[ 223 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
[يتبرّأ من الظلم]
وَاللهِ لاََنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ(1) مُسَهَّداً(2)، أَوْ أُجَرَّ فِي الاَْغْلاَلِ مُصَفَّداً(3)، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللهَ وَرَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ، وَغَاصِباً لِشَيْء مِنَ الْحُطَامِ، وَكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْس يُسْرِعُ إِلَى الْبِلَى قُفُولُهَا(4)، وَيَطُولُ فِي الثَّرَى(5) حُلُولُهَا؟!
وَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلاً وَقَدْ أمْلَقَ(6) حَتَّى اسْتماحَنِي(7) مِنْ بُرِّكُمْ(8)
____________
1. كأنه يريد من الحَسَك: الشوك. والسَعْدان: نبت ترعاه الابل له شوك تشبه به حلمة الثدي.
2. المُسَهّد: من سهّده إذا أسهره.
3. المصفّد: المقيّد.
4. قُفولها: رجوعها.
5. الثرى: التراب.
6. أمْلَقَ: افتقر أشدّ الفقر.
7. استماحني: استعطاني.
8. البُرّ: القمح.
____________
1. شُعْث: جمع أشْعثْ، وهو من الشعر المتلبد بالوسخ.
2. الغُبْر ـ بضم الغين، جمع أغبر ـ: متغير اللون شاحبه.
3. العِظْلِم ـ كزِبْرج ـ: سواد يصبغ به، قيل هو النيلج أي النيلة.
4. القِياد: ما يُقادُ به كالزِمام.
5. الدَنَف ـ بالتحريك ـ: المرض.
6. المِيسَم ـ بكسر الميم وفتح السين ـ: المكْواة.
7. ثَكِلَ ـ كفرح ـ: أصاب ثُكْلاً ـ بالضم ـ وهو فقدان الحبيب أو خاص بالولد. والثواكل: النساء.
8. لَظَى: اسم جهنم.
____________
1. الملفوفة: نوع من الحلواء أهداها الاشعث بن قيس إلى عليّ.
2. شَنِئْتها: أي كرهتها.
3. الصلة: العطية.
4. هَبِلَتْكَ ـ بكسر الباء ـ: ثكلتك; والهَبُول ـ بفتح الهاء ـ: المرأة لا يعيش لها ولد.
5. أمُخْتَبِطٌ في رأسك: أمختلّ نظام إدراكك؟
6. ذوجِنّة: من أصابه مسّ من الشيطان.
7. تهجر: أي تهذي بما لا معنى له في مرض ليس بصرع.
8. جلب الشعيرة: قشرتها. وأصل الجلْب غطاء الرحل فتجوّزَ في إطلاقه على غطاء الحبة.
نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ، وَقُبْحِ الزَّلَلِ(2)، وَبِهِ نَسْتَعِينُ.
[ 225 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[في التنفير من الدنيا]
دَارٌ بِالْبَلاَءِ مَحْفُوفَةٌ، وَبِالْغَدْرِ مَعْرُوفَةٌ، لاَ تَدُومُ أَحْوَالُهَا، وَلاَ يَسْلَمُ نُزَّالُهَا(1).
أَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَتَارَاتٌ مُتَصَرِّفَةٌ(2)، الْعَيْشُ فِيهَا مَذْمُومٌ، وَالاَْمَانُ مِنْهَا مَعْدُومٌ، وَإِنَّمَا أَهْلُهَا فِيهَا أَغْرَاضٌ مُسْتهْدَفَةٌ(3)، تَرْمِيهِمْ بِسِهَامِهَا، وَتُفْنِيهِمْ بِحِمَامِهَا(4).
وَاعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ أَنَّكُم وَمَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ هذِهِ الدُّنْيَا عَلَى سَبِيلِ مَنْ قَدْ مَضَى قَبْلَكُمْ، مِمَّنْ كَانَ أَطْوَلَ مِنْكُمْ أَعْمَاراً، وَأَعْمَرَ دِيَاراً، وَأَبْعَدَ آثَاراً(5)، أَصْبَحَتْ أَصْوَاتُهُمْ هَامِدَةً، وَرِيَاحُهُمْ رَاكِدَةً(6)، وَأَجْسَادُهُمْ
____________
1. النُزّال ـ بالضم وتشديد الزاي ـ: جمع نازل.
2. متصرفة: متنقلة متحولة.
3. مُسْتَهْدِفة ـ بكسر الدال ـ: منتصبة مهيّأة للرمي.
4. الحِمام ـ بالكسر ـ: الموت.
5. بعد الاثار: طول بقائها بعد ذَوِيها.
6. راكدة: ساكنة، وركود الريح كناية عن انقطاع العمل وبطلان الحركة.
____________
1. آثارهم عافية: أي مندرسة.
2. النمارق ـ جمع نُمْرُقة ـ: تطلق على الوِسادة الصغيرة وعلى الطنفسة أي البساط ولعله المراد هنا.
3. الممهّدة: المفروشة.
4. لطأ بالارض ـ كمنع وفرح ـ: لصق.
5. المُلْحَدَة ـ من ألحد القبر ـ: جعل له لحداً أي شقاً في وسطه أو جانبه.
6. فِناء الدار ـ بالكسر ـ: ساحتها وما اتسع أمامها.
7. الكَلْكَل: هو صدر البعير.
8. البِلى ـ بكسر الباء ـ: أي الفناء.
9. الجنادل: الحجارة.
وَكَأَنْ قَدْ صِرْتُمْ إِلَى مَا صَاروا إِلَيْهِ، وَارْتَهَنَكُمْ ذلِكَ الْمَضْجَعُ(2)، وَضَمَّكُمْ ذلِكَ الْمُسْتَوْدَعُ، فَكَيْفَ بِكُمْ لَوْ تَنَاهَتْ بِكُمُ الاُْمُورُ(3)، وبُعْثِرَتِ الْقُبُورُ؟!(4): (هُنَالِكَ تَبْلُو(5) كُلُّ نَفْس مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كَانُوا يفْتَرُون)
____________
1. الثرى: التراب.
2. ارتهنكم ذلك المضجع: أي لقرب آجالكم كأنكم قد صرتم إلى مصيرهم وحُبستم في ذلك المضجع كما يحبس الرهن في يد المرتهن.
3. تناهى به الامر: وصل إلى غايته، والمراد انتهاء مدة البرزخ.
4. بُعثرت القبور: قُلِب ثراها وأخرج موتاها.
5. تَبْلُوه: تخبره فتقف على خيره وشره.
[ 226 ]
ومن دعاء له (عليه السلام)
[يلجأ فيه إلى الله لِيهديه إلى الرشاد]
اللَّهُمَّ إِنَّكَ آنَسُ(1) الاْنِسِينَ لاَِوْلِيَائِكَ، وَأَحْضَرُهُمْ بِالْكِفايَةِ لِلْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْكَ، تُشَاهِدُهُمْ فِي سَرَائِرِهِمْ، وَتَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ فِي ضَمائِرِهِمْ، وَتَعْلَمُ مَبْلَغَ بَصَائِرِهِمْ، فَأَسْرَارُهُمْ لَكَ مَكْشُوفَةٌ، وَقُلُوبُهُمْ إِلَيْكَ مَلْهُوفَةٌ(2)، إِنْ أَوْحَشَتْهُمُ الْغُرْبَةُ آنَسَهُمْ ذِكْرُكَ، وَإِنْ صُبَّتْ عَلَيْهِمُ الْمَصَائِبُ لَجأُوا إِلَى الاِْسْتِجَارَةِ بِكَ، عِلْماً بَأَنَّ أَزِمَّةَ الاُْمُورِ بِيدِكَ، وَمَصَادِرَهَا عَنْ قَضَائِكَ.
اللَّهُمَّ إِنْ فَهِهْتُ(3) عَنْ مسْأَلَتِي، أَوْ عَمِيتُ عَنْ طِلْبَتِي(4)، فَدُلَّنِي عَلَى مَصَالِحِي، وَخُذْ بِقَلْبِي إِلَى مَرَاشِدِي(5)، فَلَيْسَ ذَاكَ بِنُكْر(6) مِنْ هِدَايَاتِكَ، وَلاَ بِبِدْع(7) مِنْ كِفَايَاتِكَ.
اللَّهُمَّ احْمِلْنِي عَلَى عَفْوِكَ، وَلاَ تَحْمِلْنِي عَلَى عدْلِكَ.
____________
1. آنس: أشد أنساً.
2. الملْهوف: المضطر يستغيث ويتحسّر.
3. فَهِهَ ـ كفرح ـ: عيّ فلم يستطع البيان.
4. الطِلْبة ـ بكسر الطاء ـ: المطلوب.
5. المَرَاشد: مواضع الرشد.
6. النُكْر ـ بالضم ـ: المُنْكَر.
7. البِدْع ـ بالكسر ـ: الامر يكون أولاً أي الغريب غيرالمعهود.
[ 227 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
[يريد به بعض أصحابه]
لله بلادُ(1) فُلاَن، فَلَقَدْ قَوَّمَ(2) الاَْوَدَ، وَدَاوَى الْعَمَدَ(3)، وَأَقَامَ السُّنَّةَ، وَخَلَّفَ الْفِتْنَةَ(4)! ذَهَبَ نَقِيَّ الثَّوْبِ، قَلِيلَ الْعَيْبِ، أَصَابَ خَيْرَهَا، وَسَبَقَ شَرَّهَا، أَدَّى إِلَى اللهِ طَاعَتَهُ، وَاتَّقَاهُ بِحَقِّهِ، رَحَلَ وَتَرَكَهُمْ فِي طُرُق مَتَشَعِّبَة(5)، لاَ يَهْتَدِي بِهَا الضَّالُّ، وَلاَ يَسْتَيْقِنُ الْمُهْتَدِي.
____________
1. كذا في المخطوطتين، وفي النسخ المطبوعة: بلاء.
وأصل هذا الكلام حكاه الامام علي(عليه السلام) عن النادبة أو الباكية لهذا البعض من الاصحاب، كما نقله ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق، المجلد 52 و 53، الصفحة 392-393، وفي آخره جاء: فقال علي: والله ما قالت ولكنها قوّلت! [المصحّح].
2. قَوّمَ الاوَدَ: عَدّلَ الاعوجاج.
3. العَمَد ـ بالتحريك ـ: العلة.
4. خَلّفَ الفتنة: تركها خلفاً، لاهو أدركها ولا هي أدركته.
5. متشعّبة: متباينة مختلفة.
[ 228 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
في وصف بيعته بالخلافة
وقد تقدم مثله بألفاظ مختلفة
وَبَسَطْتُمْ يَدِي فَكَفَفْتُهَا، وَمَدَدْتُمُوهَا فَقَبَضْتُهَا، ثُمَّ تَدَاكَكْتُمْ عَلَيَّ(1) تَدَاكَّ الاِْبِلِ الْهِيمِ(2) عَلَى حِيَاضِهَا يَوْمَ وِرْدِهَا، حَتَّى انْقَطَعَتِ النَّعْلُ، وَسَقَطَ الرِّدَاءُ، وَوُطِىءَ الضَّعِيفُ، وَبَلَغَ مِنْ سُرُورِ النَّاسِ بِبَيْعَتِهِمْ إِيَّايَ أَنِ ابْتَهَجَ بِهَا الصَّغِيرُ، وَهَدَجَ(3) إِلَيْهَا الْكَبِيرُ، وَتَحَامَلَ نَحْوَهَا الْعَلِيلُ، وَحَسَرَتْ(4) إِلَيْهَا الْكِعَابُ(5).
____________
1. التَدَاكّ: الازدحام كأن كل واحد يدك الاخر أي يدقه.
2. الهِيم: أي العِطاش، جمع هَيْماء كَعَيْناء وعِين.
3. هَدَجَ: مشى مشية الضعيف في ارتعاش.
4. حسرت: كشفت عن وجهها.
5. الكعاب ـ كسحاب ـ: الجارية حين يبدوثديها للنهود وهي الكاعبة.
[ 229 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[في مقاصد أُخرى]
فَإِنَّ تَقْوَى اللهِ مِفْتَاحُ سَدَاد، وَذَخِيرَةُ مَعَاد، وَعِتْقٌ منْ كلِّ مَلَكَة(1)، وَنَجَاةٌ مِنْ كلِّ هَلَكَة(2)، بِهَا يَنْجَحُ الطَّالِبُ، وَيَنْجُوا الْهَارِبُ، وَتُنَالُ الرَّغَائِبُ.
[فضل العمل]
فَاعْمَلُوا وَالْعَمَلُ يُرْفَعُ، وَالتَّوْبَةُ تَنْفَعُ، وَالدُّعَاءُ يُسْمَعُ، وَالْحَالُ هَادِئَةٌ، وَالاَْقْلامُ جَارِيَةٌ.
وَبَادِرُوا(3) بِالاَْعْمَالِ عُمُراً نَاكسِاً(4)، أَوْ مَرَضاً حَابِساً(5)، أَوْ مَوْتاً خَالِساً(6)، فَإِنَّ الْمَوْتَ هَادِمُ لَذَّاتِكُمْ، وَمُكَدِّرُ شَهَوَاتِكُمْ، وَمُبَاعِدُ طِيَّاتِكُمْ(7)، زَائِرٌ غَيْرُ مَحْبُوب، وَقِرْنٌ(8) غَيْرُ مَغْلُوب، وَوَاترٌ(9) غَيْرُ
____________
1. الملكة ـ بالتحريك ـ: كل ذنب موبق يملك الشيطان فاعله ويستحوذ عليه.
2. الهَلَكة ـ بالتحريك ـ: الهلاك.
3. بادروا: أي اسبقوا.
4. عمراً ناكساً: أي يقلبكم من الحياة إلى الموت.
5. الحابس: المانع من العمل.
6. الخالس: الخاطف.
7. طِيّاتكم: جمع طِيّة ـ بالكسر ـ: منزل السفر، والمراد أن السفر يباعد رحيل القوم.
8. القِرْن ـ بالكسر ـ: الكفؤ في الشجاعة.
9. الواتر: الجاني.
____________
1. أعلقتكم الحَبَائل: أوقعتكم فيها فاقتنصتكم، وهي جمع حِبالة: المصيدة من الحبال.
2. تكنفتكم: أحاطتكم.
3. غوائله: دواهيه ومصائبه.
4. قصده: رماه بسهم فأصاب مقتله.
5. المَعَابِلُ ـ جمع مِعْبَلة كمِكْنَسة بكسر الميم ـ وهي: النصل الطويل العريض.
6. العَدْوة ـ بالفتح ـ: العُدْوان.
7. النَبْوة ـ بالفتح ـ: أن يخطىء في الضربة فلا يصيب.
8. يوشك: يقرب.
9. تَغْشاكم: تحيط بكم. 10. الدواجي ـ جمع دَاجِية ـ أي: مظلمة.
11. الظلَل ـ جمع الظُلة ـ أي: السحابة.
12. الاحتدام: الاشتداد.
13. الحنادِس ـ جمع حِنْدِس بكسر الحاء والدال ـ: الظلمة الشديدة.
14. الغَمَرَات: الشدائد.
____________
1. إرهاقه ـ بالراء ـ أي: إعجاله، من أرهقه إذ أَعجله.
2. الدُجُوّ: الاظلام.
3. أطباقه ـ جمع طَبَق ـ ويراد به تكاثف الظلمات طبقاً فوق طبق.
4. الجُشُوبة: غلظ الطعام وخشونته.
5. النَجِيّ: القوم يتناجون.
6. النَدِيّ: الجماعة يجتمعون للمشاورة.
7. عَفّى الاثار: محاها.
8. التراث: الميراث. 9. الحَمِيم: الصديق.
[فضل الجد]
فَعَلَيْكُمْ بِالْجِدِّ وَالاجْتِهَادِ، وَالتَّأَهُّبِ وَالاسْتِعْدَادِ، وَالتَّزَوُّدِ فِي مَنْزِلِ الزَّادِ.
وَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الدُّنْيَا كَمَا غَرَّتْ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الاُْمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَالْقُرُونِ الْخَالِيَةِ، الَّذِينَ احْتَلَبُوا دِرَّتَهَا(1)، وَأصَابُوا غِرَّتَهَا(2)، وَأَفْنَوْا عِدَّتَهَا، وَأَخْلَقُوا جِدَّتَهَا(3)، أَصْبَحَتْ مَسَاكِنُهُمْ أَجْدَاثاً(4)، وَأَمْوَالُهُمْ مِيرَاثاً، لاَ يَعْرِفُونَ مَنْ أَتَاهُمْ، وَلاَ يَحْفِلُونَ(5) مَنْ بَكَاهُمْ، وَلاَ يُجِيبُونَ مَنْ دَعَاهُمْ.
____________
1. الدِرّة ـ بالكسر ـ: اللبن.
2. الغِرّة ـ بالكسر ـ: الغفلة.
3. أخلقوا جِدّتها: جعلوا جديدها قديماً خَلَقاً.
4. الاجداث: القبور.
5. يَحْفِلُون: يبالون.
منها: في صفة الزّهاد
كَانُوا قَوْماً مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِهَا، فَكَانُوا فِيهَا كَمَنْ لَيْسَ مِنْهَا، عَمِلُوا فِيهَا بَمَا يُبْصِرُونَ، وَبَادَرُوا فِيهَا مَا يَحْذَرُونَ(3)، تَقَلَّبُ أَبْدَانُهُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِ الاْخِرَةِ(4)، يَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا يُعَظِّمُونَ مَوْتَ أَجْسَادِهِمْ وَهُمْ أَشدُّ إِعْظَاماً لِمَوْتِ قُلُوبِ أَحْيَائِهِمْ.
____________
1. مُلْبِسَة نَزوعٌ: ما ألبست إلاّ نزعت لباسها عمن ألبسته.
2. يَرْكُدُ: يسكن.
3. بَادَرَ المحْذُورَ: سبقه فلم يصبه.
4. تَقَلّب أبدانهم أي: تتقلب، أي أن أبدانهم وهي في الدنيا تتقلب بين أظهر أهل الاخرة، وهو بين ظهرانَيهم أي بينهم حاضراً ظاهراً.
[ 230 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
خطبها بذي قار، وهو متوجّه إلى البصرة
وذكرها الواقدي في كتاب الجمل
فَصَدَعَ(1) بَمَا أُمِرَ بِهِ، وَبَلَّغَ رِسَالَةِ رَبِّهِ، فَلَمَّ اللهُ بِهِ الصَّدْعَ(2)، وَرَتَقَ بِهِ الْفَتْقَ(3)، وَأَلَّفَ بِهِ بَيْنَ ذَوِي الاَْرْحَامِ، بَعْدَ الْعَدَاوَةِ الْوَاغِرَةِ(4) فِي الصُّدُورِ، والضَّغَائِنِ الْقَادِحَةِ فِي الْقُلُوبِ(5).
[ 232 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
[بعد أن أقدم أحدهم على الكلام فحصر]
[وهو في فضل أهل البيت، ووصف فسادالزمان]
أَلاَ إِنَّ اللِّسَانَ بَضْعَةٌ(1) مِنَ الاِْنْسَانِ، فَلاَ يُسْعِدُهُ الْقَوْلُ إِذَا امْتَنَعَ، وَلاَ يُمْهِلُهُ النُّطْقُ إِذَا اتَّسَعَ، وَإِنَّا لاَُمَرَاءُ الْكَلاَمِ، وَفِينَا تَنَشَّبَتْ عُرُوقُهُ(2)، وَعَلَيْنَا تَهَدَّلَتْ(3) غُصوُنُهُ.
[فساد الزمان]
وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّكُمْ فِي زَمَان الْقَائِلُ فِيهِ بالْحَقِّ قَلِيلٌ، وَاللِّسَانُ عَنِ الصِّدْقِ كَلِيلٌ(4)، وَاللاَّزِمُ لِلْحَقَّ ذَلِيلٌ، أَهْلُهُ مُعْتَكِفُونَ عَلَى الْعِصْيَانِ، مُصْطَلِحُونَ عَلَى الاِْدْهَانِ، فَتَاهُمْ عَارِمٌ(5)، وَشَائِبُهُمْ آثِمٌ،عَالِمُهُمْ مُنَافِقٌ، وَقَارِئُهُمْ مُمَاذِقٌ(6)، لايُعَظِّمُ صَغِيرُهُمْ كَبِيرَهُمْ، وَلاَ يَعُولُ غَنيِيُّهُمْ فَقِيرَهُمْ.
____________
1. بَضْعَة: قطعة.
2. تنشّبَت العروق: عَلِقت وثبتت، والمراد من العروق الافكار العاليه والعلوم السامية.
3. تهدّلت: أي تدلت علينا فأظلتنا.
4. كَلّ لسانه: نَبَا عن الغرض.
5. عارم: شرس، سيىء الخلق. 6. مماذق: يمزج ودّه بالغشّ.
[ 233 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
روى اليماني، عن أحمد بن قتيبة، عن عبدالله بن يزيد، عن مالك بن دِحْيَةَ، قال: كنّا عند أميرالمؤمنين(عليه السلام)، فقال ـ وقد ذكر عنده اختلاف الناس ـ:
إِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمْ مَبَادِىءُ طِينِهِمْ(1)، وَذلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِلْقَةً(2) مِنْ سَبَخِ أَرْض(3) وَعَذْبِهَا، وَحَزْنِ تُرْبَة وَسَهْلِهَا، فَهُمْ عَلَى حَسَبِ قُرْبِ أَرْضِهِمْ يَتَقَارَبُونَ، وَعَلَى قَدْرِ اخْتِلاَفِهَا يَتَفَاوَتُونَ، فَتَامُّ الرُّوَاءِ(4) نَاقِصُ الْعَقْلِ، وَمَادُّ الْقَامَةِ(5) قَصِيرُ الْهِمَّةِ، وَزَاكِي الْعَمَلِ قَبِيحُ المَنْظَرِ، وَقَرِيبُ الْقَعْرِ(6) بَعِيدُ السَّبْرِ،مَعْرُوفُ الضَّرِيبَةِ(7) مُنْكَرُ الْجَلِيبَةِ(8)، وَتَائِهُ الْقَلْبِ مُتَفَرِّقُ اللُّبِّ، وَطَلِيقُ اللِّسَانِ حدِيدُ الْجَنَانِ.
____________
1. طِينهم ـ جمع طينة ـ: يريد عناصر تركيبهم.
2. الفِلْقَة ـ بكسر الفاء ـ: القطعة من الشيء.
3. سَبَخ الارض: مالحها. 4. الرُواء ـ بالضم والمد ـ: حسن المنظر.
5. مادّ القامة: طويلها.
6. القَعْر: يريد به قعر البدن، أي أنه قصير الجسم لكنه داهي الفؤاد.
7. الضريبة: الطبيعة.
8. الجليبة: ما يتصنعه الانسان على خلاف طبعه.
[ 234 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
قاله وهو يلي غسل رسول الله(صلى الله عليه وآله) وتجهيزه
بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي، لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالاِْنْبَاءِ وأَخْبَارِ السَّماءِ، خَصَصْتَ حَتَّى صِرْتَ مُسَلِّياً عَمَّنْ سِوَاكَ، وَعَمَمْتَ حَتّى صَارَ النَّاسُ فِيكَ سَواءً، وَلَوْ لاَ أَنَّكَ أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ، وَنَهَيْتَ عَنِ الْجَزَعِ، لاََنْفَدْنَا(1) عَلَيْكَ مَاءَ الشُّؤُونِ(2)، وَلَكَانَ الدَّاءُ مُمَاطِلاً(3)، وَالْكَمَدُ مُحَالِفاً(4)، وَقَلاَّ لَكَ(5)! وَلكِنَّهُ مَا لاَ يُمْلَكُ رَدُّهُ، وَلاَ يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ!
بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي! اذْكُرْنَا عِنْدَ رَبِّكَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ بَالِكَ!
____________
1. لانفدنا: أي لافنينا.
2. الشؤون: منابع الدمع من الرأس.
3. لكان الداء مماطلاً: مماطلاً بالشفاء.
4. الكَمَد: الحزن، ومحالفته: ملازمته.
5. قلاّ: فعل ماض متصل بألف التثنية، أي مماطلة الداء ومحالفة الكمد قليلتان لك.
[ 235 ]
ومن كلام له (عليه السلام)
اقتصّ فيه ذكر ما كان منه بعد هجرة النبي(صلى الله عليه وآله) ثم لحاقه به
فَجَعَلْتُ أَتْبَعُ مَأْخَذَ رَسُولِ الله(صلى الله عليه وآله) فَأَطَأُ ذِكْرَهُ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى الْعَرَجِ(1).
في حديث طويل. فقوله (عليه السلام): «فَأطَأُ ذِكْرَهُ»، من الكلام الذي رُمِيَ به إلى غايتي والفصاحة والايجاز، وأراد أني كنتُ أُعْطي خبره(عليه السلام) من بدء خروجي إلى أن انتهيتُ إلى هذا الموضع، وكنّى عن ذلك بهذه الكناية العجيبة. |
[ 236 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
في شأن الحكمين وذمّ أهل الشام
جُفَاةٌ(2) طَغَامٌ، عَبِيدٌ(3) أَقْزَامٌ، جُمِّعُوا مِنْ كُلِّ أَوْب(4)، وَتُلُقِّطُوا مِنْ كُلِّ
____________
1. العَرَج ـ بالتحريك ـ: موضع بين مكة ومدينه.
2. الجُفاة ـ بضم الجيم ـ: جمع جَاف أي غليظ فظ.
3. الطَغَام ـ كسحاب ـ: أوغاد الناس. والعبيد: كناية عن رديئي الاخلاق.
4. الاقزام ـ جمع قَزَم بالتحريك ـ: أرذال الناس. جُمّعوا من كل أوب: أي ناحية.
أَلاَ وَإِنَّ الْقَوْمَ اخْتَارُوا لاَِنْفُسِهِمْ أَقْرَبَ الْقَوْمِ مِمَّا تُحِبُّونَ، وَاخْتَرْتُمْ لاَِنْفُسِكُمْ أَقْرَبَ الْقَوْمِ مِمَّا تَكْرَهُونَ، وَإِنَّمَا عَهْدُكُمْ بَعَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْس بِالاَْمْسِ يَقُولُ: إِنَّهَا فِتْنَةٌ فَقَطِّعُوا أَوْتَارَكُمْ(2) وَشِيمُوا سُيُوفَكُمْ(3)، فَإِنْ كَانَ صَادِقاً فَقَدْ أَخْطَأَ بِمَسِيرِهِ غَيْرَ مُسْتَكْرَه، وَإِنْ كَانَ كَاذِباً فَقَدْ لَزِمَتْهُ التُّهَمَهُ.
فَادْفَعُوا فِي صَدْرِ عَمْرِوبْنِ الْعَاصِ بِعَبْدِ اللهِ بْنِ الْعَبَّاسِ، وَخُذُوا مَهَلَ الاَْيَّامِ، وَحُوطُوا قَوَاصِيَ الاِْسْلاَمِ(4)، أَلاَ تَرَوْنَ إِلَى بَلاَدِكُمْ تُغْزَى، وَإِلَى صَفَاتِكُمْ تُرْمَى(5)؟.
____________
1. الشَوْب: الخلط، كناية عن كونهم أخلاطاً ليسوا من صراحة النسب في شيء.
2. قطعوا أوتاركم: أي قطعوا أوتار القسي.
3. شِيموا سيوفكم: أغمدوها ولا تقاتلوا.
4. قواصي الاسلام: أطرافه.
5. رمي الصَّفاة ـ بفتح الصاد ـ كناية عن طمع العدو فيما باليد، وأصل الصفاة الحجر الصلد.
[ 237 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
يذكر فيها آل محمد(عليهم السلام)
هُمْ عَيْشُ الْعِلْمِ، وَمَوْتُ الْجَهْلِ، يُخْبِرُكُمْ حِلْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ، وَصَمْتُهُمْ عَنْ حِكَمِ مَنْطِقِهِمْ، لاَ يُخَالِفُونَ الْحَقَّ وَلاَ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، هُمْ دَعَائِمُ الاِْسْلاَمِ، وَوَلاَئِجُ(1) الاْعْتِصَامِ، بِهِمْ عَادَ الْحَقُّ فِي نِصَابِهِ(2)، وَانْزَاحَ(3) الْبَاطِلُ عَنْ مُقَامِهِ، وَانْقَطَعَ لِسَانُهُ عَنْ مَنْبِتِهِ(4)، عَقَلُوا الدِّينَ عَقْلَ وِعَايَة وَرِعَايَة(5)، لاَ عَقْلَ سَمَاع وَرِوَايَة، فَإِنَّ رُوَاةَ الْعِلْمِ كَثِيرٌ، وَرُعَاتَهُ قَلِيلٌ.
____________
1. ولائج ـ جمع وَلِيجة ـ وهي ما يدخل فيه السائر اعتصاماً من مطر أوبرد أو توقياً من مفترس.
2. نِصاب الحق: أصله، والاصل في معنى النصاب مقبض السكين، فكأن الحق نصل ينفصل عن مقبضه ويعود إليه.
3. انزاح: زل.
4. انقطاع لسان الباطل عن مَنْبِته ـ بكسر الباء ـ أي: عن أصله، مجاز عن بطلان حجته وانخذ اله عند هجوم جيش الحق عليه.
5. عقل الوعاية: حفظ في فهم. والرِعاية: ملاحظه أحكام الدين وتطبيق الاعمال عليها، وهذا هو العلم بالدين.
[ 238 ]
ومن خطبة له (عليه السلام)
[في المسارعة إلى العمل]
فَاعْمَلُوا وَأَنْتُمْ فِي نَفَسِ الْبَقَاءِ(1)، وَالصُّحُفُ مَنْشُورَةٌ(2)، وَالتَّوْبَةُ مَبْسُوطَةٌ(3)، وَالْمُدْبِرُ(4) يُدْعَى، وَالْمُسِيءُ يُرْجَى، قَبْلَ أَنْ يَخْمُدَ العَمَلُ(5)، وَيَنَقَطِعَ الْمَهَلُ، وَتَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ، وَتُسَدَّ أبْوابُ التَّوْبَةِ، وَتَصْعَدَ الْمَلاَئِكَةُ(6).
فَأخَذَ امْرُؤٌ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، وَأَخَذَ مِنْ حَيّ لِمَيِّت، وَمِنْ فَان لِبَاق، وَمِنْ ذَاهِب لِدَائِم. امْرُءٌ خَافَ اللهَ وَهُوَ مُعَمَّرٌ إلَى أَجَلِهِ، وَمَنْظُورٌ(7) إلَى عَمَلِهِ.
____________
1. نَفَس البقاء ـ بالتحريك ـ: أي سَعَة البقاء.
وفي بعض النسخ: فاعلموا وأنتم في نفس البقاء.
2. صحف الاعمال منشورة: أي لكتابة الصالحات والسيئات.
3. بسط التوبة: قبولها.
4. المُدْبِر: أي المعرض عن الطاعة يدعى إليها.
5. خمود العمل: انقطاعه بحلول الموت.
6. صعود الملائكة لعرض أعمال العبد إذا انتهى أجله ليس بعده توبة.
7. منظور: أي ممهل من الله لا يأخذه بالعقاب إلى أن يعمل فيعفو عن تقصيره ويُثيبُه على عمله.