الحديث الأول

بسم الله الرحمن الرحيم

شهر رمضان المبارك هو شهر الله سبحانه، وهو الشهر الوحيد الذي ذكر اسمه في القرآن الكريم، وقد عرفه الله سبحانه بشهر نزول القرآن، قال تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) (البقرة: 185)، وإن عظمة هذا الشهر المبارك تكمن بنزول القرآن الكريم فيه وليس بصيامه.

للقرآن الكريم أحكام وحكم، ومن أحكامه الصيام، وإن شهر رمضان هو شهر نزول القرآن الكريم، والإنسان في هذا الشهر ضيف الله سبحانه، وقد أنزل الله سبحانه لضيوفه طعاماً فيه، وهذا الطعام هو القرآن الكريم.

نقل عن الرسول (ص) أنه قال: "إن هذا القرآن مأدبة الله"، [كنزل العمال، الخبر (2356)، ميزان الحكمة (ج8، ص74)]. فالقرآن طعام إلهي أعده لعباده، وهو ليس مائدة ليأتي كل شخص بطعامه ويجلس عليها لتناوله وليس لأحد الحق في حمل آرائه على القرآن، وهو يحسب أنها من القرآن، فالقرآن ليس مائدة، بل هو عطاء جاهز، فكل جائع ومتلهف لمعارف القرآن يستطيع أن ينهل من معارفه، وهذه المعاني جاءت في أحاديث أهل السنة والشيعة على حد سواء.

لقد دعانا الله عز وجل لقراءة القرآن في هذا الشهر، يقول أهل المعرفة: إن الصيام وإن كان مشقة وتعباً للصائم، فإن سماع آيات القرآن يرفع تلك المشقة يقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام). (البقرة: 183)

إن مبدأ حساب السالك إلى الله هو شهر رمضان، فالخريف هو مبدأ سنة المزارع، إذ أن محصوله السنوي من فصل الخريف، وشهر رمضان هو مبدأ حساب السالك إلى الله سبحانه، فمن شهر رمضان إلى شهر رمضان الذي يليه يحسب السالك المرحلة التي هو فيها.

من خطبة للرسول الأكرم (ص) في آخر جمعة من شهر شعبان قال: "يا أيها الناس إن أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكوها باستغفاركم". [الشيخ البهائي، كتاب الأربعين، الخطبة الشعبانية، ح9].

أيها الناس إنكم لستم أحراراً، بل أنتم مسجونون ولكنكم لا تعلمون، إن ذنوبكم هي التي سجنتكم، فاستغفروا الله سبحانه في هذا الشهر المبارك لتحرير أنفسكم، فالإنسان المذنب إنسان مطلوب ومدين، ويجب على المدين أن يؤدي دينه، وأداء الدين لا يتم عن طريق دفع الأرض أو البيت، بل إن النفس هي التي تدفع لأدائه. وإن الشخص الذي تسول له نفسه فعل ما يشتهي وما يريد، ويتجاهر بذلك، هو شخص سجين لذاته، وأسير لشهواته ورغباته.

ليس هناك شيء في الإسلام أعظم من الحرية، ولقد علم المعصومون (ع) الناس معنى الحرية في الكثير من أحاديثهم، وليس المهم أن يتحرر الإنسان من أعدائه الخارجيين، ولكن المهم أن يتحرر الإنسان من قيود شهواته ونوازعه الداخلية.

وإذا أردنا أن نعرف أنفسنا، إن كنا عبيداً أو أحراراً، فلننظر إلى أعمالنا، فإن كانت طبق رغباتنا وميولنا، فنحن عبيد الشهوات وأسراء الرغبات، وإن كانت أعمالنا طبق إرادة الله ورغبته، فنحن أحرار، والحر الذي لا يفكر بغير الله عز وجل، يقول الإمام علي (ع): "الا حر يدع هذه اللماظة لأهلها" [نهج البلاغة، باب الحكمة، 456].

فهل يوجد إنسان حر يترك هذه الزخارف الدنيوية من المقام والمسكن والثروة؟

والتي هي كطعام باق بين اسنان الأقوام السالفة مضوا وتركوها لنا، إن الإنسان الحر يستطيع أن يغض النظر عن مثل هذه المقامات والمناصب والثروة، يقول القرآن الكريم: (كل نفس بما كسبت رهينة). (المدثر: 38)

(كل امرئ بما كسب رهين). (الطور: 21)

أما الأحرار فقليلون (إلا أصحاب اليمين). (المدثر: 39)

وأصحاب اليمين رجال مصحوبون بالميمنة والبركة، لا يتوقع منهم إلا البركة، وليس لهم عمل إلا اليمن والبركة، وهذه أفضل نعمة دعانا الله عز وجل إليها، فهذا الشهر المبارك هو شهر التحرر، ويجب علينا أن نكسر في كل يوم من أيامه قيداً من القيود التي صنعناها لأنفسنا حتى نتحرر، وأفضل طريق للتحرر هو معرفة أسرار العبادات.

للعبادات ظاهر وباطن، ونحن مدعوون لمعرفة أسرارها والعمل في ضوئها.

الصلاة والصيام والوضوء كلها تكاليف وأحكام إلهية، والإنسان مطالب بمعرفة أسرار هذه الأحكام لتعينه على التحرر. [الأربعين، للشيخ البهائي].

ينقل المرحوم الشهيد ـ رضوان الله تعالى عليه ـ أن الرسول (ص) كان يجلس بعد صلاة الصبح في المسجد ليجيب عن أسئلة الناس، وفي أحد الأيام دخل شخصان للسؤال من النبي (ص)، فتوجه النبي (ص) للأول وقال له: إنك وإن كنت الداخل الأول للمسجد وأنت من أهل الكرم والإيثار، ولكني سأجيب أخاك قبلك، لأنه في عجلة من أمره وعنده عمل ضروري، ثم قال النبي الأكرم (ص) لهما: أقول ما جاء بكما أم أنتما تقولان؟

فقالا: قل أنت يا رسول الله، فقال (ص): جاء الأول ليسأل عن مسائل الحج، وجاء الآخر ليسأل عن مسائل الوضوء، ثم أجاب عن أسئلتهما وقال: أما معنى الوضوء: فإن لغسل الوجه واليدين ومسح الراس والرجلين أسراراً، فغسل الوجه يعني: إلهي إني أغسل وجهي لأطهره عن كل ذنب أذنبته به حتى أعبدك بوجه طاهر، واضع جبهتي طاهرة على التراب.

وغسل اليدين يعني: إلهي إني أغسل يدي لأطهرهما عن كل ذنب أذنبته بهما.

ومسح الرأس يعني: إلهي إني أمسح كل ذنب أو خاطرة أو هوس مر في رأسي حتى يطهر.

ومسح الرجلين يعني: إلهي إني أمسح كل خطيئة مشيت لها برجلي لكي تطهرا.

وإذا أراد شخص أن يذكر أسم الله عز وجل بلسانه، فيجب عليه أن يطهر فمه فليس من اللائق أن يذكر الله عز وجل بفم ليس طاهراً.

والمضمضة بالماء قبل الذكر تطهير للفم.

هذه جوانب من أسرار الوضوء، وإذا أردنا أن نعرف لماذا لا نلتذ بالعبادة، ولا نلتذ بالصلاة فذلك لأننا لا نعرف أسرار هذه العبادات، والذين حظوا بأسرار العبادة لا يبدلونها بأي شيء كان.

ينقل المرحوم ابن بابويه عن الإمام الرضا (ع):

إنه كتب إلى أحد تلاميذه ـ محمد بن سنان ـ قال:

إن علة الوضوء التي من أجلها صار على العبد غسل الوجه والذراعين ومسح الرأس والقدمين: فلقيامه بين يدي الله تعالى واستقباله إياه بجوارحه الظاهرة وملاقاته بها الكرام الكاتبين، فيغسل الوجه للسجود والخضوع ويغسل اليدين ليقلبهما ويرغب بهما ويرهب ويتبتل، ويمسح الرأس والقدمين لأنهما ظاهران مكشوفان يستقبل بهما كل حالاته، وليس فيهما من الخضوع والتبتل ما في الوجه والذراعين. [من لا يحضره الفقيه، (ج1، باب 12، ح2)]

فالإمام (ع) يقول: إن سر الوضوء من الغسل والمسح، هو أن يستقبل الإنسان ربه بأعضاء وجوارح طاهرة، فهل يمكن أن يرتكب الإنسان ذنباً ثم يقف أمام الله بوجهه المذنب؟ إن الأسرار الإلهية حقيقة واقعية يصفها القرآن: (لا يمسه إلا المطهرون). (الواقعة: 79)

ولما كانت معارف وحقائق القرآن لا يحظى بها إلا المطهرون، فكذلك العبادات لا يحظى بأسرارها ومعارفها إلا المطهرون، وعندها تكون للعبادة لذة وسرور، فلا تساوي لذتها أي لذة أخرى.

في هذا الحديث الشريف كلام حول لقاء الله واستقبال الملائكة، الإنسان يرى الملائكة ويسمع كلامهم، نحن نصلي ولكننا لا نرى للصلاة أي تأثير ولا نحس بنورانيتها، والسبب هو أننا نصلي دون معرفة بأسرار الصلاة، إن اللذة تكمن في معرفة باطن الصلاة، والإنسان العارف بالأسرار إذا استشهد في سبيل الله عز وجل سيختلف مقامه عن الآخرين.

ليس لكل شهيد القدرة على حفظ نظام الإسلام وتحكيمه، ففي بعض الأحيان يحتاج إلى آلاف الشهداء من أجل الوقوف بوجه العدو، وفي أحيان أخرى يقف شهيد واحد بوجه السيل العارم، ومع أن لكل شهيد مقاماً عظيماً، فليس الكل في درجة واحدة، فالعارف العالم بالأسرار والملتقي بملائكة الله عز وجل في حياته سيكون دمه أكبر تأثيراً من غيره.

وهذا ما أكدته زينب (ع) في خطابها ليزيد حيث تقول: إنك مع كل ما تملك من قدرة لن تستطيع أن تمحو اسمنا، وهنا تكمن المعرفة ويتجلى السر.

إن غسل الوجه بالصابون لا ينفع في الضوء، وغسل الوجه مع النية هو اللازم والمجدي، فالشخص الذي يغسل وجهه امتثالاً للأمر الإلهي إنما يغسله ليتطهر، حتى يقف أمام الله عز وجل طاهراً، وهو شخص وصل إلى أسرار العبادة، والتقى بالملائكة، وهو يغسل يديه لرفعهما بالدعاء والتوسل، ويمسح رجليه ليقف أمام الله عز وجل مستقبلاً القبلة طاهراً من رأسه إلى قدمه، فذلك الذي يحظى باللذة والهناء.

أما ما يخص الصلاة ، فعن النبي الأكرم (ص) قال: "ما من صلاة يحضر وقتها إلا نادى ملك بين يدي الناس: أيها الناس قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها على ظهوركم فاطفؤوها بصلاتكم". [من لا يحضره الفقيه (ج1، باب فضل الصلاة، ح3)].

فكل قبيح وكل منكر وسوء هو حمل ثقيل ووزر كبير على عواتقنا ونحن لا ندري ولا نشعر بهذا.

الإنسان نار مشتعلة بسبب ذنوبه وهو لا يدري: (وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً)، (الجن: 15).

القاسط يوم القيامة يكون تجسيماً للإنسان المحترق جراء ذنوبه وسيئاته.

وإذا كان الله عز وجل يحب أهل العدل والقسط، فإنه سبحانه يكره أهل الظلم والخيانة، وهؤلاء حطب جهنم، إن الكثير من أعمالنا أعمال شيطانية، فهي نار محمولة على ظهورنا لا ندري ولا نحس بها، من هنا يتضح أن المصلي إذا صلى فإن صلاته تطفئ النيران التي توقدت على ظهره وتحيلها نوراً.

نقل عن الصادق (ع) أنه قال: إذا أراد الله عز وجل أن يكرم الإنسان فإنه يكرمه وهو في أفضل حالاته، وأفضل الحالات حالة الصلاة والجهاد، جهاد النفس، أليس الله عز وجل قد أكرم عبديه يحيى وزكريا وهما في أفضل حالاتهما وهي حالة الصلاة؟

قال الصادق (ع): "إن طاعة الله ـ عز وجل ـ خدمته في الأرض، وليس شيء من خدمته يعدل الصلاة فمن ثم نادت الملائكة زكريا (ع) وهو قائم يصلي في المحراب". [من لا يحضره الفقيه (ج1، باب فضل الصلاة، ح2)].

لقد استشهد يحيى (ع) ونحن نعرفه بيحيى الزاهد، وإذا وفق الله سحبانه شخصاً لأن يحظى بالشهادة إضافة إلى المعرفة فتلك نعمة أنعمها عليه.

نقل عن الصادق (ع) في ذيل هذه الآية المباركة: (خذوا ما آتيناكم بقوة). (البقرة: 63)

وقد سئل عن هذه القوة، هل هي القوة البدنية أو قوة القلب؟

فقال (ع): "قوة القلوب والأبدان". [محاسن البرقي، الميزان (ج1، ص205)].

قال تعالى مخاطباً يحيى (ع): ( يا يحيى خذ الكتاب بقوة)، (مريم: 12) هي قوة القلب والمعرفة وقوة البدن، وقد أخذ يحيى الكتاب السماوي وبذل جهداً في حمايته، وكانت الشهادة خاتمة أعماله، فأصبح يحيى شهيداً، وكان الله عز وجل قد بشره من قبل وهو في الصلاة، كانت تلك بعض بركات الصلاة ليحيى (ع).