِلَّذِي خَلَقَهَا، تَكْرُمُونَ(1) بِاللهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَلاَ تُكْرِمُونَ اللهَ فِي عِبَادِهِ! فَاعْتَبِرُوا بِنُزُولِكُمْ مَنَازِلَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَانْقِطَاعِكُمْ عَنْ أَصْلِ إِخْوَانِكُمْ!

[ 117 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
[في الصالحين من أصحابه]

أَنْتُمُ الاَنْصَارُ عَلَى الْحَقِّ، وَالاِخُوَانُ في الدِّينِ، وَالْجُنَنُ(2) يَوْمَ الْبَأْسِ(3)، وَالْبِطَانَةُ(4) دُونَ النَّاسِ، بِكُمْ أَضْرِبُ الْمُدْبِرَ، وَأَرْجُو طَاعَةَ الْمُقْبِلِ، فَأَعِينُوني بِمُنَاصَحَة خَلِيَّة مِنَ الْغِشِّ، سَلِيمَة مِنَ الرَّيْبِ; فَوَ اللهِ إِنِّي لاََوْلَى النَّاسِ بِالنَّاسِ!

____________

1. كَرُمَ الشيء ـ كَحَسُنَ يَحْسُنُ ـ: أي عَزّ ونَفُسَ.

2. الجُنَن ـ بضم ففتح ـ: جمع جُنّة ـ بالضم ـ وهي الوقاية.

3. البأس: الشدة.

4. بطانة الرجل: خواصّه وأصحاب سرّه.

الصفحة 272

[ 118 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
وقد جمع الناس وحضّهم على الجهاد، فسكتوا ملياً، فقال(عليه السلام)

مَا بَالُكُمْ أَمُخْرَسُونَ أَنْتُمْ؟

فقال قوم منهم: يا أميرالمؤمنين، إن سرتَ سرنا معك.

فقال(عليه السلام):

مَا بَالُكُمْ! لاَ سُدِّدْتُمْ(1) لِرُشْد! وَلاَ هُدِيتُمْ لَقَصْد! أَفِي مِثْلِ هذَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَخْرُجَ؟ إِنَّمَا يَخْرُخُ فِي مِثْلِ هذَا رَجُلٌ مِمَّنْ أَرْضَاهُ مِنْ شُجْعَانِكُمْ وَذَوِي بَأْسِكُمْ، وَلاَ يَنْبَغِي لِي أَنْ أَدَعَ الْجُنْدَ، وَالْمِصْرَ، وَبَيْتَ الْمَالِ، وَجِبَايَةَ الاَْرْضِ، وَالْقَضَاءَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالنَّظَرَ في حُقُوقِ الْمُطَالِبِينَ، ثُمَّ أَخْرُجَ فِي كَتِيبَة أَتْبَعُ أُخْرَى، أَتَقَلْقَلُ تَقَلْقُلَ الْقِدْحِ(2) فِي الْجَفِيرِ(3) الْفَارِغِ، وَإِنَّمَا أَنَا قُطْبُ الرَّحَا، تَدُورُ عَلَيَّ وَأَنَا بِمَكَاني، فَإِذَا فَارَقْتُهُ اسْتَحَارَ(4) مَدَارُهَا، وَاضْطَرَبَ ثِفَالُهَا(5). هذَا لَعَمْرُ اللهِ الرَّأْيُ السُّوءُ.

____________

1. سَدّده: وفّقه للسداد.

2. الِقدْح ـ بكسر القاف ـ: السهم قبل أن يُرَاشَ وَيُنْصَلَ.

3. الجَفِير: الكنانة توضع فيها السهام.

4. اسْتَحَارَ: تَرَدّدَ واضطرب.

5. الثِّفال ـ بكسر الثاء ـ: جلد يُبْسَطُ ويوضع الرّحا فوقه فيطحن باليد ليسقط عليه الدقيق.

الصفحة 273
وَاللهِ لَوْلاَ رَجَائِي الشَّهَادَةَ عِنْدَ لِقَائِي الْعَدُوَّ ـ وَلَوْ قَدْ حُمَّ(1) لِي لِقَاؤُهُ ـ لَقَرَّبْتُ رِكَابِي(2) ثُمَّ شَخَصْتُ(3) عَنْكُمْ، فَلاَ أَطْلُبُكُمْ مَا اخْتَلَفَ جَنُوبٌ وَشَمَالٌ.

[طَعَّانِينَ عَيَّابِينَ، حَيَّادِينَ رَوَّاغِينَ. إِنَّهُ لاَ غَنَاءَ(4) فِي كَثْرَةِ عَدَدِكُمْ مَعَ قِلَّةِ اجْتَِماعِ قُلُوبِكُمْ. لَقَدْ حَمَلْتُكُمْ عَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ الَّتي لاَ يَهْلِكُ عَلَيْهَا إِلاَّ هَالِكٌ(5)، مَنِ اسْتَقَامَ فَإِلَى الْجَنَّةِ، وَمَنْ زَلَّ فَإِلَى النَّارِ!].

____________

1. حُمّ: قُدّر.

2. قَرّبت ركابي: حزمت إبلي وأحضرتها للركوب.

3. شَخَصْتُ: بعدتُ عنكم و تخليت عن أمر الخلافة.

4. الغَنَاء ـ بالفتح والمد ـ: النفع.

5. الهالك ـ هنا ـ: الذي حُتّم هلاكه لتمكن الفساد من طبعه وجبلّته.

الصفحة 274

[ 119 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
[يذكر فضله ويعظ الناس]

تَاللهِ لَقَدْ عُلِّمْتُ تَبْلِيغَ الرِّسَالاَتِ، وَإِتْمَامَ الْعِدَاتِ(1)، وَتَمَامَ الْكَلِمَاتَ. وَعِنْدَنَا ـ أَهْلَ الْبَيْتِ ـ أَبْوَابُ الْحُكْمِ وَضِيَاءُ الاَْمْرِ.

أَلاَ وَإِنَّ شَرَائِعَ الدِّينِ وَاحِدَةٌ، وَسُبُلَهُ قَاصِدَةٌ(2)، مَنْ أَخَذَ بِهَا لَحِقَ وَغَنِمَ، وَمَنْ وَقَفَ عَنْهَا ضَلَّ وَنَدِمَ.

اعْمَلُوا لِيَوْم تُذْخَرُ لَهُ الذَّخَائِرُ، وَتُبْلَى فِيهِ السَّرَائِرُ، وَمَنْ لاَ يَنْفَعُهُ حَاضِرُ لُبِّهِ فَعَازِبُهُ(3) عَنْهُ أَعْجَزُ، وَغَائِبُهُ أَعْوَزُ(4). وَاتَّقُوا نَاراً حَرُّهَا شَدِيدٌ، وَقَعْرُهَا بَعِيدٌ، وَحِلْيَتُهَا حَدِيدٌ، [وَشَرَابُهَا صَدِيدٌ](5)

أَلاَ وَإِنَّ اللِّسَانَ الصَّالِحَ(6) يَجْعَلُهُ اللهُ لِلْمَرْءِ فِي النَّاسِ، خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْمَالِ يُورِثُهُ مَنْ لاَ يَحْمَدُهُ.

____________

1. العِدَات: جمع عِدَة بمعنى الوعد. 2. قَاصدة: مستقيمة.

3. عازِبُهُ: غائبه.

4. عَوِزَ الشيء ـ كفرح ـ أي: لم يوجد.

5. الصّدِيد: ماء الجرح الرقيق، والحميم.

6. اللسان الصالح: الذّكر الحسن.

الصفحة 275

[ 120 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
[بعد ليلة الهرير]

وقد قام رجل من أصحابه فقال: نهيتنا عن الحكومة ثمّ أمرتنا بها، فما ندري أيّ الامرين أَرشد؟

فصفق(عليه السلام) إحدى يديه على الاخرى ثمّ قال:

هذا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْعُقْدَةَ!(1) أَمَا وَاللهِ لَوْ أَنِّي حِينَ أَمَرْتُكُمْ بِما أَمَرْتُكُمْ بِهِ حَمَلْتُكُمْ عَلَى الْمَكْرُوهِ الَّذِي يَجْعَلُ اللهُ فِيهِ خَيْراً، فَإِنِ اسْتَقَمْتُمْ هَدَيْتُكُمْ وَإِنِ اعْوَجَجْتُمْ قَوَّمْتُكُمْ وَإِنْ أَبَيْتُمْ تَدَارَكْتُكُمْ، لَكَانَتِ الْوُثْقَى، وَلكِنْ بِمَنْ وَإِلَى مَنْ؟ أُرِيدُ أَنْ أُدَاوِيَ بِكُمْ وَأَنْتُمْ دَائي، كَنَاقِشِ الشَّوْكَةِ بِالشَّوْكَةِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ضَلْعَهَا(2) مَعَهَا!

اللَّهُمَّ قَدْ مَلَّتْ أَطِبَّاءُ هذَا الدَّاءِ الدَّوِيِّ(3)، وَكَلَّتِ النَّزْعَةُ(4) بِأَشْطَانِ الرَّكِيِّ(5)!

أَيْنَ الْقَوْمُ الَّذِينَ دُعُوا إِلَى الاِسْلاَمِ فَقَبِلُوهُ؟ وَقَرَأُوا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ؟

____________

1. يريد «بالعقدة» ماحصل عليه التعاقد.

2. الضَلْع ـ بفتح الضاد وتسكين اللام ـ: المَيْل. وأصل المثل: «لا تنقش الشوكة بالشوكة، فان ضَلْعها معها» يُضْرَبُ للرجل يخاصم آخر ويستعين عليه بمن هو من قرابته أو أهل مَشْرَبه. ونَقش الشوكة: إخراجها من العضو تدخل فيه.

3. الدّاء الدّوِيّ ـ بفتح فكسر ـ: المؤلم الشديد. وقد وُصِف بما هو من لفظه.

4. كلّت: ضعفت. والنزعة: جمع نازع.

5. الاشْطَان: جمع شَطَن، وهو الحبل. والرّكِيّ: جمع رَكِيّة، وهي البئر.

الصفحة 276
وَهِيجُوا إِلى الْجِهَادِ فَوَلَّهُوا اللِّقَاحَ(1) أَوْلاَدَهَا، وَسَلَبُوا السُّيُوفَ أَغْمَادَهَا، وَأَخَذُوا بِأَطْرَافِ الاَْرْضِ زَحْفاً زَحْفاً وَصَفّاً صَفّاً؟! بَعْضٌ هَلَكَ، وَبَعْصٌ نَجَا.

لاَيُبَشَّرُونَ بِالاَْحْيَاءِ(2)، وَلاَ يُعَزَّوْنَ عَنِ الْمَوْتَى(3)، مُرْهُ الْعُيُونِ(4) مِنَ الْبُكَاءِ، خُمْصُ الْبُطُونِ(5) مِنَ الصِّيَامِ، ذُبُلُ الشِّفَاهِ(6) مِنَ الدُّعَاءِ، صُفْرُ الاَْلْوَانِ مِنَ السَّهَرِ، عَلَى وَجُوهِهمْ غَبَرَةُ الْخَاشِعيِنَ، أُولئِكَ إِخْوَاني الذَّاهِبُونَ، فَحَقَّ لَنَا أَنْ نَظْمَأَ إِلَيْهِمْ وَنَعَضَّ الاَْيْدِيَ عَلَى فِرَاقِهمْ!

إِنَّ الشَّيْطَانَ يُسَنِّي(7) لَكُمْ طُرُقَهُ، وَيُرِيدُ أَنْ يَحُلَّ دِينَكُمْ عُقْدَةً عُقْدَةً،

____________

1. اللِّقاح: جمع لَقُوح، وهي الناقة.

2. لا يُبَشّرُون بالاحياء: إذا قيل لهم: نجا فلان فبقي حياً لايفرحون، لان أفضل الحياة عندهم الموت في سبيل الحق.

3. لا يُعَزّوْن عن المَوْتى: لا يحزنون إذا قيل لهم: مات فلان، فان الموت عندهم حياة السعادة الابدية.

4. مُرْهُ العيون: جمع أمْرَه، وهو على صيغة أفعَل الذي يجمع على فُعْل، كأحمر وحُمر، مأخوذ من «مَرَهَتْ عَيْنُهُ» إذا فسدت أو ابيضّت حَمَاليقُها.

5. خُمْص البطون: ضَوَامِرُها.

6. ذَبُلَتْ شفَتُهُ: جَفّت وَيبِستْ لذهاب الرّيق.

7. يُسَنّي: يُسَهّل.

الصفحة 277
وَيُعْطِيَكُمْ بَالْجَمَاعَةِ الْفُرْقَةَ، وَبِالْفُرْقَةِ الْفَتْنَةَ; فَاصْدِفُوا(1) عَنْ نَزَغَاتِهِ(2) وَنَفَثَاتِهِ، وَاقْبَلُوا النَّصِيحَةَ مِمَّنْ أَهْدَاهَا إِلَيْكُمْ، وَاعْقِلوهَا(3) عَلَى أَنْفُسِكُمْ.

[ 121 ]
ومن كلام له (عليه السلام)

قاله للخوارج، وقد خرج إلى معسكرهم وهم مقيمون على إنكار الحكومة، فقال(عليه السلام):

أَكُلُّكُمْ شَهِدَ مَعَنَا صِفِّينَ؟

فَقَالُوا: مِنَّا مَنْ شَهِدَ وَمِنَّا مَنْ لَمْ يَشْهَدْ.

قَالَ: فَامْتَازُوا فِرْقَتَيْنِ، فَلْيَكُنْ مَنْ شَهِدَ صِفِّينَ فِرْقَةً، وَمَنْ لَمْ يَشْهَدْهَا فَرْقَةً، حَتَّى أُكَلِّمَ كُـلاًّ مِنْكُمْ بِكَلاَمِهِ.

وَنَادَى النَّاسَ، فَقَالَ: أَمْسِكُوا عَنِ الْكَلاَمِ، وَأَنْصِتُوا لِقَوْلِي، وَأَقْبِلُوا بِأَفْئِدَتِكُمْ إِلَيَّ، فَمَنْ نَشَدْنَاهُ شَهَادَةً فَلْيَقُلْ بِعِلْمِهِ فِيهَا.

ثُمَّ كَلَّمَهُمْ(عليه السلام) بِكَلاَم طَوِيل، مِنْ جُمْلَتِهِ أَنْ قَالَ:

أَلَمْ تَقُولُوا عِنْدَ رَفْعِهِمُ الْمَصَاحِفَ ـ حِيلَةً وَغِيلَةً وَمَكْراً وَخَدِيعَةً ـ: إِخْوانُنَا وَأَهْلُ دَعْوَتِنَا، اسْتَقَالُونَا وَاسْتَرَاحُوا إِلى كِتَابِ اللهِ سُبْحَانَهُ، فَالرَّأْيُ الْقَبُولُ مِنْهُمْ وَالتَّنْفِيسُ عَنْهُمْ؟

____________

1. فاصْدِفُوا: فأعْرِضُوا.

2. نَزَغاته: وساوسه.

3. اعْقِلُوها: احبسوها على أنفسكم لا تتركوها فتضيعَ منكم.

الصفحة 278
فَقُلْتُ لَكُمْ: هذَا أَمْرٌ ظَاهِرُهُ إِيمَانٌ، وَبَاطِنُهُ عُدْوَانٌ، وَأَوَّلُهُ رَحْمَةٌ، وَآخِرُهُ نَدَامَةٌ، فَأَقِيمُوا عَلى شَأْنِكُمْ، وَالْزمُوا طَرِيقَتَكُمْ، وَعَضُّوا عَلَى الْجِهَادِ بِنَوَاجِذِكُمْ، وَلاَ تَلْتَفِتُوا إِلى نَاعِق نَعَقَ: إِنْ أُجِيبَ أَضَلَّ، وَإِنْ تُرِكَ ذَلَّ.

[وَقَدْ كَانَتْ هذِهِ الْفَعْلَةُ، وَقَدْ رَأَيْتُكُمْ أَعْطَيْتُمُوهَا، وَاللهِ لَئِنْ أَبَيْتُهَا مَا وَجَبَتْ عَلَيَّ فَرِيضَتُهَا وَلاَ حَمَّلَنِي اللهُ ذَنْبَهَا، وَوَاللهِ إِنْ جِئْتُهَا إِنِّي لَلْمُحِقُّ الَّذِي يُتَّبَعُ، وَإِنَّ الْكِتَابَ لَمَعِي، مَا فَارَقْتُهُ مُذْ صَحِبْتُهُ].

فَلَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله)، وَإِنَّ الْقَتْلَ لَيَدُورُ بَيْنَ الاْباءِ وَالاَْبْنَاءِ وِالاِْخوَانِ وَالْقَرَابَاتِ، فَمَا نَزْدَادُ عَلَى كُلِّ مُصِيبَة وَشِدَّة إِلاَّ إِيمَاناً، وَمُضِيّاً عَلَى الْحَقِّ، وَتَسْلِيماً لِلاَْمْرِ، وَصَبْراً عَلَى مَضَضِ الْجِرَاحِ.

وَلكِنَّا إِنَّمَا أَصْبَحْنَا نُقَاتِلُ إِخْوَانَنَا فِي الاِْسْلاَمِ عَلَى مَا دَخَلَ فِيهِ مِنَ الزَّيْغِ وَالاعْوِجَاجِ، وَالشُّبْهَةِ وَالتَّأْوِيلِ، فَإِذَا طَمِعْنَا فِي خَصْلَة(1) يَلُمُّ اللهُ بِهَا شَعَثَنَا(2)، وَنَتَدَانَى بِهَا(3) إِلَى الْبَقِيَّةِ فِيَما بَيْنَنَا، رَغِبْنَا فِيهَا، وَأَمْسَكْنَا عَمَّا سِوَاهَا.

____________

1. المراد من الخَصْلة ـ بفتح الخاء ـ هنا: الوسيلة.

2. لمّ شَعَثَهُ: جمع أمره.

3. نتدانى بها: نتقارب إلى ما بقي بيننا من علائق الارتباط.

الصفحة 279

[ 122 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
قاله لاصحابه في ساعة الحرب

وَأَيُّ امْرِىء مِنْكُمْ أَحَسَّ مِنْ نَفْسِهِ رَبَاطَةَ جَأْش(1) عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَرَأَى مِنْ أَحَد مِنْ إِخْوَانِهِ فَشَلاً(2)، فَلْيَذُبَّ(3) عَنْ أَخِيهِ بِفَضْلِ نَجْدَتِهِ(4) الَّتي فُضِّلَ بِهَا عَلَيْهِ كَمَا يَذُبُّ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَهُ مِثْلَهُ. إِنَّ الْمَوْتَ طَالِبٌ حَثِيثٌ لاَيَفُوتُهُ الْمُقِيمُ، وَلاَ يُعْجِزُهُ الْهَارِبُ. إِنَّ أَكْرَمَ الْمَوْتِ الْقَتْلُ! وَالَّذِي نَفْسُ ابْنِ أَبِي طَالِب بِيَدِهِ، لاََلْفُ ضَرْبَة بِالسَّيْفِ أَهْوَنُ مِنْ مِيتَة عَلَى الْفِرَاشِ [فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللهِ!].

[ 123 ]
ومن كلام له (عليه السلام)

وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْكُمْ تَكِشُّونَ كَشِيشَ الضِّبَابِ(5): لاَ تَأْخُذُونَ حَقّاً، وَلاَ تَمْنَعُونَ ضَيْماً. قَدْ خُلِّيتُمْ وَالطَّرِيقَ، فَالنَّجَاةُ لَلْمُقْتَحِمِ، وَالْهَلَكَةُ لَلْمُتَلَوِّمِ(6).

____________

1. رَبَاطَة الجأش: قوة القلب عند لقاء الاعداء.

2. الفَشَل: الجُبْن والضعف.

3. فَلْيَذُبّ: فَلْيَدْفَعْ.

4. النّجْدَة ـ بالفتح ـ: الشجاعة.

5. كشِيش الضّباب: هو احتكاك جلودها عند ازدحامها. والضّباب ـ بكسر الضاد ـ: جمع ضبّ، وهو الحيوان المعروف.

6. تَلَوّمَ: تَوَقّف وتباطأ.

الصفحة 280

[ 124 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
في حضّ أصحابه على القتال

فَقَدِّمُوا الدَّارِعَ(1)، وَأَخِّرُوا الْحَاسِرَ(2)، وَعَضُّوا عَلَى الاَْضْرَاسِ فَإِنَّهُ أَنْبَى(3)لِلسُّيُوفِ عَنِ الْهَامِ(4)، وَالْتَوُوا(5) فِي أَطْرَافِ الرِّمَاحِ فَإِنَّهُ أَمْوَرُ(6) لِلاَْسِنَّةِ، وَغُضُّوا الاَْبْصَارَ فَإِنَّهُ أَرْبَطُ لَلْجَأْشِ وَأسْكَنُ لِلْقُلُوبِ، وَأَمِيتُوا الاَْصْوَاتَ فَإِنَّهُ أطْرَدُ لِلْفَشَلِ.

وَرَايَتَكُمْ فَلاَ تُمِيلُوهَا وَلاَ تُخِلُّوهَا، وَلاَ تَجْعَلُوهَا إِلاَّ بِأَيْدِي شُجْعَانِكُمْ، وَالمَانِعِينَ الذِّمَارَ(7) مِنْكُمْ، فَإِنَّ الصَّابِرِينَ عَلَى نُزُولِ الْحَقَائِقِ(8) هُمُ الَّذِينَ

____________

1. الدارع: لابس الدّرْع.

2. الحاسِر: من لا دِرْعَ له.

3. أنْبَى: صيغة أفعل التفضيل من «نَبَا السيف» إذا دَفَعَتْهُ الصلابة من موقعه فلم يَقْطَعْ. 4. الهام: جمع هامة، وهي الرأس.

5. الْتَوُوا: انْعَطِفوا وأميلوا جانبكم لِتَزْلَقَ الرماح ولا تنفذ فيكم أسنّتها.

6. أمْوَرُ: أي أشدّ فعلاً للمَوْر، وهو الاضطراب الموجب للانزلاق وعدم النفوذ.

7. الذِّمار ـ بسكر الذال ـ: ما يلزم الرجلَ حفظُهُ وحمايته من ماله وعرضه.

8. حقائق: جمع حاقّة، وهي النازلة الثابتة.

الصفحة 281
يَحُفُّونَ بِرَايَاتِهمْ(1)، وَيَكْتَنِفُونَهَا(2): حفَافَيْهَا(3)، وَوَرَاءَهَا، وَأَمَامَهَا، لاَ يَتَأَخَّرُونَ عَنْهَا فَيُسْلِمُوهَا، وَلاَ يَتَقَدَّمُونَ عَلَيْهَا فَيُفْرِدُوهَا.

أَجْزَأَ امْرُؤٌ قِرْنَهُ(4)، وَآسَى أَخَاهُ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَكِلْ قِرْنَهُ إِلَى أَخِيهِ(5) فَيَجْتَمِعَ عَلَيْهِ قِرْنُهُ وَقِرْنُ أَخِيهِ. وَايْمُ اللهِ لَئِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ سَيْفِ الْعَاجِلَةِ، لاَ تَسْلَمُوا مِنْ سَيْفِ الاْخِرَةِ، أَنْتُمْ لَهَامِيمُ(6) الْعَرَبِ، وَالسَّنَامُ الاَْعْظَمُ، إِنَّ فِي الْفِرَارِ مَوْجِدَةَ(7) اللهِ، وَالذُّلَّ اللاَّزِمَ، وَالْعَارَ الْبَاقِيَ، وَإِنَّ الْفَارَّ لَغَيْرُ مَزِيد فِي عُمُرِهِ، وَلاَ مَحْجُوز بَيْنَهُ وَبَيْنَ يَوْمِهِ.

____________

1. يَحفّون بالرايات: أي يستديرون حولها.

2. يكتنفونها: يحيطون بها.

3. حِفَافَيْها: جانبيْها.

4. أَجْزَأ امْرِؤٌ قِرْنَهُ: فعل ماض في معنى الامر، أي: فليَكْف كلّ منكم قِرْنه أي كفؤه، فيقتله.

5. لم يَكِلْ قرْنهُ إلى أخيه: لم يترك خصمه إلى أخيه فيجتمع على أخيه خصمان فيغلبانه ثم ينقلبان عليه فيهلكانه.

6. لهَامِيم: جمع لِهْمِيم ـ بالكسر ـ الجواد السابق من الانسان والخيل.

7. مَوْجِدَته: غضبه.

الصفحة 282
مَنْ رائِحٌ إِلَى اللهِ كَالظَّمَآنِ يَرِدُ الْمَاءَ؟ الْجَنَّةُ تَحْتَ أَطْرَافِ الْعَوَالِي(1)! الْيَوْمَ تُبْلَى(2) الاَْخْبَارُ! [وَاللهِ لاََنَا أَشْوَقُ إِلَى لِقَائِهِمْ مِنْهُمْ إِلَى دِيَارِهِمْ].

اللَّهُمَّ فَإِنْ رَدُّوا الْحَقَّ فَافْضُضْ جَمَاعَتَهُمْ، وَشَتِّتْ كَلِمَتَهُمْ، وَأَبْسِلْهُمْ(3) بِخَطَايَاهُمْ.

إِنَّهُمْ لَنْ يَزُولُوا عَنْ مَوَاقِفِهمْ دُونَ طَعْن دِرَاك(4) يَخْرُجُ مِنْهُ النَّسِيمُ، وَضَرْب يَفْلِقُ الْهَامَ، وَيُطِيحُ العِظَامَ، وَيُنْدِرُ(5) السَّوَاعِدَ وَالاَْقدْاَمَ، وَحَتَّى يُرْمَوْا بِالمَنَاسِرِ تَتْبَعُهَا الْمَنَاسَرُ(6)، وَيُرْجَمُوا بِالْكَتَائِبِ(7)، تَقْفُوهَا الْحَلاَئِبُ(8) حَتَّى يُجَرَّ بِبِلاَدِهِمُ الْخَمِيسُ يَتْلُوهُ الْخَمِيسُ، وَحَتَّى تَدْعَقَ(9) الْخُيُولُ فِي نَوَاحِر أَرْضِهِمْ، وَبِأَعْنَانِ(10) مَسَارِبِهِمْ(11) وَمَسَارِحِهِمْ.
قال الشريف: الدّعْقُ: الدّقُّ، أي: تَدُقُّ الخُيُولُ بِحَوَافِرِهَا أرْضَهُمْ. نَوَاحِرُ أَرْضِهِمْ: مُتَقَابِلاَتُهَا، يُقَالُ: مَنَازِلُ بَنِي فُلان تتَنَاحَرُ، أيْ: تَتَقَابَلُ.

____________

1. العَوالي: الرماح.

2. تُبْلى: تُمتَحَن.

3. أَبْسَلَهُ: أسلمه للهلكة.

4. دِرَاك ـ ككتاب ـ: متتابع مُتوال في أبدانهم أبواباً يمرّ فيها النسيم.

5. يندرها ـ كيهلكها ـ أي: يسقطها.

6. المَنَاسر ـ جمع مَنْسِر كمجلس ـ: القطعة من الجيش تكون أمام الجيش الاعظم.

7. الكتائب: جمع كتيبة، من المائة إلى الالف.

8. الحَلائِب: جمع حلبة، الجماعة من الخيل تجتمع من كل صَوْب للنصرة.

9. دَعَقَ الطريق ـ كمنع ـ: وطئه في شدة وقوة. ودَعَقَ الغارة: بثّها.

10. أعنان الشيء: أطرافه.

11. المَسارِب: المذاهب للرّعْي.

الصفحة 283

[ 125 ]
ومن كلام له (عليه السلام)

في معنى الخوارج لمّا أنكروا تحكيم الرجال ويذمّ فيه أصحابه، قال(عليه السلام):

إِنَّا لَمْ نُحَكِّمِ الرِّجَالَ، وَإِنَّمَا حَكَّمْنَا الْقُرْآنَ. وهذَا الْقُرْآنُ إِنَّمَا هُوَ خَطٌّ مَسْتُورٌ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ(1)، لاَ يَنْطِقُ بِلِسَان، وَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمَان، وَإِنَّمَا يَنْطِقُ عَنْهُ الرِّجَالُ.

وَلَمَّا دَعَانَا الْقَوْمُ إِلَى أَنْ نُحَكِّمَ بَيْنَنَا الْقُرْآنَ لَمْ نَكُنِ الْفَرِيقَ الْمُتَوَلِّيَ عَنْ كِتَابِ اللهِ، وقَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ)، فَرَدُّهُ إِلَى اللهِ أَنْ نَحْكُمَ بِكِتَابِهِ، وَرَدُّهُ إِلَى الرَّسُولِ أَنْ نَأْخُذَ بسُنَّتِهِ; فَإِذَا حُكِمَ بِالصِّدْقِ فِي كِتَابِ اللهِ، فَنَحْنُ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ، وَإِنْ حُكمَ بسُنَّةِ رَسُولِهِ فَنَحْنُ أَوْلاَهُمْ بِهِ.

وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: لِمَ جَعَلْتَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ أَجَلاً فِي التَّحْكِيمِ؟

____________

1. دَفّتا المصحف: جانباه اللذان يَكْنُفانه.

الصفحة 284
فَإِنَّمَا فَعَلْتُ ذلِكَ لِيَتَبَيَّنَ الْجَاهِلُ، وَيَتَثَبَّتَ الْعَالِمُ، وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ فِي هذِهِ الْهُدْنَةِ أَمْرَ هذِهِ الاُْمَّةِ، وَلاَ تُؤْخَدُ بِأَكْظَامِهَا(1)، فَتَعْجَلَ عَنْ تَبَيُّنِ الْحَقِّ، وَتَنْقَادَ لاَِوَّلِ الْغَيِّ.

إِنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْ كَانَ الْعَمَلُ بِالْحَقِّ أَحَبَّ إِلَيْهِ ـ وَإِنْ نَقَصَهُ وَكَرَثَهُ(2) ـ مِنَ الْبَاطِلِ وَإِنْ جَرَّ إِلَيْهِ فَائِدَةً وَزَادَهُ، فَأَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ؟! وَمِنْ أَيْنَ أُتِيتُمْ؟! اسْتَعِدُّوا لِلْمَسِيرِ إِلَى قَوْم حَيَارَى عَنِ الْحَقِّ لاَ يُبْصِرُونَهُ، وَمُوزَعِينَ(3) بِالْجَوْرِ لاَ يَعْدِلُونَ بِهِ(4)، جُفَاة عَنِ الْكِتَابِ، نُكُب(5) عَنِ الطَّرِيقِ.

مَا أَنْتُمْ بَوَثِيقَة(6) يُعْلَقُ بِهَا، وَلاَ زَوَافِرَ(7) يُعْتَصَمُ إِلَيْهَا، لَبِئْس حُشَّاشُ(8)

____________

1. الاكظام ـ جمع كَظَم محركة ـ: مخرج النفس. والاخذ بالاكظام: المضايقة والاشتداد بسلب المهلة.

2. كَرَثَهُ ـ كنصره وضربه ـ: اشتد عليه الغمّ.

3. مُوزَعين: من «أوْزَعَهُ» أي أغراه، وأصله بمعنى ألْهَمَ.

4. لا يَعْدِلون به: أي لا يستبدلونه بالعدل.

5. نُكُب ـ جمع ناكب ـ: الحائد عن الطريق.

6. ما أنتم بوثيقَة: أي لستم عروةً وثيقةً يستمسك بها.

7. زافرة الرجل: أنصاره وأعوانه.

8. الحُشّاش: جمع حاشّ، من «حَشّ النارَ» إذا أوقدها. والمراد «لبئس الموقدون لنار الحرب أنتم».

الصفحة 285
نَارِ الْحَرْبِ أَنْتُمْ! أُفٍّ لَكُمْ! لَقَدْ لَقِيتُ مِنْكُمْ بَرْحاً(1)، يَوْماً أُنَادِيكُمْ وَيَوْماً أُنَاجِيكُمْ، فَلاَ أحْرارُ صِدْق عِنْدَ النِّدَاءِ(2)، وَلاَ إِخْوَانُ ثِقَة عِنْدَ النَّجَاءِ(3)!

[ 126 ]
ومن كلام له (عليه السلام)

لمّا عوتب على تصييره الناس أسوة في العطاء من غير تفضيل إلى السابقات والشرف، قال:

أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ! وَاللهِ لاَ أَطُورُ بِهِ(4) مَا سَمَرَ سَميرٌ(5)، وَمَا أَمَّ(6)نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً! لَوْ كَانَ الْمَالُ لي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ، فَكَيْفَ وَإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللهِ لَهُمْ.

ثمّ قال(عليه السلام):

أَلاَ وَإِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهَ تَبْذِيرٌ وَإِسْرَافٌ، وَهُوَ يَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِي

____________

1. بَرْحاً ـ بفتح الباء ـ: شرّ أوشدة.

2. يوم النداء: يوم الدعوة إلى الحرب.

3. يوم النّجاء: يوم العتاب على التقصير. وأصل النجاء: الافضاء بالسر والتكلم مع شخص بحيث لا يسمع الاخر.

4. لا أطُورُ به: من «طار يَطُور» إذا حام حول الشيء، أي: لا أمُرّ به ولا أقاربه. 5. ما سَمَرَ سمير: أي مدى الدهر.

6. أمّ: قصد.

الصفحة 286
الدُّنْيَا وَيَضَعُهُ فِي الاخِرَةِ، وَيُكْرِمُهُ فِي النَّاسِ وَيُهِينُهُ عِنْدَ اللهِ، وَلَمْ يَضَعِ امْرُؤٌ مَالَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَعِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ إِلاَّ حَرَمَهُ اللهُ شُكْرَهُمْ وَكَانَ لِغَيْرِهِ وَدُّهُمْ، فَإِنْ زَلَّتْ بِهِ النَّعْلُ يَوْماً فَاحْتَاجَ إِلى مَعُونَتِهِمْ فَشَرُّ خَلِيل وَأَلاَْمُ خَدِين!(1)

[ 127 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
للخوارج أيضاً

فإنْ أَبَيْتُمْ إِلاَّ أَنْ تَزْعُمُوا أَنِّي أَخْطَأْتُ وَضَلَلْتُ، فَلِمَ تُضَلِّلونُ عَامَّةَ أُمَّةِ مُحَمَّد(صلى الله عليه وآله)بِضَلاَلِي، وَتَأْخُذُونَهُمْ بِخَطَئِي، وَتُكَفِّرُونَهُمْ بِذُنُوِبي! سُيُوفُكُمْ عَلَى عَوَاتِقِكُمْ تَضَعُونَهَا مَوَاضِعَ البَراءةِ وَالسُّقْمِ، وَتَخْلِطُونَ مَنْ أَذْنَبَ بِمَنْ لَمْ يُذْنِبْ.

وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ(صلى الله عليه وآله) رَجَمَ الزَّانِيَ [الْـمُحْصَنَ] ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ وَرَّثَهُ أَهْلَهُ، وَقَتَلَ الْقَاتِلَ وَوَرَّثَ مِيرَاثَهُ أَهْلَهُ، وَقَطَعَ السَّارِقَ وَجَلَدَ الزَّانِيَ غَيْرَ الُْمحْصَنِ ثُمَّ قَسَمَ عَلَيْهِمَا مِنَ الْفَيْءِ وَنَكَحَا الْمُسْلِمَاتِ; فَأَخَذَهُمْ رَسُولُ اللهِ(صلى الله عليه وآله) بِذُنُوبِهمْ، وَأَقَامَ حَقَّ اللهِ فِيهمْ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ سَهْمَهُمْ مِنَ الاِْسْلاَمِ، وَلَمْ يُخْرِجْ أَسْمَاءَهُمْ مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ. ثُمَّ أَنْتُمْ شِرَارُ النَّاسِ، وَمَنْ رَمَى بِهِ

____________

1. خَدِينٌ: صديق.

الصفحة 287
الشَّيْطَانُ مَرَامِيَهُ، وَضَرَبَ بِهِ تِيهَهُ(1)!

وَسَيَهْلِكُ فِيَّ صِنْفَانِ: مُحِبٌّ مُفْرِطٌ يَذْهَبُ بِهِ الْحُبُّ إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ، وَمُبْغِضٌ مُفْرِطٌ يَذْهَبُ بِهِ الْبُغْضُ إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ، وَخَيْرُ النَّاسِ فيَّ حَالاً الَّنمَطُ الاَْوْسَطُ فَالْزَمُوهُ، وَالْزَمُوا السَّوَادَ الاَعْظَم فَإِنَّ يَدَ اللهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ! فَإِنَّ الشَّاذَّ مِنَ النَّاسِ لِلشَّيْطَانِ، كَمَا أَنَّ الشَّاذَّةَ مِنَ الْغَنَمِ لِلذِّئْبِ.

أَلاَ مَنْ دَعَا إِلَى هذَا الشِّعَارِ(2) فَاقْتُلُوهُ، وَلَوْ كَانَ تَحْتَ عِمَامَتِي هذِهِ، فَإِنَمَّا حُكِّمَ الْحَكَمَانِ لِيُحْيِيَا مَا أَحْيا الْقُرْآنُ، وَيُمِيتَا مَا أَمَاتَ الْقُرْآنُ، وَإِحْيَاؤُهُ الاجْتَِماعُ عَلَيْهِ، وَإِمَاتَتُهُ الافْتَرَاقُ عَنْهُ، فَإِنْ جَرَّنَا الْقُرْآنُ إِلَيْهِمُ اتَّبَعْنَاهُم، وَإِنْ جَرَّهُمْ إِلَيْنَا اتَّبَعُونَا.

فَلَمْ آتِ ـ لاَأَبَا لَكُمْ ـ بُجْراً(3)، وَلاَ خَتَلْتُكُمْ عَنْ أَمْرِكُمْ، وَلاَ لبَّسْتُهُ(4) عَلَيْكُمْ، إِنَّمَا اجْتَمَعَ رَأْيُ مَلَئِكُمْ عَلَى اخْتِيَارِ رَجُلَيْنِ، أَخَذْنَا عَلَيْهِمَا أَلاَّ يَتَعَدَّيَا الْقُرْآنَ، فَتَاهَا عَنْهُ، وَتَرَكَا الْحَقَّ وَهُمَا يُبْصِرَانِهِ، وَكَانَ الْجَوْرُ هَوَاهُمَا فَمَضَيَا عَليْهِ، وَقَدْ سَبَقَ استِثْنَاؤُنَا عَلَيْهِمَا ـ فِي الْحُكُومَةِ بِالْعَدْلِ، وَالصَّمْدِ(5)لِلْحَقِّ ـ سُوءَ رَأْيِهِمَا، وَجَوْرَ حُكْمِهِمَا.

____________

1. ضرَبَ به تيهَهُ: سلك به في بادية ضلالته.

2. الشِّعار: علامة القوم في الحرب والسفر، وهو ما يتنادون به ليعرف بعضهم بعضاً.

3. البُجْر ـ بضم الباء ـ: الشر والامر العظيم.

4. خَتَلْتُكم: خدعتكم. والتلبيس: خلط الامر وتشبيهه حتى لا يعرف.

5. الصّمْد: القصد.

الصفحة 288

[ 128 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
وهو ممّا كان يخبر به عن الملاحم(1) بالبصرة

يَا أَحْنَفُ، كَأَنِّي بِهِ وَقَدْ سَارَ بِالْجَيْشِ الَّذِي لاَ يَكُونُ لَهُ غُبَارٌ وَلاَ لَجَبٌ(2)، وَلاَ قَعْقَعَةُ لُجُم(3)، وَلاَ حَمْحَمَةُ خَيْل(4)، يُثِيرُونَ الاَْرْضَ بِأَقْدَامِهِمْ كَأَنَّهَا أَقْدَامُ النَّعَامِ.
يومىء بذلك(عليه السلام) إلى صاحب الزّنْج.
ثمّ قال(عليه السلام):

____________

1. الملاحم: جمع مَلْحمة، وهي الوقعة العظيمة.

2. اللّجَب: الصياح.

3. اللّجُم: جمع لجام. وقَعْقَعَتها: ما يسمع من صوت اضطرابها بين أسنان الخيل.

4. الحَمْحَمَة: صوت البِرْذَوْن عند الشعير.

الصفحة 289
وَيْلٌ لِسِكَكِكُمُ(1) الْعَامِرَةِ، وَدُورِكُمُ الْمُزَخْرَفَةِ الَّتِي لَهَا أَجْنِحَةٌ(2) كَأَجْنَحَةِ النُّسُورِ، وَخَرَاطِيمُ كَخَرَاطِيمِ(3) الْفِيَلَةِ، مِنْ أُولئِكَ الَّذِينَ لاَ يُنْدَبُ قَتِيلُهُمْ، وَلاَ يُفْقَدُ غَائِبُهُمْ.

أَنَا كَابُّ الدُّنْيَا لِوَجْهِهَا، وَقَادِرُهَا بِقَدْرِهَا، وَنَاظِرُهَا بِعَيْنِهَا.

منه: ويومئ به إلى وصف الاتراك

كَأَنِّي أَرَاهُمْ قَوْماً كَأَنَّ وَجُوهَهُمُ الْـمَجَانُّ الْمُطَرَّقَةُ(4)، يَلْبَسُونَ السَّرَقَ(5) وَالدِّيبَاجَ، وَيَعْتَقِبُونَ الْخَيْلَ الْعِتَاقَ(6)، وَيَكُونُ هُنَاكَ اسْتِحْرَارُ قَتْل(7)،حَتَّى يَمْشِيَ الْـمَجْرُوحُ عَلَى الْمَقْتُولِ، وَيَكُونَ الْمُفْلِتُ أَقَلَّ مِنَ المَأْسُورِ!

____________

1. سكك ـ جمع سكّة ـ: الطريق المستوي.

2. أجنحة الدّور: رواشنها. وقيل: إن الجناح والرّوْشَنَ يشتر كان في إخراج الخشب من حائط الدار إلى الطريق بحيث لا يصل إلى جدار آخر يقابله، وإلاّ فهو الساباط، ويختلفان في أنّ الجناح توضع له أعمدة من الطريق بخلاف الرّوْشن.

3. الخراطيم: الميازيب تطلى بالقار.

4. المَجَانّ المُطَرّقة: النعال التي أُلْزِقَ بها الطِّرَاق ـ ككتاب ـ وهو جلد يُقَوّر على مقدار الترس ثم يُلْزَق به.

5. السَرَق ـ بالتحريك ـ: شقق الحرير الابيض. 6. يَعْتَقِبون الخليلَ العِتاقَ: يحبسون كرائم الخليل ويمنعونها غيرهم.

7. استحرار القتل: اشتداده.

الصفحة 290
فقال له بعض أصحابه: لقد أَعطيت يا أميرالمؤمنين علم الغيب!

فضحك(عليه السلام)، وقال للرجل ـ وكان كلبياً ـ:

يَا أَخَا كَلْب، لَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَيْب، وَإِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِي عِلْم، وَإِنَّمَا عِلْمُ الْغَيْبِ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَمَا عَدَّدَهُ اللهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ...)الاية، فَيَعْلَمُ سُبْحَانَهُ مَا فِي الاَْرْحَامِ مِنْ ذَكَر أَوْ أُنْثَى، وَقَبِيح أَوْ جَمِيل، وَسَخِيٍّ أَوْ بَخِيل، وَشَقيّ أَوْ سَعِيد، وَمَنْ يَكُونُ فِي النَّارِ حَطَباً، أَوْ فِي الْجِنَانِ لِلنَّبِيِّينَ مُرَافِقاً; فَهذَا عَلْمُ الْغَيْبِ الَّذِي لاَ يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلاَّ اللهُ، وَمَا سِوَى ذلِكَ فَعِلْمٌ عَلَّمَهُ اللهُ نَبِيَّهُ(صلى الله عليه وآله) فَعَلَّمَنِيهِ، وَدَعَا لِي بِأَنْ يَعِيَهُ صَدْرِي، وَتَضْطَمَّ عَلَيْهِ جَوَانِحِي(1).

[ 129 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
في ذكر المكاييل والموازين

عِبَادَ اللهِ، إِنَّكُمْ ـ وَمَا تَأْمُلُونَ مِنْ هذِهِ الدُّنْيَا ـ أَثْوِيَاءُ(2) مُؤَجَّلُونَ، وَمَدِينُونَ مُقْتَضَوْنَ: أَجَلٌ مَنْقُوصٌ، وَعَمَلٌ مَحْفُوظٌ، فَرُبَّ دَائِب(3) مُضَيَّعٌ، وَرُبَّ

____________

1. تَضْطَمّ: هو افتعال من الضمّ، أي وتنضمّ عليه جوانحي. والجوانح: الاضلاع تحت الترائب مما يلي الصدر. وانضمامها عليه: اشتمالها على قلب يعيها.

2. أثْوِياء: جمع ثَوِيّ ـ كَغَنيّ ـ: وهو الضيف.

3. الدائب: المداوم في العمل.

الصفحة 291
كَادِح(1) خَاسِرٌ.

قَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي زَمَن لاَ يَزْدَادُ الْخَيْرُ فِيهِ إِلاَّ إِدْبَاراً، وَالشَّرُّ إِلاَّ إِقْبَالاً، وَالشَّيْطَانُ فِي هَلاَكِ النَّاسِ إِلاَّ طَمَعاً، فَهذا أَوَانٌ قَوِيَتْ عُدَّتُهُ، وَعَمَّتْ مَكِيدَتُهُ، وَأَمْكَنَتْ فَرِيسَتُهُ(2).

اضْرِبْ بِطَرْفِكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ النَّاسِ، فَهَلْ تُبْصِرُ إِلاَّ فَقِيراً يُكَابِدُ فَقْراً، أَوْ غَنِيّاً بَدَّلَ نِعْمَةَ اللهِ كُفْراً، أَوْ بَخِيلاً اتَّخَذَ الْبُخْلَ بِحَقِّ اللهِ وَفْراً، أَوْ مُتَمَرِّداً كَأَنَّ بِأُذُنِهِ عَنْ سَمْعِ الْموَاعِظِ وَقْراً!

أَيْنَ خِيارُكُمْ وَصُلَحَاؤُكُمْ؟! وَأَيْنَ أَحْرَارُكُمْ وَسُمَحَاؤُكُمْ؟! وَأَيْنَ الْمُتَوَرِّعُونَ في مَكَاسِبِهِمْ، والْمُتَنَزِّهُونَ فِي مَذَاهِبِهمْ؟! أَلَيْسَ قَدْ ظَعَنُوا جَمِيعاً عَنْ هذِهِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ، وَالْعَاجِلَةِ المُنَغِّصَةِ، وَهَلْ خُلِّفْتُمْ إِلاَّ فِي حُثَالَة(3) لاَ تَلْتَقِي بِذَمِّهِمْ الشَّفَتَانِ، اسْتِصْغَاراً لِقَدْرِهِمْ، وَذَهَاباً عَنْ ذِكْرِهِمْ؟! فَـ (إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)، (ظَهَرَ الْفَسَادُ) فَلاَ مُنْكِرٌ مُغَيِّرٌ، وَلاَ زَاجرٌ مُزْدَجِرٌ.

____________

1. الكادح: الساعي لنفسه بجهد ومشقة. والمراد: من يقصر سعيه على جمع حطام الدنيا.

2. أمكنت الفريسة: أي سهلت وتيسرت.

3. الحُثالة ـ بالضم ـ: الرديء من كل شيء. والمراد قَزَم الناس وصغراء النفوس.

الصفحة 292
أَفَبِهذَا تُرِيدُونَ أَنْ تُجَاوِرُوا اللهَ فِي دَارِ قُدْسِهِ، وَتَكُونُوا أَعَزَّ أَوْلِيَائِهِ عِنْدَهُ؟ هَيْهَاتَ! لاَ يُخْدَعُ اللهُ عَنْ جَنَّتِهِ، وَلاَ تُنَالُ مَرْضَاتُهُ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ.

لَعَنَ اللهُ الاْمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ التَّارِكِينَ لَهُ، وَالنَّاهِينَ عَنِ المُنكَرِ الْعَامِلِينَ بِهِ!

[ 130 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
لابي ذر(رحمه الله) لمّا أخرج إلى الربذة(1)

يَاأَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ غَضِبْتَ للهِِ، فَارْجُ مَنْ غَضِبْتَ لَهُ، إِنَّ الْقَوْمَ خَافُوكَ عَلَى دُنْيَاهُمْ، وَخِفْتَهُمْ عَلَى دِينِكَ، فَاتْرُكْ فِي أَيْدِيهِمْ مَا خَافُوكَ عَلَيْهِ، وَاهْرُبْ مِنهُمْ بِمَا خِفْتَهُمْ عَلَيْهِ; فَمَا أَحْوَجَهُمْ إِلَى مَا مَنَعْتَهُمْ، وأَغْنَاكَ عَمَّا مَنَعُوكَ! وَسَتَعْلَمُ مَنِ الرَّابحُ غَداً، وَالاَْكْثَرُ حُسَّداً. وَلَوْ أَنَّ السَّماَوَاتِ وَالاَْرَضِينَ كَانَتَا عَلَى عَبْد رَتْقاً، ثُمَّ اتَّقَى اللهَ، لَجَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْهُمَا مَخْرَجاً! لاَ يُؤْنِسَنَّكَ إِلاَّ الْحَقُّ، وَلاَ يُوحِشَنَّكَ إِلاَّ الْبَاطِلُ، فَلَوْ قَبِلْتَ دُنْيَاهُمْ لاََحَبُّوكَ، وَلَوْ قَرَضْتَ مِنْهَا(2) لاََمَّنُوكَ.

____________

1. الرّبَذة ـ بالتحريك ـ: موضع على قرب من المدينة المنورة فيه قبر أبي ذَرّ الغفاري(رضي الله عنه) والذي أخرجه اليه عثمان بن عفان.

2. قرضت منها: قطعت منها جزءاً واختصصت به نفسك.

الصفحة 293

[ 131 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
[وفيه يبيّن سبب طلبه الحكم ويصف الامام الحقّ]

أَيَّتُهَا النُّفُوسُ الُْمخْتَلِفَةُ، وَالْقُلُوبُ الْمُتَشَتِّتَةُ، الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ، وَالْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ، أَظْأَرُكُمْ(1) عَلَى الْحَقِّ وَأَنْتُمْ تَنْفِرُونَ عَنْهُ نُفُورَ الْمِعْزَى مِنْ وَعْوَعَةِ الاَْسَدِ! هَيْهَاتَ أَنْ أَطْلَعَ بِكُمْ سَرَارَ(2) الْعَدْلِ، أَوْ أُقِيمَ اعْوِجَاجِ الْحَقِّ.

اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَان، وَلاَ الِْتمَاسَ شِيء مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ، وَلكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ، وَنُظْهِرَ الاِْصْلاَحَ فِي بِلاَدِكَ، فَيَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ، وَتُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ.

اللَّهُمْ إِنّي أَوَّلُ مَنْ أَنابَ، وَسَمِعَ وَأَجَابَ، لَمْ يَسْبِقْنِي إِلاَّ رَسُولُ اللهِ(صلى الله عليه وآله)بِالصَّلاَةِ.

وقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ وَالمَغَانِمِ وَالاَحْكَامِ وَإِمَامَةِ الْمُسْلِمِينَ الْبَخِيلُ، فَتَكُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ نَهْمَتُهُ(3)، وَلاَ الْجَاهِلُ فَيُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ، وَلاَ الْجَافِي فَيَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ، وَلاَ الجَائِفُ لِلدُّوَلِ(4)فَيَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْم، وَلاَ الْمُرْتَشِي فِي الْحُكْمِ فَيَذْهَبَ بِالْحُقُوقِ وَيَقِفَ بِهَا دُونَ المَقَاطِعِ(5)، وَلاَ الْمَعطِّلُ لِلسُّنَّةِ فَيُهْلِكَ الاُمَّةَ.

____________

1. أظْأرَكم: أعْطفكم.

2. السَرار ـ كسحاب وتكسر أيضاً في الاصل ـ: آخر ليلة من الشهر. والمراد الظّلْمة.

3. النّهْمة ـ بفتح النون وسكون الهاء ـ: إفراط الشهوة والمبالغة في الحرص.

4. الدُوَل ـ جمع دُولة بالضم ـ: هي المال، لانه يُتَدَاول أي ينقل من يدليد.

5. المقَاطع: الحدود التي عينها الله لها.

الصفحة 294

[ 132 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[يعظ فيها ويزهد في الدنيا]

[حمد الله]

نَحْمَدُهُ عَلَى مَا أَخَذَ وَأَعْطَى، وَعَلَى مَا أَبْلَى وَابْتَلَى(1)، الْبَاطِنُ لِكُلِّ خَفِيَّة، الْحَاضِرُ لِكُلِّ سَرِيرَة، العَالِمُ بِمَا تُكِنُّ الصُّدُورُ، وَمَا تَخُونُ الْعُيُونُ.

وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ غَيْرُهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً نَجِيبُهُ وَبَعِيثُهُ(2)، شَهَادَةً يُوَافِقُ فِيهَا السِّرُّ الاِْعْلاَنَ، وَالْقَلْبُ اللِّسَانَ.

منها: [في عظة الناس]

فَإِنَّهُ وَاللهِ الْجِدُّ لاَ اللَّعِبُ، وَالْحَقُّ لاَ الْكَذِبُ، وَمَا هُوَ إِلاَّ الْمَوْتُ أَسْمَعَ دَاعِيهِ(3)، وَأَعْجَلَ حَادِيهِ(4)، فَلاَ يَغُرَّنَّكَ سَوَادُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِكَ، فَقَدْ رَأَيْتَ

____________

1. الابلاء: الاحسان والانعام. والابتلاء: الامتحان.

2. بَعِيثه: مصطفاه ومبعوثه.

3. الموت أسمعَ داعِيهِ: أي إن الداعي إلى الموت قد أسمع بصوته كلّ حيّ، فلا حيّ إلاّ وهو يعلم أنه يموت.

4. أعْجَلَ حَادِيه: أي إنّ الحادي قد أعجَلَ المدبّرين عن تدبيرهم، وأخذهم قبل الاستعداد لرحيلهم.

الصفحة 295
مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِمَّنْ جَمَعَ الْمَالَ وَحَذِرَ الاِْقْلاَلَ، وَأَمِنَ الْعَوَاقِبَ ـ طُولَ أَمَل وَاسْتِبْعَادَ أَجَل ـ كَيْفَ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَأَزْعَجَهُ عَنْ وَطَنِهِ، وَأَخَذَهُ مِنْ مَأْمَنِهِ، مَحْمُولاً عَلَى أَعْوَادِ الْمَنَايَا يَتَعَاطَى بِهِ الرِّجَالُ الرِّجَالَ، حَمْلاً عَلَى المَنَاكِبِ وَإِمْسَاكاً بِالاَْنَامِلِ.

أَمَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَأْمُلُونَ بَعِيداً، وَيَبْنُونَ مَشِيداً، وَيَجْمَعُونَ كَثِيراً! أَصْبَحَتْ بُيُوتُهُمْ قُبُوراً، وَمَا جَمَعُوا بُوراً، وَصَارَتْ أَمْوَالُهُمْ لِلْوَارِثِينَ، وَأَزْوَاجُهُمْ لِقَوْم آخَرِينَ، لاَ فِي حَسَنَة يَزِيدُونَ، وَلاَ مِنْ سَيِّئَة يَسْتَعْتِبُونَ! فَمَنْ أَشْعَرَ التَّقْوَى قَلْبَهُ بَرَّزَ مَهَلُهُ(1)، وَفَازَ عَمَلُهُ.

فَاهْتَبِلُوا(2) هَبَلَهَا، وَاعْمَلُوا لِلْجَنَّةِ عَمَلَهَا، فَإِنَّ الدُّنْيَا لَمْ تُخْلَقْ لَكُمْ دَارَ مُقَام، بَلْ خُلِقَتْ لَكُمْ مَجَازاً لِتَزَوَّدُوا مِنْهَا الاَعْمَالَ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ; فَكُونُوا مِنْهَا عَلى أَوْفَاز(3)، وَقَرِّبُوا الظُّهُورَ(4) لِلزِّيَالِ(5).

____________

1. بَرّزَ الرجل على أقرانه: أي فاقهم. والمَهَل: التقدم في الخير، أي فاق تقدمه إلى الخير على تقدم غيره.

2. اهْتَبَلَ الصيد: طلبه. والضمير في «هَبَلَها» للتقوى لا للدنيا. أي: اغنموا خيرَ التقوى.

3. الوَفْز ـ بتسكين الفاء وفتحها ـ: العَجَلَة، وجمعه أوْفاز، أي: كونوا منها على استعجال.

4. الظهور: يراد بها هنا ظهور المطايا.

5. الزِّيال: الفراق.

الصفحة 296

[ 133 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[يعظّم الله سبحانه ويذكر القرآن والنبي ويعظ الناس]

[عظمة الله تعالى]

وَانْقَادَتْ لَهُ الدُّنْيَا وَالاخِرَةُ بِأَزِمَّتِهَا، وَقَذَفَتْ إِلَيْهِ السَّماَوَاتُ وَالاَرَضُونَ مَقَالِيدَهَا(1)، وَسَجَدَتْ لَهُ بِالْغُدُوِّ وَالاْصَالِ الاَْشْجَارُ النَّاضِرَةُ، وَقَدَحَتْ(2) لَهُ مِنْ قُضْبَانِهَا النِّيرَانَ الْمُضِيئَةَ، وَآتَتْ أُكُلَهَا بِكَلِمَاتِهِ الِّثمَارُ الْيَانِعَةُ.

منها: [في القرآن]

وَكِتَابُ اللهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، نَاطقٌ لاَ يَعْيَا لِسَانُهُ، وَبَيْتٌ لاَ تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ، وَعِزٌّ لاَ تُهْزَمُ أَعْوَانُهُ.

منها: [في رسول الله]

أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَة مِنَ الرُّسُلِ، وَتَنَازُع مِنَ الاَْلْسُنِ، فَقَفَّى بِهِ الرُّسُلَ، وَخَتَمَ بِهِ الْوَحْيَ، فَجَاهَدَ فِي اللهِ الْمُدْبِرِينَ عَنْهُ، وَالْعَادِلِينَ بِهِ.

منها: [في الدنيا]

وَإِنَّمَا الدُّنْيَا مَنْتَهَى بَصَرِ الاَْعْمَى، لاَ يُبْصِرُ مِمَّا وَرَاءَهَا شَيئاً، وَالْبَصِيرُ يَنْفُذُهَا

____________

1. مقاليدها: جمع مِقْلاد، وهو المفتاح.

2. قَدَحتْ: اشتعلت.

أي: أنّ الاشجار أشعلت النيران المضيئة من قضبانها، أي: أغصانها.

الصفحة 297
بَصَرُهُ، وَيَعْلَمُ أَنَّ الدَّارَ وَرَاءَهَا، فَالبَصِيرُ مِنْهَا شَاخِصٌ، وَالاَْعْمَى إِلَيْهَا شَاخِصٌ، وَالْبَصِيرُ مِنْهَا مُتَزَوِّدٌ، وَالاَْعْمَى لَهَا مُتَزَوِّدٌ.

منها: [في عظة الناس]

وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَيْء إِلاَّ وَيَكَادُ صَاحِبُهُ يَشْبَعُ مِنْهُ وَيَمَلُّهُ، إِلاَّ الْحَيَاةَ فَإِنَّهُ لاَ يَجِدُ لَهُ فِي الْمَوْتِ رَاحَةً، وَإِنَمَا ذلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحِكْمَةِ الَّتي هِيَ حَيَاةٌ لِلْقَلْبِ الْمَيِّتِ، وَبَصَرٌ لِلْعَيْنِ الْعَمْيَاءِ، وَسَمْعٌ لَلاُْذُنِ الصَّمَّـاءِ، وَرِيٌّ لِلظَّمْآنِ، وَفِيهَا الْغِنَى كُلُّهُ وَالسَّلاَمَةُ.

كِتَابُ اللهِ تُبْصِرُونَ بِهِ، وَتَنْطِقُونَ بِهِ، وَتَسْمَعُونَ بِهِ، وَيَنْطِقُ بَعْضُهُ بِبَعْض، وَيَشْهَدُ بَعْضُهُ عَلى بَعْض، وَلاَ يَخْتَلِفُ فِي اللهِ، وَلاَ يُخَالِفُ بِصَاحِبِهِ عَنِ اللهِ.

قَدِ اصْطَلَحْتُمْ عَلَى الْغِلِّ(1) فِيَما بَيْنَكُمْ، وَنَبَتَ الْمرْعَى عَلَى دِمَنِكُمْ(2)، وَتَصَافَيْتُمْ عَلى حُبِّ الاْمَالَ، وَتَعَادَيْتُمْ فِي كَسْبِ الاَْمْوَالِ. لَقَدِاسْتَهَامَ(3) بِكُمُ الْخَبِيثُ، وَتَاهَ بِكُمُ الْغُرُورُ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى نَفْسِي وَأَنْفُسِكُمْ.

____________

1. الغِلّ: الحقد، والاصطلاح عليه: الاتفاق على تمكينه في النفوس.

2. نَبَتَ المرعى على دِمَنِكم: تأكيد وتوضيح لمعنى الحقد. والدِّمَن ـ بكسر ففتح ـ: جمع دِمْنَة ـ بالكسر ـ وهي الحقد القديم. ونَبْتُ المرعى عليه استتارُهُ بظواهر النفاق. وأصل الدّمَن: السرقين وما يكون من أرواث الماشية وأبوالها. وسُمّيت بها الاحقاد لانّها أشبه شيء بها.

3. استهام: أصله من هام على وجهه، إذا خرج لا يدري أين يذهب.

الصفحة 298

[ 134 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
وقد شاوره عمر بن الخطاب في الخروج إلى غزوالروم

وَقَدْ تَوَكَّلَ اللهُ لاَِهْلِ هَذا الدِّينِ بِإِعْزَازِ الْحَوْزَةِ(1)، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَالَّذِي نَصَرَهُمْ وَهُمْ قَلِيلٌ لاَ يَنْتَصِرُونَ، وَمَنَعَهُمْ وَهُمْ قَلِيلٌ لاَ يَمتَنِعُونَ، حَيٌّ لاَ يَمُوتُ.

إِنَّكَ مَتَى تَسِرْ إِلَى هذَا الْعَدُوِّ بِنَفْسِكَ، فَتَلْقَهُمْ بِشَخْصِكَ فَتُنْكَبْ، لاَ تَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ كَانِفَةٌ(2) دُونَ أَقْصَى بِلاَدِهِمْ، وَلَيْسَ بَعْدَكَ مَرْجِعٌ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ، فَابْعَثْ إِلَيْهِمْ رَجُلاً مِحْرَباً، وَاحْفِزْ(3) مَعَهُ أَهْلَ الْبَلاَءِ(4) وَالنَّصِيحَةِ، فَإِنْ أَظْهَرَ اللهُ فَذَاكَ مَا تُحِبُّ، وَإِنْ تَكُنِ الاُْخْرَى، كُنْتَ رِدْءاً للنَّاسِ(5) وَمَثَابَةً(6) لِلْمُسْلِمِينَ.

____________

1. الحَوْزَة: ما يَحُوزُه المالك ويتولى حفظه. وإعْزَازُ حَوْزة الدين: حمايتها من تغلّب أعدائه.

2. كانفة: عاصمة يلجأون اليها، من «كنفه» إذا صانه وستره.

3. احفِزْ: أمر من الحفز، وهو الدفع والسَوْق الشديد.

4. أهل البَلاء: أهل المهارة في الحرب مع الصدق في القصد والجراءة في الاقدام. والبَلاء: هو الاجادة في العمل وإحسانه.

5. الرِّدْء ـ بالكسر ـ: الملجأ. 6. المَثابة: المرجع.

الصفحة 299

[ 135 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
وقد وقعت مشاجرة بينه وبين عثمان، فقال المغيرة بن الاخنس لعثمان: أنا أكِفيكَه، فقال أميرالمؤمنين صلوات الله عليه للمغيرة

يَابْنَ اللَّعِينِ الاَْبْتَرِ(1)، وَالشَّجَرَةِ الَّتي لاَ أَصْلَ لَهَا وَلاَ فَرْعَ، أَنْتَ تَكْفِينِي، فَوَاللهِ مَاأَعَزَّ اللهُ مَنْ أَنْتَ نَاصِرُهُ، وَلاَ قَامَ مَنْ أَنْتَ مُنْهِضُه، اخْرُجْ عَنَّا أَبْعَدَ اللهُ نَوَاكَ(2)، ثُمَّ ابْلُغْ جَهْدَك، فَلاَ أَبْقَى اللهُ عَلَيْكَ إِنْ أَبْقَيْتَ!

[ 136 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
[في أمر البيعة]

لَمْ تَكُنْ بَيْعَتُكُمْ إِيَّايَ فَلْتَةً(3)، وَلَيْسَ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ وَاحِداً، إِنِّي أُرِيدُكُمْ للهِِ وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لاَِنْفُسِكُمْ. أَيُّهَا النَّاسُ، أَعِينُوني عَلى أَنْفُسِكُمْ، وَايْمُ اللهِ لاَُنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ، وَلاََقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهَ(4) حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ كَارِهاً.

____________

1. الابْتر: هو من لا عَقِب له.

2. النّوَى: ها هنا بمعنى الدار.

3. الفَلْتة: الامر يقع عن غير رويّة ولا تدبّر.

4. الخِزامة ـ بالكسر ـ: حَلْقة من شعر تجعل في وترة أنف البعير ليشدّ فيها الزمام ويسهل قياده.