الحديث الثاني والعشرون

إن العبادة هي الهدف من خلق الإنسان، وبالوصول إلى هذا الهدف يحصل الإنسان على حياة طيبة طاهرة، والحياة الطيبة غير حاصلة في الدنيا، لأن الدنيا مخلوطة بالبلاء، وقد وعد الله سبحانه المؤمنين الذين يصدقون إيمانهم ويعملون الصالحات، حياة طيبة وعطاءً جميلاً، الحياة الطيبة في الدنيا غير ممكنة لأن هذا العالم لا يخلو من الضرر والألم والآفات وأمثال ذلك، والدنيا "دار بالبلاء محفوفة".

إذا أراد الله سبحانه أن يجازي الإنسان المؤمن فإنه يعده بالحياة الطيبة: (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة)[1]، فإذا كان المؤمن صالح العمل نمن عليه بحياة طيبة، والإنسان الذي يصل إلى سر العبادة يصل إلى تلك الحياة الطيبة، والحياة المنزهة من كل عيب ونقص، وهذا ليس ميسراً في الحياة الدنيا.

ومادام الإنسان في الدنيا فيجب عليه أن يسعى (لقد خلقنا الإنسان في كبد)[2]، أي في تعب ومشقة، ووعد الله تعالى بالحياة الطيبة له معنى آخر يظهر في عالم آخر، والوصول للحياة الطيبة لا يمكن بدون الإيمان والعمل الصالح، قال الصادق (ع): "من قال: لا إله إلا الله فلن يلج ملكوت السماء حتى يتم قوله بعمل صالح"[3].

العمل الصالح مع سر وباطن العبادة دائماً، وقد يصل الإنسان إلى باطن السماء، فأي نعمة أكبر من هذه؟ إذ أراد الإنسان أن يسافر إلى باطن السماء يجب أن يكون خفيفاً، وأن يكسر القيود التي تتمثل في التعلق بالدنيا، وإن كل تفكير بعالم الطبيعة هو في الحقيقة قيد نقيد به أنفسنا، فما هي الطريق التي نستطيع من خلالها فك تلك القيود لنكون خفيفين فنسافر إلى ذلك العالم؟ لقد علمنا الأئمة (ع) هذه الطرق.

يقول الصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري: خطب الرسول يوماً، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أيها الناس عليكم بالصلاة فأنها عمود دينكم، كابدوا الليل بالصلاة واذكروا الله كثيراً يكفر عنكم سيئاتكم، إنما مثل هذه الصلوات الخمس مثل نهر جار بين يدي باب أحدكم، يغتسل منه في اليوم خمس مرات، فكما ينقى بدنه من الدرن بتواتر الغسل، كذلك ينقى من الذنوب مع مداومته على الصلاة، فلا يبقى من ذنوبه شيء. أيها الناس ما من عبد إلا وهو يضرب عليه بجرائم معقودة، فإذا ذهب ثلثا الليل أتاه ملك يقول قم فاذكر الله فقد دنا الصبح، قال: فإن هو تحرك وذكر الله انحلت منه عقدة وإذا هو قام فتوضأ ودخل في الصلاة انحلت عنه العقد كلها فيصبح قرير العين"[4]،

فحافظوا على صلاتكم لأنها عمود الدين، تحملوا عناء الصلاة في الليل، لا يكن نومكم من الليل إلى الصباح، تحملوا مقداراً من السهر في الليل وليقلل الإنسان من المجالس غير المفيدة وغير الصالحة، وإذا راقب الإنسان لسانه وأقواله وأفعاله وشغل نفسه في الصلاة والدعاء وحملها مقداراً من العناء فعسى أن يحمل هذا الحمل الثقيل إلى المقصد الذي رسمه الله له.

أذكروا الله كثيراً، وليس معنى ذكر الله أن نذكره بلساننا فقط، إن ذكر الله في القلوب وهو غير ذكره باللسان، ولقد علمنا الأئمة (ع) إن علاقة ذكر الله في القلب، فإذا اقترب الإنسان من ذنب واستطاع أن يحفظ نفسه، دل ذلك على أن ذكر الله قد أثر في قلبه، وكثرة ذكر الله عز وجل تستر الذنوب وتكون سبباً لغفران الذنوب والعفو عنها، واضافة إلى غفران ذنوبه السابقة يهيئ الأرضية لاجتناب الذنوب في المستقبل، وهذا يظهر أحياناً بصورة تمثيل، وأحياناً أخرى بصورة تمثل، إن باطن الصلاة في الحقيقة هو الماء الطهور، وباطن الذنب في الحقيقة هو هذا القيح، وتكون الصلاة بصورة نهر جار صاف وماء زلال. وهذه الذنوب التي يرتكبها الإنسان تغسل بالصلاة خمس مرات في اليوم فلا يبقى منها شيء.

يقول جابر بن عبد الله الأنصاري في تتمة كلام الرسول (ص) أنّه قال: ليست أيديكم وأرجلكم حرة، ولا يوجد أحد إلا ورجلاه ويداه مقيدة بقيود قوية ومحكمة إن أية علاقة بغير الله سبحانه هي قيد يطوق به نفسه.

تأتي ملائكة في الثلث الأخير من كل ليلة بالقرب من وسادة النائم وتقول له: انهض واذكر الله فصلاة الليل قريبة[5]، انهض وفك هذه القيود، انهض وارفع عنك هذه الأربطة التي ربطت بها نفسك في نهار، يجب عليك أن تسافر، والإنسان الذي تكون رجلاه ويداه مقيدة لا يمكنه السفر، ليس من الصحيح أن ينام الإنسان إلى قبل طلوع الشمس فينهض لأداء الصلاة ثم يرجع لينام، والإنسان مأخوذ رضي بذلك أم أبى، فلم لا يذهب باختياره؟ إذا تحرك الإنسان من فراشه ونهض فإن عقدة من العقد تنحل، وإذا توضأ ووقف للصلاة ودخل فيها انحلت جميع العقد، فإذا أصبح الصباح فهو قرير العين، فيظهر أن قيود النهار تنحل بصلاة الليل.

يقول الإمام الحسن العسكري (ع): "إن الوصول إلى الله سفر لا يدرك إلا بامتطاء الليل، من لم يحسن أن يمنع لم يحسن أن يعطي"[6]، فالسير إلى الله والوصول إليه هو سفر، وهذا السفر يحتاج إلى دابة سريعة، وهي إحياء الليل بالعبادة.

وجاء هذا المعنى نفسه في حديث عن أمير المؤمنين (ع) إذ قال: "نبه بالتفكير قلبك، وجاف عن النوم جنبك، واتق الله ربك"[7].

التفكر باطن العمل، لأن التفكر يحيي القلب ويوقظه، ولا يدع القلب ينام، وينام قلب الإنسان أحياناً فلا يعي شيئاً، ولا يفهم بشكل جيد، ولا يشخص بصورة واضحة، جاء في بيان لأمير المؤمنين (ع): "نعوذ بالله من سبات العقل"[8]، ألتجئ إلى الله من أن ينام عقلي، فإذا نام عقل الإنسان فانه لا يفهم شيئاً، وإذا لم يستطع أن يشخص الحق فعقله عاطل عن التفكير، وتفكيره غير صحيح.

"واتق الله ربك" إذا كانت هذه التعلقات بالدنيا قيوداً تقيد الإنسان، فإنه لا يستطيع أن يتحرك، وإذا لم يتحرك فإنه لن يصل إلى الله، والشيء الوحيد الذي يفك هذه العقد هو باطن العبادة.

ويبين الإمام الصادق (ع) طريق التحرر واليقظة فيقول: "إنا لنحب من شيعتنا من كان عاقلاً فهماً فقيهاً حليماً مدارياً صدوقاً وفياً"[9]، نحب من شيعتنا من تتوفر فيه هذه الصفات والفضائل العالية من العلم والأخلاق والعمل الصالح.

الأنبياء حازوا مكارم الأخلاق، فالذي عنده أخلاق الأنبياء فليشكر الله سبحانه، وإذا لم تكن عنده أخلاقهم فليتضرع إلى الله سبحانه ويطلبها منه، كالمريض الذي يطلب الشفاء منه سبحانه، وكالمدين الذي يطلب منه سبحانه أداء دينه، فإذا كان فاقداً للفضائل الخلقية فيتضرع إلى الله عز وجل ويطلبها منه، ويسأله تعالى قائلاً: إلهي ارزقني الفقه والشجاعة والحلم والصبر وأمثال ذلك.

سأل عبد الله بن بكير الإمام الصادق (ع): ما هي مكارم الأخلاق التي كانت للأنبياء؟ فقال (ع): "الورع والقنوع والصبر والشكر والحلم والحياء والسخاء والشجاعة والغيرة والبر وصدق الحديث وأداء الأمانة"[10]، فهذه جزء من مكارم الأخلاق التي كانت للأنبياء (ع)، فإذا كانت لأحد فيجب أن يشكر الله عز وجل، وإذا لم تكن عنده فليتضرع إلى الله عز وجل ويسأله أن يرزقه إياها.



[1]  سورة النحل، الآية: 97.

[2]  سورة البلد، الآية: 4.

[3]  الأمالي، للشيخ المفيد، المجلس 23، الحديث 7.

[4]  الأمالي للشيخ المفيد المجلس 23، الحديث 16.

[5]  إرشاد القلوب للديلمي.

[6]  الأنوار الإلهية المحدث القمي ص161.

[7]  الأمالي للشيخ المفيد، (المجلس 23، الحديث 42).

[8]  نهج البلاغة، الخطبة 224.

[9]  أمالي الشيخ المفيد المجلس 23، الحديث 22.

[10]  أمالي الشيخ المفيد.