الصفحة 500
جَعَلَ اللهُ فِيهِ مُنْتَهَى رِضْوَانِهِ، وَذِرْوَةَ دَعَائِمِهِ، وَسَنَامَ طَاعَتِهِ، فَهُوَ عِنْدَ اللهِ وَثِيقُ الاَْرْكَانِ، رَفِيعُ الْبُنْيَانِ، مُنِيرُ الْبُرْهَانِ، مُضِيءُ النِّيرَانِ، عَزِيرُ السُّلْطَانِ، مُشْرِفُ الْمَنَارِ(1)، مُعْوِذُ الْمَثَارِ(2).

فَشَرِّفُوهُ وَاتَّبِعُوهُ، وَأَدُّوا إِلَيْهِ حَقَّهُ، وَضَعُوهُ مَوَاضِعَهُ.

[الرسول الاعظم(صلى الله عليه وآله)]

ثُمَّ إِنَّ اللهِ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً(صلى الله عليه وآله) بالْحَقِّ حِينَ دَنَا مِنَ الدُّنْيَا الانْقِطَاعُ، وَأَقْبَلَ مِنَ الاْخِرَةِ الاْطِّلاَعُ(3)، وَأَظْلَمَتْ بَهْجَتُهَا بَعْدَ إِشْرَاق، وَقَامَتْ بِأَهْلِهَا عَلَى سَاق، وَخَشُنَ مِنْهَا مِهَادٌ(4)، وَأَزِفَ مِنْهَا قِيَادٌ(5)، فِي انْقِطَاع مِنْ مُدَّتِهَا،

____________

1. مُشْرِف المنار: مرتفعه.

2. مُعْوِذُ المَثَار: من أعْوَذَ ـ بالذال ـ كأعاذ بمعنى ألجأ. والمَثار: مصدر ميمي من ثار الغبار إذا هاج، أي لو طلب أحد إثارة هذا الدين لالجأه إلى مشقة لقوته ومتانته.

3. الاطّلاع: الاتيان، اطّلع فلان علينا: أي أتانا.

4. خُشونة المِهاد: كناية عن شدة آلام الدنيا.

5. أزِف ـ كفرح ـ: أي قرب، والمراد من القِياد انقيادها للزوال.

الصفحة 501
وَاقْتِرَاب مِنْ أَشْرَاطِهَا(1)، وَتَصَرُّم(2) مِنْ أَهْلِهَا، وَانْفِصَام(3) مِنْ حَلْقَتِهَا، وَانْتِشَار مِنْ سَبَبِهَا(4)، وَعَفَاء مِنْ أَعْلاَمِهَا(5)، وَتَكَشُّف مِنْ عَوْرَاتِها، وَقِصَر مِنْ طُولِهَا.

جَلَعَهُ اللهُ تعالى بَلاَغاً لِرِسَالَتِهِ، وَكَرَامَةً لاُِمَّتِهِ، وَرَبِيعاً لاَِهْلِ زَمَانِهِ، وَرِفْعَةً لاَِعْوَانِهِ، وَشَرَفاً لاَِنْصَارِهِ.

[القرآن الكريم]

ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ نُوراً لاَ تُطْفَأُ مَصَابِيحُهُ، وَسِرَاجاً لاَ يَخْبُو(6) تَوَقُّدُهُ، وَبَحْراً لاَ يُدْرَكُ قَعْرُهُ، وَمِنْهَاجاً(7) لاَ يُضِلُّ نَهْجُهُ(8)، وَشُعَاعاً لاَ يُظْلِمُ

____________

1. الاشراط ـ جمع شَرَط كسبب ـ أي: علامات انقضائها.

2. التصرّم: التقطع.

3. الانفصام: الانقطاع، وإذا انفصمت الحَلْقة انقطعت الرابطة.

4. انتشار الاسباب: تبددها حتى لا تُضْبَط.

5. عَفَاء الاعلام: اندراسها.

6. خَبَتِ النار: انطفأت.

7. المِنْهاج: الطريق الواسع.

8. النَهْج ـ هناـ: السلوك، ويُضِلّ رباعى، أي لايكون من سلوكه إضلال.

الصفحة 502
ضَوْؤُهُ، وَفُرْقَاناً لاَ يُخْمَدُ بُرْهَانُهُ، وَتِبْيَاناً لاَ تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ، وَشِفَاءً لاَ تُخْشَى أَسْقَامُهُ، وَعِزّاً لاَ تُهْزَمُ أَنْصَارُهُ، وَحَقّاً لاَ تُخْذَلُ أَعْوَانُهُ.

فَهُوَ مَعْدِنُ الاْيمَانِ وَبُحْبُوحَتُهُ(1)، وَيَنَابِيعُ الْعِلْمِ وَبُحُورُهُ، وَرِيَاضُ(2) الْعَدْلِ وَغُدْرَانُهُ(3)، وَأَثَافِيُّ(4) الاْسْلاَمِ وَبُنْيَانُهُ، وَأَوْدِيَةُ الْحَقِّ وَغِيطَانُهُ(5). وَبَحْرٌ لاَ يَنْزِفُهُ الْمُسْتَنْزِفُونَ(6)، وَعُيُونٌ لاَ يُنضِبُهَا الْمَاتِحُونَ(7)، وَمَنَاهِلُ(8)لاَ يَغِيضُهَا(9) الْوَارِدُونَ، وَمَنَازِلُ لاَ يَضِلُّ نَهْجَهَا الْمُسَافِرُونَ،

____________

1. بُحْبُوحة المكان: وسطه.

2. الرياض ـ جمع روضة ـ: وهي مستنقع الماء في رمل أو عشب.

3. الغُدْران ـ جمع غَدِير ـ: وهو القطعة من الماء يغادرها السيل.

4. الاثافيّ ـ جمع أثْفِيّة ـ: الحجر يوضع عليه القدر، أي عليه قام الاسلام.

5. غِيطان الحق ـ جمع غاط أوغَوْط ـ: وهو المطمئن من الارض.

6. لا يُنْزِفه: لايفنى ماؤه ولا يستفرغه المغترفون.

7. لا يُنْضِبُها ـ كيُكْرِمها ـ: أي ينقصها. والماتحون ـ جمع ماتح ـ: نازع الماء من الحوض.

8. المناهل: مواضع الشرب من النهر.

9. لا يغيضها من غاض الماءَ: نقصه.

الصفحة 503
وَأَعْلاَمٌ لاَ يَعْمَى عَنْهَا السَّائِرُونَ، وَآكَامٌ(1) لاَ يَجُوزُ عنْهَا(2) الْقَاصِدُونَ.

جَعَلَهُ اللهُ رِيّاً لِعَطَشِ الْعُلَمَاءِ، وَرَبِيعاً لِقُلُوبِ الْفُقَهَاءِ، وَمَحَاجَّ(3) لِطُرُقِ الصُّلَحَاءِ، وَدَوَاءً لَيْسَ بَعْدَهُ دَاءٌ، وَنُوراً لَيْسَ مَعَهُ ظُلْمَةٌ، وَحَبْلاً وَثِيقاً عُرْوَتُهُ، وَمَعْقِلاً مَنِيعاً ذِرْوَتُهُ، وَعِزّاً لِمَنْ تَوَلاَّهُ، وَسِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ، وَهُدىً لِمَنِ ائْتَمَّ بِهِ، وَعُذْراً لِمَنِ انْتَحَلَهُ، وَبُرْهَاناً لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ، وَشَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ بِهِ، وَفَلْجاً(4)لِمَنْ حَاجَّ بِهِ، وَحَامِلاً لِمَنْ حَمَلَهُ، وَمَطِيَّةً لِمَنْ أَعْمَلَهُ، وَآيَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ، وَجُنَّةً(5) لِمَنِ اسْتَلاْمَ(6)، وَعِلْماً لِمَنْ وَعَى، وَحَدِيثاً لِمَنْ رَوَى، وَحُكْماً لِمَنْ قَضَى(7).

____________

1. آكام ـ جمع أكَمة ـ: وهو الموضع يكون أشد ارتفاعاً مما حوله، وهو دون الجبل في غلظ لا يبلغ أن يكون حجراً.

2. يجوز عنها: يقطعها ويتجاوزها.

3. المَحَاجّ ـ جمع مَحَجّة ـ: وهي الجادّة من الطريق.

4. الفَلْج ـ بالفتح ـ: الظفر والفوز. 5. الجُنّة ـ بالضم ـ: مابه يتقى الضرر. 6. اسْتَلامَ: أي لبس اللاْمَةَ وهي الدِرْع أو جميع أدوات الحرب، أي أن من جعل القرآن لامة حربه لمدافعة الشبه، كان القرآن وقاية له.

7. قضى: حكم وفصل.

الصفحة 504

[ 199 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
كان يوصي به أصحابه

تَعَاهَدُوا أَمْرَ الصَّلاَةِ، وَحَافِظُوا عَلَيْهَا، وَاسْتَكْثِرُوا مِنْهَا، وَتَقَرَّبُوا بِهَا، فَإِنَّهَا (كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً)

أَلاَ تَسْمَعُونَ إِلَى جَوَابِ أَهْلِ النَّارِ حِينَ سُئِلُوا: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ)

وَإِنَّهَا لَتَحُتُّ الذُّنُوبَ حَتَّ الْوَرَقِ(1)، وَتُطْلِقُهَا إِطْلاَقَ الرِّبَق(2)، وَشَبَّهَهَا رَسُولُ اللهِ(صلى الله عليه وآله)بِالْحَمَّة(3) تَكُونُ عَلَى بَابِ الرَّجُلِ، فَهُوَ يَغْتَسِلُ مِنْهَا فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ مَرّات، فَمَا عَسَى أَنْ يَبْقَى عَلَيْهِ مِنَ الدَّرَنِ(4)؟

وَقَدْ عَرَفَ حَقَّهَا رِجَالٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لاَ تَشْغَلُهُمْ عنْهَا زِينَةُ مَتَاع، وَلاَ قُرَّةُ عَيْن مِنْ وَلَد وَلاَ مَال، يَقُولُ اللهُ سُبْحَانَهُ: (رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ)

____________

1. حتّ الورقَ عن الشجرة: قشره.

2. الرِبق ـ بكسر الراء ـ: حبل فيه عدة عرىً كل منها رِبْقة.

3. الحَمَّة ـ بالفتح ـ: كل عين ينبع منها الماء الحار ويستشفى بها من العلل.

4. الدَرَن: الوسخ.

الصفحة 505
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ(صلى الله عليه وآله) نَصِباً(1) بِالصَّلاَةِ بَعْدَ التَّبْشِيرِ لَهُ بِالْجَنَّةِ، لِقَوْلِ اللهِ سُبْحَانَهُ: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)، فَكَانَ يَأُمُرُ بِهَا أَهْلَهُ وَيَصْبِرُ عَلَيْهَا نَفْسَهُ.

[الزكاة]

ثُمَّ إِنَّ الزَّكَاةَ جُعِلَتْ مَعَ الصَّلاَةِ قُرْبَاناً لاَِهْلِ الاِْسْلاَمِ، فَمَنْ أَعْطَاهَا طَيِّبَ النَّفْسِ بِهَا، فإِنَّهَا تُجْعَلُ لَهُ كَفَّارَةً، وَمِنَ النَّارِ حِجَازاً وَوِقَايَةً، فَلاَ يُتْبِعَنَّهَا أَحَدٌ نَفْسَهُ، وَلاَ يُكْثِرَنَّ عَلَيْهَا لَهَفـَهُ، فإِنَّ مَنْ أَعْطَاهَا غَيْرَ طَيِّبِ النَّفْسِ بِهَا، يَرْجُو بِهَا مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا، فَهُوَ جَاهِلٌ بِالسُّنَّةِ، مَغْبُونُ الاَْجْرِ(2)، ضَالُّ الْعَمَلِ، طَوِيلُ النَّدَمِ.

[الامانة]

ثُمَّ أَدَاءَ الاَْمَانَةِ، فَقَدْ خَابَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، إِنَّهَا عُرِضَتْ عَلَى السَّماوَاتِ الْمَبْنِيَّةِ، وَالاَْرَضِينَ الْمَدْحُوَّةِ(3)، وَالْجِبَالِ ذَاتِ الطُّولِ الْمَنْصُوبَةِ، فَلاَ أَطْوَلَ وَلاَ أَعْرَضَ، وَلاَ أَعْلَى وَلاَ أَعْظَمَ مِنْهَا، وَلَوِ امْتَنَعَ شَيْءٌ بِطُول أَوْ عَرْض أَوْ قُوَّة أَوْ عِزٍّ لاَمْتَنَعْنَ، وَلكِنْ أَشْفَقْنَ مِنَ الْعُقُوبَةِ،

____________

1. نَصِباً ـ بفتح فكسر ـ: أي تَعِباً.

2. مَغْبون الاجر: منقوصه.

3. المَدْحُوّة: المبسوطة.

الصفحة 506
وَعَقَلْنَ مَا جَهِلَ مَنْ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُنَّ، وَهُوَ الاِْنْسَانُ، (إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً)

[علم الله تعالى]

إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ مَا الْعِبَادُ مُقْتَرِفُونَ(1) فِي لَيْلِهِمْ وَنَهَارِهِمْ، لَطُفَ بِهِ خُبْراً(2)، وَأَحَاطَ بِهِ عِلْماً، أَعْضَاؤُكُمْ شُهُودُهُ، وَجَوَارِحُكُمْ جُنُودُهُ، وَضَمائِرُكُمْ عُيُونُهُ، وَخَلَوَاتُكُمْ عِيَانُهُ(3).

[ 200 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
[في معاوية]

وَاللهِ مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي، وَلكِنَّهُ يَغْدِرُ وَيَفْجُرُ، وَلَوْلاَ كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ لَكُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ، وَلَكِنْ كُلُّ غَدْرَة فَجْرَةٌ، وَكُلُّ فَجْرَة كَفْرَةٌ، وَلِكُلِّ غَادِر لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

وَاللهِ مَا أَُسْتَغْفَلُ بالْمَكِيدَةِ، وَلاَ أُسْتَغْمَزُ بالشَّدِيدَةِ(4).

____________

1. مقترفون: أي مكتسبون.

2. الخُبْر ـ بضم الخاء ـ: العِلْم.

3. العِيان ـ بكسر العين ـ: المعاينة والمشاهدة.

4. لا أُسْتَغْمَزُ ـ مبني للمجهول ـ: أي لا أُسْتَضْعَفُ بالقوة الشديدة، والمعنى: لا يستضعفني شديد القوة. والغَمَز ـ محركة ـ: الرجل الضعيف.

الصفحة 507

[ 201 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
[يعظ بسلوك الطريق الواضح]

أَيُّهَا النَّاسُ، لاَ تَسْتَوْحِشُوا فِي طَرِيقِ الْهُدَىُ لِقِلَّةِ أَهْلِهِ، فَإِنَّ النَّاسَ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى مَائِدَة شِبَعُهَا قَصِيرٌ، وَجُوعُهَا طَوِيلٌ.

أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا يَجْمَعُ النَّاسَ الرِّضِى وَالسُّخْطُ(1)، وَإِنَّمَا عَقَرَ نَاقَةَ ثَمُودَ رَجُلٌ وَاحِدٌ فَعَمَّهُمُ اللهُ تَعَالَى بالْعَذَابِ لَمَّا عَمُّوهُ بالرِّضَى، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: (فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ)، فَمَا كَانَ إِلاَّ أَنْ خَارَتْ(2) أَرْضُهُمْ بِالْخَسْفَةِ خُوَارَالسِّكَّةِ الْـمُحْمَاةِ(3) فِي الاَْرْضِ الْخَوَّارَةِ(4).

أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ سَلَكَ الطّرِيقَ الْوَاضِحَ وَرَدَ الْمَاءَ، وَمَنْ خَالَفَ وَقَعَ فِي التِيهِ!

____________

1. السُخْط: الغضب، ضد الرضى.

2. خارَت: صوّتَت كخُوار الثور.

3. السِكّة المُحْماة: حديدة المِحْراث إذا أُحْمِيَتْ في النار فهي أسرع غَوْراً في الارض.

4. الخَوّارة: السهلة اللينة.

الصفحة 508

[ 202 ]
ومن كلام له (عليه السلام)

روي عنه أنّه قاله عند دفن سيدة النساء فاطمة صلّى الله عليها، كالمناجي به رسول الله(صلى الله عليه وآله) عند قبره:

السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ عَنِّي، وَعَنِ ابْنَتِكَ النَّازِلَةِ فِي جِوَارِكَ، وَالسَّرِيعَةِ اللَّحَاقِ بِكَ!

قَلَّ يَا رَسُولَ اللهِ، عَنْ صَفِيَّتِكَ صَبْرِي، وَرَقَّ عَنْهَا تَجَلُّدِي، إِلاَّ أَنَّ لِي فِي التَّأَسِّيِ(1) بِعَظِيمِ فُرْقَتِكَ، وَفَادِحِ(2) مُصِيبَتِكَ، مَوْضِعَ تَعَزّ(3)، فَلَقَدْ وَسَّدْتُكَ فِي مَلْحُودَةِ قَبْرِكَ(4)، وَفَاضَتْ بَيْنَ نَحْرِي وَصَدْرِي نَفْسُكَ.

(إنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)، فَلَقَدِ اسْتُرْجِعَتِ الْوَدِيعَةُ، وَأُخِذَتِ الرَّهِينَةُ! أَمَّا حُزْنِي فَسَرْمَدٌ، وَأَمَّا لَيْلِي فَمُسَهَّدٌ(5)، إِلَى أَنْ يَخْتَارَ اللهُ لِي دَارَكَ الَّتِي أَنْتَ بِهَا مُقِيمٌ.

____________

1. يريد بالتأسي: الاعتبار بالمثال المتقدم.

2. الفادح: المثقِل.

3. التعزّي: التصبر.

4. مَلْحُودة القبر: الجهة المشقوقة منه.

5. مُسَهّد: أي ينقضي بالسهاد وهو السهر.

الصفحة 509
وَسَتُنَبِّئُكَ ابْنَتُكَ [بِتَضَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَى هَضْمِهَا](1)، فَأَحْفِهَا السُّؤَالَ(2)، وَاسْتَخْبِرْهَا الْحَالَ، هذَا وَلَمْ يَطُلِ الْعَهْدُ، وَلَمْ يَخْلُ مِنْكَ الذِّكْرُ.

وَالْسَّلاَمُ عَلَيْكُمَا سَلاَمَ مُوَدِّع، لاَ قَال(3) وَلاَ سَئم(4)، فَإنْ أَنْصَرِفْ فَلاَ عَنْ مَلاَلَة، وَإِنْ أُقِمْ فَلاَ عَنْ سُوءِ ظَنٍّ بِمَا وَعَدَ اللهُ الصَّابِرِينَ.

[ 203 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
[في التزهيد من الدنيا والترغيب في الاخرة]

أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا الدُّنْيَا دارُ مَجَاز(5)، وَالاْخِرَةُ دَارُ قَرَار، فَخُذُوا مِنْ مَمَرِّكُمْ لِمَقَرِّكُمْ، وَلاَ تَهْتِكُوا أَسْتَارَكُمْ عِنْدَ مَنْ يَعْلَمُ أَسْرَارَكُم، وَأَخْرِجُوا مِنَ الدُّنْيَا قُلُوبَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا أَبْدَانُكُمْ، فَفِيهَا اخْتُبِرْتُمْ، ولِغِيْرِهَا خُلِقْتُمْ.

إِنَّ الْمَرْءَ إِذَا هَلَكَ قَالَ النَّاسُ: مَا تَرَكَ؟ وَقَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ: مَا قَدَّمَ؟ لله آبَاؤُكُمْ! فَقَدِّمُوا بَعْضَاً يَكُنْ لَكُمْ قَرْضاً، وَلاَ تُخَلِّفُوا كُلاًّ فَيَكُونَ عَلَيْكُمْ.

____________

1. هَضْمها: ظلمها.

2. إحْفَاء السؤال: الاستقصاء فيه.

3. القالي: المبغض.

4. السئم: من السآمة وهي الضجر.

5. مجاز: أي ممر إلى الاخرة.

الصفحة 510

[ 204 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
كان كثيراً ما ينادي به أصحابه

تَجَهَّزُوا رَحِمَكُمُ اللهُ! فَقَدْ نُودِيَ فِيكُمْ بِالرَّحِيلِ، وَأَقِلُّوا الْعُرْجَةَ(1) عَلَى الدُّنْيَا، وَانْقَلِبُوا بِصَالِحِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ مِنَ الزَّادِ، فإنَّ أَمَامَكُمْ عَقَبَةً كَؤُوداً(2)، وَمَنَازِلَ مَخُوفَةً مَهُولَةً، لاَبُدَّ مِنَ الْوُرُودِ عَلَيْهَا، وَالْوُقُوفِ عِنْدَهَا.

وَاعْلَمُوا أَنَّ مَلاَحِظَ الْمَنِيَّةِ(3) نَحْوَكُمْ دَانِيَةٌ(4)، وَكَأَنَّكُمْ بِمَخَالِبِهَا وَقَدْ نَشِبَتْ(5) فِيكُمْ، وَقَدْ دَهَمَتْكُمْ فِيهَا مُفْظِعَاتُ الاُْمُورِ، وَمُعْضِلاَتُ الْـمَحْذُورِ.

فَقَطِّعُوا عَلاَئِقَ الدُّنْيَا، وَاسْتَظْهِرُوا(6) بِزَادِ التَّقْوَى.
وقد مضى شيء من هذا الكلام فيما تقدم، بخلاف هذه الرواية.

____________

1. العُرْجة ـ بالضم ـ: اسم من التعريج، بمعنى حبس المطية على المنزل.

2. الكَؤود: الصَعبة المرتقى.

3. مَلاحِظ المنيّة: منبعث نظرها.

4. دانية: قريبة.

5. نَشِبَتْ: علقت بكم.

6. استظهروا: استعينوا.

الصفحة 511

[ 205 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
كلّم به طلحة والزبير بعد بيعته بالخلافة
وقد عتبا من ترك مشورتهما، والاستعانة في الامور بهما

لَقَدْ نَقَمْتُما(1) يَسِيراً، وَأَرْجَأْتُمَا(2) كَثِيراً، أَلاَ تُخْبِرَانِي، أَيُّ شَيْء لَكُمَا فِيهِ حَقٌّ دَفَعْتُكُمَا عَنْهُ؟ وأَيُّ قَسْم اسْتَأْثَرْتُ عَلَيْكُمَا بِهِ؟ أَمْ أَيُّ حَقّ رَفَعَهُ إِلَيَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ضَعُفْتُ عَنْهُ، أَمْ جَهِلْتُهُ، أَمْ أَخْطَأْتُ بَابَهُ ؟!

وَاللهِ مَا كَانَتْ لِي فِي الْخِلاَفَةِ رَغْبَةٌ، وَلاَ فِي الْوِلاَيَةِ إِرْبَةٌ(3)، وَلكِنَّكُمْ دَعَوْتُمُونِي إِلَيْهَا، وَحَمَلْتُمُونِي عَلَيْهَا، فَلَمَّا أَفْضَتْ إِلَيَّ نَظَرْتُ إِلَى كِتَابِ اللهِ وَمَا وَضَعَ لَنَا، وَأَمَرَنَا بِالْحُكْمِ بِهِ فَاتَّبَعْتُهُ، وَمَا اسْتَسَنَّ النَّبِيُّ(صلى الله عليه وآله)فَاقْتَدَيْتُهُ، فَلَمْ أَحْتَجْ فِي ذلِكَ إِلَى رَأْيِكُمَا، وَلاَ رَأْيِ غَيْرِكُمَا، وَلاَ وَقَعَ حُكْمٌ جَهِلْتُهُ، فَأَسْتَشِيرَكُمَا وَإِخْوَانِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ; وَلَوْ كَانَ ذلِكَ لَمْ أَرْغَبْ عَنْكُمَا، وَلاَ عَنْ غَيْرِكُمَا.

وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمَا مِنْ أَمْرِ الاُْسْوَةِ(4)، فَإِنَّ ذلِكَ أَمْرٌ لَمْ أَحْكُمْ أَنَا فِيهِ بِرَأْيِي،

____________

1. نَقَمْتما: أي غضبتما.

2. أرجأتما: أي أخرتمامما يرضيكما كثيراً لم تنظرا إليه.

3. الارْبة ـ بكسر الهمزة ـ: الغرض والطلبة.

4. الاسْوَة ـ ها هنا ـ: التسوية بين المسلمين في قسمة الاموال، وكان ذلك قد أغضب القوم على ما روي.

الصفحة 512
وَلاَ وَلِيتُهُ هَوىً مِنِّي، بَلْ وَجَدْتُ أَنَا وَأَنْتُما مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ(صلى الله عليه وآله) قَدْ فُرِغَ مِنْهُ، فَلَمْ أَحْتَجْ إِلَيْكُمَا فِيَما قَدْ فَرَغَ اللهُ مِنْ قَسْمِهِ، وَأَمْضَى فِيهِ حُكْمَهُ، فَلَيْسَ لَكُمَا، وَاللهِ، عِنْدِي وَلاَ لِغَيْرِكُمَا فِي هذَا عُتْبَى(1).

أَخَذَ اللهُ بِقُلُوبِنَا وَقُلُوبِكُمْ إِلَى الْحَقِّ، وَأَلْهَمَنَا وَإِيَّاكُمْ الصَّبْرَ.

ثم قال(عليه السلام):

رَحِمَ اللهُ رَجُلاً رَأَى حَقّاً فَأَعَانَ عَلَيْهِ، أَوْ رَأَى جَوْراً فَرَدَّهُ، وَكَانَ عَوْناً بِالْحَقِّ عَلَى صَاحِبِهِ.

[ 206 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
وقد سمع قوماً من اصحابه يسبّون أهل الشام
أيام حربهم بصفين

إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ، وَلكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ، وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ، كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ، وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ، وَقُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ: اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا وَدِمَاءَهُمْ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَبَيْنِهِمْ، وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلاَلَتِهِمْ، حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ، وَيَرْعَوِيَ(2) عَنِ الْغَيِّ وَالْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِهِ(3).

____________

1. العُتْبَى: الرجوع عن الاساءة.

2. الارعواء: النزوع عن الغيّ والرجوع عن وجه الخطأ.

3. لَهِجَ به: أُولع به.

الصفحة 513

[ 207 ]
وقال(عليه السلام)
في بعض أيام صفين وقد رأى الحسن(عليه السلام) يتسرع إلى الحرب

امْلِكُوا عنِّي(1) هذَا الْغُلاَمَ لاَ يَهُدَّنِي(2)، فَإِنَّنِي أَنْفَسُ(3) بِهذَيْنِ ـ يَعْنِي الحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ(عليهما السلام) عَلَى الْمَوْتِ، لِئَلاَّ يَنْقَطِعَ بِهِمَا نَسْلُ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله).
قوله (عليه السلام): «املكوا عني هذا الغلام» من أعلى الكلام وأفصحه.

[ 208 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
قاله لمّا اضطرب عليه أصحابه في أمر الحكومة

أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَمْ يَزَلْ أَمْري مَعَكُمْ عَلَى مَا أُحِبُّ، حَتَّى نَهَكَتْكُمُ(4) الْحَرْبُ، وَقَدْ، وَاللهِ أَخَذَتْ مِنْكُمْ وَتَرَكَتْ، وَهِيَ لِعَدُوِّكُمْ أَنْهَكُ.

لَقَدْ كُنْتُ أَمْسِ أَمِيراً، فَأَصْبَحْتُ الْيَوْمَ مَأْمُوراً! وَكُنْتُ أَمْسِ نَاهِياً، فَأَصْبَحْتُ الْيَوْمَ مَنْهِيّاً! وَقَدْ أَحْبَبْتُمُ الْبَقَاءَ، وَلَيْسَ لِي أَنْ أَحْمِلَكُمْ عَلَى مَا تَكْرَهُونَ!

____________

1. املكوا عني: أي خذوه بالشدة وامسكوا به، والهمزة وَصْلية، فالمادة من المِلْك.

2. يَهُدّني: يهدمني.

3. نَفِسَ به ـ كفرح ـ: أي ضنّ به.

4. نَهِكَتْه الحمى: أضعفته وأضْنَتْه.

الصفحة 514

[ 209 ]
ومن كلام له (عليه السلام)

بالبصرة، وقد دخل على العلاء بن زياد الحارثي ـ وهو من أصحابه ـ يعوده، فلما رأى سعة داره قال:

مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِسِعَةِ هذِهِ الدارِ فِي الدُّنْيَا، أَنْتَ إِلَيْهَا فِي الاْخِرَةِ كُنْتَ أَحْوَجَ؟ وَبَلَى إِنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الاْخِرَةَ، تَقْرِي فِيهَا الضَّيْفَ، وَتَصِلُ فِيهَا الرَّحِمَ، وَتُطْلِعُ مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا(1)، فَإذَا أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الاْخِرَةَ.

فقال له العلاء: يا أميرالمؤمنين، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد.

قال: وما له؟

قال: لبس العباءة وتخلّى من الدنيا.

قال: عليَّ به.

فلمّا جاء قال:

يَا عُدَىَّ(2) نَفْسِهِ! لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكَ الْخَبِيثُ! أَمَا رَحِمْتَ أَهْلَكَ وَوَلَدَكَ! أَتَرَى

____________

1. أطْلَعَ الحقّ مَطْلَعَهُ: أظهره حيث يجب أن يظهر.

2. عُدَيّ: تصغير عَدُوّ.

الصفحة 515
اللهَ أَحَلَّ لَكَ الطَّيِّبَاتِ، وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ تَأْخُذَهَا! أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ ذلِكَ!

قال: يا أميرالمؤمنين، هذا أنت في خشونة ملبسك وجُشوبة مأكلك!

قال: وَيْحَكَ، إِنِّي لَسْتُ كَأَنْتَ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ(1) بِضَعَفَةِ النَّاسِ، كَيْلاَ يَتَبَيَّغَ(2) بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ!

[ 210 ]
ومن كلام له (عليه السلام)

وقد سأله سائل عن أحاديث البدع، وعما في أيدي الناس من اختلاف الخبر.

فقال(عليه السلام):

إنَّ فِي أَيْدِي النَّاسِ حَقّاً وَبَاطِلاً، وَصِدْقاً وَكَذِباً، وَنَاسِخاً وَمَنْسُوخاً، وَعَامّاً وَخَاصّاً، وَمُحْكَماً وَمُتَشَابِهاً، وَحِفْظاً وَوَهْماً، وَقَدْ كُذِبَ عَلَى رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله وسلم) عَلَى عَهْدِهِ، حَتَّى قَامَ خَطِيباً، فَقَالَ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».

____________

1. يُقَدِّروا أنفسهم: أي يقيسوا أنفسهم.

2. يَتَبَيّغ: يهيج به الالم فيهلكه.

الصفحة 516
وَإِنَّمَا أَتَاكَ بِالْحَدِيثِ أَرْبَعَةُ رِجَال لَيْسَ لَهُمْ خَامِسٌ:

[المنافقون]

رَجُلٌ مُنَافِقٌ مُظْهِرٌ لِلاِْيمَانِ، مُتَصَنِّعٌ بِالاِْسْلاَمِ، لاَيَتَأَثَّمُ(1) وَلاَ يَتَحَرَّجُ(2)، يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله)مُتَعَمِّداً، فَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ كَاذِبٌ لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ، وَلَمْ يُصَدِّقُوا قَوْلَهُ، وَلكِنَّهُمْ قَالُوا: صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله) رآهُ، وَسَمِعَ مِنْهُ، وَلَقِفَ عَنْهُ(3)، فَيَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَكَ اللهُ عَنِ الْمُنَاقفِقِينَ بِمَا أَخْبَرَكَ، وَوَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ لَكَ، ثُمَّ بَقُوا بَعْدَهُ(عليه السلام)، فَتَقرَّبُوا إِلَى أَئِمَّةِ الضَّلاَلَةِ، وَالدُّعَاةِ إِلَى النَّارِ بِالزُّورِ وَالْبُهْتَانِ، فَوَلَّوهُمُ الاَْعْمَالَ، وَجَعَلُوهُمْ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، وَأَكَلُوا بِهِمُ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا النَّاسُ مَعَ الْمُلُوكِ وَالدُّنْيَا، إِلاَّ مَنْ عَصَمَ اللهُ، فَهذَا أَحَدُ الاَْرْبَعَةِ.

[الخاطئون]

وَرَجُلٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله) شَيْئاً لَمْ يَحْفَظْهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَوَهِمَ(4) فِيهِ،

____________

1. يتأثّم: يخاف الاثم.

2. يتحرّج: يخشى الوقوع في الحرَج وهو الجُرْم.

3. لَقِفَ: تناول وأخذ عنه.

4. وَهِمَ: غلط وأخطأ.

الصفحة 517
وَلَمْ يَتَعَمَّدْ كَذِباً، فَهُوَ فِي يَدَيْهِ، يَرْوِيهِ وَيَعْمَلُ بِهِ، وَيَقُولُ: أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله)، فَلَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ وَهِمَ فِيهِ لَمْ يَقْبَلُوهُ مِنْهُ، وَلَوْ عَلِمَ هُوَ أَنَّهُ كَذلِكَ لَرَفَضَهُ!

[أهل الشبهة]

وَرَجُلٌ ثَالِثٌ، سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله) شَيْئاً يَأْمُرُ بِهِ، ثُمَّ نَهَى عَنْهُ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ، أَوْ سَمِعَهُ يَنْهَىُ عَنْ شَيْء، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ وَهُوَ لايَعْلَمُ، فَحَفِظَ المَنسُوخَ، وَلَمْ يَحْفَظِ النَّاسِخَ، فَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضَهُ، وَلَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ إذْ سَمِعُوهُ مِنْهُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضُوهُ.

[الصادقون الحافظون]

وَآخَرُ رَابِعٌ، لَمْ يَكْذِبْ عَلَى اللهِ، وَلاَ عَلَى رَسُولِهِ، مُبْغِضٌ لِلْكَذِبِ، خَوْفاً لله، وَتَعْظيِماً لِرَسُولِ اللهِ، وَلَمْ يَهِمْ(1)، بَلْ حَفظَ مَا سَمِعَ عَلَى وَجْهِهِ، فَجَاءَ بِهِ عَلَى مَا سَمِعَهُ، لَمْ يَزِدْ فِيهِ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ، وَحَفِظَ النَّاسِخَ فَعَمِلَ بِهِ، وَحَفِظَ الْمَنْسُوخَ فَجَنَّبَ عَنْهُ(2)، وَعَرَفَ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ، فَوَضَعَ كُلَّ شَيْء مَوْضِعَهُ، وَعَرفَ المُتَشَابِهَ وَمُحْكَمَهُ(3).

____________

1. لم يَهِم: لم يخطىء ولم يظن خلاف الواقع.

2. جنّب عنه: أي تجنب.

3. المتشابه من الكلام: هو مالا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم. ومُحْكَم الكلام: صريحه الذي لم يُنْسَخ.

الصفحة 518
وَقَدْ كَانَ يَكُونُ مِنْ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله) الْكَلاَمُ لَهُ وَجْهَانِ: فَكَلاَمٌ خَاصٌّ، وَكَلاَمٌ عَامٌّ، فَيَسْمَعُهُ مَنْ لاَ يَعْرِفُ مَا عَنَى اللهُ بِهِ، وَلاَ مَا عَنَى بِهِ رَسُولُ اللهِ(صلى الله عليه وآله)فَيَحْمِلُهُ السَّامِعُ، وَيُوَجِّهُهُ عَلَى غَيْرِ مَعْرِفَة بِمَعْنَاهُ، وَمَا قُصِدَ بِهِ، وَمَا خَرَجَ مِنْ أَجْلِهِ، وَلَيْسَ كُلُّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله)مَنْ كَانَ يَسْأَلُهُ وَيَسْتَفْهِمُهُ، حَتَّى إِنْ كَانُوا لَيُحِبُّونَ أَنْ يَجِيءَ الاَْعْرَابِيُّ أَوْ الطَّارِىءُ، فَيَسَأَلَهُ(عليه السلام)حَتَّى يَسْمَعُوا، وَكَانَ لاَ يَمُرُّ بِي مِنْ ذلِكَ شَيْءٌ إِلاَّ سَأَلْتُ عَنْهُ وَحَفِظْتُهُ.

فَهذِهِ وَجُوهُ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ فِي اخْتِلاَفِهِمْ، وَعِلَلِهِمْ فِي رِوَايَاتِهِمْ.

[ 211 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[في عجيب صنعة الكون]

وَكَانَ مِنِ اقْتِدَارِ جَبَروتِهِ، وَبَدِيعِ لَطَائِفِ صَنْعَتِهِ، أَنْ جَعَلَ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ الزَّاخِرِ(1) الْمُتَرَاكِمِ الْمُتَقَاصِفِ(2)، يَبَساً(3) جَامِداً، ثُمَّ فَطَرَ(4) مِنْهُ

____________

1. زَخَرَ البحر ـ كمنع ـ زُخوراً، وَتَزَخّرَ: طمَى وامتلا.

2. المتقاصف: المتزاحم كأن أمواجه في تزاحمها يقصف بعضها بعضاً، أي يكسر.

3. اليَبَس ـ بالتحريك ـ: اليابس.

4. فَطَرَ: خلق.

الصفحة 519
أَطْبَاقاً(1)، فَفَتَقَهَا سَبْعَ سَمَاوَات بَعْدَ ارْتِتَاقِهَا(2)، فَاسْتَمْسَكَتْ بِأَمْرِهِ(3)، وَقَامَتْ عَلَى حَدِّهِ(4)، [وَأَرْسَى أَرْضاً] يَحْمِلُهَا الاَْخْضَرُ(5) المُثْعَنْجِرُ(6)، وَالْقَمْقَامُ(7) الْمُسَخَّرُ، قَدْ ذَلَّ لاَِمْرِهِ، وَأَذْعَنَ لِهَيْبَتِهِ، وَوَقَفَ الْجَارِي مِنْهُ لِخَشْيَتِهِ، وَجَبَلَ(8) جَلاَمِيدَهَا(9)، وَنُشُوزَ(10) مُتُونِهَا(11) وَأَطْوَادِهَا(12)، فَأَرْسَاهَا في مَرَاسِيهَا(13)، وَأَلْزَمَهَا

____________

1. الاطباق: طبقات مختلفة في تركيبها.

2. كانت الاطباق رتقاً يتصل بعضها ببعض، ففتقها سبعاً وهي السموات وقف كل منها حيث مكنه الله على حسب ما أودع فيه من السر الحافظ له.

3. استمسكت بأمره: أي بأمرالله التكويني.

4. قامت على حدّه: أي حدالامر الالهي.

5. المراد من الاخضر: الحامل للارض وهو البحر.

6. المثْعَنْجِر ـ بكسر الجيم ـ معظم البحر وأكثر مواضعه ماء.

7. القمقام ـ بفتح القاف وتضّم ـ: البحر أيضاً.

8. جبل: خلق.

9. الجلاميد: الصخور الصُلْبة.

10. النُشُوز ـ جمع نَشْز بسكون الشين وفتحها وفتح النون ـ: ما ارتفع من الارض.

11. المُتون ـ جمع مَتْن ـ: ما صلب منها وارتفع.

12. الاطواد: عطف على المتون وهي عظام الناتئات.

13. مراسيها: ما «رست» أي رسخت فيه.

الصفحة 520
قَرَارَاتِهَا(1)، فَمَضَتْ رُؤُسُهَا فِي الْهَوَاءِ، وَرَسَتْ أُصُولُهَا فِي الْمَاءِ، فَأَنْهَدَ جِبَالَهَا(2) عَنْ سُهُولِهَا، وَأَسَاخَ قَوَاعِدَهَا(3) فِي متُونِ أَقْطَارِهَا، وَمَوَاضِعِ أَنْصَابِهَا(4)، فَأشْهَقَ قِلاَلَهَا(5)، وَأَطَالَ أَنْشَازَهَا(6)، وَجَعَلَهَا لِلاَْرْضِ

____________

1. قرارتها: ما استقرت فيه.

2. قوله: «أنْهَدَ جبالها...» كأن النشوز والمتون والاطواد كانت في بداية أمرها على ضخامتها غير ظاهرة الامتياز ولا شامخة الارتفاع عن السهول، حتى إذا ارتجت الارض بما أحدثت يد القدرة الالهية في بطونها نهدت الجبال عن السهول فانفصلت كل الانفصال.

3. أساخ قواعدها: أي جعلها غائصة.

4. مواضع الانصاب ـ جمع نُصُب ـ: وهو ما جعل عَلَماً يُشهَد فيُقصَد.

5. قُلّة الجبل: أعلاه. وأشهقها: جعلها شاهقة أي بعيدة الارتفاع.

6. أطال أنشازها: أي متونها المرتفعة في جوانب الارض.

الصفحة 521
عِمَاداً، وَأَرَّزَهَا(1) فِيهَا أَوْتَاداً، فَسَكَنَتْ عَلَى حَرَكَتِهَا مِن أَنْ تَمِيدَ(2) بِأَهْلِهَا، أَوْ تَسِيخَ(3) بِحِمْلِهَا، أَوْ تَزُولَ عَنْ مَواضِعِهَا.

فَسُبْحَانَ مَنْ أَمْسَكَهَا بعَْدَ مَوَجَانِ مِيَاهِهَا، وَأَجْمَدَهَا بَعْدَ رُوطُوبَةِ أَكْنَافِهَا، فَجَعَلَهَا لِخَلْقِهِ مِهَاداً، وَبَسَطَهَا لَهُمْ فِرَاشاً! فَوْقَ بَحْر لُجِّيّ رَاكِد لاَ يَجْرِي(4)، وَقَائِم لاَ يَسْرِي، تُكَرْكِرُهُ(5) الرِّيَاحُ الْعَوَاصِفُ، وَتَمْخُصُهُ الْغَمَامُ الذَّوَارِفُ(6)، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى)

____________

1. أرّزها ـ بالتشديد ـ: ثبّتها.

2. تَمِيد: أي تضطرب وتتزلزل.

3. تَسِيخ ـ كتَسُوخ ـ أي: تغوص في الهواء فتنخسف.

4. لا يجري: المراد هنا أنه لايسيل في الهواء.

5. تُكَرْكِرُه: تذهب به وتعود.

6. الذَوَارِف ـ جمع ذَارِفة ـ: من ذرف الدمع إذا سال.

الصفحة 522

[ 212 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[كان يستنهض بها أصحابه إلى جهاد أهل الشام في زمانه]

اللَّهُمَّ أَيُّمَا عَبْد مِنْ عِبَادِكَ سَمِعَ مَقَالَتَنَا الْعَادِلَةَ غَيْرَ الْجَائِرَةِ، وَالْمُصْلِحَةَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا غَيْرَ الْمُفْسِدَةِ، فَأَبَى بَعْدَ سَمْعِهِ لَهَا إِلاَّ النُّكُوصَ عَنْ نُصْرَتِكَ، وَالاِْبْطَاءَ عَنْ إِعْزَازِ دِينِكَ، فَإِنَّا نَسْتَشْهِدُكَ عَلَيْهِ يَا أَكْبَرَ الشَّاهِدِينَ شَهَادَةً، وَنَسْتَشْهِدُ عَلَيْهِ جَمِيعَ مَا اَسْكَنْتَهُ أَرْضَكَ وَسَمَاوَاتِكَ، ثُمَّ أَنْتَ بَعْدُ الْمُغْنِي عَنْ نَصْرِهِ، وَالاْخِذُ لَهُ بِذَنْبِهِ.

[ 213 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[في تمجيدالله وتعظيمه]

الْحَمْدُ لله الْعَلِيِّ عَنْ شَبَهِ(1) الْـمَخْلُوقِينَ، الْغَالِبِ لِمَقَالِ الْوَاصِفِينَ، الظَّاهِرِ بَعَجَائِبِ تَدْبِيرِهِ لِلنَّاظِرينَ، الْبَاطِنِ بِجَلاَلِ عِزَّتِهِ عَنْ فِكْرِ الْمُتَوَهِّمِينَ، الْعَالِمِ بَلاَ اكْتِسَاب وَلاَ ازْدِيَاد، وَلاَ عِلْم مُسْتَفَاد، الْمُقَدِّرِ لِجَميِعِ الاُْمُورِ بِلاَ رَوِيَّة وَلاَ ضَمِير، الَّذِي لاَ تَغْشَاهُ الظُّلَمُ، وَلاَ يَسْتَضِيءُ بِالاَْنْوَارِ، وَلاَ يَرْهَقُهُ(2) لَيْلٌ، وَلاَ يَجْرِي عَلَيْهِ نَهَارٌ، لَيْسَ إِدْرَاكُهُ بِالاِْبْصَارِ، وَلاَ عِلْمُهُ بِالاِْخْبَارِ.

____________

1. شَبَه ـ بالتحريك ـ: أي مشابهة.

2. رَهِقَهُ ـ كفرح ـ: غَشِيَهُ.

الصفحة 523

منها: في ذكر النبي(صلى الله عليه وآله):

أَرْسَلَهُ بِالضِّيَاءِ، وَقَدَّمَهُ فِي الاصْطِفَاءِ، فَرَتَقَ(1) بِهِ الْمَفَاتِقَ(2)، وَسَاوَرَ بِهِ الْمُغَالِبَ(3)، وَذَلَّلَ بِهِ الصُّعُوبَةَ، وَسَهَّلَ بِهِ الْحُزُونَةَ(4)، حَتَّى سَرَّحَ الضَّلاَلَ، عَنْ يَمِين وَشِمَال.

[ 214 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[يصف جوهر الرسول، ويصف العلماء، ويعظ بالتقوى]

وَأَشْهَدُ أَنَّهُ عَدْلٌ عَدَلَ، وَحَكَمٌ فَصَلَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَسَيِّدُ عِبَادِهِ، كُلَّمَا نَسَخَ اللهُ الْخَلْقَ(5) فِرْقَتَيْنِ جَعَلَهُ فِي خَيْرِهِمَا، لَمْ يُسْهِمْ فِيهِ عَاهِرٌ(6)، وَلاَ ضَرَبَ فِيهِ(7) فَاجِرٌ.

____________

1. الرَتْق: سدّ الفَتْق.

2. المفاتق: مواضع الفَتْق وهي ما كان بين الناس من فساد وفي مصالحهم من اختلال.

3. سَاوَرَ به المُغالِبَ أي: واثب بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كل من يغالب الحق.

4. الحُزُونة: غِلَظ في الارض.

5. نَسَخَ الخلق: نَقَلَهم بالتناسل عن أصولهم، فجعلهم بعد الوحدة في الاصول فِرَقاً.

6. العاهر: من يأتي غير حِلّه كالفاجر.

7. ضرب في الشيء: صار له نصيب منه.

الصفحة 524
أَلاَ وإِنَّ اللهَ جَعَلَ لِلْخَيْرِ أَهْلاً، وَلِلْحَقِّ دَعَائِمَ، وَلِلطَّاعَةِ عِصَماً(1)، وَإِنَّ لَكُمْ عِنْدَ كُلِّ طَاعَة عَوْناً مِنَ اللهِ يَقُولُ عَلَى الاَْلْسِنَةِ، وَيُثَبِّتُ الاَْفْئِدَةَ، فِيهِ كِفَاءٌ(2) لِمُكْتَف، وَشِفَاءٌ لِمُشْتَف.

[صفة العلماء]

وَاعْلَمُوا أَنَّ عِبَادَ اللهِ الْمُسْتَحْفَظِينَ(3) عِلْمَهُ، يَصُونُونَ مَصُونَهُ، وَيُفَجِّرُونَ عُيُونَهُ، يَتَوَاصَلُونَ بِالْوِلاَيَةِ(4)، وَيَتَلاَقَوْنَ بالْـمَحَبَّةِ، وَيَتَسَاقَوْنَ بِكَأْس رَوِيَّة(5)، وَيَصْدُرُونَ بِرِيَّة(6)، لاَ تَشُوبُهُمُ الرِّيبَةُ(7)، وَلاَ تُسْرِعُ فِيهِمْ

____________

1. العِصَم ـ بكسر ففتح ـ: جمع عصمة وهي ما يعتصم به، وعِصَم الطاعات: الاخلاص لله وحده.

2. الكِفاء ـ بالكسر ـ: الكافي أو الكِفاية. 3. المستحفَظين ـ بصيغة اسم المفعول ـ: الذين أُودعوا العلم ليحفظوه.

4. الوِلاية: الموالاة والمصافاة.

5. الرّوية ـ فعيلة بمعنى فاعلة ـ: أي يروي شرابها من ظمأ التباعد والنُفْرة.

6. رِيّة ـ بكسر الراء وتشديد الياء ـ: الواحدة من الرِيّ: زوال العطش.

7. الرِيبة: الشك في العقائد.

الصفحة 525
الْغِيبَةُ. عَلَى ذلِكَ عَقَدَ خَلْقَهُمْ وَأَخْلاَقَهُمْ(1)، فَعَلَيْهِ يَتَحَابُّونَ، وَبِهِ يَتَوَاصَلُونَ، فَكَانُوا كَتَفَاضُلِ الْبَذْرِ يُنْتَقَى(2)، فَيُوْخَذُ مِنْهُ وَيُلْقَى، قَد مَيَّزَهُ التَّخْلِيصُ، وَهذَّبَهُ(3) الـتَّمْحيصُ(4).

[العظة بالتقوى]

فَلْيَقْبَلِ امْرُؤٌ كَرَامَةً(5) بِقَبُولِهَا، وَلْيَحْذَرْ قَارِعَةً(6) قَبْلَ حُلُولِهَا، وَلْيَنْظُرِ امْرُؤٌ فِي قَصِيرِ أَيَّامِهِ، وَقَلِيلِ مُقَامِهِ، فِي مَنْزِل حَتَّى يَسْتَبْدِلَ بِهِ مَنْزِلاً، فَلْيَصْنَعْ لِمُتَحَوَّلِهِ(7)، وَمَعَارِفِ مُنْتَقَلِهِ(8).

____________

1. عقد خلقهم: أي وصل خلقهم الجسماني وأخلاقهم النفسية بهذه الصفات، وأحكم صلتهما بها حتى كأنهما معقودان بها.

2. كتفاضل البَذْرِ يُنْتَقَى: أي كانوا إذا نسبتهم إلى سائر الناس رأيتهم يفضلونهم ويمتازون عليهم كتفاضل البذر، فان البذر يعتنى بتنقيته ليخلص النبات من الزوان، ويكون النوع صافياً لايخالطه غيره، وبعد التنقية يؤخذ منه ويلقى في الارض، فالبذر يكون أفضل الحبوب وأخلصها.

3. التهذيب ـ هنا ـ: التنقية.

4. التمحيص: الاختبار.

5. الكرامة ـ هنا ـ: النصيحة، أي اقبلوا نصيحة لا ابتغي عليها أجراً إلا قبولها.

6. القارعة: داعية الموت أو القيامة تأتي بغتةً.

7. المُتَحَوّل ـ بفتح الواومشددة ـ: ما يُتَحَوّل إليه.

8. معارف المنتقَل: المواضع التي يعرف الانتقال إليها.