الصفحة 468
الْخَوْفِ، فَصَارُوا مُلُوكاً حُكَّاماً، وأَئِمَّةً أَعْلاَماً، وَبَلَغَتِ الْكَرَامَةُ مِنَ اللهِ لَهُمْ مَا لَمْ تَذْهَبِ الاْمَالُ إِلَيْهِ بِهِمْ.

فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانُوا حَيْثُ كَانَتِ الاَْمْلاَءُ(1) مُجْتَمِعَةً، وَالاَْهْوَاءُ مُؤْتَلِفَةً، وَالْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً، وَالاَْيْدِي مُتَرَادِفَةً(2)، وَالسُّيُوفُ مُتَنَاصِرَةً، وَالْبَصَائِرُ نَافِذَةً، وَالْعَزَائِمُ وَاحِدَةً، أَلَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً(3) فِي أَقْطَارِ الاَْرَضِينَ، وَمُلُوكاً عَلَى رِقَابِ الْعَالَمِينَ؟

فَانْظُرُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ، حِينَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ، وَتَشَتَّتَتِ الاُْلْفَةُ، وَاخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ وَالاَْفْئِدَةُ، وَتَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ، وَتَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِينَ، قَدْ خَلَعَ اللهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِهِ، وَسَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ(4)، وَبَقّى قَصَصَ أَخْبَارِهِمْ(5) فِيكُمْ عِبَراً لِلْمُعْتَبِرِينَ.

____________

1. الاملاء ـ جمع مَلاـ: بمعنى الجماعة والقوم.

2. الايدي المترادفة: المتعاونة.

3. أرباباً: سادات.

4. غَضارة النعمة: سعتها.

5. قَصَص الاخبار: حكايتها وروايتها.

الصفحة 469

[الاعتبار بالامم]

فَاعْتَبِرُوا بِحَالِ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَبَنِي إِسْحَاقَ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ(عليهم السلام)، فَمَا أَشَدَّ اعْتِدَالَ(1) الاَْحْوَالِ، وَأَقْرَبَ اشْتِبَاهَ(2) الاَْمْثَالِ!

تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ فِي حَالِ تَشَتُّتِهِمْ، وَتَفَرُّقِهِمْ، لَيَالِيَ كَانَتِ الاَْكَاسِرَةُ وَالْقَيَاصِرَةُ أَرْبَاباً لَهُمْ، يَحْتَازُونَهُمْ(3) عَنْ رِيفِ الاْفَاقِ، وَبَحْرِ الْعِرَاقِ، وَخُضْرَةِ الدُّنْيَا، إِلَى مَنَابِتِ الشِّيحِ، وَمَهَا فِي(4) الرِّيحِ، وَنَكَدِ(5) الْمَعَاشِ، فَتَرَكُوهُمْ عَالَةً مَسَاكِينَ إِخْوَانَ دَ بَر(6) وَوَبَر(7)، أَذَلَّ الاُْمَمِ داراً، وَأَجْدَبَهُمْ قَرَاراً، لاَ يَأْوُونَ(8) إِلَى جَنَاحِ دَعْوَة يَعْتَصِمُونَ بِهَا، وَلاَ إِلَى ظِلِّ أُلْفَة يَعْتَمِدُونَ عَلَى عِزِّهَا، فَالاَْحْوَالُ مُضْطَرِبَةٌ، وَالاَْيْدِي مُخْتَلِفَةٌ، وَالْكَثْرَةُ

____________

1. الاعتدال ـ هنا ـ: التناسب.

2. الاشتباه ـ هنا ـ: التشابه.

3. يَحْتَازُونهم: يقبضو نهم عن الاراضي الخِصْبة.

4. المَهَافي: المواضع التي تهفو فيها الرياح أي تهب.

5. النَكَد ـ بالتحريك ـ: أي الشدة والعسر.

6. الدَبَر ـ بالتحريك ـ: القرْحة في ظهر الدابة.

7. الوَبَر: شعر الجمال، والمراد أنهم رعاة.

8. لا يأوون: لم يكن فيهم داع إلى الحق فيأووا اليه ويعتصموا بمناصرة دعوته.

الصفحة 470
مُتَفَرِّقَةٌ، فِي بَلاَءِ أَزْل(1)، وأَطْبَاقِ جَهْل! مِنْ بَنَات مَوْءُودَة(2)، وَأَصْنَام مَعْبُودَة، وَأَرْحَام مَقْطُوعَة، وَغَارَات مَشْنُونَة(3).

[النعمة برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)]

فَانْظُرُوا إِلَى مَوَاقِعِ نِعَمِ اللهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ حِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولاً، فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ، وَجَمَعَ عَلَى دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ، كَيْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ جَنَاحَ كَرَامَتِهَا، وَأَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِيمِهَا، وَالْتَفَّتِ الْمِلَّةُ بِهِمْ(4) فِي عَوَائِدِ(5) بَرَكَتِهَا، فَأَصْبَحُوا فِي نِعْمَتِهَا غَرِقِينَ، وَفِي خُضْرَةِ عَيْشِهَا فَكِهِينَ(6)، قَدْ تَرَبَّعَتِ(7) الاُْمُورُ بِهِمْ، فِي ظِلِّ سُلْطَان قَاهِر، وَآوَتْهُمُ الْحَالُ إِلَى كَنَفِ عِزّ غَالِب، وَتَعَطَّفَتِ الاُْمُورُ عَلَيْهِمْ فِي ذُرَى مُلْك ثَابِت، فَهُمْ حُكَّامٌ عَلَى

____________

1. بلاء أزل، على الاضافة، والازل: الشدة.

2. مؤودة: من وأدبنته ـ كوعد ـ: أي دفنها وهي حية.

3. شنّ الغارة: صبّها من كل وجه.

4. التَفّتِ المِلّة بهم: يقال التفّ الحبل بالحطب إذا جمعه، فملّة محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) جمعتهم بعد تفرقهم.

5. العوائِد: ما يعود على الناس من الخيرات والنعم.

6. فَكِهِين: راضين، طيبة نفوسهم.

7. تربعت: أقامت.

الصفحة 471
الْعَالَمِينَ، وَمُلُوكٌ فِي أَطْرَافِ الاَْرَضِينَ، يَمْلِكُونَ الاُْمُورَ عَلَى مَنْ كَانَ يَمْلِكُهَا عَلَيْهِمْ، وَيُمْضُونَ الاَْحْكَامَ فِيمَنْ كَانَ يُمْضِيهَا فِيهِمْ! لاَ تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ(1)، وَلاَ تُقْرَعُ لَهُمْ صَفَاةٌ(2)!

[لوم العصاة]

أَلاَ وَإنَّكُمْ قَد نَفَضْتُمْ أَيْدِيَكُمْ مِنْ حَبْلِ الطاعَةِ، وَثَلَمْتُمْ(3) حِصْنَ اللهِ الْمَضْرُوبَ عَلَيْكُمْ، بَأَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَدْ امْتَنَّ عَلَى جَمَاعَةِ هذِهِ الاُْمَّةِ فِيَما عَقَدَ بَيْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هذِهِ الاُْلْفَةِ الَّتِي يَنْتَقِلُونَ فِي ظِلِّهَا، وَيَأْوُونَ إَلَى كَنَفِهَا، بِنِعْمَة لاَ يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ الْـمَخْلُوقِينَ لَهَا قِيمَةً، لاَِنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ كُلِّ ثَمَن، وَأَجَلُّ مِنْ كُلِّ خَطَر.

وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَعْرَاباً، وَبَعْدَ الْمُوَالاَةِ(4) أحْزَاباً، مَا تَتَعَلَّقُونَ مِنَ الاِْسْلاَمِ إِلاَّ بِاسْمِهِ، وَلاَ تَعْرِفُونَ مِنَ الاِْيمَانِ إِلاَّ رَسْمَهُ، تَقُولُونَ: النَّارَ وَلاَ الْعَارَ! كَأَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُكْفِئُوا الاِْسْلاَمَ عَلَى وَجْهِهِ،

____________

1. القَناة: الرمح. وغمزها: جَسّها باليد لينظر هل هي محتاجة للتقويم والتعديل فيفعل بها ذلك.

2. الصَفاة: الحجر الصلد. وقَرْعها: صَدْمها لتكسر.

3. ثَلَمْتم: خرقتم.

4. المُوَالاة: المحبة.

الصفحة 472
انْتِهَاكاً لِحَرِيمِهِ، وَنَقْضاً لِمِيثَاقِهِ الَّذِي وَضَعَهُ اللهُ لَكُمْ حَرَماً فِي أَرْضِهِ، وأَمْناً بَيْنَ خَلْقِهِ.

وإِنَّكُمْ إِنْ لَجَأْتُمْ إِلَى غَيْرِهِ حَارَبَكُمْ أَهْلُ الْكُفْرِ، ثُمَّ لاَ جَبْرَائِيلُ وَلاَ مِيكَائِيلُ وَلاَ مُهَاجِرُونَ وَلاَ أَنْصَارٌ يَنْصُرُونَكُمْ إِلاَّ الْمُقَارَعَةَ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَكُمْ.

وَإِنَّ عِنْدَكُمُ الاَْمْثَالَ مِنْ بَأْسِ اللهِ تَعَالَى وَقَوَارِعِهِ، وَأَيَّامِهِ وَوَقَائِعِهِ، فَلاَ تَسْتَبْطِئُوا وَعِيدَهُ جَهْلاً بَأَخْذِهِ، وَتَهَاوُناً بِبَطْشِهِ، وَيأْساً مِنْ بَأْسِهِ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَلْعَنِ الْقَرْنَ الْمَاضِيَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ إِلاَّ لِتَرْكِهِمُ الاَْمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المُنكَرِ، فَلَعَنَ السُّفَهَاءَ لِرُكُوبِ الْمَعَاصِي، وَالْحُلَمَاءَ لِتَرْكِ الْتَّنَاهِيْ!

أَلاَ وَقَدْ قَطَعْتُمْ قَيْدَ الاِْسْلاَمِ، وَعَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ، وَأَمَتُّمْ أَحْكَامَهُ.

أَلاَ وَقَدْ أَمَرَنِيَ اللهُ بِقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْي وَالْنَّكْثِ(1) وَالْفَسَادِ فِي الاَْرْضِ، فَأَمَّا النَّاكِثُونَ فَقَدْ قَاتَلْتُ، وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ(2) فَقَدْ جَاهَدْتُ، وَأَمَّا الْمَارِقَةُ(3)فَقَدْ دَوَّخْتُ(4)، وَأَمَّا شَيْطَانُ الرَّدْهَةِ(5) فَقَدْ كُفِيتُهُ بِصَعْقَة(6)

____________

1. النَكْث: نقض العهد.

2. القاسطون: الجائرون عن الحق.

3. المَارقة: الذين مرقوا من الدين أي خرجوا منه.

4. دَوّخهُم: أضعفهم وأذلهم.

5. الرَدْهة ـ بالفتح ـ: النُقْرَة في الجبل قد يجتمع فيها الماء، وشيطان الرَدْهة: ذوالثَدِيّة، من رؤساء الخوارج وُجد مقتولاً في ردهة.

6. الصَعْقَة: الغَشِيّة تصيب الانسانَ من الهول.

الصفحة 473
سَمِعْتُ لَهَا وَجْبَةَ قَلْبِهِ(1) وَرَجَّةَ صَدْرِهِ(2)، وَبَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَلَئِنْ أَذِنَ اللهُ فِي الْكَرَّةِ عَلَيْهِمْ لاَُدِيلَنَّ مِنْهُمْ(3) إِلاَّ مَا يَتَشَذَّرُ(4) فِي أَطْرَافِ الاَْرْضِ تَشَذُّراً!

[شجاعته وفضله (عليه السلام)]

أَنَا وَضَعْتُ [فِي الصِّغَرَ] بَكَلاَكِلِ(5) الْعَرَبِ، وَكَسَرْتُ نَوَاجِمَ قُرُونِ(6)

____________

1. وَجْبَة القلب: اضطرابه وخفقانه. 2. رَجّة الصدر: اهتزازه وارتعاده.

3. لادِيلَنّ منهم: لامحقنّهم، ثم أجعل الدولة لغيرهم.

4. يَتَشَذّر: يتفَرّق.

5. الكَلاكِل: الصدور، عبّر بها عن الاكابر.

6. النَوَاجِمُ من القرون: الظاهرة الرفيعة، يريد بها أشراف القبائل.

الصفحة 474
رَبِيعَةَ وَمُضَرَ.

وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله) بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، وَالْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ: وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنَا وليدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ، وَيَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ، وَيُمِسُّنِي جَسَدَهُ، وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ(1)، وَكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ، وَمَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْل، وَلاَ خَطْلَةً(2) فِي فِعْل.

وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ تَعَالَى بِهِ(صلى الله عليه وآله) مِنْ لَدُنْ [أَنْ] كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَك مِنْ مَلاَئِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، وَمَحَاسِنَ أَخْلاَقِ الْعَالَمِ، لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ (3) أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لي فِي كُلِّ يَوْم عَلَماً(4) مِنْ أخْلاقِهِ، وَيَأْمُرُني بِالاقْتِدَاءِ بِهِ.

وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَة بِحِرَاءَ(5)، فَأَرَاهُ وَلاَ يَرَاهُ غَيْرِي، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذ فِي الاِْسْلاَمِ غَيْرَ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله) وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا،

____________

1. عَرْفُهُ ـ بالفتح ـ: رائحته الذكيّة.

2. الخَطْلَة: واحدة الخَطَل ـ كالفرحة واحدة الفرح ـ والخطل: الخطأ ينشأ عن عدم الروية.

3. الفَصِيل: ولد الناقة.

4. عَلَماً: أي فضلاً ظاهراً.

5. حِراء ـ بكسر الحاء ـ: جبل على القرب من مكة.

الصفحة 475
أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ.

وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ(صلى الله عليه وآله) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا هذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: «هذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرَى مَا أَرَى، إِلاَّ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيّ، وَلكِنَّكَ وَزِيرٌ، وَإِنَّكَ لَعَلَى خَيْر».

وَلَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ(صلى الله عليه وآله) لَمَّا أَتاهُ المَلاَُ مِنْ قُريْش، فَقَالُوا لَهُ: يَا مُحُمَّدُ، إِنَّكُ قَدِ ادَّعْيْتَ عَظِيماً لَمْ يَدَّعِهِ آبَاؤُكَ وَلاَ أحَدٌ مِن بَيْتِكَ، وَنَحْنُ نَسَأَلُكَ أَمْراً إِنْ أَجَبْتَنَا إِلَيْهِ وَأَرَيْتَنَاهُ، عَلِمْنَا أَنَّكَ نِبِيٌّ وَرَسُولٌ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ.

فَقَالَ لهم(صلى الله عليه وآله): «وَمَا تَسْأَلُونَ؟».

قَالُوا: تَدْعُو لَنَا هذِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقِهَا وَتَقِفَ بَيْنَ يَدَيْكَ.

فَقَالَ(صلى الله عليه وآله): «إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ، فإِنْ فَعَلَ اللهُ ذلِكَ لَكُمْ، أَتُؤْمِنُونَ وَتَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ؟».

قَالُوا: نَعَمْ.

قَالَ: «فَإِنِّي سَأُرِيكُمْ مَا تَطْلُبُونَ، وإِنِّي لاََعْلَمُ أَنَّكُمْ لاَ تَفِيئُونَ(1) إِلَى

____________

1. تَفِيئُون: ترجعون.

الصفحة 476
خَيْر، وَإِنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطْرَحُ فِي الْقَلِيبِ(1)، وَمَنْ يُحَزِّبُ الاَْحْزَابَ».

ثُمَّ قَالَ: «يَا أَيَّتُهَا الشَّجَرَةُ إِنْ كُنْتِ تُؤمِنِينَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الاْخِرِ، وَتَعْلَمِينَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَانْقَلِعِي بعُرُوقِكِ حَتَّى تَقِفِي بَيْنَ يَدَيَّ بِإِذْنِ اللهِ».

فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ نَبِيّاً لاَنْقَلَعَتْ بِعُرُوقِهَا، وَجَاءَتْ وَلَهَا دَوِيٌّ شَدِيدٌ، وَقَصْفٌ(2) كَقَصْفِ أَجْنِحَةِ الطَّيْرِ، حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله)مُرَفْرِفَةً، وَأَلْقَتْ بِغُصْنِهَا الاَْعْلَى عَلَى رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله)، وَبِبَعْضِ أَغْصَانِهَا عَلَى مَنْكِبِي، وَكُنْتُ عَنْ يَمِينِهِ(عليه السلام).

فَلَمَّا نَظَرَ الْقَوْمُ إِلَى ذلِكَ قَالُوا ـ عُلُوّاً وَاسْتِكْبَاراً ـ: فَمُرْهَا فَلْيَأْتِكَ نِصْفُهَا وَيَبْقَى نِصْفُهَا.

فَأَمَرَهَا بِذلِكَ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ نِصْفُهَا كَأَعْجَبِ إِقْبَال وَأَشَدِّهِ دَوِيّاً، فَكَادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله).

فَقَالُوا ـ كُفْراً وَعُتُوّاً ـ: فَمُرْ هذَا النِّصْفَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى نِصْفِهِ كَمَا كَانَ.

فَأَمَرَهُ فَرَجَعَ.

فَقُلْتُ أَنَا: لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، إِنِّي أَوَّلُ مْؤْمِن بِكَ يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَوَّلُ مَنْ آمَنَ

____________

1. القَلِيب ـ كأمير ـ: البئر، والمراد منه قَلِيب بَدْر.

2. القَصْف: الصوت الشديد.

الصفحة 477
بَأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اللهِ تَصْدِيقاً لِنُبُوَّتِكَ، وإِجْلاَلاً لِكَلِمَتِكَ.

فَقَالَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ: بَلْ سَاحِرٌ كَذَّابٌ، عَجِيبُ السِّحْرِ خَفِيفٌ فِيهِ، وَهَلْ يُصَدِّقُكَ فِي أَمْرِكَ إِلاَّ مِثْلُ هذَا! يَعْنُونَنِي.

وَإِنِّي لَمِنْ قَوْم لاَ تَأخُذُهُمْ فِي اللهِ لَوْمَةُ لاَئِم، سِيَماهُمْ سِيَما الصِّدِّيقِينَ، وَكَلاَمُهُمْ كَلاَمُ الاَْبْرَارِ، عُمَّارُ(1) اللَّيْلِ، وَمَنَارُ النَّهَارِ، مُتَمَسِّكُونَ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ، يُحْيُونَ سُنَنَ اللهِ وسُنَنَ رَسُولِهِ، لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وَلاَيَعْلُونَ، وَلاَيَغُلُّونَ(2) وَلاَ يُفْسِدُونَ، قُلُوبُهُمْ فِي الْجِنَانِ، وَأَجْسَادُهُمْ في الْعَمَلِ!

[ 193 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[يصف فيها المتقين]

روي أنّ صاحباً لاميرالمؤمنين(عليه السلام) يقال له همّامٌ كان رجلاً عابداً، فقال له: يا أميرالمؤمنين، صف لي المتقين كأني أنظر إليهم.

فتثاقل عن جوابه، ثم قال(عليه السلام): يا همّامُ، اتقِ اللهَ وأحْسِنْ فَـ (إنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا والَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)

فلم يقنع همّامٌ بِذَلِكَ القول حتّى عزم عليه.

____________

1. عُمّار ـ جمع عامر ـ: أي يَعَمُرونه بالسهر للفكر و العبادة.

2. يَغُلّون: يخونون.

الصفحة 478
قال: فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على النبي(صلى الله عليه وآله)، ثم قال(عليه السلام):

أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللهَ ـ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ـ خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، لاَِنَّةُ لاَ تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ، وَلاَ تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ، فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ، وَوَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا مَوَاضِعَهُمْ.

فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ:

مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ، وَمَلْبَسُهُمُ الاْقْتِصَادُ(1)، وَمَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ.

غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ(2) عَمَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَوَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ.

نَزَلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلاَءِ كَالَّتِي نَزَلَتْ فِي الرَّخَاءِ(3).

لَوْ لاَ الاَْجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْن، شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ، وَخَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ.

عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ، فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ، وَهُمْ وَالنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا

____________

1. ملبسهمُ الاقتصادُ: يلبسون الثياب بين بين، لا هي بالثمينة جداً ولا الرخيصة جداً.

2. غَضّوا أبصارهم: خفضوها وغمضوها.

3. نزّلت أنفسهم منهم بالبَلاء: أي أنهم إذا كانوا في بلاء كانوا بالامل في الله، كأنهم كانوا في رخاء لا يجزعون ولا يَهِنون، وإذا كانوا في رخاء كانوا من خوف الله وحذر النقمة، كأنهم في بلاء لا يبطرون ولا يتجبّرون.

الصفحة 479
مُعَذَّبُونَ.

قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ، وَشُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ، وَأَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ، وَحَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ، وَأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ.

صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً، تِجَارَةٌ مَرْبِحَةٌ(1)، يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُم.

أَرَادَتْهُمُ الْدُّنْيَا وَلَمْ يُرِيدُوهَا، وَأَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أُنْفُسَهُمْ مِنْهَا.

أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ، تَالِينَ لاَِجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلاً(2)، يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَيَسْتَثِيرُونَ(3) بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ، فَإِذَا مَرُّوا بِآيَة فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً، وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً، وَظَنُّوا أنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ، وَإِذَا مَرُّوا بِآيَة فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ، وَظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ(4) جَهَنَّمَ وَشَهِيقَهَا(5) فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ، فَهُمْ حَانُونَ عَلَى

____________

1. أرْبحت التجارة: أفادت ربحاً.

2. الترتيل: التبيين والايضاح.

3. استثار الساكنَ: هيّجه، وقارىء القرآن يستثير به الفكر الماحي للجهل.

4. زَفِير النار: صوت توقّدها. 5. شهِيق النار: الشديد من زفيرها كأنه تردد البكاء.

الصفحة 480
أَوْسَاطِهِمْ(1)، مُفْتَرِشُونَ لِجَبَاهِهِمْ(2) وَأَكُفِّهِمْ، وَأَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ، يَطْلُبُونَ إِلَى اللهِ فِي فَكَاكِ رِقَابِهِمْ(3).

وَأَمَّا النَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ، أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ، قَدْ بَرَاهُمْ الْخَوْفُ بَرْيَ الْقِدَاحِ(4)، يَنْظُرُ إِلَيْهمُ الْنَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى، وَمَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَض، وَيَقُولُ: قَدْ خُولِطُوا(5)! وَلَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ!

لاَ يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ، وَلاَ يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِيرَ، فَهُمْ لاَِنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ، وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ(6).

إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهْمْ(7) خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ، فَيَقُولُ: أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ

____________

1. حانُون على أوساطهم من حَنَيْتَ العودَ: عَطَفْتَه، يصف هيئة ركوعهم وانحنائهم في الصلاة.

2. مُفترِشُون لجباههم: باسطون لها على الارض.

3. فكاك الرّقاب: خلاصها.

4. القِداح ـ جمع قِدْح بالكسر ـ: وهو السهم قبل أن يُرَاش. وبَرَاه: نحَتَه، أي رقّق الخوف أجسامهم كما تُرَقَّق السهامُ بالنحت.

5. خُولط في عقله: ما زَجَهُ خَلَلٌ فيه، والامر العظيم الذي خالط عقولهم هو الخوف الشديد من الله.

6. مشفقون: خائفون من التقصير.

7. زُكّيَ أحدهم: مدحه أحد الناس.

الصفحة 481
غَيْرِي، وَرَبِّي أَعْلَمُ مِنِّي بِنَفْسي! اللَّهُمَّ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، وَاجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لاَ يَعْلَمُونَ.

فَمِنْ عَلاَمَةِ أَحَدِهِمْ أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً فِي دِين، وَحَزْماً فِي لِين، وَإِيمَاناً فِي يَقِين، وَحِرْصاً فِي عِلْم، وَعِلْماً فِي حِلْم، وَقَصْداً(1) فِي غِنىً، وَخُشُوعاً فِي عِبَادَة، وَتَجَمُّلاً(2) فِي فَاقَة، وَصَبْراً فِي شِدَّة، وَطَلَباً فِي حَلاَل، وَنَشاطاً فِي هُدىً، وَتَحَرُّجاً(3) عَنْ طَمَع.

يَعْمَلُ الاَْعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَهُوَ عَلَى وَجَل، يُمْسِي وَهَمُّهُ الشُّكْرُ، وَيُصْبِحُ وَهَمُّهُ الذِّكْرُ، يَبِيتُ حَذِراً، وَيُصْبِحُ فَرِحاً، حَذِراً لَمَّا حُذِّرَ مِنَ الْغَفْلَةِ، وَفَرِحاً بِمَا أَصَابَ مِنَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ.

إِنِ اسْتَصْعَبَتْ(4) عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِيَما تَكْرَهُ لَمْ يُعْطِهَا سُؤْلَهَا فِيَما تُحِبُّ.

قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيَما لاَ يَزُولُ، وَزَهَادَتُهُ فِيَما لاَ يَبْقَى، يَمْزُجُ الْحِلْمَ بِالْعِلْمَ، وَالْقَوْلَ بِالْعَمَلِ.

____________

1. قصداً: أي اقتصاداً.

2. التجمّل: التظاهر باليسر عند الفاقة أي الفقر.

3. التحرّج: عدّ الشيء حَرجاً أي إثماً، أي تباعداً عن طمع.

4. استَصْعَبَتْ: لم تطاوعه.

الصفحة 482
تَرَاهُ قَرِيباً أَمَلُهُ، قَلِيلاً زَلَلُهُ، خَاشِعاً قَلْبُهُ، قَانِعَةً نَفْسُهُ، مَنْزُوراً(1) أَكْلُهُ، سَهْلاً أَمْرُهُ، حَرِيزاً(2) دِينُهُ، مَيِّتَةً شَهْوَتُهُ، مَكْظُوماً غُيْظُهُ.

الْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ، وَالشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ.

إِنْ كَانَ فِي الْغَافِلِينَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ، وَإِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ.

يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ، وَيُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ، وَيَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ.

بَعِيداً فُحشُهُ(3)، لَيِّناً قَوْلُهُ، غَائِباً مُنْكَرُهُ، حَاضِراً مَعْرُوفُهُ، مُقْبِلاً خَيْرُهُ، مُدْبِراً شَرُّهُ.

فِي الزَّلاَزِلِ(4) وَقُورٌ(5)، وَفِي الْمَكَارِهِ صَبُورٌ، وَفِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ.

لاَ يَحِيفُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ، وَلاَ يَأْثَمُ فِيمَنْ يُحِبُّ.

يَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ.

____________

1. مَنْزُوراً: قليلاً.

2. حَرِيزاً: حصيناً.

3. الفُحْش: القبيح من القول.

4. في الزلازل: الشدائد المُرْعِدة.

5. الوَقُور: الذي لا يضطرب.

الصفحة 483
لاَ يُضَيِّعُ مَا اسْتُحْفِظَ، وَلاَ يَنْسَى مَا ذُكِّرَ، وَلاَ يُنَابِزُ بِالاَْلْقَابِ(1)، وَلاَ يُضَارُّ بالْجارِ، وَلاَ يَشْمَتُ بالْمَصَائِبِ، وَلاَ يَدْخُلُ فِي الْبَاطِلِ، ولاَ يَخْرُجُ مِنَ الْحَقِّ.

إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمَّهُ صَمْتُهُ، وَإِنْ ضَحِكَ لَمْ يَعْلُ صَوْتُهُ، وَإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتّى يَكُونَ اللهُ هُوَ الَّذِي يَنْتَقِمُ لَهُ.

نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاء، وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَة.

أَتْعَبَ نفسه لاِخِرَتِهِ، وَأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ.

بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ وَنَزاهَةٌ، وَدُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنَهُ لِينٌ وَرَحْمَةٌ، لَيْسَ تَبَاعُدُهُ بِكِبْر وَعَظَمَة، وَلاَ دُنُوُّهُ بِمَكْر وَخَدِيعَة.

قال: فصعق(2) همّام رحمه الله صعقةً كانت نفسُه فيها.

فقال أميرالمؤمنين(عليه السلام): أَمَا وَاللهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْهِ.

ثُمَّ قَالَ: هكَذَا تَصْنَعُ الْمَوَاعِظُ البَالِغَةُ بِأَهْلِهَا؟

فقال له قائل: فما بالك يا أميرالمؤمنين ؟

فقال(عليه السلام): وَيْحَكَ، إِنَّ لِكُلِّ أَجَل وَقْتاً لاَ يَعْدُوهُ، وَسَبَباً لاَ يَتَجَاوَزُهُ، فَمَهْلاً، لاَ تعُدْ لِمِثْلِهَا، فَإِنَّمَا نَفَثَ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِكَ!

____________

1. لاينابز بالالقاب: لا يدعو اللقب الذي يكره ويشمئز منه.

2. صَعِقَ: غُشيَ عليه.

الصفحة 484

[ 194 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
يصف فيها المنافقين

نَحْمَدُهُ عَلَى مَا وَفَّقَ لَهُ مِنَ الطَّاعَةِ، وَذَادَ عَنْهُ(1) مِنَ الْمَعْصِيةِ، وَنَسْأَلُهُ لِمِنَّتِهِ تَمَاماً، وَبِحَبْلِهِ اعْتِصَاماً.

وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، خَاضَ إِلَى رِضْوَانِ اللهِ كُلَّ غَمْرَة(2)، وَتَجَرَّعَ فِيهِ كُلَّ غُصَّة(3)، وَقَدْ تَلَوَّنَ لَه الاَدْنَوْنَ(4)، وَتَأَلَّبَ عَلَيْهِ الاَْقْصَوْنَ(5)، وَخَلَعَتْ إِلَيْهِ الْعَرَبُ أَعِنَّتَهَا(6)، وَضَرَبَتْ إِلَى مُحَارَبَتِهِ بُطُونَ رَوَاحِلِهَا، حَتَّى أَنْزَلَتْ بِسَاحَتِهِ عَدَاوَتَهَا، مِنْ أبْعَدِ الدَّارِ، وَأَسْحَقِ(7)

____________

1. ذادَ عنه: حمى عنه وطَرَدَ.

2. الغَمْرة: الشدة، وأصلها ما ازدحم وكثر من الماء.

3. الغصّة: الشجا في الحلق.

4. تَلوّنَ: تقلب له الادْنَوْن أي الاقربون فلم يثبتوا معه.

5. تَألّبَ عليه الاقْصَوْن: اجتمع عليه الابعدون.

6. الاعنّة: جمع عِنان، وهو حبل اللجام.

7. أسحق: أقصى.

الصفحة 485
الْمَزَارِ.

أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللهِ، بِتَقْوَى اللهِ، وَأُحَذِّرُكُمْ أَهْلَ النِّفَاقِ، فَإِنَّهُمُ:

الضَّالُّونَ الْمُضِلُّونَ، وَالزَّالُّونَ الْمُزِلُّونَ(1).

يَتَلَوَّنُونَ أَلْوَاناً، وَيَفْتَنُّونَ(2) افْتِنَاناً، وَيَعْمِدُونَكُمْ(3) بِكُلِّ عِمَاد(4)، وَيَرْصُدُونَكُمْ(5) بِكُلِّ مِرْصَاد(6).

قُلوبُهُمْ دَوِيَّةٌ(7)، وَصِفَاحُهُمْ نَقِيَّةٌ(8).

____________

1. الزّالّون: من زلّ، أي أخطأ، والمُزِلّون: من أزلّه: إذا أوقعة في الخطأ.

2. يفتنّون: يأخذون في فنون من القول لا يذهبون مذهباً واحداً.

3. يَعْمِدونكم: يَفْدَحونكم.

4. العِماد: مايُقام عليه البناء.

5. يَرْصُدُونكم: يقعدون لكم بكل طريق ويُعِدّون المكايد لكم.

6. المِرْصاد: محل الارتقاب.

7. دَوِيّة: مريضة، من الدواء ـ بالقصر ـ وهو المرض.

8. الصِفاح: جمع صفحة، والمراد منها صفاح وجوههم، ونقاوتها: صفاؤها من علامات العداوة وقلوبهم ملتهبة بنارها.

الصفحة 486
يَمْشُونَ الْخَفَاءَ(1)، وَيَدِبُّونَ(2) الضَّرَاءَ.

وَصْفُهُمْ دَوَاءٌ، وَقَوْلُهُمْ شِفَاءٌ، وَفِعْلُهُمُ الدَّاءُ الْعَيَاءُ(3).

حَسَدَةُ(4) الرَّخَاءِ، وَمُؤَكِّدُوا الْبَلاَءِ، وَمُقْنِطُوا الرَّجَاءِ.

لَهُمْ بِكُلِّ طَرِيق صَرِيعٌ(5)، وَإلى كُلِّ قَلْب شَفِيعٌ، وَلِكُلِّ شَجْو(6) دُمُوعٌ.

يَتَقَارَضُونَ الثَّنَاءَ(7)، وَيَتَرَاقَبُونَ الْجَزَاء.

إِنْ سَأَلُوا ألْحَفُوا(8)، وَإِنْ عَذَلُوا(9) كَشَفُوا، وَإِنْ حَكَمُوا أَسْرَفُوا.

____________

1. يمشون الخَفاءَ: يمشون مشي التستر.

2. يَدِبّون: أي يمشون على هينة دبيب الضراء: أي كما يسري المرض في الجسم.

3. الداء العَياء ـ بالفتح ـ: الذي أعيا الاطباء ولا يمكن منه الشفاء.

4. حَسَدَة: جمع حاسد، أي يحسدون على السَعَة.

5. الصريع: المطروح على الارض.

6. الشَجْو: الحزن، أي يبكون تصنعاً متى أرادوا.

7. يتقارضون: كل واحد منهم يثني على الاخر ليثني الاخر عليه، كأن كلاً منهم يسلف الاخر دَيناً ليؤديه إليه.

8. ألحفوا: بالغوا في السؤال وألحّوا.

9. عذلوا: لاموا.

الصفحة 487
قَدْ أَعَدُّوا لِكُلِّ حَقٍّ بَاطِلاً، وَلِكُلِّ قَائِم مَائِلاً، وَلِكُلِّ حَيّ قَاتِلاً، وَلِكُلِّ بَاب مِفْتَاحاً، وَلِكُلِّ لَيْل مِصْبَاحاً.

يَتَوَصَّلُونَ إِلَى الطَّمَعِ بِالْيَأْسِ لِيُقيمُوا بِهِ أَسْوَاقَهُمْ، وَيُنَفِّعُوا بِهِ أَعْلاَقَهُمْ(1).

يَقُولُونَ فَيُشَبِّهُونَ(2)، وَيَصِفُونَ فَيُمَوِّهُونَ.

قَدْ هيّأُوا الطَّرِيقَ، وَأَضْلَعُوا الْمَضِيقَ(3).

فَهُمْ لُمَةُ(4) الشَّيْطَانِ، وَحُمَةُ(5) النِّيرَانِ (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ)

____________

1. الاعْلاق ـ جمع علق ـ: الشيء النفيس، والمراد ما يزينونه من خدائعهم.

2. يقولون فيشبّهون: أي يشبهون الحق بالباطل.

3. يُضْلِعون المضائق: يجعلونها معوجّة يصعب تجاوزها فيهلكون.

4. اللُمَة ـ بضم ففتح ـ: الجماعة من الثلاثة إلى العشرة، والمراد هنا مطلق الجماعة.

5. الحُمَة ـ بالتخفيف ـ: الابرة تلسع بها العقرب ونحوها.

الصفحة 488

[ 195 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[يحمدالله ويثني على نبيّه ويعظ]
[حمدالله]

الْحَمْدُ لله الَّذِي أَظْهَرَ مِنْ آثَارِ سُلْطَانِهِ، وَجَلاَلِ كِبْرِيَائِهِ، مَا حَيَّرَ مُقَلَ(1) الْعُقُولِ مِنْ عَجَائِبِ قُدرَتِهِ، وَرَدَعَ خَطَرَاتِ هَمَاهِمِ النُّفُوسِ(2) عَنْ عِرْفَانِ كُنْهِ صِفَتِهِ.

[الشهادتان]

وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، شَهَادَةَ إِيمَان وَإِيقَان، وَإِخْلاَص وَإِذْعَان.

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ وَأَعْلاَمُ الْهُدَى دَارِسَةٌ، وَمَنَاهِجُ الدِّينِ طَامِسَةٌ(3)، فَصَدَعَ(4) بِالْحَقِّ، وَنَصَحَ لِلْخَلْقِ، وَهَدَى إِلَى الرُّشْدِ، وَأَمَرَ بِالْقَصْدِ(5)،(صلى الله عليه وآله وسلم).

[العظة]

وَاعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ، أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً، وَلَمْ يُرْسِلْكُمْ هَمَلاً، عَلِمَ مَبْلَغَ نِعَمِهِ عَلَيْكُمْ، وَأَحَصَى إِحْسَانَهُ إِلَيْكُمْ، فَاسْتَفْتِحُوهُ(6) وَاسْتَنْجِحُوهُ(7)،

____________

1. المُقَل ـ بضم ففتح ـ: جمع مُقْلة، وهي شحمة العين التي تجمع البياض والسواد.

2. هَمَاهِمُ النفوس: همومها في طلب العلم.

3. طامسة: من طَمَسَ ـ بفتحات ـ أي انمحى واندرس.

4. صدع: أي جهر، و أصلها شق بناء الباطل بصدمة الحق.

5. القصد: الاعتدال في كل شيء.

6. استفتحوه: اسألوه الفتح على أعدائكم.

7. استنجحوه: اسألوه النجاح في أعمالكم.

الصفحة 489
وَاطْلُبُوا إِلَيْهِ وَاسْتَمْنِحُوهُ(1)، فَمَا قَطَعَكُمْ عَنْهُ حِجَابٌ، وَلاَ أُغْلِقَ عَنْكُمْ دُونَهُ بَابٌ، وَإِنْهُ لَبِكُلِّ مَكَان، وَفِي كُلِّ حِين وَأَوَان، وَمَعَ كُلِّ إِنْس وَجَانّ، لاَ يَثْلِمُهُ(2) الْعَطَاءُ، وَلاَ يَنْقُصُهُ الْحِبَاءُ(3)، وَلاَ يَسْتَنْفِدُهُ(4) سَائِلٌ، وَلاَ يَسْتَقْصِيهِ(5) نَائِلٌ، وَلاَ يَلْوِيهِ(6) شَخْصٌ عَنْ شَخْص، وَلاَ يُلْهِيهِ صَوْتٌ عَنْ صَوْت، وَلاَ تَجْجُزُهُ هِبَهٌ عَنْ سَلْب، وَلاَ يَشْغَلُهُ غَضَبٌ عَنْ رَحْمَة، وَلاَ تُوَلِّهُهُ(7) رَحْمَةٌ عَنْ عِقَاب، وَلاَ

____________

1. استمنحوه: التمسوا منه العطاء.

2. ثَلَمَ السيفَ: كسر جانبه، مجاز عن عدم انتقاص خزائنه بالعطاء.

3. الحِباء ـ ككتاب ـ: العطية لا مكافأة.

4. استنفده: جعله نافد المال لا شيء عنده.

5. استقصاه: أتى على آخر ما عنده.

6. لايَلْوِيه: لايُميله. 7. تُولِّههُ: تُذْهله.

الصفحة 490
يُجِنُّهُ(1) الْبُطُونُ عَنِ الظُّهُورِ، وَلاَ يَقْطَعُهُ الظُّهُورُ عَنِ الْبُطُونِ، قَرُبَ فَنأَى، وَعَلاَ فَدَنَا، وَظَهَرَ فَبَطَنَ، وَبَطَنَ فَعَلَنَ، ودَانَ(2) وَلَمْ يُدَنْ، لَمْ يَذْرَاَ(3) الْخَلْقَ بِاحْتِيَال(4)، وَلاَ اسْتَعَانَ بِهِمْ لِكَلاَل(5).

أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللهِ، بِتَقْوَى اللهِ، فَإِنَّهَا الزِّمَامُ(6) وَالْقِوَامُ(7)، فَتَمَسَّكُوا بِوَثَائِقِهَا، وَاعْتَصِمُوا بِحَقَائِقِهَا، تَؤُلْ بِكُمْ إِلَى أَكْنَانِ(8) الدَعَةِ(9)، وَأَوْطَانِ

____________

1. يُجِنّه: يستره.

2. دانَ: جازى وحاسَبَ ولم يحاسبه أحد.

3. ذَرَأ: خَلَقَ.

4. الاحتيال: التفكر في العمل وطلب التمكن من إبرازه ولا يكون إلا من العجز.

5. الكَلال: الملل من التعب.

6. الزِمام: المِقْود.

7. قَوَام ـ بالفتح ـ: أي عيش يحيا به الابرار.

8. الاكْنَان: جمع كنّ ـ بالكسر ـ ما يستكن به.

9. الدَعَة: خَفَضُ العيش وَسَعته.

الصفحة 491
السَّعَةِ، وَمَعَاقِلِ(1) الْحِرْزِ(2)، وَمَنَازِلِ الْعِزِّ في (يَوْم تَشْخَصُ فِيهِ الاَْبْصَارُ)، وَتُظْلِمُ لَهُ الاَْقْطَارُ، وَتُعَطَّلُ فِيهِ صُرُومُ(3) الْعِشَارِ(4)، وَيُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَتَزْهَقُ كُلُّ مُهْجَة، وَتَبْكَمُ كُلُّ لَهْجَة، وَتَذِلُّ الشُّمُّ(5) الشَّوَامِخُ(6)، وَالصُّمُّ(7) الرَّوَاسِخُ(8)، فَيَصِيرُ صَلْدُهَا(9) سَرَاباً(10) رَقْرَقاً(11)، وَمَعْهَدُهَا(12) قَاعاً(13)سَمْلَقاً(14)، فَلاَ شَفِيعٌ يَشَفَعُ، وَلاَ حَمِيمٌ يَنْفَعُ، وَلاَ مَعْذِرَةٌ تَدْفَعُ.

____________

1. المعاقل: الحصون. 2. الحِرْز: الحفظ.

3. الصُرُوم ـ جمع صِرْمة بالكسر ـ: وهي قطعة من الابل فوق العشرة إلى تسعة عشر أو فوق العشرين إلى الثلاثين أو الاربعين أو الخمسين.

4. العِشار: جمع عُشَراء ـ بضم ففتح كنُفَساء ـ وهي الناقة، مضى لحملها عشرة أشهر. وتعطيل جماعات الابل: إهمالها من الرَعْي. والمراد أن يوم القيامة تهمل فيه نفائس الاموال لاشتغال كل شخص بنجاة نفسه.

5. الشُمّ ـ جمع أشَمّ ـ أي: رفيع.

6. الشامخ: المتسامي في الارتفاع.

7. الصُمّ ـ جمع أصَمّ ـ: وهو الصُلْب المُصْمَت، أي: الذي لا تجويف فيه.

8. الراسخ: الثابت.

9. الصَلْد: الصُلْب الاملس. 10. السَراب: ما يخيله ضوء الشمس كالماء خصوصاً في الاراضي السَبِخة وليس بماء.

11. الرَقْرَق ـ كجعفر ـ: المضطرب.

12. معهدها: المحل الذي كان يعهد وجودها فيه.

13. القاع: ما اطمأن من الارض.

14. السَمْلَق ـ كجعفر ـ: الصَفْصَف المستوي، أي تُنْسَف تلك الجبال ويصير مكانها قاعاً صفصفاً: أي مستوياً.

الصفحة 492

[ 196 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[بعثة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)]

بَعَثَهُ حِينَ لاَ عَلَمٌ قَائِمٌ، وَلاَ مَنَارٌ سَاطِعٌ، وَلاَ مَنْهَجٌ وَاضِحٌ.

[العظة بالزهد]

أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللهِ، بِتَقْوَى اللهِ، وَأُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا، فإِنَّهَا دَارُ شُخُوص(1)، وَمَحَلَّةُ تَنْغِيص، سَاكِنُهَا ظَاعِنٌ، وَقَاطِنُهَا بَائِنٌ(2)، تَمِيدُ(3) بِأَهْلِهَا مَيَدَانَ السَّفِينَةِ تَقْصِفُهَا(4) الْعَوَاصِفُ فِي لُجَجِ الْبِحَارِ، فَمِنْهُمُ الْغَرِقُ الْوَبِقُ(5)،

____________

1. الشُخُوص: الذهاب والانتقال إلى بعيد.

2. بائن: مبتعد منفصل.

3. تَمِيد: تضطرب اضطراب السفينة.

4. تقصفها: تكسرها الرياح الشديدة.

5. الوَبِق ـ بكسر الباء ـ: الهالك، أي منهم من هلك عند تكسر السفينة، ومنهم من بقيت فيه الحياة فنجا.

الصفحة 493
وَمِنْهُمُ النَّاجِي عَلى مُتُونِ الاَْمْوَاجِ، تَحْفِزُهُ(1) الرِّيَاحُ بِأَذْيَالِهَا، وَتَحْمِلُهُ عَلى أَهْوَالِهَا، فَمَا غَرِقَ مِنْهَا فَلَيْسَ بِمُسْتَدْرَك، وَمَا نَجَا مِنْهَا فَإِلى مَهْلَك!

عِبَادَ اللهِ، الاْنَ فَاعْلَمُوا، وَالاَْلْسُنُ مُطْلَقَةٌ، وَالاَْبدَانُ صَحِيحَةٌ، وَالاَْعْضَاءُ لَدْنَةٌ(2)، وَالْمُنقَلَبُ(3) فَسِيحٌ، وَالْـمَجَالُ عَرِيضٌ، قَبْلَ إِرْهَاقِ(4) الْفَوْتِ(5)، وَحُلُولِ الْمَوْتِ، فَحَقّقُوا عَلَيْكُمْ نُزُولَهُ، وَلاَ تَنْتَظِرُوا قُدُومَهُ.

[ 197 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[ينبّه فيها على فضيلته لقبول قوله وأمره ونهيه]

وَلَقَدْ عَلِمَ الْمُسْتَحْفَظُونَ(6) مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّد(صلى الله عليه وآله) أَنِّي لَمْ أَرُدَّ عَلَى الله وَلاَ

____________

1. تَحْفِزه: أي تدفعه.

2. اللَدْن ـ بالفتح ـ: اللين.

3. المُنْقَلَب ـ بفتح اللام ـ: مكان الانقلاب من الضلال إلى الهدى في هذه الحياة.

4. أرهقه الشيء: أعجله فلم يتمكن من فعله.

5. الفَوْت: ذهاب الفرصة بحلول الاجل.

6. المُسْتَخْفَظون ـ بفتح الفاء ـ: اسم مفعول، أي: الذين أودعهم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أمانة سره وطالبهم بحفظها.

الصفحة 494
عَلَى رَسُولِهِ سَاعَةً قَطُّ، وَلَقَدْ وَاسَيْتُهُ(1) بِنَفْسِي فِي الْمَوَاطِنِ الَّتي تَنْكُصُ(2)فِيهَا الاَْبْطَالُ وَتَتَأَخَّرُ الاَْقْدَامُ، نَجْدَةً(3) أَكْرَمَنِي اللهُ بِهَا.

وَلَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللهِ(صلى الله عليه وآله) وَإِنَّ رَأْسَهُ لَعَلَى صَدْرِي.

وَلَقَدْ سَالَتْ نَفْسُهُ فِي كَفِّي، فَأَمْرَرْتُهَا عَلَىُ وَجْهِي.

وَلَقَدْ وُلِّيتُ غُسْلَهُ(صلى الله عليه وآله)وَالْمَلاَئِكُةُ أَعْوَانِي، فَضَجَّتِ الدَّارُ والاَْفْنِيَةُ(4)، مَلاٌَ يُهْبِطُ، وَمَلاٌَ يَعْرُجُ، وَمَا فَارَقَتْ سَمْعِي هَيْنَمَةٌ(5) مِنْهُمْ، يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى وَارَيْنَاهُ فِي ضَرِيحِهِ.

فَمَنْ ذَا أَحَقُّ بِهِ مِنِّي حَيّاً وَمَيِّتاً؟ فَانْفُذُوا عَلَى بَصَائِرِكُمْ(6)، وَلْتَصْدُقْ نِيَّاتُكُمْ فِي جِهَادِ عَدُوِّكُمْ، فَوَالَّذِي لاََإِلهَ إِلاَّ هُوَ إِنِّي لَعَلَى جَادَّةِ الْحَقِّ، وَإِنَّهُمْ لَعَلَى مَزَلَّةِ(7) الْبَاطِلِ.

أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ!

____________

1. المواساة بالشيء: الاشراك فيه، فقد أشرك النبي في نفسه.

2. تَنْكُص: تتراجع. 3. النَجْدة ـ بالفتح ـ: الشجاعة.

4. الافْنِيَة ـ جمع فِناء بكسر الفاء ـ: ما اتسع أمام الدار.

5. الهَيْنَمة: الصوت الخفي.

6. البصيرة: ضياء العقل. 7. المَزَلّة: مكان الزَلَل الموجب للسقوط في الهَلَكة.


الصفحة 495

[ 198 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[ينبّه على إحاطة علم الله بالجزئيات، ثمّ يحث على التقوى، ويبيّن فضل الاسلام والقرآن]

يَعْلَمُ عَجِيجَ الْوُحُوشِ فِي الْفَلَوَاتِ، وَمَعاصِيَ الْعِبَادِ فِي الْخَلَوَاتِ، وَاخْتِلاَفَ النِّينَانِ(2) فِي الْبِحَارِ الْغَامِرَاتِ، وَتَلاَطُمَ الْمَاءِ بِالرِّيَاحِ الْعَاصِفَاتِ.

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً نَجِيبُ(2) اللهِ، وَسَفِيرُ وَحْيِهِ، وَرَسُولُ رَحْمَتِهِ.

[الوصية بالتقوى]

أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّي أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ الَّذِي ابْتَدَأَ خَلْقَكُمْ، وَإِلَيْهِ يَكُونُ مَعَادُكُمْ، وَبِهِ نَجَاحُ طَلِبَتِكُمْ، وَإِلَيْهِ مُنْتَهْى رَغْبَتِكُمْ، وَنَحْوَهُ قَصْدُ سَبِيلِكُمْ، وَإِلَيْهِ مَرَامِي مَفْزَعِكُمْ(3)، فَإِنَّ تَقْوَى اللهِ دَوَاءُ دَاءِ قُلُوبِكُمْ، وَبَصَرُ عَمَى

____________

1. النِينَان ـ جمع نُون ـ: وهو الحُوت.

2. النَجِيب: المختار المصطفى.

3. مرمى المَفْزَع: ما يدفع إليه الخوف، وهو الملجأ، أي: وإِليه ملاجىء خوفكم.

الصفحة 496
أَفِئِدَتِكُمْ، وَشِفَاءُ مَرَضِ أَجْسَادِكُمْ، وَصَلاَحُ فَسَادِ صُدُورِكُمْ، وَطُهُورُ دَنَسِ أَنْفُسِكُمْ، وَجِلاَءُ عَشَا أَبْصَارِكُمْ، وَأَمْنُ فَزَعِ جَأْشِكُمْ(1)، وَضِيَاءُ سَوَادِ ظُلْمَتِكُمْ.

فَاجْعَلُوا طَاعَةَ اللهِ شِعَاراً(2) دُونَ دِثَارِكُمْ(3)، وَدَخِيلاً دُونَ شِعَارِكُمْ، وَلَطِيفاً بَيْنَ أَضْلاَعِكُمْ، وَأَمِيراً فَوْقَ أُمُورِكُمْ، وَمَنْهَلاً(4) لِحِينِ ورْدِكُم، وَشَفِيعاً لِدَرَكِ(5) طَلِبَتِكُمْ(6)، وَجُنَّةً(7) لِيَوْمِ فَزَعِكُمْ، وَمَصَابِيحَ لِبُطُونِ قُبُورِكُمْ، وَسَكَناً لِطُولِ وَحْشَتِكُمْ، وَنَفَساً لِكَرْبِ مَوَاطِنِكُمْ، فَإِنَّ طَاعَةَ اللهِ حِرْزٌ مِنْ مَتَالِفَ مُكْتَنِفَة، وَمَخَاوِفَ مُتَوَقَّعَة، وَأُوَارِ(8) نِيرَان مُوقَدَة.

____________

1. الجأش: ما يضطرب في القلب عند الفزع، أو التهيب، أوتوقع المكروه.

2. الشِعار: مايلي البدنَ من الثياب.

3. الدِثار: ما فوق الشِعار.

4. المَنْهَل: ما تَرِدُهُ الشاربةُ من الماء للشرب.

5. الدرك ـ بالتحريك ـ: اللَحاق. 6. الطَلِبَة ـ بفتح الطاء وكسر اللام ـ: المطلوب.

7. الجُنّة ـ بالضم ـ: الوِقاية.

8. الاُوار ـ بالضم ـ: حرارة النار ولهيبها.

الصفحة 497
فَمَنْ أَخَذَ بِالتَّقْوَى عَزَبَتْ(1) عَنْهُ الشَّدَائِدُ بَعْدَ دُنُوِّهَا، وَاحْلَوْلَتْ لَهُ الاُْمُورُ بَعْدَ مَرَارَتِهَا، وَانْفَرَجَتْ عَنْهُ الاَْمْوَاجُ بَعْدَ تَرَاكُمِهَا، وَأَسْهَلَتْ لَهُ الصِّعَابُ بَعْدَ إِنْصَابِهَا(2)، وَهَطَلَتْ عَلَيْهِ الْكَرَامَةُ بَعْدَ قُحُوطِهَا، وَتَحَدَّبَتْ عَلَيْهِ(3) الرَّحْمَةُ بَعْدَ نُفُورِهَا، وَتَفَجَّرَتْ عَلَيْهِ النِّعَمُ بَعْدَ نُضُوبِهَا(4)، وَوَبَلَتْ(5) عَلَيْهِ الْبَرَكَةُ بَعْدَ إِرْذَاذِهَا(6).

فَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي نَفَعَكُمْ بَمَوْعِظَتِهِ، وَوَعَظَكُمْ بِرِ سَالَتِهِ، وَامْتَنَّ عَلَيْكُمْ بِنِعْمَتِهِ، فَعَبِّدُوا أَنْفُسَكُمْ لِعِبَادَتِهِ، وَاخْرُجُوا إِلَيْهِ مِنْ حَقِّ طَاعَتِهِ.

____________

1. عَزَبت ـ بالزاي ـ: غابت وبعدت.

2. الانصاب ـ بكسر الهمزة ـ: مصدر بمعنى الاتعاب.

3. تَحَدّبَ عليه: عطف.

4. نَضَبَ الماء نُضوباً: غار وذهب في الارض، ونضوب النعمة: قلّتها أو زوالها.

5. وَبَلَتِ السماء: أمطرت مطراً شديداً.

6. أرَذّت ـ بتشديد الذال ـ إرذاذاً: مطرت مطراً ضعيفاً في سكون كأنه الغبار المتطاير.

الصفحة 498

[فضل الاسلام]

ثُمَّ إِنَّ هذَا الاْسْلاَمَ دِينُ اللهِ الَّذِي اصْطَفَاهُ لِنَفْسهِ، وَاصْطَنَعَهُ عَلى عَيْنِهِ، وَأَصْفَاهُ خِيْرَةَ خَلْقِهِ(1)، وَأَقَامَ دَعَائِمَهُ عَلَى مَحَبَّتِهِ، أَذَلَّ الاَْدْيَانَ بِعِزّه، وَوَضَعَ الْمِلَلَ بِرَفْعِهِ، وَأَهَانَ أَعْدَاءَهُ بِكَرَامَتِهِ، وَخَذَلَ مُحَادِّيهِ(2) بِنَصْرِهِ، وَهَدَمَ أَرْكَانَ الضَّلاَلَةِ بِرُكْنِهِ(3)، وَسَقَى مَنْ عَطِشَ مِنْ حِيَاضِهِ، وَأَتْأَقَ الْحِيَاضَ(4) بِمَوَاتِحِهِ(5).

ثُمَّ جَعَلَهُ لاَ انْفِصَامَ لِعُرْوَتِهِ، وَلاَ فَكَّ لِحَلْقَتِهِ، وَلاَ انْهِدَامَ لاَِسَاسِهِ، وَلاَ زَوَالَ لِدَعَائِمِهِ، وَلاَ انْقِلاَعَ لِشَجَرَتِهِ، وَلاَ انْقِطَاعَ لِمُدَّتِهِ، وَلاَ عَفَاءَ(6) لِشَرَائِعِهِ، وَلاَ جَذَّ(7) لِفُرُوعِهِ، وَلاَ ضَنْكَ(8) لِطُرُقِهِ، و َلاَ وُعُوثَةَ(9) لِسُهُولَتِهِ،

____________

1. أصْفَاه خِيرَةَ خَلْقِه: آثر به أفضلَ الخلق عنده، وهو خاتم النبيين.

2. مُحَادّيهِ ـ جمع مُحَادّ ـ: الشديد المخالفة.

3. الركن: العز والمنعة.

4. تَئِقَ الحوضُ ـ كفرح ـ: امتلا، وأتأقه: ملاه. 5. المواتح ـ جمع ماتح ـ: نازع الماء من الحوض.

6. العَفاء ـ كسحاب ـ: الدُرُوس والاضمحلال.

7. الجَذّ: القطع.

8. الضَنْك: الضيق.

9. الوُعُوثة: رخاوة في السهل تغوص بها الاقدام عند السير فيعسر المشي فيه.

الصفحة 499
و َلاَ سَوَادَ لِوَضَحِهِ(1)، وَلاَ عِوَجَ لاِنْتِصَابِهِ، وَلاَ عَصَلَ(2) فِي عُودِهِ، وَلاَ وَعَثَ(3) لِفَجَّهِ(4)، وَلاَ انْطِفَاءَ لِمَصَابِيحِهِ، وَلاَ مَرَارَةَ لِحَلاَوَتِهِ.

فَهُوَ دَعَائِمُ أَسَاخَ(5) فِي الْحَقِّ أَسْنَاخَهَا(6)، وَثَبَّتَ لَهَا آسَاسَهَا، وَيَنَابِيعُ غَزُرَتْ(7) عُيُونُهَا، وَمَصَابِيحُ شَبَّتْ نِيرَانُهَا(8)، وَمَنَارٌ(9) اقْتَدَى بِهَا سُفَّارُهَا(10)، وَأَعلاَمٌ(11) قُصِدَ بِهَا فِجَاجُهَا، وَمَنَاهِلُ رَوِيَ بِهَا وُرَّادُهَا.

____________

1. الوَضَح ـ محركة ـ: بياض الصبح.

2. العَصَل ـ بفتح الصاد ـ: الاعوجاج يصعب تقويمه.

3. وَعَث الطريق: تعسّر المشي فيه.

4. الفَجّ: الطريق الواسع بين جبلين.

5. أساخ: أثبت، وأصل ساخ: غاص في لين وخاض فيه.

6. الاسْناخ: الاصول.

7. غَزُرت: كثرت.

8. شبّت النار: ارتفعت من الايقاد.

9. المَنار: ما ارتفع لتوضع عليه نار يهتدى إليها.

10. السُفّار ـ بضم فتشديد ـ: ذووالسفر، أي يهتدي إليه المسافرون في طريق الحق.

11. الاعلام: ما يوضع على أوليات الطرق وأوساطها ليدل عليها.