الصفحة 526
فَطُوبَى لِذِي قَلْب سَلِيم، أَطَاعَ مَنْ يَهْدِيهِ، وَتَجَنَّبَ مَنْ يُرْدِيهِ، وَأَصَابَ سَبِيلَ السَّلاَمَةِ بِبَصَرِ مَنْ بَصَّرَهُ، وَطَاعَةِ هَاد أَمَرَهُ، وَبَادَرَ الْهُدى قَبْلَ أَنْ تُغْلَقَ أَبْوَابُهُ، وَتُقْطَعَ أَسْبَابُهُ، وَاسْتَفْتَحَ التَّوْبَةَ، وَأَمَاطَ الْحَوْبَةَ(1)، فَقَدْ أُقِيمَ عَلَى الطَّرِيقِ، وَهُدِيَ نَهْجَ السَّبِيلِ.

[ 215 ]
ومن دعائه (عليه السلام)
[كان يدعو به كثيراً]

الْحَمْدُ لله الَّذِي لَمْ يُصبِحْ بِي مَيِّتاً وَلاَ سَقِيماً، وَلاَ مَضْرُوباً عَلَى عُرُوقِي بِسُوء، وَلاَ مَأْخُوذاً بِأَسْوَاَ عَمَلِي، وَلاَ مَقْطُوعاً دَابِرِي(2)، وَلاَ مُرْتَدّاً عَنْ دِينِي، وَلاَ مُنْكِراً لِرَبِّي، وَلاَ مُسْتَوْحِشاً مِنْ إِيمَانِي، وَلاَ مُلْتَبِساً(3) عَقْلِي، وَلاَ مُعَذَّباً بَعَذابِ الاُْمَمِ مِنْ قَبْلِي.

أَصْبَحْتُ عَبْداً مَمْلُوكاً ظَالِماً لِنَفْسِي، لَكَ الْحُجَّةُ عَلَيَّ وَلاَ حُجَّةَ لِي، لاَ

____________

1. الحَوْبة ـ بفتح الحاء ـ: الاثم. وإماطتها: تنحيتها.

2. الدابر: بقية الرجل من ولده ونسله، وأصل الدابر: الظهر، وكنى بقطعه عن الدواعي التي من شأنها قطع القوة وإبادة النسل.

3. الالتباس: الاختلاط.

الصفحة 527
أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ إِلاَّ مَا أَعْطَيْتَنِي، وَلاَ أَتَّقِيَ إِلاَّ مَا وَقَيْتَنِي.

اللَّهُمَّ إِنَّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَفْتَقِرَ فِي غِنَاكَ، أَوْ أَضِلَّ فِي هُدَاكَ، أَوْ أُضَامَ فِي سُلْطَانِكَ، أَوْ أُضْطَهَدَ وَالاَْمْرُ لَكَ!

اللَّهُمَّ اجْعَلْ نَفْسِي أَوَّلَ كَرِيمَة تَنْتَزِعُهَا مِنْ كَرَائِمِي، وَأَوَّلَ وَدِيعَة تَرْتَجِعُهَا مِنْ وَدَائِعِ نِعَمِكَ عِنْدِي!

اللَّهُمْ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَذْهَبَ عَنْ قَوْلِكَ، أَوْ نُفْتَتَنَ عَنْ دِينِكَ، أَوْ تَتَابَعَ(1) بِنَا أَهْوَاؤُنَا دُونَ الْهُدَى الَّذِي جَاءَ مِنْ عِنْدِكَ!

[ 216 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
بصفين

أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً بِوِلاَيَةِ أَمْرِكُمْ، وَلَكُمْ عَلَيَّ مِنَ الْحَقِّ مثْلُ الَّذِي لِي عَلَيْكُمْ، فَالْحَقُّ أَوْسَعُ الاَْشْيَاءِ فِي التَّوَاصُفِ، وَأَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ، لاَيَجْرِي لاَِحَد إِلاَّ جَرَى عَلَيْهِ، وَلاَ يَجْرِي عَلَيْهِ إِلاَّ جَرَى لَهُ، وَلَوْ كَانَ لاَِحَد أَنْ يَجْرِيَ لَهُ وَلاَ يَجْرِيَ عَلَيْهِ، لَكَانَ ذلِكَ خَالِصاً لله سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ، لِقُدْرَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَلِعَدْلِهِ فِي كُلِّ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ قَضَائِهِ، وَلكِنَّهُ جَعَلَ حَقَّهُ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يُطِيعُوهُ، وَجَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَيْهِ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ تَفَضُّلاً مِنْهُ، وَتَوَسُّعاً بِمَا هُوَ مِنَ الْمَزِيدِ أَهْلُهُ.

____________

1. التتابع: ركوب الامر على خلاف الناس، أراد به هنا الاسراع إلى الشر واللجاجة.

الصفحة 528

[حق الوالي وحق الرعية]

ثُمَّ جَعَلَ ـ سُبْحَانَهُ ـ مِنْ حُقُوقِهِ حُقُوقاً افْتَرَضَهَا لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْض، فَجَعَلَهَا تَتَكَافَأُ(1) فِي وُجُوهِهَا، وَيُوجِبُ بَعْضُهَا بَعْضاً، وَلاَ يُسْتَوْجَبُ بعْضُهَا إِلاَّ بِبَعْض.

وَأَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ ـ سُبْحَانَهُ ـ مِنْ تِلْكَ الْحُقُوقِ حَقُّ الْوَالِي عَلَى الرَّعِيَّةِ، وَحَقُّ الرَّعِيَّةِ، عَلَى الْوَالِي، فَرِيضةً فَرَضَهَا اللهُ ـ سُبْحَانَهُ ـ لِكُلّ عَلَى كُلّ، فَجَعَلَهَا نِظَاماً لاُِلْفَتِهِمْ، وَعِزّاً لِدِينِهِمْ، فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلاَّ بِصَلاَحِ الْوُلاَةِ، وَلاَ تَصْلُحُ الْوُلاَةُ إِلاَّ بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةِ.

فَإِذا أَدَّتِ الرَّعِيَّةُ إِلَى الْوَالِي حَقَّهُ، وَأَدَّى الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا، عَزَّ الْحَقُّ بَيْنَهُمْ، وَقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ، وَاعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ، وَجَرَتْ عَلَى أَذْلاَلِهَا(2)السُّنَنُ(3)، فَصَلَحَ بِذلِكَ الزَّمَانُ، وَطُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ، وَيَئِسَتْ مَطَامِعُ الاَْعْدَاءِ.

وَإِذَا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ وَالِيَهَا، أَوْ أَجْحَفَ الْوَالِي بِرَعِيَّتِهِ(4)، اخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ

____________

1. تتكافأ: تتساوى.

2. أذْلال الطريق: جمع ذِلّ ـ بكسر الذال ـ: مجراه ووسطه وجرت أمور الله أذلالها، وعلى أذلالها، أي: وجوهها. 3. السُنَن: جمع سُنّة.

4. أجحف بالرعيّة: ظلمهم.

الصفحة 529
الْكَلِمَةُ، وَظَهَرَتْ مَعَالِمُ الْجَوْرِ، وَكَثُرَ الاِْدْغَالُ(1) فِي الدِّينِ، وَتُرِكَتْ مَحَاجُّ السُّنَنِ(2)، فَعُمِلَ بِالْهَوَى، وَعُطِّلَتِ الاَْحْكَامُ، وَكَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ، فَلاَ يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيمِ(3) حَقٍّ عُطِّلَ، وَلاَ لِعَظِيمِ بَاطِل فُعِلَ! فَهُنَالِكَ تَذِلُّ الاَْبْرَارُ، وَتَعِزُّ الاَْشْرَارُ، وَتَعْظُمُ تَبِعَاتُ اللهِ عِنْدَ الْعِبَادِ.

فَعَلَيْكُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِي ذلِكَ، وَحُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ أَحَدٌ ـ وَإنِ اشْتَدَّ عَلَى رِضَى اللهِ حِرْصُهُ، وَطَالَ فِي الْعَمَلِ اجْتِهَادُهُ ـ بِبَالِغ حَقِيقَةَ مَا اللهُ سُبْحَانَهُ أَهْلُهُ مِنَ الطَّاعَةِ لَهُ، وَلكِنْ مِنْ وَاجِبِ حُقُوقِ اللهِ عَلى العِبَادِ النَّصِيحَةُ بِمَبْلَغِ جُهْدِهِمْ، وَالتَّعَاوُنُ عَلَى إقَامَةِ الْحَقِّ بَيْنَهُمْ. وَلَيْسَ امْرُؤٌ ـ وَإنْ عَظُمَتْ فِي الْحَقِّ مَنْزِلَتُهُ، وَتَقَدَّمَتْ فِي الدِّينِ فَضِيلَتُهُ ـ بِفَوْقِ أَنْ يُعَانَ(4)عَلَى مَا حَمَّلَهُ اللهُ مِنْ حَقِّهِ. وَلاَ امْرُؤٌ ـ وَإِنْ صَغَّرَتْهُ النُّفُوسُ، وَاقْتَحَمَتْهُ(5) الْعُيُونُ ـ بِدُونِ أَنْ يُعِينَ عَلى ذلِكَ أَوْ يُعَانَ عَلَيْهِ.

فأجابه(عليه السلام) رجل من أصحابه بكلام طويل، يكثر فيه الثناء عليه، ويذكر

____________

1. الادغال في الامر: إدخال ما يفسده فيه.

2. مَحَاجّ السُنَن: جمع مَحَجّة، وهي جادّة الطريق وأوسطها.

3. لا يستوحش لعظيم: أي لا تأخذ النفوس وحشة أو استغراب، لتعودها على تعطيل الحقوق.

4. بِفَوْقِ أن يُعان...، أي: بأعلى من أن يحتاج إلى الاعانة، أي بغنى عن المساعدة. 5. اقتحمتْهُ: احتقرته وازدرته.

الصفحة 530
سمعه وطاعته له.

فقال(عليه السلام): إِنَّ مِنْ حَقِّ مَنْ عَظُمَ جَلاَلُ اللهِ فِي نَفْسِهِ، وَجَلَّ مَوْضِعُهُ مِنْ قَلْبِهِ، أَنْ يَصْغُرَ عِنْدَهُ ـ لِعِظَمِ ذلِكَ ـ كُلُّ مَا سِوَاهُ، وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ كَانَ كَذلِكَ لَمَنْ عَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ، وَلَطُفَ إِحْسَانُهُ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَمْ تَعْظُمْ نِعْمَةُ اللهِ عَلَى أَحَد إِلاَّ ازْدَادَ حَقُّ اللهِ عَلَيْهِ عِظَماً، وَإِنَّ مِنْ أَسْخَفِ(1) حَالاَتِ الْوُلاَةِ عِنْدَ صَالِحِ النَّاسِ، أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ حُبُّ الْفَخْرِ، وَيُوضَعَ أَمْرُهُمْ عَلَى الْكِبْرِ.

وَقَدْ كَرِهْتُ أَنْ يَكُونَ جَالَ فِي ظَنِّكُمْ أَنِّي أُحِبُّ الاِْطْرَاءَ، وَاسْتَِماعَ الثَّنَاءِ، وَلَسْتُ ـ بِحَمْدِ اللهِ ـ كَذلِكَ، وَلَوْ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يُقَالَ ذلِكَ لَتَرَكْتُهُ انْحِطَاطاً لله سُبْحَانَهُ عَنْ تَنَاوُلِ مَا هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ.

وَرُبَّمَا اسْتَحْلَى النَّاسُ الثَّنَاءَ بَعْدَ الْبَلاَءِ(2)، فَلاَ تُثْنُوا عَلَيَّ بِجَمِيلِ ثَنَاء، لاِِخْرَاجِي نَفْسِي إِلَى اللهِ وَ إِلَيْكُمْ مِنَ التَّقِيَّةِ(3) فِي حُقُوق لَمْ أَفْرُغْ مِنْ أَدَائِهَا، وَفَرَائِضَ لاَ بُدَّ مِنْ إِمْضائِهَا، فَلاَ تُكَلِّمُونِي بَمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ، وَلاَ

____________

1. أصل «السخف» رقة العقل وغيره، أي ضعفه.

2. البَلاء ـ هنا ـ: إجهاد النفس في إحسان العمل.

3. التَقِيّة: الخوف، والمراد لازمه، وهو العقاب.

الصفحة 531
تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ(1)، وَلاَ تُخَالِطُونِي بالْمُصَانَعَةِ(2)، وَلاَ تَظُنّوا بِيَ اسْتِثْقَالاً فِي حَقّ قِيلَ لِي، وَلاَ الِْتمَاسَ إِعْظَام لِنَفْسِي، فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوْ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ، كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ.

فَلاَ تَكُفُّوا عَنْ مَقَال بِحَقّ، أَوْ مَشُورَة بِعَدْل، فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِىءَ، وَلاَ آمَنُ ذلِكَ مِنْ فِعْلِي، إِلاَّ أَنْ يَكْفِيَ اللهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي(3)، فَإنَّمَا أَنَا وَأَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُو كُونَ لِرَبٍّ لاَ رَبَّ غَيْرُهُ، يَمْلِكُ مِنَّا مَا لاَ نَمْلِكُ مِنْ أَنْفُسِنَا، وَأَخْرَجَنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ إِلَى مَا صَلَحْنَا عَلَيْهِ، فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلاَلَةِ بِالْهُدَى، وَأَعْطَانَا الْبصِيرَةَ بَعْدَ الْعَمَى.

____________

1. البادرة: الغضب.

2. المُصَانعة: المُدَاراة.

3. أملك به مني: أي أشد ملكاً منى.

الصفحة 532

[ 217 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
[في التظلم والتشكي من قريش]

اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ(1) عَلَى قُرَيْش، فَإِنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوا رَحِمِي، وَأَكْفَأُوا إِنَائِي(2)، وَأَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي حَقّاً كُنْتُ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِي، وَقَالُوا: أَلاَ إِنَّ فِي الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ، وَفِي الْحَقِّ أَنْ تُمْنَعَهُ، فَاصْبِرْ مَغْمُوماً، أَوْ مُتْ مُتَأَسِّفاً.

فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي رَافِدٌ(3)، وَلاَ ذَابٌّ(4) وَلاَ مُسَاعِدٌ، إِلاَّ أَهْلَ بَيْتِي، فَضَنِنْتُ(5) بِهِمْ عَنِ الْمَنِيَّةِ، فَأَغْضَيْتُ عَلَى الْقَذى(6)، وَجَرِعْتُ رِيقِي عَلَى الشَّجَا(7)، وَصَبَرْتُ مِنْ كَظْمِ الغَيْظِ عَلى أَمَرَّ مِنَ العَلْقَمِ، وَآلَمَ لِلْقَلْبِ مِنْ خَزِّ الشِّفَارِ(8).
وقد مضى هذا الكلام في أثناء خطبة متقدمة، إلاّ أنّني كرّرتُهُ هاهنا لاختلاف الروايتين.

____________

1. أستعديك: أستعينك لتنتقم لي.

2. إكفاء الاناء: قلبه، مجاز عن تضييع الحق.

3. الرافد: المُعِين.

4. الذابّ: المدافع.

5. ضننت: أي بخلت.

6. القذى: ما يقع في العين، وأغضيت على القذى: غضضت الطرف عنه.

7. الشجا: ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه، يريد به غصة الحزن.

8. الشِفار ـ جمع شَفْرة ـ: حدّ السيف ونحوه. ووَخْز الشِفار: طعنها الخفيف.

الصفحة 533

ومنه: في ذكر السائرين إلى البصرة لحربه(عليه السلام)

فَقَدِمُوا عَلَى عُمَّالِي، وَخُزَّانِ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي في يَدَيَّ، وَعَلى أَهْلِ مِصْر، كُلُّهُمْ فِي طَاعَتِي وَعَلَى بَيْعَتِي، فَشَتَّتُوا كَلِمَتَهُمْ، وَأَفْسَدُوا عَلَيَّ جَمَاعَتَهُمْ، وَوَثَبُوا عَلى شِيعَتِي، فَقَتَلُوا طَائِفَةً مِنْهُمْ غَدْراً، وَطَائِفَةٌ عَضُّوا عَلى أَسْيَافِهِمْ(1)، فَضَارَبُوا بِهَا حَتَّى لَقُوا اللهَ صَادِقِينَ.

[ 218 ]
ومن كلام له (عليه السلام)

لمّا مر بطلحة وعبدالرحمن بن عتاب بن أسيد وهما قتيلان يوم الجمل

لَقَدْ أَصْبَحَ أَبُو مُحَمَّد بِهذَا الْمَكَانِ غَرِيباً! أَمَا وَاللهِ لَقَدْ كَنْتُ أَكْرَهُ أَنْ تَكُونَ قُرَيْشٌ قَتْلَى تَحْتَ بُطُونِ الْكَوَاكِبِ! أَدْرَكْتُ وَتْرِي(2) مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَاف، وَأَفْلَتَتْنِي أَعْيَانُ بَنِي جُمَحَ، لَقَدْ أَتْلَعُوا(3) أَعْنَاقَهُمْ إِلَى أَمْر لَمْ يَكُونُوا أَهْلَهُ فَوُقِصُوا(4) دوُنَهُ.

____________

1. العض ّ على السيوف: كناية عن الصبر في الحرب وترك الاستسلام.

2. الوِتْر: الثأر.

3. أتلعوا: أي رفعوا أعناقهم ومدّوها لتناول أمر، وهو مناوأة أميرالمؤمنين على الخلافة.

4. وُقِصوا: أي كُسرَت أعناقهم، دون الوصول إليه.

الصفحة 534

[ 219 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
[في وصف السالك الطريق إلى الله سبحانه]

قَدْ أَحْيَا عَقْلَهُ(1)، وَأَمَاتَ نَفْسَهُ(2)، حَتَّى دَقَّ جَلِيلُهُ(3)، وَلَطُفَ غَلِيظُهُ(4)، وَبَرَقَ لَهُ لاَمِعٌ كَثِيرُ الْبَرْقِ، فَأَبَانَ لَهُ الطَّرِيقَ، وَسَلَكَ بِهِ السَّبِيلَ، وَتَدَافَعَتْهُ الاَْبْوَابُ(5) إِلَى بَابِ السَّلاَمَةِ، وَدَارِ الاِْقَامَةِ، وَثَبَتَتْ رِجْلاَهُ بِطُمَأْنِينَةِ بَدَنِهِ فِي قَرَارِ الاَْمْنِ وَالرَّاحَةِ، بِمَا اسْتَعْمَلَ قَلْبَهُ، وَأَرْضَى رَبَّهُ.

____________

1. إحياء العقل: بالعلم والفكر والنفوذ في الاسرار الالهية.

2. إماتة النفس: بكفّها عن شهواتها.

3. الجليل: العظيم. ودق: أي صغر حتى خفي أوكاد، والمراد نحول بدنه الكثيف.

4. لَطُفَ غليظه: تلطفت أخلاقه وصفت نفسه.

5. تَدافَعتهُ الابواب: أي مازال يتنقل من مقام إلى آخر من مقامات الكمال.

الصفحة 535

[ 220 ]
ومن كلام له (عليه السلام)

قاله بعد تلاوته: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ(1) * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)

يَا لَهُ مَرَاماً(2) مَا أَبْعَدَهُ! وَزَوْراً(3) مَا أَغْفَلَهُ(4)! وَخطراً مَا أَفْظَعَهُ! لَقَدِ اسْتَخْلَوْا مِنْهُمْ(5) أَيَّ مُذّكر، وَتَنَاوَشُوهُمْ(6) مِنْ مَكَان بَعِيد! أَفَبِمَصَارِعِ آبَائِهِمْ يَفْخَرُونَ! أَمْ بِعَدِيدِ الْهَلْكَى يَتَكَاثَرُونَ! يَرْتَجِعُونَ مِنْهُمْ أَجْسَاداً خَوَتْ(7)، وَحَرَكَات سَكَنَتْ، وَلاََنْ يَكُونُوا عِبَراً، أَحَقُّ مِنْ أَنْ يَكُونُوا

____________

1. ألهاه عن الشيء: صرفه عنه باللهو، أي صرفكم عن الله اللهوُ والتكاثر بمكاثرة بعضكم لبعض وتعديد كل منكم مزايا أسلافه.

2. المَرام: الطلب بمعنى المطلوب.

3. الزَوْر ـ بالفتح ـ: الزائرون.

4. ما أغفلهُ: أي ما أشدّ غفلته.

5. اسْتَخْلَوْهم: وجدوهم خالين.

6. تَنَاوَشُوهم: تناولوهم.

7. خَوَتْ: سقط بناؤها وخلت من أرواحها.

الصفحة 536
مُفْتَخَراً، وَلاََن يَهْبِطُوا بِهِمْ جَنَابَ ذِلَّة، أَحْجَى(1) مِنْ أَنْ يَقُوموُا بِهِمْ مَقَامَ عِزَّة!

لَقَدْ نَظَرُوا إِلَيْهِمْ بِأَبْصَارِ الْعَشْوَةِ(2)، وَضَرَبُوا مِنْهُمْ فِي غَمْرَةِ جَهَالَة، وَلَوِ اسْتَنْطَقُوا عَنْهُمْ عَرَصَاتِ تِلْكَ الدِّيَارِ الْخَاوِيَةِ(3)، وَالْرُّبُوعِ(4) الْخَالِيَةِ، لَقَالَتْ: ذَهَبُوا فِي الاَْرْضِ ضُلاَّلاً(5)، وَذَهَبْتُمْ فِي أَعْقَابِهِمْ جُهَّالاً، تَطَأُونَ فِي هَامِهِمْ(6)، وَتَسْتَنْبِتُونَ(7) فِي أَجْسَادِهِمْ، وَتَرْتَعُونَ(8) فِيَما لَفَظُوا،

____________

1. أحْجَى: أقرب للحجى أي العقل.

2. العَشْوَة: ضعف البصر.

3. الخاوية: المنهدمة.

4. الربوع: المساكن.

5. الضّلاّل ـ كعُشّاق ـ: جمع ضال.

6. هَام ـ جمع هَامة ـ: أعلى الرأس.

7. تَسْتَنْبِتون: أي تزرعون النبات في أجسادهم.

8. ترتعون: تأكلون وتتلذذون بما لفظوه، أي طرحوه وتركوه.

الصفحة 537
وَتَسْكُنُونَ فِيَما خَرَّبُوا، وَإِنَّمَا الاَْيَّامُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ بَوَاك(1) وَنَوَائِحُ(2) عَلَيْكُمْ.

أُولئِكُمْ سَلَفُ غَايَتِكُمْ(3)، وَفُرَّاطُ(4) مَنَاهِلِكُمْ(5)، الَّذِينَ كَانتْ لَهُمْ مَقَاوِمُ(6) الْعِزِّ، وَحَلَبَاتُ(7) الْفَخْرِ، مُلُوكاً وَسُوَقاً(8)، سَلَكُوا فِي بُطُونِ الْبَرْزَخِ سَبِيلاً سُلِّطَتِ الاَْرْضُ عَلَيْهِمْ فِيهِ، فَأَكَلَتْ مِنْ لُحُومِهِمْ، وَشَرِبَتْ مِنْ دِمَائِهِمْ، فَأَصْبَحُوا فِي فَجَوَاتِ(9) قُبُورِهِمْ جَمَاداً لاَ يَنْمُونَ(10)، وَضِماراً(11) لاَ

____________

1. بَواك: جمع باكية.

2. نوائح: جمع نائحة.

3. سلف الغاية: السابق إليها، وغايتهم حد ما ينتهون إليه، وهو الموت.

4. الفُرّاط ـ جمع فارط ـ وهو كالفَرَط ـ بالتحريك ـ: متقدم القوم إلى الماء ليهيىء لهم موضع الشرب.

5. المَنَاهِل: مواضع ما تشرب الشاربة من النهر مثلاً.

6. مَقَاوِم: جمع مَقام. 7. الحَلَبات ـ جمع حَلْبة بالفتح ـ: وهي الدفعة من الخيل في الرِهان.

8. السُوَق ـ بضم ففتح ـ: جمع سُوقة ـ بالضم ـ: بمعنى الرعية.

9. الفَجَوات ـ جمع فَجْوة ـ: وهي الفُرْجة، والمراد منها هنا شق القبر.

10. يَنْمُون: من النماء، وهو الزيادة في الغذاء.

11. الضِمار ـ ككتاب ـ: المال لايرجى رجوعه.

الصفحة 538
يُوجَدُونَ، لاَ يُفْزِعُهُمْ وُروُدُ الاَْهْوَالِ، وَلاَ يَحْزُنُهُمْ تَنَكُّرُ الاَْحْوَالِ، وَلاَ يَحْفِلُونَ(1) بِالرَّوَاجِفِ(2)، وَلاَ يَأْذَنُونَ(3) لِلْقَوَاصِفِ(4)، غُيَّباً لاَ يُنْتَظَرُونَ، وَشُهُوداً لاَ يَحْضُرونَ، وَإِنَّمَا كَانُوا جَمِيعاً فَتَشَتَّتُوا، وَآلاَفاً(5) فافْتَرَقُوا، وَمَا عَنْ طُولِ عَهْدِهِمْ، وَلاَ بُعْدِ مَحَلِّهِمْ، عَمِيَتْ أخْبَارُهُمْ، وَصَمَّتْ(6) دِيَارُهُمْ، وَلكِنَّهُمْ سُقُوا كَأْساً بَدَّلَتْهُمْ بِالنُّطْقِ خَرَساً، وَبِالسَّمْعِ صَمَماً، وَبِالْحَرَكَاتِ سُكُوناً، فَكَأَنَّهُمْ فِي ارْتِجَالِ الصِّفَةِ(7) صَرْعَى(8)

____________

1. لايَحْفِلون ـ بكسر الفاء ـ: لايبالون. 2. الرَوَاجِف ـ جمع راجفة ـ: الزلزلة توجب الاضطراب.

3. يَأذَنُون: يستمعون، والمصدر منه الاَذَن بالتحريك.

4. القواصف: من قصف الرعد: اشتدت هَدْهَدَته.

5. آلافاً ـ جمع أليف ـ: أي مؤتلف مع غيره.

6. صَمّ يَصَمّ ـ بالفتح فيهما ـ: خرس عن الكلام، وخرس الديار: ألاّ يصعد الصوت من سكانها.

7. ارتجال الصفة: وصف الحال بلا تأمل.

8. صرعى ـ جمع صريع ـ: أي هالك.

الصفحة 539
سُبَات(1)، جِيرَانٌ لاَ يَتَأَنَّسُونَ، وَأَحِبَّاءُ لاَ يَتَزَاوَرُونَ، بَلِيَتْ(2) بَيْنَهُمْ عُرَا(3) التَّعَارُفِ، وَانْقَطَعَتْ مِنْهُمْ أَسْبَابُ الاِْخَاءِ، فَكُلُّهُمْ وَحِيدٌ وَهُمْ جَمِيعٌ، وَبِجَانِبِ الْهَجْرِ وَهُمْ أَخِلاَّءُ، لاَ يَتَعَارَفُونَ لِلَيْل صَبَاحاً، وَلاَ لِنَهَار مَسَاءً.

أَيُّ الْجَدِيدَيْنِ(4) ظَعَنُوا فِيهِ كَانَ عَلَيْهِمْ سَرْمَداً، شَاهَدُوا مِنْ أَخْطَارِ دَارِهِمْ أَفْظَعَ مِمَّا خَافُوا، وَرَأَوْا مِنْ آيَاتِهَا أَعْظَمَ مِمَّا قَدَّرُوا، فَكِلا الْغَايَتَيْنِ(5)مُدَّتْ لَهُمْ إِلَى مَبَاءَة(6)، فَاتَتْ مَبَالِغَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ.

فَلَوْ كَانُوا يَنْطِقُونَ بِهَا لَعَيُّوا(7) بِصِفَةِ مَا شَاهَدُوا وَمَا عَايَنُوا، وَلَئِنْ عَمِيَتْ

____________

1. السُبات ـ بالضم ـ: أي النوم.

2. بَلِيَتْ: رثّت وَفَنِيَت.

3. العُرا ـ جمع عُرْوة ـ: وهي مَقْبِض الدلو والكوز مثلاً.

4. الجديدان: الليل والنهار.

5. يريد بالغايتين هنا: الجنة والنار.

6. المَبَاءة: مكان التبوّء والاستقرار، والمراد منها ما يرجعون إليه في الاخرة.

7. عَيّوا: عجزوا.

الصفحة 540
آثَارُهُمْ، وَانْقَطَعَتْ أَخْبَارُهُمْ، لَقَدْ رَجَعَتْ فِيهِمْ أَبْصَارُ الْعِبَرِ(1)، وَسَمِعَتْ عَنْهُمْ آذَانُ الْعُقُولِ، وَتَكَلَّمُوا مِنْ غَيْرِ جِهَاتِ النُّطْقِ، فَقَالُوا: كَلَحَتِ(2) الْوُجُوهُ النَّوَاضِرُ(3)، وَخَوَتِ(4) الاَْجْسَادُ النَّوَاعِمُ، وَلَبِسْنَا أَهْدَامَ(5) الْبِلَى، وَتَكَاءَدَنَا(6) ضِيقُ الْمَضْجَعِ، وَتَوَارَثْنَا الْوَحْشَةَ، وَتَهَكَّمَتْ(7) عَلَيْنَا الرُّبُوعُ(8) الصُّمُوتُ(9)، فَانْمَحَتْ مَحَاسِنُ أَجْسَادِنَا، وَتَنَكَّرَتْ مَعَارِفُ صُوَرِنَا، وَطَالَتْ فِي مَسَاكِنِ الْوَحْشَةِ إِقَامَتُنَا، وَلَمْ نَجِدْ مِنْ كَرْب فَرَجاً، وَلاَ

____________

1. العِبَر ـ جمع عِبْرة ـ: وهي ما يعتبر به، ويتخذ موعظة

2. كَلَح ـ كمنع ـ كُلُوحاً: تكشّر في عُبوس.

3. النواضر: الحسنة البواسم.

4. خَوَت: تهدمت بنيتها.

5. الاهدام ـ جمع هدم بكسر الهاء ـ: الثوب البالي أو المرقع.

6. تَكَاءدَهُ الامرُ: أي شقّ عليه. 7. تهكّمت: المراد هنا تهدمت.

8. الرُبُوع: أماكن الاقامة.

9. الصُموت: جمع صامت، والمراد بها القبور.

الصفحة 541
مِنْ ضِيق مُتَّسعاً!

فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ بِعَقْلِكَ، أَوْ كُشِفَ عَنْهُمْ مَحْجُوبُ الْغِطَاءِ لَكَ، وَقَدِ ارْتَسَخَتْ(1) أَسْمَاعُهُمْ بِالْهَوَامِّ(2) فَاسْتَكَّتْ(3)، وَاكْتَحَلَتْ أَبْصَارُهُمْ بِالتُّرَابِ فَخَسَفَتْ(4)، وَتَقَطَّعَتِ الاَْلْسِنَةُ فِي أَفْوَاهِهِمْ بَعْدَ ذَلاَقَتِهَا(5)، وَهَمَدَتِ الْقُلُوبُ فِي صُدُورِهِمْ بَعْدَ يَقَظَتِهَا، وعَاثَ(6) فِي كُلِّ جَارِحَة مِنْهُمْ جدِيدُ بِلىً(7) سَمَّجَهَا(8)، وَسَهَّلَ طُرُقَ الاْفَةِ إِلَيْهَا، مُسْتَسْلِمَات فَلاَ أَيْد تَدْفَعُ، وَلاَ قُلُوبٌ تَجْزَعُ، لَرَأَيْتَ أَشْجَانَ قُلُوب(9)، وَأَقْذَاءَ عُيُون(10)، لَهُمْ فِي كَلِّ فَظَاعَة صِفَةُ

____________

1. ارتسخ: مبالغة في رسخ، ورسخ الغدير: نش ماؤه، أي أخذ في النقصان ونضب. 2. الهوام: الديدان.

3. استكّت الاذن: صمّت.

4. خسفت عين فلان: فقئت.

5. ذلاقة الالسن: حدتها في النطق.

6. عاث: أفسد.

7. البِلى: التحلل والفناء.

8. سمّج الصورة تسميجاً: قبّحها.

9. أشجان القلوب: همومها.

10. أقذاء العيون: ما يسقط فيها فيؤلمها.

الصفحة 542
حَال لاَ تَنْتَقِلُ، وَغَمْرَةٌ(1) لاَ تَنْجَلِي.

فَكَمْ أَكَلَتِ الاَْرْضُ مِنْ عَزِيزِ جَسَد، وَأَنِيقِ(2) لَوْن، كَانَ فِي الدُّنْيَا غَذِيَّ(3) تَرَف، وَرَبِيبَ(4) شَرَف! يَتَعَلَّلُ(5) بالسُّرُورِ فِي سَاعَةِ حُزْنِهِ، وَيَفْزَعُ إِلَى السَّلْوَةِ(6) إِنْ مُصِيبَةٌ نَزَلَتْ بِهِ، ضَنّاً(7) بِغَضَارَةِ عَيْشِهِ(8)، وَشَحَاحَةً(9) بِلَهْوِهِ وَلَعِبِهِ!

____________

1. الغَمْرة: الشدة.

2. الانيق: رائق الحسن.

3. الغَذِيّ: اسم بمعنى المفعول أي مغذّى بالنعيم. 4. الربيب: بمعنى المربى، ربّه يربّه أي رباه.

5. يتعلّل: يتشاغل.

6. السلوة: انصراف النفس عن الالم بتخيّل اللذة. 7. ضناً: أي بخلاً.

8. غَضارة العيش: طيبه.

9. شحاحةً: بخلاً وضناً.

الصفحة 543
فَبَيْنَا هُوَ يَضْحَكُ إِلَى الدُّنْيَا وَتَضْحَكُ إِلَيْهِ فِي ظِلِّ عَيْش غَفُول(1)، إِذْ وَطِىءَ الدَّهْرُ بِهِ حَسَكَهُ(2)، وَنَقَضَتِ الاَْيَّامُ قُوَاهُ، وَنَظَرَتْ إِلَيْهِ الْحُتُوفُ(3) مِنْ كَثَب(4)، فَخَالَطَهُ(5) بَثٌّ(6) لاَ يَعْرِفُهُ، وَنَجِيُّ(7) هَمٍّ مَا كَانَ يَجِدُهُ، وَتَوَلَّدَتْ فِيهِ فَتَرَاتُ(8) عِلَل، آنَسَ مَا كَانَ بِصِحَّتِهِ، فَفَزِعَ إِلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ الاَْطِبَّاءُ مِنْ تَسْكِينِ الْحَارِّ بِالْقَارِّ(9)، وَتَحْرِيكِ الْبَارِدِ بالْحَارِّ، فَلَمْ يُطْفِىءْ

____________

1. عيش غَفول: وصف العيش بالغفلة لانه إذا كان هنيئا يوجبها.

2. الحَسَك: نبات تعلق قشر ته بصوف الغنم، ورقه كورق الرجلة أو أدق، وعند ورقه شوك ملزز صلب ذوثلاث شُعب، وهو تمثيل لمسّ الالام.

3. الحُتوف: المهلكات، وأصل الحَتْف: الموت.

4. كَثَب ـ بالتحريك ـ: أي قُرْب.

5. خالطه الحزن: مازج خواطره.

6. البَثّ: الحزن.

7. النَجِيّ: المُناجي.

8. الفَترات: جمع فتْرة، وهي المدة من الزمن، ويريد بفترات العلل أوائلَ السقم والمرض وانحطاط القوة.

9. القارّ ـ بتشديد الراء على وزن اسم الفاعل ـ هنا: البارد.

الصفحة 544
بِبَارِد إِلاَّ ثَوَّرَ حَرَارَةً، وَلاَ حَرَّكَ بِحَارٍّ إِلاَّ هَيَّجَ بُرُودَةً، وَلاَ اعْتَدَلَ بِمُمَازِج(1) لِتِلْكَ الطَّبَائِعِ إِلاَّ أَمَدَّ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ دَاء، حَتَّى فَتَرَ مُعَلِّلُهُ(2)، وَذَهَلَ مُمَرِّضُهُ، وَتَعَايَا أَهْلُهُ(3)بِصِفَةِ دَائِهِ، وَخَرِسُوا عَنْ جَوَابِ السَّائِلِينَ عَنْهُ، وَتَنَازَعُوا دُونَهُ شَجِيَّ خَبَر يَكْتُمُونَهُ، فَقَائِلٌ [يَقُولُ] هُو لِمَا بِهِ(4)، وَمُمَنّ(5) لَهُمْ إِيَابَ(6) عَافِيَتِهِ، وَمُصَبِّرٌ لَهُمْ عَلَى فَقْدِهِ، يُذَكِّرُهُمْ أُسَى(7) الْمَاضِينَ مِنْ قَبْلِهِ.

فَبَيْنَا هُوَ كَذلِكَ عَلَى جَنَاح مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا، وَتَرْكِ الاَْحِبَّةِ، إِذْ عَرَضَ لَهُ عَارِضٌ مِنْ غُصَصِهِ، فَتَحَيَّرَتْ نَوَافِذُ فِطْنَتِهِ(8)، وَيَبِسَتْ رُطُوبَةُ لِسَانِهِ، فَكَمْ

____________

1. اعتدل بممازج: أي طلب تعديل مزاجه بدواء يمازج ما فيه من الطبائع.

2. مُعَلّل المريض: من يسليه عن مرضه بترجية الشفاء.

3. تَعَايا أهله: اشتركوا في العجز عن وصف دائه. 4. هو لِمَا به: أي هو مملوك لعلته فهو هالك.

5. المُمَنّى: مخيّل الامنية.

6. الاياب: الرجوع.

7. أُسى: جمع أُسوة.

8. نوافذ الفِطْنة: ما كان من أفكار نافذة أي مصيبة للحقيقة.

الصفحة 545
مِنْ مُهِمّ مِنْ جَوَابِهِ عَرَفَهُ فَعَيَّ(1) عَنْ رَدِّهِ، وَدُعَاء مُؤْلِم لِقَلْبِهِ سَمِعَهُ فَتَصَامَّ عنْهُ، مِنْ كَبِير كَانَ يُعَظِّمُهُ، أَوْ صَغِير كَانَ يَرْحَمُهُ! وَإِنَّ لِلْمَوْتِ لَغَمَرَات(2) هِيَ أَفْظَعُ مِنْ أَنْ تُسْتَغْرَقَ بِصِفَة، أَوْ تَعْتَدِلَ عَلَى عُقُولِ(3) أَهْلِ الدُّنْيَا.

[ 221 ]
ومن كلام له (عليه السلام)

قاله عند تلاوته:

(رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ)

إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الذِّكْرَ(4) جِلاَءً(5) لِلْقُلُوبِ، تَسْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْوَقْرَةِ(6)، وَتُبْصِرُ بِهِ بَعْدَ الْعَشْوَةِ(7)، وَتَنْقَادُ بِهِ بَعْدَ الْمُعَانَدَةِ، وَمَا بَرِحَ لله ـ عَزَّتْ آلاَؤهُ

____________

1. عَيّ: عجز لضعف القوة المحركة للسانه.

2. الغَمرات: الشدائد، ويريد بها هنا سَكَرات الموت. 3. تعتدل على عقولهم: أي تستقيم عليها بالقبول والادراك.

4. الذّكر: استحضار الصفات الالهية.

5. جِلاء ـ بالكسر ـ: من جلا السيف يجلوه إذا صقله وأزال منه صدأه.

6. الوَقْرَة: ثِقَل في السمع.

7. العَشْوة: ضعف البصر.

الصفحة 546
ـ فِي الْبُرْهَةِ بَعْدَ الْبُرْهَةِ، وَفِي أَزْمَانِ الْفَتَرَاتِ(1)، عِبَادٌ نَاجَاهُمْ(2) فِى فِكْرِهِمْ، وَكَلَّمَهُمْ فِي ذَاتِ عُقُولِهِمْ، فَاسْتَصْبَحُوا(3) بِنُورِ يَقَظَة فِي الاَْسْمَاعِ وَالاَْبْصَارِ وَالاَْفْئِدَةِ، يُذَكِّرُونَ بِأَيَّامِ اللهِ، وَيُخَوِّفُونَ مَقَامَهُ، بِمَنْزِلَةِ الاَْدِلَّةِ(4) فِي الْفَلَوَاتِ(5)، مَنْ أَخَذَ الْقَصْدَ(6) حَمِدُوا إِلَيْهِ طَرِيقَهُ، وَبَشَّرُوهُ بِالنَّجَاةِ، وَمَنْ أَخَذَ يَمِيناً وَشِمَالاً ذَمُّوا إِلَيْهِ الطَّرِيقَ، وَحَذَّرُوهُ مِنَ الْهَلَكَةِ، فَكَانَوا كَذلِكَ مَصَابِيحَ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ، وَأَدِلَّةَ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ.

وَإِنَّ لِلذِّكْرِ لاََهْلاً أَخَذُوهُ مِنَ الدُّنْيَا بَدَلاً، فَلَمْ تَشْغَلْهُمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْهُ، يَقْطَعُونَ بِهِ أَيَّامَ الْحَيَاةِ، وَيَهْتِفُونَ(7) بِالزَّوَاجِرِ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ، في أَسْمَاعِ

____________

1. الفَتْرة بين العملين: زمان بينهما يخلو منهما، والمراد: أزمنة الخلوّ من الانبياء مطلقاً.

2. ناجاهم: أي خاطبهم بالالهام.

3. استصبح: أضاء مصباحه.

4. الادلة: الذين يدلون المسافرين على الطريق.

5. الفَلَوات: المَفَازَات والقِفار.

6. أخذ القصد: ركب الاعتدال في سلوكه.

7. هَتَفَ به ـ كضرب ـ: صاح ودعا، وهتفت الحمامة: صاتت.

الصفحة 547
الْغَافِلِينَ، وَيَأْمُرُونَ بِالقِسْطِ(1) وَيَأْتَمِرُونَ بِهِ(2)، وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيَتَنَاهَوْنَ عَنْهُ، فَكَأَنَّمَا قَطَعُوا الدُّنْيَا إِلَى الاْخِرَةِ وَهُمْ فِيهَا، فَشَاهَدُوا مَاوَرَاءَ ذَلِكَ، فَكَأَنَّمَا اطَّلَعُوا غُيُوبَ أَهْلِ الْبَرْزَخِ فِي طولِ الاِْقَامَةِ فِيهِ، وَحَقَّقَتِ الْقِيَامَةُ عَلَيْهِمْ عِدَاتِهَا(3)، فَكَشَفُوا غِطَاءَ ذلِكَ لاَِهْلِ الدُّنْيَا، حَتَّى كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ مَا لاَ يَرَى النَّاسُ، وَيَسمَعُونَ مَا لاَ يَسْمَعُونَ.

فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ لِعَقْلِكَ فِي مَقَاوِمِهِمُ(4) الْـمَحْمُودَةِ، وَمَجَالِسِهِمُ الْمَشْهُودَةِ، وَقَدْ نَشَرُوا دَوَاوِينَ(5) أَعْمَالِهِمْ، وَفَرَغُوا لِـمُحَاسَبَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَعَلَى كُلِّ صَغِيرَة وَكَبِيرَة أُمِرُوا بِهَا فَقَصَّرُوا عَنْهَا، أَوْ نُهوُا عَنْهَا فَفَرَّطُوا فِيهَا، وَحَمَّلُوا ثِقَلَ أَوْزَارِهِمْ(6) ظُهُورَهُمْ، فَضَعُفُوا عَنِ الاْسْتِقلاَلِ بِهَا، فَنَشَجُوا(7) نَشِيجاً،

____________

1. القِسْط: العدل.

2. يأتمرون به: يمتثلون الامر.

3. العِدَات ـ جمع عِدَة بكسر ففتح مخفف ـ: الوعود.

4. مَقاوِم ـ جمع مَقام ـ: مقاماتهم في خطاب الوعظ.

5. الدواوين: جمع ديوان وهو مجتمع الصحف. والدفتر: ما يكتب فيه أسماء الجيش وأهل الاعطيات.

6. الاوزار ـ جمع وِزْر ـ: الحِمْل، ويراد بها هنا الذنوب.

7. نَشَجَ الباكي يَنْشِج ـ كضرب يضرب ـ نشيجاً: غصّ بالبكاء في حلقه.

الصفحة 548
وَتَجَاوَبُوا نَحِيباً(1)، يَعِجُّونَ(2) إِلَى رَبِّهِمْ مِنْ مَقَامِ نَدَم وَاعْتِرَاف، لَرَأَيْتَ أَعْلاَمَ هُدىً، وَمَصَابِيحَ دُجىً، قَدْ حَفَّتْ بِهِمُ الْمَلاَئِكَةُ، وَتَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَفُتِحَتْ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّماءِ، وَأَعِدَّتْ لَهُمْ مَقَاعِدُ الْكَرَامَاتِ، فِي مَقْعَد اطَّلَعَ اللهُ عَلَيْهِمْ فِيهِ، فَرَضِيَ سَعْيَهُمْ، وَحَمِدَ مَقَامَهُمْ، يَتَنَسَّمُونَ بِدُعَائِهِ رَوْحَ(3) التَّجَاوُزِ، رَهَائِنُ فَاقَة إِلَى فَضْلِهِ، وَأُسَارَى ذِلَّة لِعَظَمَتِهِ، جَرَحَ طُولُ الاَْسَى(4) قُلُوبَهُمْ، وَطُولُ الْبُكَاءِ عُيُونَهُمْ. لِكُلِّ بَابِ رَغْبَة إِلَى اللهِ سُبحانَهُ مِنْهُمْ يَدٌ قَارِعةٌ، يَسْأَلُونَ مَنْ لاَ تَضِيقُ لَدَيْهِ الْمَنَادِحُ(5)، وَلاَ يَخِيبُ عَلَيْهِ الرَّاغِبُونَ.

فَحَاسِبْ نَفْسَكَ لِنَفْسِكَ، فَإِنَّ غَيْرَهَا مِنَ الاَْنْفُسِ لَهَا حَسِيبٌ غَيْرُكَ.

____________

1. النَحِيب: أشد البكاء. وتجاوبوا به: أجاب بعضهم بعضاً يتناحبون.

2. عجّ: يَعِجّ ـ كضرب ومل ـ: صاح ورفع صوته، فهم يصيحون في مواقف الندم والاعتراف بالخطا.

3. تنسّمَ النسيمَ: تشمّمه. والرَوْح ـ بالفتح ـ: النسيم، أي يتوقعون التجاوز بدعائهم له.

4. الاسى: الحزن.

5. المَنَادح ـ جمع منْدوحة ـ: وهي كالنُدْحة ـ بالضم والفتح ـ. والمُنْتَدَح ـ بفتح الدال ـ: المتسع من الارض.

الصفحة 549

[ 222 ]
ومن كلام له (عليه السلام)

قاله عند تلاوته:

(يَا أَيُّهَا الاِْنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ)

أَدْحَضُ مَسْؤُول حُجَّةً(1)، وَأَقْطَعُ مُغْتَرٍّ مَعْذِرَةً، لَقَدْ أَبْرَحَ جَهَالَةً بِنَفْسِهِ(2).

يَا أَيُّهَا الاِْنْسَانُ، مَا جَرَّأَكَ عَلَى ذَنْبِكَ، وَمَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ، وَمَا آنَسَكَ بِهَلَكَةِ نَفْسِكَ؟ أَمَا مِنْ دَائِكَ بُلوُلٌ(3)، أَمْ لَيْسَ مِنْ نَوْمَتِكَ يَقَظَةٌ؟ أَمَا ترْحَمُ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَرْحَمُ مِنْ غَيْرِكَ؟ فَلَرُبَّمَا تَرَى الضَّاحِيَ(4) مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ فَتُظِلُّهُ، أَوْ تَرَى الْمُبْتَلَى بِأَلَم يُمِضُّ جَسَدَهُ(5) فَتَبْكِي رَحْمَةً لَهُ! فَمَا صَبَّرَك عَلَى دَائِكَ، وَجَلَّدَكَ عَلَى مُصَابِكَ، وَعَزَّاكَ عَنِ الْبُكَاءِ عَلَى نَفْسِكَ وَهِيَ أَعَزُّ الاَْنْفُسِ عَلَيْكَ! وَكَيْفَ لاَ يُوقِظُكَ خَوْفُ بَيَاتِ نِقْمَة(6)، وَقَدْ تَوَرَّطْتَ بمَعَاصِيهِ مَدَارِجَ سَطَوَاتِهِ!

____________

1. دَحَضَت الحجّةُ ـ كمنع ـ: بَطَلَت.

2. أبرح جهالة بنفسه أي: أعجبته نفسه بجهالتها.

3. بَلّ مرضُهُ يَبِلّ ـ كقلّ يقلّ ـ بُلولاً: حسنت حاله بعد هُزال.

4. ضحا ضَحْواً: برز في الشمس.

5. يُمِضّ جسده: يبالغ في نهكه.

6. بَيَات نِقْمة: أي أن تبيت بنقمة من الله ورزية تذهب بنعيمك وقد وقعت بمعاصيه.

الصفحة 550
فَتَدَاوَ مِنْ دَاءِ الْفَتْرَةِ فِي قَلْبِكَ بِعَزِيمَة، وَمِنْ كَرَى(1) الْغَفْلَةِ فِي نَاظِرِكَ بِيَقَظَة، وَكُنْ لله مُطِيعاً، وَبِذِكْرِهِ آنِساً، وَتَمَثَّلْ(2) فِي حَالِ تَوَلِّيكَ(3) عَنْهُ إِقْبَالَهُ عَلَيْكَ، يَدْعُوكَ إِلَى عَفْوِهِ، وَيَتَغَمَّدُكَ(4) بِفَضْلِهِ، وَأَنْتَ مُتَوَلٍّ عنْهُ إِلَى غَيْرِهِ.

فَتَعَالى مِنْ قَوِيّ مَا أَكْرَمَهُ! وَتَوَاضَعْتَ مِنْ ضَعِيف مَا أَجْرَأَكَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ! وَأَنْتَ فِي كَنَفِ سِتْرِهِ مُقيِمٌ، وَفِي سَعَةِ فَضْلِهِ مَتَقَلِّبٌ، فَلَمْ يَمْنَعْكَ فَضْلَهُ، وَلَمْ يَهْتِكْ عَنْكَ سِتْرَهُ، بَلْ لَمْ تَخْلُ مِنْ لُطْفِهِ مَطْرِفَ عَيْن(5) فِي نِعْمَة يُحْدِثُهَا لَكَ، أَوْ سَيِّئَة يَسْتُرُهَا عَلَيْكَ، أَوْ بَلِيَّة يَصْرِفُهَا عَنْكَ، فَمَا ظَنُّكَ بِهِ لَوْ أَطَعْتَهُ! وَايْمُ اللهِ لَوْ أَنَّ هذِهِ الصِّفَةَ كَانَتْ فِي مُتَّفِقَيْنِ فِي الْقُوَّةِ، مُتَوَازِيَيْنِ فِي الْقُدْرَِ، لَكُنْتَ أَوَّلَ حَاكِم عَلى نَفْسِكَ بِذَمِيمِ الاَْخْلاَقِ، وَمَسَاوِىءِ الاَْعَمْالِ.

____________

1. الكَرَى ـ بالفتح والقصر ـ: النوم.

2. تمثّل: تصور.

3. تَوَلّيك: إعراضك.

4. يتغمدك: أي يغمرك ويسترك.

5. طَرَفَ عينه ـ كضرب ـ: أطبق جفْنَيْها، والمراد من المَطْرَف: اللحظة يتحرك فيها الجفن.

الصفحة 551
وَحَقّاً أَقُولُ! مَا الدُّنْيَا غَرَّتْكَ، وَلكِنْ بِهَا اغْتَرَرْتَ، وَلَقَدْ كَاشَفَتْكَ الْعِظَاتِ(1)، وَآذَنَتْكَ(2) عَلَى سَوَاء، وَلَهِيَ بِمَا تَعِدُكَ مِنْ نُزُولِ الْبَلاَءِ بِجِسْمِكَ، وَالنَّقْصِ فِي قُوَّتِكَ، أَصْدَقُ وَأَوْفَى مِنْ أَنْ تَكْذِبَكَ، أَوْ تَغُرَّكَ، وَلَرُبَّ نَاصِح لَهَا عِنْدَكَ مُتَّهَمٌ(3)، وَصَادِق مِنْ خَبَرِهَا مُكَذَّبٌ، وَلَئِنْ تَعَرَّفْتهَا(4) فِي الدِّيَارِ الْخَاوِيَةِ، وَالرُّبُوعِ الْخَالِيَةِ، لَتَجِدَنَّهَا مِنْ حُسْنِ تَذْكِيرِكَ، وَبَلاَغِ مَوْعِظَتِكَ، بِمَحَلَّةِ الشَّفِيقِ عَلَيْكَ، وَالشَّحِيحِ بك(5)! وَلَنِعْمَ دَارُ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِهَا دَاراً، وَمَحَلُّ مَنْ لَمْ يُوَطِّنْهَا(6) مَحَلاًّ! وَإِنَّ السُّعَدَاءَ بالدُّنْيَا غَداً هُمُ الْهَارِبُونَ مِنْهَا الْيَوْمَ.

____________

1. كاشَفَتْكَ العظاتِ ـ بالنصب على نزع الخافض ـ: أظهرت لك العظات أي المواعظ.

2. آذنتك: أعلمتك على عدل.

3. رب ناصح لها عندك مُتّهم: رب حادث من حوادثها يلقي إليك النصيحة بالعِبْرة فتتّهمه وهو مخلص.

4. تعرّفتها: طلبت معرفتها وعاقبة الركون إليها.

5. الشحيح بك: البخيل بك على الشقاء والهَلَكة.

6. وطّنه ـ بالتشديد ـ: اتخذه وطناً.

الصفحة 552
إِذَا رَجَفَتِ الرَّاجِفَةُ(1)، وَحَقَّتْ(2) بِجَلاَئِلِهَا الْقِيَامَةُ، وَلَحِقَ بِكُلِّ مَنْسَك(3) أَهْلُهُ، وَبِكُلِّ مَعْبُود عَبَدَتُهُ، وَبِكُلِّ مُطَاع أَهْلُ طَاعَتِهِ، فَلَمْ يُجْزَ(4) فِي عَدْلِهِ وَقِسْطِهِ يَوْمَئِذ خَرْقُ بَصَر فِي الْهَوَاءِ، وَلاَ هَمْسُ قَدَم فِي الاَْرْضِ إِلاَّ بِحَقِّهِ، فَكَمْ حُجَّة يَوْمَ ذَاكَ دَاحِضَة، وَعَلاَئِقِ عُذْر مُنْقَطِعَة!

فَتَحَرَّ(5) مِنْ أَمْرِكَ مَايَقُومُ بِهِ عُذْرُكَ، وَتَثْبُتُ بِهِ حُجَّتُكَ، وَخُذْ مَا يَبْقَى لَكَ مِمَّا لاَ تَبْقَى لَهُ، وَتَيَسَّرْ(6) لِسَفَرِكَ، وَشِمْ بَرْقَ(7) النَّجَاةِ، وَارْحَلْ مَطَايَا(8) التَّشْمِيرِ.

____________

1. الراجفة: النفخة الاولى حين تهب ريح الفناء فتنسف الارض نسفاً.

2. حقّت القيامة: وقعت وثبتت بعظائمها.

3. المَنْسَك ـ بفتح الميم والسين ـ: العبادة أو مكانها. 4. لم يُجْزَ ـ من الجزاء ـ: مبني للمجهول ونائب فاعله «خَرْقُ بصر» و«هَمْسُ قدم»، أي لاتجازَى لمحة البصر تنفذ في الهواء ولا همسة القدم في الارض إلاّ بحق، وذلك بعدل الله.

5. تَحَرّ: من التحري، أي اطلب ما هو أحرى وأليق.

6. تيسر: تأهب.

7. شامَ البرق: لمحه.

8. رَحَل المطيةَ: وضع عليها رحلها للسفر.